مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الاثنين، 29 ديسمبر 2008

بَرَمونْ عيد الميلاد



تُطلق كلمة البَرَمونْ على الصوم النسكيّ، السابق مباشرة على عيدي الميلاد والغطاس، وهو يُعدْ من أصوام المرتبة الأولى، ويُعامل معاملة صوم الأربعين المقدسة وأسبوع الآلام، وصوم الأربعاء والجمعة، فيُصام انقطاعياً إلى المساء ولا يؤكل فيه السمك.

وتتراوح مدة هذا الصوم بين يوم واحد وثلاثة أيام على أكثر تقدير، فإذا وقع عيد الميلاد أو الغطاس يوم السبت كان البَرَمونْ يوماً واحداً هو (الجمعة)، وإذا وقع يوم الأحد كان البَرَمونْ يومين هما (الجمعة والسبت)، أمَّا إذا وقع يوم الاثنين كان البَرَمونْ ثلاثة أيام هى (الجمعة والسبت والأحد)، وذلك لأنَّ يومي السبت والأحد لا يصامان انقطاعياً.. وإن كان يُمتنع فيهما عن الأطعمة الحيوانية.

ولمَّا كان السبت الكبير السابق على عيد القيامة يُصام انقطاعياً دون سائر السبوت، لأنَّ المسيح كان مدفوناً في القبر، فهو يُصام صوماً نُسكيّاً من دون الحاجة إلى تسميته بالبَرَمونْ، واحتفظت الكنيسة بالبَرَمونْ بالنسبة لليوم السابق على عيدي الميلاد والغطاس.

فالبَرَمونْ إذن صوم تعبدي يمارسه المؤمنين بتقشف ونسك، ليكون فرحهم بالميلاد والغطاس عظيماً، وكأنَّ الكنيسة تريد أن نشعر بفرح الميلاد والغطاس بممارسة التقشف فى اليوم السابق لهما، حتى يزداد إحساسنا النفسيّ والجسديّ، بالفارق بين يوم البَرَمونْ ويوم العيد التالي له وبهذا يزداد إحساسنا بالفرح.

أمَّا كلمة بَرَمونْ فدخيلة على اللغة العربية والقبطية، وهى ترجمة للكلمة اليونانية " بَرَاموني "، ومعناها الحرفيّ: الإلتزام باستمرار في الخدمة، أو المثابرة، أو الثبات، أو المداومة، أمّا المعنى السائد بيننا الآن فهو: استعداد.

طقـس البَرَمـونْ

تُصلى تسبحة رفع بخور عشية وتسبحة نصف الليل، كما هو متَّبع فى الطقس السنويّ المعتاد، مع مراعاة الترتيب الخاص للإبصاليات السبعة، وأيضاً والطروحات الستّة.

وفى القدّاس الإلهيّ يُقدم الحمل بعد صلاة المزامير كلها، ويمكن أن تُصلى المزامير حتى الساعة التاسعة، وفى عشية العيد تُصلى مزامير الغروب والنوم والستار وهى (خاصة بالرهبان في الدير).

ويُكمل القداس الإلهيّ كالمعتاد، وفى التوزيع يُقال (المزمور150) بطريقته السنوية المعروفة، وبعد المزمور يُقال لحن (إسترماجي) والمديحة العربي الجميلة (أنا أول كلامي)، وهما من الألحان النادرة ولا وجود لهما إلاَّ في دير المحرق العامر، ويمتازان بأنَّ كل ربع عبارة عن (5 هنكات)، وليس (4 هنكات) كما هو مألوف في المدائح الكنسيّة.

الجمعة، 12 ديسمبر 2008

شجرة الميلاد والمغارة


شـجرة الميـلاد

يتساءل البعض عن مصدر شجرة الميلاد، ومع أنَّه لا توجد سجلات خاصة بهذا الموضوع، إلاَّ أنَّ هناك قصة بديعة تأتينا من ألمانيا تحكي عن حارس من حراس الغابات عاد إلى بيته مبكراً ليلة عيد الميلاد ، وكان البرد قارصاً للغاية، فأغلق باب داره وجلس هو وزوجته وابنه "هانز" يستدفئون حول النار، وبعد قليل وعلى غير انتظار سمع قرعاً على الباب، ولمَّا فتحه وجد ولداً صغيراً حافيّاً جائعاً برداناً، فأدخله وأجلسه إلى جانبهم، وبعد العشاء صمم " هانز" على أن ينام الصغير في سريره، وفى الصباح استيقظت الأُسرة على أناشيد ملائكية عذبة، فلمَّا تفرَّسوا في ضيفهم إذا بوجهه متجلياً.

لقد كان يسوع الطفل! وعند باب الدار اقتطع فرعاً من شجرة تنوب وغرسها في الأرض وقال لهم: اُنظروا لقد تقبّلت ضيافتكم بفرح وهذه هديتي لكم، فمن الآن ستحمل هذه الشجرة ثمرها في موسم الميلاد، وتظل خضراء على مدار السنة، وسيتوفر الخير عندكم دائماً، فحق على هانز وأبويه قول المسيح: " بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ " (مت40:25).

ومذَّاك- وبالتحديد من سنة 1605م- انتشرت العادة في ألمانيا أولاً ومنها إلى بقية الدول الأوربية فالأمريكية، ثم إلى الشرق بإقامة شجرة وتزيينها وإضاءتها، وقد عُرفت باسم " شجرة الميلاد "، وبجانب الشجرة يُزين كثيرين في الغرب منازلهم بوضع أكاليل مصنوعة من نبات يُسمّى " مثلو" على الأبواب.

ومن المؤكد حسب الوثائق التاريخية العديدة، أنَّ رمز الشجرة عرفتها شعوب كثيرة منذ القدم، ففي آسيا الصغرى كانوا يحتفلون في تاريخ معين من كل عام، بنزع شجرة قديمة ووضع شجرة جديدة مكانها، وفي روما كانوا يحتفلون في شهر ديسمبر بتزيين المنازل بالأشجار الصغيرة والأوراق.

أمَّا في العصر الحديث فتقليد شجرة الميلاد، وتزيينها بالألعاب والشموع وقطع الحلوى، لم ينتشر في جميع أنحاء أوربا إلاَّ ابتداء من (ق 16م)، أمَّا انتقال هذا التقليد إلى أمريكا بعد اكتشافها فقد تم في نهاية (ق 18م) على يد جنود ألمان، كانوا يحاربون إلى جانب الإنجليز أثناء حرب الاستقلال، ولم تدخل شجرة الميلاد إلى تقاليد البيت الأبيض إلاَّ في عام (1890م).

المغـارة

هذا عن الشجرة ، أما المغارة فقد ابتكرها القديس الإيطاليّ " فرنسيس الأسيزيّ " وكان يهدف من إقامتها قرب مدخل الكنيسة في قريته إلى توجيه العيون، وبالتالي القلوب إلى ما أحاط بالميلاد العجيب من فقر.. وقد بدأ عمله هذا سنة (1224م)، فقد جاء فى سيرة القديس فرنسيس الأسيزيّ:

إنَّه كان يرغب أن يرى الطفل يسوع في فقره كما ظهر يوم ميلاده.. فأقام مغارة فى غابة " جريتشو" ليُحيى ذكرى الميلاد بطريقة جديدة يبقى أثرها عالقاً بالأذهان، ومطبوعاً في القلوب.. وفي المغارة بنوا المذود وملؤه بالعلف، وحول المغارة رُبطا ثور وحمار في هدوء وخشوع، أمَّا المذبح الحجري فوضع في الوسط..

فلمَّا جاء يوم العيد خرج الناس أفواجاً من المدن والقرى، وصعدوا الطرق الصخرية المؤدية إلى المغارة، حاملين المشاعل والشموع وهم ينشدون ترانيم الميلاد الجميلة.. ثم جاء الرهبان في طوابير طويلة من صوامعهم القريبة والبعيدة، حاملين الشموع ويرتلون المزامير، فلما وصلوا إلى المغارة ُصلوا مع الشعب الصلوات الخاصة بالعيد.

أمَّا السماء فأعلنت فرحتها بهذا الحدث العظيم، فها القمر يسبح في زهو فريد، والنجوم من حوله تُرسل ضوءها الخافت في استحياء، وعلى بُعد كانت قمم الجبال تكسوها الثلوج البيضاء ويغمرها النور، وما أجمل النور الذي ينبعث من حول المغارة، من النار التي أضرمها الناس ابتهاجاً بالعيد.. فهل من عجب إن قلنا إن السماء والأرض تعانقا في هذا اليوم العظيم!

لقد أُعد كل شئ بعناية فائقة وقبل أن يُقدّم الكاهن الذبيحة، دخل فرنسيس المغارة مرتدياً زي الشماسية، وسجد في خشوع ولبث فترة يُصلى.. وبعد انتهاء القداس ألقى القديس فرنسيس عظة مؤثّرة، فخرج الناس وهم يبكون من شدة تأثّرهم، وعادوا إلى بيوتهم والسعادة تغمر نفوسهم، لأنَّ يسوع ولد في قلوبهم من جديد.

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2008

عندما تنهار العلاقات !


إنَّ كثيرين لا يقدرون على تحمّل الألم الناتج عن عدم ضبط العواطف المزعجة، ولهذا سرعان ما يقعون تحت تجارب العواطف القاسية، فتضعف شخصياتهم وتنهار مبادئهم..

وحينما تزول الضيقة عن الإنسان الضعيف، تترك فيه العاطفة الجامحة تشوهات خُلُقيّة ونفسيّة، فيجد نفسه عاجزاً عن الوقوف على قدميه، وعلى العكس من ذلك، نجد أنَّ الرجل الذي يتصدى لبركان العاطفة الطاغيّ، لا يخرج من حربه، إلاَّ أقوى صلابة وأشد عزيمة وأصلب عوداً.

ولكننا نتساءل: ما الذي يحدث للإنسان عندما تضطرب عواطفه ولا يستطيع أن يُُقاوم الانفعالات القاتمة؟ مؤشرات سلوكية كثيرة أهمها الآتي:

تبرير الذات

وهى وسيلة يلجأ إليها الإنسان ليؤكد لذاته أنّه لم يُخطيء، فقد اعتدنا أن نجعل من ذواتنا الأفضل دائماً في كل شيء! هنا يأتي دور الله في حياتنا، فالشخص المتدين كثيراً ما يأتي بالملامة على نفسه، ولا يخجل من الإقرار بخطأه أو ضعفه، كما أنَّ روح الله الساكن فيه، يجعله بمداومة يفحص قلبه ويتعرّف على سلبياته.

وعلى الجانب الآخر من التبرير الذاتى يوجد الاتهام المضاد، ولهذا كثيراً ما نسمع عبارات مثوارثة: لو لم تفعل ذلك.. ما فعلت هذا! أنت هو السبب في كل ما حدث! وكثيراً ما يشمل الاتهام المضاد تفسير دوافع الآخر: لقد فعل كذا لأنّه يريد كذا! وقد تكون هذه التفسيرات حقيقية، ولكن تفسيرات كثيرة تكون في غير موضعها، وهى ثمرة تفكيرنا المضطرب، وكثيراً ما يلقى الشخص ضعفاته على الآخر.. وقد يعتذر عن ذلك وقد لا يعتذر!

وهناك من يبرر سلوكه المنحرف بتلك الجرثومة التي يحملها في أعماقه أعنى " الشهوة " ولهذا عندما أراد أحد المتهمين الدفاع عن نفسه أمام المحكمة، إدّعى أنه لا يستطيع أن يُخالف ميول الشر التي فيه، والتي تسيطر عليه بقوة، فهو لذلك غير مسئول عن أفعاله! ولهذا لا يجب محاكمته وإدانته ! فلما سمع القاضي هذا الكلام أجابه مازحاً: وأنـا أيضاً ولدت ميّالاً للشر ولهذا سوف أحكم عليك بالسجن، استناداً إلى الواقع الأليم الذي وجدت فيه!!

الاكتئاب

إنَّها حالة يشعر فيها الإنسان بشيء من الغم أو عدم الرضى، وتكثُر تساؤلاته: لماذا؟ لماذا؟ والحق إنَّ الاكتئاب هو أحد الملاجئ النفسية، التي نلجأ إليها لنحمى أنفسنا من ألم ما، وعبثاً يحاول إنسان نصح المكتئب بألاّ يحزن، إنه نُصح مرفوض لأنَّ الإنسان في ضيقاته يجد في الحزن عزاءه!

ولا يقتصر الاكتئاب على من يعيشون في كهوف مُظلمة، أو الذين يترددون على أطباء نفسانيين، فأي إنسان معرّض للإصابة بالاكتئاب، فضغوط ومشاكل الحياة اليومية، والأمراض الجسدية، وفقدان الأصدقاء والأقارب.. عوامل تؤدى إلى خفض الروح المعنوية لدى الفرد، وتجعله فريسة للاكتئاب... نستطيع أن نقول:

إنَّ الاكتئاب صرخة في أعماق الإنسان، تنبهه إلى أنَّ هناك خطأ ما يجب عليه أن يعالجه! ولكنَّ الحكيم لا يدع الهموم تغمر حياته، فيصبح غير قادر على التواصل مع الآخرين، ألم يُعلن السيد المسيح حُزنه جهراً بقوله: " نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! " (مت38:26)ذا قلت لكم: إنَّ التفاخر الزائد، وحُب الظهور إحدى مظاهر الاكتئاب، فالإنسان في أحيان كثيرة يسعى إلى التظاهر المُلفت، من خلال تبذير أمواله على موائد القمار أو السفر أو شرب الخمور أو السهرات.. وما هذه الأفعال إلاَّ ملهاة يلجأ إليها الإنسان كتعويض عن السعادة الغائبة!

الغضـب

إنَّ أقوى عاطفتين في الإنسان هما: الحب والغضب أمَّا الغضب فهو عاطفة سلبية، مُدمّّرة، فما أبهظ التكاليف التي يدفعها أولئك المشتعلون غضباً، أتتذكرون قصة قتل قايين لهابيل؟

إنَّه انفعال كامن في القلب ومهيّج على ارتكاب القتل، أو السقوط في بئر الخطية، ولهذا عندما تضطرب عواطفنا، يُصاحب حديثنا ارتفاع في الصوت، وإرشارات بالأيدي، وإحمرار في الوجه..

ويتوقّف غضب الإنسان على جسامة الموقف، الذي أدى إلى اضطراب عواطفه، فإذا كان الموقف مثيراً ازدادت حِِِدة الغضب، ولكن أقل كمية من هذا البخور النجس تكفى لتدنيس الإنسان.

يكفى في ذم الغضب ما قاله يعقوب الرسول: " غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ " (يع20:1) .

كثرة العمل

العمل هو قانون إلهي: " بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً " (تك3: 19)، وكما قال مُعلّمنا بولس الرسول: " إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً " (2تس3: 10).

فلو كان يكفى لنا أن نتمنى هذا الشيء أو ذاك، حتى نراه موجوداً أمامنا دون القيام بأي عمل، لمَا كان هناك معنى لحياتنا، وأصبحنا كائنات ضعيفة، فما معنى حياة تدور في عجلة الخلاء، وليس فيها هدف أو عمل على الإطلاق؟!

إلاَّ أنَّ كثرة العمل وعدم رغبة الإنسان في العودة إلى منزله، أو قيامه بواجباته نحو أُسرته.. تُعد من أخطر الوسائل الهروبية، أو الحيل الاصطناعية، إنّه قناع سميك من الأقنعة الكثيرة، التي يرتديها الإنسان، عندما يفشل في علاقاته أو تضطرب عواطفه..‍‍‍!

الإدمـان

كل الخيارات السابقة التي ذكرناها، هي بدائل عن الإقرار بالفشل، أو الاضطراب العاطفيّ، أو الشعور بالرفض.. وهى تساعد الإنسان على التخفيف من الألم ولكن دون أن تقضي عليه‍‍! وهذا الألم الذي يقلق الكثيرين قد يدفعهم إلى مسكّن آخر ألا وهو: الإدمان، فيبنون لأنفسهم عالماً خاصاً في الداخل، وتصبح الغيبيات هي البحر الذي يسبحون فيه، والارتداد للوراء هو الطريق الأمثل، والقوقعة الذاتية هى الأفضل!

وسواء لجأ الإنسان إلى هذا الأسلوب عن وعى أو لا وعى، بحثاً عن عالم أفضل جديد يشعر فيه بالحُب والحماية، إلاَّ أنّه سوف يعاني من تصرفه هذا، لأنّه سيظل كالطفل الذي يحيا في عالم الخيال، لكي يحمى فيه نفسه أثناء ساعات الخوف، هذا بالإضافة إلى نتائج الإدمان المُدمّرة التي نعلمها.

ومن أبرز مظاهر العيش في عالم الوهم أو الخيال، صورة واضحة ومنتشرة في مجتمعنا ألا وهى: تعليق الجنود صور الفتيات الجميلات في حجرات المعسكر، فهذا دليل واضح على أنَّ الجنود لم يقدروا أن يُشبعوا رغباتهم في عالم الواقع، فراحوا يلتمسون ذلك في عالم الخيال! والحق إنَّ الإدمان مأساة، لأنه يهلك النفس والجسد كليهما، ومما يضاعف من تلك المأساة أنَّ المدمن يعيش هارباً من الحياة، وكأنه عبر جسراً من عالم الواقع إلى عالم الخيال وأحرق الجسر وراءه!


السبت، 6 ديسمبر 2008

إمرأة سكن قلبها سبعة شياطين

كيف لنا أن نصف برية قاحلة سكنتها الشياطين؟ إن قلمي يضطرب وأنا أصف إنسانة عاشت فى عمق وادي الموت ولم تصادق سوى جماجم بشرية وعظام بالية! فتحول فضاء حياتها إلى سجن واسع، تتلون جدرانه أما جمال السماء ولمعان النجوم، فلم يكن لها مكان فى حياتها!
لقد كانت المجدلية شبح ميتة تتمشى ولا رفيق سوى أرواح الجحيم، تسير والهم يتبع خطواتها، والقلق يحوم فوق رأسها، وهكذا عاشت المرأة عضو بارز فى مملكة الظلمة، ففى عمق وادى قلبها المقفر سكن سبعة شياطين! فسقطت الراحة من فوق كرسى حياتها، وجلس الخوف يتحكم فى عواطفها وأفكارها، وأخذت الشمس تلم وشاحها استعداداً للمغيب من حياتها، التى خلت من الزهور، وصارت تنبت أشواكاً وأشواكاً وصبراً وعلقماً مميت..!
ولكن النور والظلمة يلتقيان!! والربيع والخريف يتعانقان!! كيف؟! فلما نظر فجر عينيه المشرقتين إلى عينيها المظلمتين، غابت جميع كواكب الشر من ليل حياتها لأن يسوع أضاء بنور حبه وبشعاع طهره ذبح الوحش الذى كان يسكن فى أعماقها ! فتطهرت المرأة النجسة، وقامت روحها المائتة، تتموج فى فضاء فسيح أضاءت نجومه ابتهاجاً بها وقدمت حياتها بخوراً طاهراً للإله الذى أحبها وأحبته، وفارقها العار الذى لازمها كظلها، ولم يبقَ لها سوى الحياة والرغبة أن تكون قيثارة لتضرب أصابعه الطاهرة على أوتار قلبها أُنشودة التوبة، وتتحرر مريم من استبداد سيد ظالم وشرير، وتلقى بقيود وسلاسل ربطتها سنين.
وكم تمنت أن يجعل روحه غلافاً لروحها، وتجعل هى قلبها بيتاً لجماله، وصدرها قبراً لأحزانه، وتُحِبه كما تحب الحقول الربيع، لكى تحيا به حياة الزهور بحرارة الشمس ! لقد أدركت أن حبيبها، زهرة ربيعها ذاهب، فكم لو صارت فضاءً يتصاعد إليه عبيره الطاهر أو سماءً يرفع إليه رأسه المقدسة! لقد خرجت حـواء من البستان مطرودة تعلن بدموعها الحزن للبشر.
وها المجدلية تخرج من البستان راكضة لتنادى بقيامة المسيح ! وهكذا عبرت المجدلية بحر العالم المضطرب بالشرور بخشبة الصليب المقدسة، ولم تغرق لأن يسوع حملها، وإن كان الأشرار قد نظروا إليها مع الجمع القليل الذى رافق موكب الصليب، على أنهم قد شاركوا لأرواح الشريرة على بث السموم فى فضاء مدينتهم، إلا أنهم لم يدركوا.
إن هذا القطيع القليل فى عدده والكبير فى محبته، كان يسير خلف يسوع ليحمل نقط دمائه إلى بلاد بعيده وقد كان! وتمت البشارة بالملك المنهان فى كل البلدان! والآن هل لنا أن نسأل عن أبالسة الشر الذين أذلوا المجدلية ؟ هل الشيطان فى ذل واستصغار قد سقط تحت قدمى المسيح؟ أعتقد ان الجميع بعد قيامة المسيح قد صاروا مثل الأعداء الموتى على شاطئ البحر الأحمر، مثل المصريين الذين حاولوا قتل اليهود ولم يفلحوا‍‍!!

قصير يعبد وثن كبير اسمه المال


فى طريق وعرة، منسابة كا لحية الرقطاء بين الصخور، مغطاة بالرمال ومفروشة بالأشواك.. كان يسير منفرداً بأفكاره، وهناك بين أشجار الوعر كان يقف مصغياً لهمس الأشباح، محدقاً إلى تمثاله، فقد كان يعبد الوثن الذهبي ويجد لذته فى مواكبة الأرواح النجسة أتباعه، لقد نظر زكا العشار إلى ممالك الأرض الواسعة، وتطلع إلى جمال مدن داود وسليمان، واشتهى أن يكون فى يوم ما ملكاً أو أميراً، يجلس ولو على عرش أمواله،
ولكنه لم يدرك أن العرش الذى ينتصب على عظام الموتى فانٍي، وكل الذين اشتهوا غير مملكة الروح انحدروا إلى مقابر موتاهم، وفى يوم من أيام الربيع المعطرة بأنفاس الحب وابتسامات الزهور، سمع زكا بقدوم يسوع إلى أريحا، فترك مكان الجباية ومشى ليرى تلك اللؤلؤة الفريدة التى لا تزن قيمتها كل أمواله.
لكنه قصير القامة كما كان قصيراً فى الفضيلة، ولكي يُبصر يسوع عليه أن يرجع إلى أيامه الأولى ويعود طفلاً، لا بد وأن يتخذ من الأطفال بساطتهم وسذاجتهم ، فصعد إلى الجميزة وهو فى الحقيقة: ارتفع عن الأرض بكل ما تحمل من أموال وشهوات، ليكون قريباً من عيون السماء، ومن فوق شعر بأن فاصلاً كبيراً، بينه وبين الأرض، وأنه قد اقترب من السماء، ليرى كواكب بنى إسرائيل المنيرة، التى أرسلها الله فى سماء إسرائيل، تشق له طريقاً وسط الظلمة، وتضئ فيه شعلة الروح والأمل.
وتتحقق أمنية زكا ويرى يسوع، وقد غمر النور وجهه وعنقه، فبان كتمثال من الذهب المشع نحتته أصابع الإله الأعظم ! وإلى زكا نظر يسوع نظرة إلهية، كانت كسهم من نوراخترق قلبه المظلم، وبحب فريد يطلب الأب من ابنه البسيط، أن ينزل من على الجميزة لأنه سيقيم فى بيته، فقد أرادت السماء أن يكون خلاص بيت العشارهذا اليوم، فكان كلام يسوع فى أُذني زكا، كصوت صارخ خارج من أحشاء الليل، وكضجة هائلة منبثقة من قلب النهار!
ويفتح زكا أبواب بيته للمسيح، ومعها فتح قلبه ليخرج منه البخل وكل ما سلبه ظلماً من الفقراء؟ وهكذا حطم قارورة المال عند قدميه، مثلما سكبت المرأة الخاطئة قارورة ماضيها، ليعطيه المسيح كنزاً أعظم فى السماء لا يفنى! وبهذا أعلن زكا إن الدرهم الذى تضعه فى اليد الفارغة الممدودة إليك هو الحلقة الذهبية التى تصل ما فيك من البشرية إلى ما فوق البشرية ! وتنتهي المعركة بين النور والظلمة، الكرم والبخل، العطاء والسلب، بتوزيع زكا نصف أمواله على الفقراء والمسـاكين، وكل من وشى به رد له أربعة أضعاف.. فالظلام ضعيف ولا يحتمل ظهور مجرد لهب صغير!

نازفة الدم


في وادي ظل الحياة المرصوف بالألم عاشت وحيدة تسير في ظلام الليل، وليس من رفيق سوى شبح الموت، الذى يلتهم أجسادنا، هناك على ضفاف نهر الدماء والدموع وقفت تصرخ، والحزن كالمارد ينتصب أمام عينيها، وأجنحته السوداء تخيم عليها، ويده الهائلة تجرف إلى الهاوية روحها! عاشت صباها مسجونة في كهف مظلم من سقفه تتدلى أفكار اليأس، وفى زواياه تدب حشرات الذل، ولكم أن تتخيلوا إنسانة نجسة تنزف الحياة قطرة قطرة منذ إثنتي عشـرة سنة! وفى لحظة لم تتكرر في حياتها، وبينما كان رب المجد يسوع ذاهباً لشفاء إبنة يايرس والجمع يزحمه (مر5 :12-24) علمت المرأة، فسارت بألف قدم فوق الجبال والأودية والسهول حتى وصلت إليه، ثم جاءت من خلفه ولمست هُدب ثوبه دون أن تتكلم، كأنها عرفت أن لابن الله لغة سماوية تترفع عن الأصوات التى تُحدثها ألسنة البشر‍!
لقد اقتحمت بسفينة إيمانها أمواج البحر التي أحاطت بيسوع قبطان حياتنا، ولما اقتربت منه كانت سفينتها مطلية بألوان صفراء كشمس المغيب، لكنها سرعان ما تحولت خضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وهكذا دخلت ميناء بلدها بفرح عظيم، وخرج الناس لملاقتها بالفرح والتهليل، فالنجسة قد تطهرت وما هو سر طهارتها؟!
لكن يسوع يرفض أن يتم شفاء المرأة سراً، لكي تنكسر العيون التي كانت في كل مكان تلاحقها، وتتضع النفوس التى كانت تهرب من ملاقتها، وبصوت تمتزج في نبراته قوة أمواج البحر ورقة النسيم، يُعلن أن قوة قد خرجت منه(مر30:5) فلما تكلم يسوع تراخت خيوط قلبها من هيبته، وأخبرته قدام الشعب لأي سبب لمسته، وكيف برئت بمجرد أن لمست هدب ثوبه، فقال لها يسوع والحب يسـيل على شفتيه الطاهرتين: " يا ابنة إيمانك قد شفاك " (مر34:5) وقد كانت هذه هى المرة الوحيدة التى يدعو فيها يسوع إمرأة إبنته!
وهكذا تحولت النكبة الخرساء إلى رواية أبدية، تُعلن عن حب الله للخطاة، والمرأة التي اغتسلت بالدماء والدموع، ها هي الآن تتعطر بالمر واللبان، أما الدماء التي نزفتها فقد جرت ماء عذب في أنهار الحياة، ودموعها التي نثرتها أنبتت على الأرض أزهاراً وأشجاراً! وقد كانت أثمارها حلوة كالشهد، عطرة كأنفاس الياسمين!
لقد عادت الحياة إلى تمثال البؤس، فرجعت المرأة إلى كهفها المظلم حيث تتراكض الأشباح المخيفة، أشباح الفكر التي لا تشفق ولا تحزن على إنسان، عادت لتحوله إلى قصر بديع فيه تنشد العصافير أنشودة شفاءها، والبلابـل ترنيمة خلاصها!

الجمعة، 5 ديسمبر 2008

العالم صديق خائن


قد يكون العالم تعمّق داخلك ولذاته تملَّكت على قلبك، وقد ظهر لك بمظهر الصديق المُحب الذي يريد إسعادك، وأنت لا تدرى أن العالم عدو شرير يريد إهلاكك، وصديق خائن يسعى لإذلالك، وإن أردت أن تتحقق من هذا، فعليك أن تسأل الذين أحبّوا العالم وأفنوا حياتهم فى ملذاته، سلهم وهم على فراش الموت: أحقاً أخلص العالم لكم؟ هل أوفاكم بوعوده؟ ستجد إجابتهم مكتوبة على جبينهم بأحرف بارزة: العالم صديق خائن قضى على حياتنا! وأضاع أبديتنا! وأعتقد أنَّ هذا هو السبب فى أننا لا نري الخطاة يبكون على العالم عند موتهم، إذ كيف يبكون على من أذلهم واستعبدهم! قد يبكون على أنفسهم وجهلهم، ولكنهم لا يبكون على خائن قد غدر بهم!
يجب أن تعلم أنَّ العالم اخترع لنفسه ينابيع كثيرة، للهو والمسرات لكي يجذب الناس إليه، ولكنَّ الحقيقة إنَّ ينابيع العالم كلّها جافة، وأفضل تشبيه لها هو السراب الخادع، الذي يراه السائر فى الصحراء ماءً، وبعد أن يركض نحوه يتحقق أن ما راءه إنَّما هو وهم وخيال! هلم نتساءل: ما الذي يجذبك في عالم الشهوات؟! وما الذي يغريك في دنيا اللذات؟ ربَّما تكون شهوات الجسد! لكنى أقول: إنَّ كل الذين سعوا وراء شهوة جسدية عادوا فارغين، ولم يجنوا سوى وجع القلب ومرارة النفس وأمراض الجسد.. هذا بالإضافة إلى ما يجنيه البنين من سمعه ردية نتيجة خطايا الوالدين وسلوكهم المنحرف!
وربّما يُغريك العالم بصنمه الذهبيّ، الذي سجد ولايزال حتى الآن يسجد له ويخر أمامه الكثيرون، الذين أصبحت الثروة هى نقطة ارتكاز آمالهم، ولأجل المال فعلوا الشرور، وضحوا بسمعتهم وشرفهم ومبادئهم، ولهذا أسألك: ما هو الشبع الروحيّ الذي ستناله من جمع المال؟ وما هى السعادة التي تجنيها إذا اقتنيت ثروة؟ على هذا السؤال أجاب سليمان الحكيم قائلاً: " مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ " (جا10:5).
هناك أيضاً التسالي والأفراح العالمية التي ينجذب إليها الناس، كمحاولة لإدخال السرور إلى قلوبهم، وهم لا يدرون أنَّ مسرات العالم وأفراحه ما هى إلاَّ ينبوعاً جافاً ليس فيه ما يُسعد، سعى إليه سليمان من قبل، إذ بنى لنفسه بيوتاً وغرس كروماً وعمل جنّات وفراديس فيها أشجار من كل نوع.. في النهاية إذ أدرك الحقيقة قال: " فإذا فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ! " (جا11:2) إنَّ أفضل ما قيل عن شهوات العالم وملذاته أنَّها: " لا تشبع ولا تُشبع آلاماً تسبقها وآلاماً تلحقها " !
لا أظن أنَّ من أحب العالم وتمرّغ في شهواته، قضى فى وقت ما لذة لم يصحبها ألم، أو راحة لم يتخللها تعب، أو تمتع بصحة جيدة دون أن يضعفها مرض، أو فرح لم يعقبه حزن.. هذه طبيعة الدنيا: تعد براحة وسرور وتُعطي كداً وتعباً، تعد بأفراح وتُعطى أحزاناً وبلايا، تعد بالشرف والكرامة وتُعطي الذل والإهانة، وهذا ليس واضحاً من خلال معاملات العالم القاسية مع كافة البشر.
ولهذا السبب قال أحد الفلاسفة عند موت إسكندر الأكبر: " هذا الذي كان بالأمس يدوس الأرض بقدميه، الآن داسته الأرض بقدميها، بالأمس لم تكن الأرض كافية لتحقيق رغباته والآن يكفيه ثلاثة أشبار ليُدفن فيها "، وقد أشار فيلسوف آخر إلى التابوت الذهبيّ الذي وضع فيه قائلاً: " بالأمس كان إسكندر يكنز الذهب والآن قد صار مكنوزاً في الذهب "، فالمجد زال، والمُلك بطُل، والذهب قد صار له تابوتاً.
مَن مِن الناس لم تمتد يد الدنيا إليه بالأذى، ومن لم يحيا فيها قلقاً من غدرها وخيانتها، فكثيراً ما قدمت لمحبيها طعاماً لذيذاً فى الغذاء، وفى العشاء كان المر طعامهم والعلقم شرابهم، وفى الوقت الذي نجد فيه أهل العالم يعيشون فى سلام تفاجئهم البراكين والحوادث فيهلكون وتنتهي حياتهم... هذا هو العالم وهذه هى حقيقته المرّة، والحكيم هو من يحيا في العالم دون أن يحيا العالم فيه، فيصير مثل السفينة، لا يغرقها وجودها فى الماء، وإنَّما يغرقها دخول الماء فيها.
نستطيع أن نقول: إنَّ العالم سفينتنا وليس مسكننا! فاجعل من العالم وسيلة تستطيع من خلالها أن تصل إلى الأبدية وليس غاية، لأننا أردنا أو لم نُرد سنموت، تاركين ممتلكاتنا وأموالنا، والآن ماذا تُريد؟ أن تتمسّك بعالم فانٍ وتحدّق في تراب زائل؟! أم ترفع عينيك إلى فوق وتتأمل مجد الله وما أعده لك في السماء؟

الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

الحب الالهي


هل أستطيع أن أتحدث عن الله أو أصف حبه؟! لابد أولاً أن أُطهر شفتي بالنار المقدسة، وأزيح عن قلمي تلك الغبار الملوثة، وأشد أوتار قلبي الذهبية وخيوط أفكاري الفضية.. لكي تُعطيني القواميس الإلهية كلمات روحية أصف بها حب ربي! وإلاَّ كيف أصف شعلة روحانية تنبثق من قدس الأقداس لتسقط على الأبرار والأشرار كلاهما معاً؟! أو نهـراً بلورياً يسير مترنماً حاملاً في أعماقه أسرار السماء والأرض؟! من يستطيع أن يصف شمس البر وهو يختفي في صدر الحياة المظلمة؟! أو زهرة السماء وهو يُسحق تحت أقدام الخطاة؟! أو شجرة الحياة وهو يٌقطع من أرض الأموات؟! تُرى من يستطيع أن يصف وجهاً يُعلن في كل دقيقة سراً من أسرار الله، هل يكفى أن نقول إنه أبرع جمالاً من بني البشر!
إن جمال يسوع كان غريباً كحلم لا يفسر أو فكر سماوي لا يُعبر عنه! جمال يسوع لم يكن في شعره المسترسل الذهبي بل في هالة الطهر المحيطة به، ولم يكن في عينيه الواسعتين الممتلئتين بحلاوة الحياة بل في النور المنبعث منهما، ولا في شفتيه الورديتين بل في الكلام العذب الخارج منهما، فيتساقط على قلوب الناس مثلما تتساقط قطرات الندى على تيجان الزهور.
أمام عظـم محبته يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون جميعهم على جبلٍ عالٍ، صامتين مصغيين إلى صوت الحب يقول لقاتليه: يا أبتاه أغفر لهم!! فأي إنسان لم يرتشف من كأس حبه في إحدى كاساته؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطـرة من الندى بين أوراقها؟
لقد أحبنا، وبوشاح حبه الطاهر غمرنا، وقد ترك شعلته السمائية تتقد في صدورنا، لتلتهم ميولنا وعواطفنا الأرضية، ولؤلؤته الفريدة في قلوبنا، لتسطع بين انفعالاتنا المظلمة فتبددها.. ألم تشعر مرة بملامس أيدي حريرية طاهرة، تقبض على روحك في وحدتـك فتمنيت ألا تتحرر من أسرها؟! ألم تتساءل مرة عن سر الأجنحة الروحائية التى رفرفت ولو مرة حول مضجعك، فنمت فرحاً والنور يملأ زوايا غرفتك، وخيالات يسوع تملأ قلبك؟!
وأخيراً مات البار ولف شبابه بالأكفان حباً فيك، وبصمت ينام في قلب الأرض الصامتة لينهض بالروح، ويخرج بجيوشه من الأرض التي تولد فيها الشمس إلى الأرض التي تُقتل فيها الشمس، لأنه سيكون لنا شمس وقمر ونجوم.. فاملأ قلبك بحب من أحبك لتصعد إلى السماء فتُُمسح مسحة روحية ثم يعود
إلى الأرض، لا لتحيا كإنسان وإنَّما كملاك يرتدى زى إنسان!

مريم امنا وشفيعة ديرنا



بدأ العهد القديم بمعصية حواء وتعدّيها على وصية الله، لقد تناولت الكأس من يد الشيطان لترتشف ماء السعادة، فكان في الكأس سُم أمات فيها الحياة الإلهية، حياة النعمة والبراءة، فوجدت حواء عارية من كل بر وطُردت من فردوس النعيم، فخرجت تبكى عهد الحب الذي فقدته، وتحبل حواء بالمعصية فتلد الكبرياء والغيرة والكراهية... وقد شهدت بكرها قايين يقتل أخاه هابيل البار! فبكت حواء على معصيتها التي غرستها في أرض لم تُثمر سوى بشرية بغيضة.
وتلد حنّة زوجة يواقيم زهرة عطرة فى بستان الحياة، وتنمو الطفلة نمو الهلال إلى أن صارت قمراً، وقبل أن تُزف إلى يوسف يأتيها الملاك برسالة من الله: إنَّها ستحبل وتلد ابناً في أرض الأموات، ويحملها ابنها المحمول في بطنها على أجنحة حبّه لزيارة أليصابات العجوز، ليتقدس يوحنا المعمدان وهو لايزال جنيناً في بطن أُمه، فلما رأتها العجوز امتلأت من الروح القدس وارتكض المعمدان في بطنها ابتهاجاً، أو قل سجوداً للإله المتجسد المحمول في بطن مريم أُمه!
فلمَّا جاءت أيامها لتلد قادها التدبير الإلهيّ إلى بيت لحم، فأعادت مريم العذراء تلك الينابيع التي حولت حواء خمرها ونعيمها إلى ماء مر أعادتها صفاءً ونقاءً! ويموت الابن الوحيد وتلفه مريم بلفائف حبها كما قمطته في المذود بأقمطة عطفها وحنانها، لقد تناولته بين ذراعيها جثماناً بارداً ولكن رغم برودة جسده إلاَّ أنَّها أحسّتْ بلهيب محبته، تُرى كم كانت آلام مريم وهى تدفن ابناً لم يرَ من الحياة سوى آلامها؟!
لقد مضى يسوع وانتهت المعركة بين النور والظلمة وأعطى كوكب الصبح نوره، وقد وصلت السفينة إلى الميناء بسلام، ويسوع الذي اتكأ على قلبها يتموج في الفضاء، وتعود مريم إلى أورشليم متكئة على ذراع يوحنا كما لو كانت قد حققت كل آمالها في الحياة، ولا يبقى سوى أن تبدأ رسالة جديدة، رسالة الأُمومة، فيسوع في حاجة إلى إخوة بالروح، فذهبت مريم تكرز فى البيوت فهجر الناس بيوتهم ليكرزوا بالإنجيل، وأصبحت صورتها تحرس البيوت وأيقونتها تزين الصدور.