مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الخميس، 26 فبراير 2009

الوسائط الروحية

من الاسم نستطيع أن نعرّف الوسائط الروحية بأنها: الوسائط التي عن طريقها نستطيع أن نحصل على النعم الإلهية، فالصلاة، الصوم، الاعتراف، التناول، القراءة ... كلها وسائل أعطاها لنا الله، لكى ننال من خلالها بركات روحية.


وهى بهذا تقوينا في الحياة الروحية، وتساندنا في جهادنا، لا ضد البشر والشيطان فقط، بل وضد الذات نفسها، التي هى أكبر وأخطر عدو للإنسان! فإن أهمل الإنسان الوسائط، لا يكون قد عصي الله فقط، بل وأضر بنفسه أيضاً!


إن الوسائط الروحية هى ثدي حي منه نشرب حليب النعمة الإلهية، فنتغذى وننمو، ويتقوى إيماننا ونثبت فى الإيمان والرجاء والمحبة...


ألا يحتاج الجسد إلى طعام ليحيا، ألا تحتاج الشجرة إلى ماء لتنمو؟ وهكذا الروح إن لم ترتوِ بالله من خلال وسائط النعمة، فلن تنمو فى أى شىء روحانى!


ولهذا يخطىء من يظن أن الوسائط يمكن الاستغناء عنها، أو أنها ضرورية للإنسان فى بداية حياته الروحية فقط، ألم يقل رب المجد " مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ " (يو56:6) فكيف نثبت فى الرب بدون تناول ؟! وكيف نعرف أن هذا خطأ وذاك صواب.. إن لم نقرأ فى الكتاب المقدس؟!


نستطيع أن نشبه الوسائط الروحية بالأسلاك، التى توصل إلينا تيار الروح القدس، أو النبع الذى عن طريقه يصلنا ماء الحياة العذب، فإذا قُطعت الأسلاك توقف التيار وساد الظلام، وإذا إنسد النبع لا يصلنا الماء، ونحن نعرف إنه حيث لا ماء لا حياة!


ولعل أجمل ما فى الوسائط، إنها تجعل الإنسان فى لقاء دائم مع الله، وفى مثل هذه اللقاءات الروحية، يظل الشيطان يجول هنا وهناك حائماً حول رأسك، ولكنه لا يجرؤ أن يقتحم غرفة مسكنك، وإن تجرأ فسرعان ما يتركك، لأنه لن يجد مكاناً يعشعش فيه سواء فى رأسك أو قلبك.


يقول إرميا النبي: " مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ" (إر5:17) إذن كل من يسير في طريق الروح بدون وسائط النعمة، يكون كمن يتكل على ذراعه البشري، ولهذا لم نسمع أن مؤمناً أهمل ممارسة الوسائط، إلا وفترت حرارته الروحية، وتعرّض لمحاربات خطيرة، وسقطات كثيرة لعل أهمها الكبرياء!


ولهذا فإن أول حرب يشنها الشيطان على المؤمنين، هي محاولة إبعادهم عن الينابيع الروحية، التى هى مصدر حياتهم أعنى خلاصهم، لأنه بهذا يبعدهم عن الله بصورة غير مباشرة، ويصيبهم بشلل روحي، حينئذ يستطيع أن يلعب بهم كما تلعب القطة بالفأر!


إننا نخطئ كثيراً عندما نهمل الوسائط الروحية، ونخطئ أيضاً عندما نمارسها بطريقة روتينية، جافة، إذن المهم ليس هو ممارسة الوسائط فقط، بل وأيضاً طريقة ممارستها، ولو أخذنا الصلاة على سبيل التوضيح نقول:


إن الصلاة الحقيقية هي حديث عذب مع الله، يملأ القلب بالأفراح الروحية، ويزيده شوقاً إلى الحياة السمائية، هي غذاء حي للروح، سياج لكل فضيلة، بل هي الأساس الذي فوقه تبني كل فضيلة، ولا يوجد مجرى أوسع من هذه القناة، التي تفتح لنا بسهولة باقي مجاري النعمة الإلهية.


ولكن ماذا لو تحولت الصلاة إلى مجرد ترديد ألفاظ، أو ذبذبات هوائية تخرج من أفواهنا بلا حرارة روحية ؟! أعتقد أن القديس مار إسحق كان مختبراً عندما قال: ما وقفت قدام الله لأُعد ألفاظاً، بل البلوغ إلى المساكن العلوية.


والصوم ليس هو الامتناع عن الطعام الحيواني والاكتفاء بما هو نباتي، لأن هذا لا يمكن أن يقرب الإنسان إلى الله، ولا يعطيه نقاوة تليق بخالقه كما قال القديس صفرونيوس، إنما الصوم فى مفهومه الروحي، هو منع النفس عن كل شهوة كما مُنع الجسد عن الأطعمة الحيوانية، واتخاذ أيام الصوم فترة مقدسة للصلاة والاعتراف والتناول والنمو الروحى...


تذكّر قول قداسة البابا شنوده الثالث: إن الصوم ليس علاقة بين اثنين: الإنسان والطعام ، بل علاقة بين ثلاثة: الإنسان، الله، الطعام ...

ماذا ينتفع الإنسان لو صوّم بطنه عن الطعام، ولم يصوّم قلبه عن الحقد والغيرة.. أو لسانه عن النميمة والإدانة...؟ أعتقد أن مثل هذا الصوم يُعد باطلاً، ولهذا يقول البابا أثناثيوس الرسولى: " إننا مطالبون أن نصوم لا بالجسد فقط، بل وبالروح أيضاً "، قد نكون على صواب إن قلنا: روحيات بلا أخلاقيات هي وثنية لا مسيحية.

ألم تسأل نفسك مرة: لماذا نتعرض أثناء الصوم لمحاربات كثيرة ؟ أليس لأننا نكتفي بحرمان الجسد عن بعض الأطعمة، ولم نعطِِِ للروح فرصة التحرر من شهواتها، نحن لا نتعرض لمحاربات كثيرة فقط، بل لسقطات ما أكثرها! ولهذا بعدما ينتهى الصوم ونفطر نبدأ مرحلة النهم كما لو كنا فى سجن وخرجنا! فهل مثل هذا يُعد صوماً يقبله الله ؟ إن كان هذا صوم فما هو الكبت ؟!

أيضاً القراءة، فى الكتاب المقدس، أو كتب الآباء، أو الكتب الروحية.. ليست هى مجرد وسيلة لجمع أو تحصيل المعلومات، فالكمبيوتر يستطيع أن يمدك بكل ما تريد من معلومات، إنما الهدف الأسمى للقراءة، يجب أن يكون تحويل المعلومات إلى حياة، واتخاذ المعومات مادة للصلاة والتأمل وشغل الفكر بالله...


إن الهدف الحقيقي من قراءة الإنجيل هو أن نغذى حبنا للمسيح، وأن نشغل قلوبنا بآيات مقدسة للدخول في الصلاة، ولكي يزودنا الكتاب المقدس بالإرشاد فى حياتنا الشخصية والروحية..لأن وصايا الله مدرسة، قد أُرسلت إليها لتجلس على مقاعدها، وتتعلم من حِكمها دروساً تحكمك إلى الأبد، فلا تتركها قبل أن تتخرج وتحصل على شهادتك منها.. هى منجم جدرانه مرصعة بالأحجار الكريمة، فلا تخرج دون أن تحصل على عينات ثمينة منه.. حديقة يتمشى الرب فيها، وأشجارها محملة بالبر والسلام، فلا تترك هذه الجنة دون أن تجنى أثمارها!


ألم يقل معلمنا داود النبى: " مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي " (مز103:119) إذن فالوصية لم تعطَ للإنسان إلا لراحته، ومن هذا المفهوم يستطيع أن يحيا سعيداً إن أراد وعمل بها، فالله قد وضع وصايا كثيرة، ووصاياه ليست ثقيلة، إن أطاعها عاش فى سلام، وإن خالفها عاش فى ألم وشقاء.


والحق إنني لا أكتب مجرد نظريات فلسفية، تصلح أن تكون مادة للنشر، إنما أكتب عن خبرة شخصية عشتها، إذ تعلمت كثيراً من كتب قرأتها، وأرسل لي الله رسائل من خلال آيات إنجيلية أو كتب روحية..


فقد مرت علىّ فترات شعرت فيها بأني مكتف بما أنا عليه من ممارسات روحية، ولكن حدث بينما كنت أقرأ في كتاب أن وجدت عبارة بلغة تقول: إذا شعرت أن نموك قد توقف فأعلم أنك في حاجة إلى مساعدة آخرين! فما أن طلبت المساعدة، حتى مارست أضعاف ما كنت أمارسه من صلوات وقراءات..


كما أن التناول يجب أن يكون بإيمان كامل، أن الخبز يتحول إلى جسد المسيح وهكذا الخمر إلى دمه الذكي الكريم، وإلا شابهنا الوثنين!! ولو أننا نتناول خبزاً وخمراً فما الذي دفع بولس الرسول أن يقول: " أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ، يَكُونُ مُجْرِماً فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ " (1كو27:11 )!


وهل يُعقل أن الكنيسة تقيم الصلوات والتسابيح من نصف الليل - كما فى الأديرة - وتعلّم الناس وتهيأهم للتناول عن طريق الرسائل والإنجيل والعظة، ثم تعطيهم فى النهاية خبزاً وخمراً! أليس في استطاعة كل إنسان أن يأكل خبزاً ويشرب خمراً في بيته!

الأربعاء، 25 فبراير 2009

النـســك الـروحــى

لقد ضل كثيرون بسبب عدم فهم هدف النسك أو كيفية الوصول لحياة نسكية متزنة، يستطيع الإنسان من خلالها أن يحيا مع الله، وفى نفس الوقت يحافظ على جسده الذى هو عطية صالحة من خالقه.


يجب أن نعرف أن كلمة نسك " قبطية " اللفظ، وتكتب هكذا " NICWK نى سوك " وهى تعنى: قطع كل ما يعوق مسيرتنا الروحية عن طريق قمع شهوات النفس والجسد، وبالمقابل ممارسة كل ما يقربنا من الله... ويُعد الجانب الأول وسيلة للوصول إلى الثانى الذى هو الهدف.


ولهذا يختلف النسك فى المسيحية، عنه فى الديانات الأُخرى، ففى البوذية توجد ممارسات كثيرة، تُميت شهوات الجسد وتسيطر على غرائزه، ولكنها لا تقربهم إلى الله، والسبب ببساطة: إنهم لا يعبدون الله، بل آلهة أخرى، فماذا انتفعوا من ممارستهم...؟!


نؤكد أن النسك شئ غريزى فى الإنسان، ولكنه غريزة متقطعة، فقد آكل لحوماً ثم سرعان ما أملها فألفظها.. ومن ثم فإن النسك لا يمثل غاية فى ذاتها، فهو يحتاج لتقويته إلى بعض الغايات الأُخرى الجذّابة.


ولهذا فإن النسك الذى لا يقرب الإنسان إلى الله هو وثنية لا مسيحية، وكل الذين أُصيبوا بمسة عقلية بسبب نسكهم، هم مرضى نفسانيين وإن ارتدوا زى العقلاء، فما أكثر الذين يرتدون ثياب الملائكة وهم ذئاب خاطفة!


ويميز الأدب الرهبانى بين النسك الإلهى والنسك الشيطانى، فالأول يتصف بالتعقل والاعتدال، بينما الثانى نسك بلا تفكير ولا تعقل ومغالى فيه.. وهو لذلك لا يقود إلى نقاوة القلب، بل إلى الذاتية الشيطانية هنا يظهر دور المرشد والإفراز الذى يسميه القديس نيلوس السينائى " ملكة الفضائل" ألم يقل الأنبا بيمن مرة لأنبا إسحق: " لقد تعلمنا ألا نكون قتلة للجسد بل قتلة للشهوات ".


قديماً كان الرهبان يُدعون " نساك "، وقد كانت هذه الكلمة تُستخدم فى الأدب اليوناني - عادة - للإشارة إلى الإنسان الذى يتدرب أو يمارس إحدى الفنون.


ولهذا تأتى كلمة نسك " أسكسيس Askesis " فى اللغة اليونانية بمعنى: تلين الشئ بالتمرين، وكذلك العمل فى مادة خام لاستخراج أفضل ما فيها.


فالنسك إذن فن، بل فن الفنون، وذلك عندما يكون وسيلة لا غاية، من خلالها يصل الإنسان إلى قلب الله، وليس إلى المجد الباطل أو حب الظهور.


يجب أن نعرف أن جهادنا النسكى، هو ضد شهوات الجسد، وليس ضد الجسد نفسه كما يظن البعض، ولهذا يقول بولس الرسول: " فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ كَمَا الرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ " (أف29:5).


إذن فالنسك جهاد ليس ضد الجسد بل لأجله، فقد قال أحد الآباء: " أُقتل الشهوة الجسدانية لكى تقتنى جسدا ً" فإن فهمنا النسك كجهاد ضد الوجه القبيح للنفس، فإنه فى هذه الحالة لا يكون استعباداً للذات، بل الطريق المؤدى إلى الحرية الحقيقية.


وهو بهذا يكون مطلوباً من كل المسيحيين، فالراهب كالمتزوج من جهة وسائل الخلاص، فكلاهما يكره الخطية ويبتعد عنها بنفس القدر، إذن جوهر الحياة النسكية: كالعفة وممارسة الفضائل، والطاعة، والمحبة، لا يخص الراهب وحده بل كل المسيحيين!


لكننا نعترف بأن متطلبات الحياة النسكية المستمرة والحياة الاجتماعية، أمران يصعُب على كل إنسان أن يجمع بينهما، ولهذا عندما انتشرت المسيحية كان النسك مجرد قاعدة يتبعها الفرد، وهو يعيش بين رفقائه، ثم بدأ الناسك يفرز نفسه جزئياً عن مجتمعه وسكن فى قريته أو مدينته منفرداً، ثم فى مكان بعيد فى البرية، ليتفرغ للصلاة الدائمة، التى لا تكتمل إلا من خلال السكون.. وأخيراً عندما جذبت شهرة الناسك عدداً من الناس الذين يريدون الاحتذاء به، وجد نفسه رأساً روحياً لمجموعة من النساك، وكان هذا نواة الحياة الرهبانية، التى أسسها أنبا أنطونيوس.


يمكن تشبيه النسك بعمل دودة القز، التى تنسج خيوط كفنها وقبرها بفمها، ثم تدفن ذاتها فى ذلك القبر، إلا أنها سرعان ما تصبح فراشة تخترق قبرها وتفلت من قيودها وتحلق فى الفضاء، والعجيب أنها بعد أن أصبحت فراشة اكتسبت جمالاً فريداً، لم تستطع أن تتمتع به وهى دودة داخل الشرنقة.


وهكذا أيضاً الإنسان، بنسكه المتزن يزداد جمالاً روحانياً، ويتحرر من قيود ورباطات شهواته، ويستطيع من خلال ممارساته الروحية أن يتأمل فى السمائيات.. ويتعامل مع الناس ببساطة الأطفال..


أيضاً الحطب الطرى عندما يوضع فى النار، فإنه فى البداية يصبح أسوداً، ثم يبدأ بالبكاء حيث يفرغ كل ما فيه من ماء دمعة دمعة، ولكنه لا يلبث أن يصبح شبيهاً بالنار المحيطة به،ولكننا نخطئ كثيراً عندما يقتصر نسكنا على قمع شهوات الجسد فقط، تاركين شهوات النفس ترمح فى أرضنا وتفعل بنا ما تشاء، فماذا ينتفع الإنسان المتكبر من صومه؟!


ولهذا نجد لدى الفلاسفة القدامى ما يُعرف بالتصوف الأخلاقى، إذ كانوا يعتقدون أن كمال الإنسان لا يتحقق إلا عندما يصل إلى الحرية الباطنية، التى تقوم على اللامبالاه إزاء أى متعة - فردية كانت أم جماعية - لأن هذا يتيح للنفس ألا تتأثر بظروف العالم الخارجى المتقلبة، ولا يجعل الإنسان عبداً، سواء لغيره، أو لعادة ذميمة تتسلط عليه.


وقد مارس الفلاسفة القدامى هذا النوع من التقشف الأخلاقى، ومعلموا الآداب جعلوه محور تعليمهم!


وفى القرن الثانى الميلادى أوجزت جماعة مسيحية عُرفت باسم الغنوسيون - أو العارفين كما يترجم اسمهم- مجمل تعاليم التصوف فى ما قد دعوه بالأختام الثلاثة ألا وهى:


" ختم الفم " ضد الطعام والشراب و" ختم الجسد " ضد الرفاهية، و" ختم الحشا " ضد العلاقات
الجنسية.


إلا أن النسك لكى يستمر، لابد أن تصاحبه حالة فكرية، يكون فيها الإنسان لديه رغبة حقيقية لممارسة النسك، لأن التعلق يكون بالفكر، والزهد فى المتعلقات يرجع أيضاً إلى طبيعة الفكر، فمن المعروف أن ما يرفضه الفكر لا يُحب الإنسان عمله أو اقتناءه..


كما أن الفكر هو الذى يقوى الإرادة، التي تساعد الإنسان أن يبتعد شيئاً فشيئاً عن الأمور الزائلة، إلى أن يصل إلى حالة يكون فيها الفكر خالياً من كل طمع، فى الأشياء التي شاهدها وسمع عنها.


هناك ثلاثة أشياء تجذب الفكر وتأسره وهى: المال، الشهرة، المرأة، وكلها تعوق النسك !!


ويُعد العمل والصلاة هما جناحى الحياة النسكية، فعلى الأول نُقشت الآية " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فى13:4) وعلى الثانى " وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئا ًفِي الأَرْضِ " (مز25:73).

وإن كانت الصلاة تمثل أو تُشبع جانب الروح، فإن العمل يمثل جانب الجسد، وكلاهما يتمان فى وقت واحد وانسجام تام.


فالجسد يشارك الروح فى خبرتها الروحية، وفى تذوقها للأمورالإلهية، فتصير حركاته تعبيراً عن السمو والرفعة، فتراه هادئاً ، وديعاً ، مسالماً...


وكأن الإنسان عندما يحيا مع الله، يصعد على أجنحة نسكه المتزن من الأرض إلى السماء، ليُمسح على جبينه مسحة روحية، ثم يعود إلى الأرض مرة ثانية ليحيا، لا كإنسان بل كملاك يرتدى زى إنسان!


قد نكون على صواب لو قلنا: إن الجسد هو أداة للروح، فكل طاقات الجسد تساهم فى انطلاق الروح، وأى إهمال له يحد من حركتها وقوة انطلاقها.


فإذا تثقل الجسد بالطعام والشراب، عجزت الروح عن القيام بواجباتها! فتضعف الصلاة وتفتر، وتنحجب التأملات.. ولهذا يقول القديس بولس الرسول: " لَكِنَّ الَّذِينَ هُـمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَـدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ " (غل 24:5).


إلا أن صلب الجسد لا يعنى قتل أنفسنا بقتل كل نشاط الجسد، بل رفض كل شهوة خسيسة، وكل فعل وضيع يحط من شأننا كأولاد لله، فالجسد ليس شراً ولهذا نذله ونعاقبه على جرم ارتكبه، فالله خلقه حسناً كسائر المخلوقات الأُخرى.


إنما استعمالنا الخاطئ له، هو الذى يدنس الجسد، ويجعله وسيطاً للشر، فقد أبسط يدي للإحسان وأُقدم كل ما هو صالح للآخرين، وقد أصفع بها وجه أخي صفعة قاتلة، فالاستعمال الأول يقدسها بينما الثانى يدنسها.


ألم يقل معلمنا بولس الرسول: " لاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْـمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَـلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِـكُمْ لِلَّـهِ كَأَحْيَـاءٍ مِـنَ الأَمـْوَاتِ، وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بـرٍّ لِله " (رو12:6)، فأعضاء الجسد التى كانت قبلاً آلات للإثم، يطلب الرسول أن نقدمها آلات بر لله، إنها أدوات تُستخدم فى الخير كما فـى الشر !

ولكن من أين جاءت تلك النظرة الخاطئة للجسد ؟! لنرجع إلى عصور ما قبل المسيحية، لنعرف أن الفلسفات القديمة كانت ترى فى الجسد شراً!


وقد تبعتهم جماعة الأسينيين اليهودية، التى عاشت فى عزلة عن العام وكره شديد له، معتبرين العالم شراً يجب اجتنابه والابتعاد عنه!


وقد نادى الغنوسيون بأن الجسد شرير لأنه مادة !! ولذلك يجب أن يُقمع ويُرذل ويُحتقر.. فمنعوا الناس من الزواج وذلك من أجل كبت غرائز الجسد، وحرّموا أكل أطعمة كثيرة.. وهذا واضح من قول معلمنا القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: " مَانِعِينَ عَنِ الزِّوَاجِ، وَآمِرِينَ أنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أطْعِمَةٍ، قَدْ خَلَقَهَا اللهُ لِتُتَنَاوَلَ بِالشُّكْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَارِفِي الْحَقِّ " (1تيمو3:4)! ولكنهم سرعان ما خرجوا بمعتقد أخلاقى آخر يتعارض مع هذا المعتقد تماماً فقالوا: بما أن الجسد شرير فلا يهم ما يفعله به الإنسان، إذن ليُشبع كل إنسان شهواته وبشراهة!


وفى أيام الرسل كانت هناك جماعات من أتباع هذه الفلسفات، يجولون فى مختلف الإمبراطورية الرومانية، مرتدين ثياباً خشنة، وحاملين

أكياس متسولين وعصى من شوك، مرددين على مسامع الناس أخلاقياتهم الهزيلة، وللأسف الشديد التهب بعض المسيحيين غيرة واندفاعاً لهذا النوع من السلوكيات!


ونحن لا ننكر أن الرسل عندما انطلقوا للكرازة، كانوا يتجولون بشكل مماثل، متحررين من كل الأمور الدنيوية، وكانوا يكرزون بنكران الذات، إلا أن البعض لم يميزوا بين جوهر كرازة الرسل وهو (التجرد فى سبيل الملكوت) وتعاليم أولئك الفلاسفة وهو (رذل العالم عن كره)!


أما فى ما يخص الزواج، ففى الفلسفة الرواقية نجد تركيزاً على أهمية العقل والوعى لدى الإنسان، فى حين أن العلاقات الجنسية كانت تُدعىالشلل العقلى، ولهذا يجب الامتناع عنها لأنها تحرم الإنسان من وعية الكامل.


ولكن المسيحية نادت بأهمية وقدسية الزواج، وقد اعتبرته سر من أسرار الكنيسة المقدسة، يحصل من خلاله المؤمن على نعمة روحية.. ألم يقل معلمنا بولس الرسول: " هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ " (أف 32:5)!!


أما كون المسيحيون فى بداية نشأة المسيحية، قد قبلوا العزوبة، وكرسوا البتولية نمط حياة، أو حبذوها، على مثال سيدهم ومعلمهم المسيح، فهذا فى الحقيقة إنما يرجع لسببين:


الأول: التحرر فى سبيل الكرازة بالملكوت.

الثاني: اعتقادهم قرب نهاية العالم.


هذه بعض تعاليم الفلاسفة فماذا عن تعاليم المسيح ؟


إن من يتأمل حياة المسيح، يرى أنه عاش الحياة بعد أن حررها من آلامها، فكانت حياته بسيطة لا يشوبها الطمع، أو يرهقها الجشع، أو تمزقها الأنانية، عاش على الكفاف شبعاناً قنوعاً، وقد رضي بالقليل، لأنه امتلك غنى النفس، ولهذا تمتع بالحياة كأنه يملكها كلها.


فاستنشق الهواء الصافي بين الحقول، وقضى وقتاً فى البساتين يتأمل جمال منظرها، ويتمتع بعبير رائحتها، وكم جلس تحت كروم العنب يتأمل فى ذاته الكرمة الحقيقية.


وطالما جلس على شواطئ صور وصيدا.. كانت عيناه تلتقى بنجوم السماء وهى تسبح فى المياه..


وما كان أحب إليه من الجلوس على قمم الجبال، كأنه حلقة الوصل بين السماء والأرض...


ولهذا أوصي تلاميذه بالتحرر من كل قيود الحياة، إن كانوا يريدون أن يدخلوا الملكوت، فكل ما يبعدنا عن الله، وكل ما يستعبدنا، وكل ما يلهي قلوبنا عن حب الله.. يجب بحسب تعاليم السيد المسيح يجب رفضه ونبذه.


ولكي نكون أقوياءً وأسياداً وأحراراً، يوصينا السيد المسيح بأن نبغض، أي نرفض أي شئ، أو شخص.. يحاول أن يستعبدنا أويقف حجر عثرة فى طريق خلاصنا (لو7: 26،27).

السبت، 21 فبراير 2009

لماذا التــوبــة ؟


التوبة هى عودة إلى صباح أول يوم،عندما انبثق النور من الظلمة (تك3:1)، هى رجوع إلى الأحضان الأبوية مرة ثانية، لكى يحيا الإنسان مع الله هادئاً، مطمئناً كطفل رضيع لا يجد راحته إلا بين ذراعى أُمه! أو قل هى ثورة الإنسان ضد الشر داخل النفس..

التوبة هى أن ننظر لا إلى الوراء بأسف شديد، بل إلى الأمام فى رجاء عظيم، لا إلى أسفل فنرى تقصيرنا، بل إلى أعلى لنرى محبة الله، هى أن ترى لا فشل اليوم، بل نجاح المستقبل بفضل النعمة الإلهية، وبهذا المفهوم تكون التوبة: ليست مؤقتة بل حياة مستمرة.


ولو أننا تأملنا فى كلمة توبة " ميطانيا Metanoia " لوجدنا أنها تعنى " التغيير" فأنا آخذ حياتي الملوثة، وأقلبها رأساً على عقب، كما تقلب كيساً لكى تفرغ كل ما فيه من قاذورات، ومن الأشياء القديمة أصنع ما هو جديد!


والحق إن التغير الذى يشمل الفكر والقلب والإتجاه... يؤدى بالضرورة إلى تغير أسلوب الحياة، وهل يتوب إنسان دون أن يصنع أثماراً تليق بالتوبة ؟! فالتوبة إذن تُعيد تشكيل الإنسان من جديد، لأن أعمال الإنسان يمكن تركها كما هى، ويمكن وضعها فى فرن عالى الحرارة، وتحويلها إلى سبائك فولاذية ملتهبة!


إذن فالماضى البالى، الذى يشبه صفيح قد أصابه الصدأ، يستطيع الإنسان بإرادته إعادة صنعه وصهره وسبكه فى عمل جديد مفيد، وهذا هو الرجاء الذى فتح لنا المسيح بابه إلى نهاية الدهور.


فى التوبة سر طفولة رائعة، لأن الإنسان بالتوبة يغوص إلى عمق قلبه، ويلمس قاع بؤسه، ويشعر بالندم تجاه ما ارتكبه من ذنوب، وهو بهذا يولد من جديد!


والحق إن اعترافات كثيرين لا تجدد فيهم شئ، لأنها بلا توبة صادقة، فيخرجون من الاعتراف كما دخلوا، وينزلق تحليل الكاهن على رؤوسهم كما ينزلق الماء على ريش البط! ولهذا يجب على الإنسان أن ينزل إلى أعماقه ويحاسب نفسه بدقة، وذلك لكى يعود إلى الله عودة كاملة لا نصف عودة!


إن مشكلتنا أننا نجرى ونلعب فى المناطق الوسطى، فلسنا أمواتاً ولا أحياء، ولا حارين أو باردين، بل فاترين، ولهذا فإن الله مزمع أن يتقيأنا من فمه (رؤ16:3)!! أقول هذا لأن هناك صوراً كثيرة من صورالتعبد لشهوات الماضى، فقد يتوب الإنسان، ولكنه بالفكر يُشبع نفسه من لذات مر عليها الزمان وانقضت، وهو لا يدرى أن هذه الذكريات، التى يرتد إليها ليست سـوى ذخيرة حية تقتله! أو حبلاً قوياً يربطه، ويحد من حركته فى كل من الحاضر والمستقبل.


فليس من الحكمة أن ننفخ فى مثل هذا الرماد من جديد، وقد يكون من علامات الرجولة والنضج أن يدير الإنسان ظهره لماضيه، وذلك لكى يتجه ببصره فى ثقة وأمل نحو المستقبل، أما إذا ظل أسير ماضيه، فإنه سيحيا إلى الأبد كعصفور داخل قفص، لا هو قادر أن ينعم بالسعادة لأنه محبوس، ولا قادر أن ينال حريته لأنه أيضاً محبوس!


ولكن الماضى لا يموت فهو يتتبعنا ويلاحقنا باستمرار فليس فى وسعنا أن نشهد آثامنا، وكأنها لا تمت إلينا بصلة، فيجب أن نعترف بأن وجه الماضى القبيح هو وجهنا! هنا تظهر أهمية التوبة، لا فى أنها تمحو الخطايا من الوجود، بل فى أنها تغفرها، وهى بهذا تعطينا فرحاً وعزاءً وسلاماً.. يجعلنا نتخطى حزن الخطية المرير، ولا نخجل من ماضينا الأثيم.


ألم يضع القديس العظيم أُغسطينوس سيرته، بكل ما تحمل من ضعفات وعثرات... على صفحات كتاب أسماه: " اعترافات.." فالضعيف قد صار قوياً! وما هو سر قوته؟ إنها التوبة التى بها نستطيع أن نحوّل ماضينا المظلم إلى سطور من نور ونور!


فإذا افتقدك الماضى، فلا تدعه يعمى عيني نفسك بدخانه الكثيف، بل فتش عن سبب اشتعال النار، وكيف كانت بدايتها، ومن أين كانت تتغذى، ولا تتركها تتسلط بحرارتها عليك، ثم إشعل أمامها نار الروح، هنا تظهر حكمة الإنسان، فمن المعروف أن كل توبة يقدمها الإنسان تسبب له قفزة وارتفاعاً كالكرة، التى ما أن تسقط على الأرض فسرعان ما تصطدم بها لتقفز إلى أعلى.


ولكن الإنسان كثيراً ما يعجز عن القفز، لأنه يرفض أن يسقط إلى عمق ذاته ليعرف حقيقة نفسه، وهو بذلك لا يمكنه أن يتجدد أو يسمو! وها نحن نتساءل: كيف استطاع اللص اليمين أن يمحو آثامه؟ لقد تمكن من ذلك بواسطة ديناميت التوبة، الذى به فتت جبل ثقيل من على كتفه!


وأمام هذا الصفح العجيب الذى منحه المسيح للص مجاناً وفجأة قد يعترض بعض السطحيين أو غير المؤمنين قائلين " هذا ظلم "!! فيجيب السيد المسيح لا، بل " هذا عدل "، لأنه وإن عجز الإنسان عن محو أفعاله وجرائمه.. فهو على مستوى النية الحسنة يستطيع أن يحول طريقه، وأن يضفى على حياته بُعداً جديداً، حتى لو كان فى آخر نسمة من حياته، وأعتقد أن اللص اليمين لو كان قد عاش لصار من أعظم القديسين، هذه هى التوبة: أن يختار الإنسان لنفسه صورة جديدة.


ولكن لماذا التوبة؟ ألا يوجد طريق آخر نتقابل فيه مع الله سوى هذا الطريق؟ يجب أن نعترف بأن الله نور ونار والخطية ظلام وبرد.. فهل يمكن أن تقوم شركة بين النور والظلمة ؟! كيف يمكن للحياة والموت أن يلتقيان؟!


والحق إن الخطية هى موت بكل ما تشمله كلمة موت من معنى، وما التوبة إلا سفينة من ذهب بمجاديف من فضة وأشرعة من حرير.. تنقلنا من موت الخطية إلى الحياة مع الله، ألم يقل معلمنا بطرس الرسول: " ًأَعْطَى اللهُ الأُمَمَ أَيْضاً التَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ! " (أع11: 18).


بدون توبة لا حياة، ولا أمل فى حياة، ولا نمو أو إخضرار، فقد قال رب المجد يسوع: " إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ " (لو13: 3).


كما أن التوبة تسبق الأسرار المقدسة، فبعدما وعظ بطرس الرسول الشعب يوم الخمسين، " نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ الرُّسُـلِ مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ ؟فقال لهم بطرس الرسول : " تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْـرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (أع 2: 38) ألم يشترط الله التوبة كأساس لمغفرة الخطايا " فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ " (أع3: 19).


وقديماً قال صموئيل النبى للشعب: " تَقَدَّسُوا وَتَعَالُوا مَعِي إِلَى الذَّبِيحَةِ " (ا صم 16: 5).


وفى العهد الجديد يقول بولس الرسول"لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَـهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِـدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَة ًلِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَد الرب مِنْ أَجْلِ هَذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ" (اكو11: 27- 31).


يُحكى عن الإمبراطور ثيئودوسيوس: إنه سفك دماء كثيرة عندما أجرى مذبحة على شعب تسالونيكى، فلما تقدم للمناولة بعدها، رفض القديس أُمبروسيوس أسقف ميلان أن يناوله، فاعترض الإمبراطور على هذا الحرم قائلاً: لماذا أًرفض بينما داود زنى وقتل والرب لم يرفضه؟! فالتفت القديس نحوه وقال: لقد شابهت داود فى جريمته ولكنك لم تشبهه فى توبته!


يقول أحد الآباء

" إن نفوسنا شبيهة ببئر عميقـة، مليئة من المياه الموحلة التى كلما نزحناها ظهرت الميـاه الباطنية الصافيـة فى القـاع.. "


وهكذا نحن أيضاً، كلما جاهدنا، من أجل تنقية قلوبنا بالتوبة، ظهر الله داخل نفوسنا، ولا ننكر أن الله لا يقوى على احتمال النفس الدنسة، بل يتقيأها ويدفعها إلى الخارج مثل البحر الذى لا يطيق بقاء الأقذار فى جوفه، بل يدفعها إلى البر بعيداً عنه.


ولعل أهم بركات التوبة، إنها تُخرج الإنسان من قوقعته الذاتية الصلدة، وتجعله لا يدنس الآخرين، بل يهتم بهم، ويقدسهم ككائنات سامية، قد خُلقت على صورة الله كما خُلق هو، وهى بذلك تكون عكس الخطية، التى تجعل الإنسان كما لو كان يحيا فى جزيرة عدد سكانها شخص واحد، وينظر للآخرين كآلات، تحقق له رغباته المادية والشهوانية.


ولكن هذا ليس بغريب، لأن الشهوة عمياء لا ترى، صماء لا تسمع، خرساء لا تتكلم، الشهوة تريد شيئاً واحداً: أن تتحقق! وهى بهذا تجعل الشهوانى يحيا فى وحدة باردة، مملة، وتجعل من قلبه صحراء قفراء، وإن أنبتت لا تنبت سوى الأشواك، وعلى حين أن المحبة تعنى البذل والعطاء إلى أبعد الحدود نجد أن الشهوة تعنى السلب لآخر قطرة من الدماء.


ويؤكد الفيلسوف أفلاطون، إن الإنسان لايدرك الحقيقة الكاملة، إلا بتمزيق القيود والسلاسل.. التى تربطه بالعالم الأرضى الفانى، وفك حصار الشهوات التى تحجب عنه عنه طريق كشف الحقيقة، ولكى يُقرّب هذه الحقيقة لتلاميذه، أعطاهم تشبيه الكهف، فقال لهم:


إننا أشبه بأُناس قُيدوا بالسلاسل فى جدار كهف مظلم، فعاشوا لم يروا من الحياة سوى الظلال التى ترتسم على الجدار، وذلك من خلال فتحة الكهف المواجهة له، فهم يرون ظلالاً لأشخاص وأشياء.. يعتقدون أنها هى الحقيقة لأنهم لايرون سواها، ولكن ماذا لو استطاع أحد هؤلاء أن يفك قيده ويتسلل من الكهف؟ أعتقد أنه سوف يرى الناس على حقيقتهم، وليس من خلال الظلال، التى يظن عن غير وعى إنها هى الحقيقة!!


وعلى المستوى النفسى يحتاج كل إنسان إلى آخر، يصغى إليه بلطف ويرشده، ولعل السبب فى أن كثيرين يشعرون بالانعزالية هو: إنهم لا يجدون أُذن عطوف، ولو وجدوا من يتفهم مشاعرهم ويقرأ أفكارهم.. لاستطاعوا أن يتخلصوا من كبت شديد تراكم على مر السنين.


ولو تأملنا المراحل المختلفة التى مر بها عالم النفس الشهير" فرويد Freud " لوجدنا أنها انتهت إلى الإنصات للمرضى، فبعد أن استخدم العلاج بالكهرباء والمنومات ووسائل أُخرى.. لجأ إلى التفاعل العاطفى، وببساطة بدأ ينصت لمرضاه وهم يحكون له مشاكلهم.


فإن كان الله يعرف احتياجتنا النفسية، ورتب لنا سر عظيم هو " سر التوبة والاعتراف " فلماذا لا نستفيد منه؟! لماذا نذهب إلى الأطباء، وندفع أموالاً قد تفوق طاقتنا؟! أليس أفضل أن نذهب للطبيب بعدما يفشل الكهنة!


أما التوبة الصادقة فهى التى تكون مصحوبة بالندم، فما هو الندم وما الفرق بينه وبين عذاب الضمير؟ إن الندم هو إقرار بالخطأ وفى نفس الوقت تخطيه، فالندم محاولة لتجاوز الماضى، وذلك بالنظر إلى الأمام والتطلع نحو المستقبل..


أما عذاب الضمير، فهو أسف على ماضٍٍ سئ، ولكنه أسف لافائدة منه ولا فاعلية له، هو تألم يجعل الإنسان يقول بمرارة: " آه لو لم يحدث هذا ولكن يا للأسف لقد حدث!! " ولهذا فإن عذاب الضمير هو أسف على خطأ بدون رجاء.


أتذكرون يهوذا الإسخريوطى! لقد اعترف علناً أمام رؤساء الكهنة والشيوخ بجرمه قائلاً: " أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً "، كما أنه طرح الفضة فى الهيكل وانصرف، ولكنه فى النهاية " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " (مت27 :3-5).


- إن عذاب الضمير يوجهنا نحو الماضى الأليم،
أما الندم فيوجهنا نحو المستقبل المشرق المنير.

- عذاب الضمير يجعلنا ننظر إلى فشل اليوم،
أما الندم فيجعلنا ننظر إلى نجـاح المستقبل.


نستطيع أن نقول:إن التوبة تؤكد لنا أن كل شئ قابل للإصلاح، فأنا لست مسمراً فى ماضٍ إلى الأبد، بل يمكنني أن أصلحه وأتجاوزه، وفى هذا تكمن البشرى العظيمة، وقد أعلن المسيح أُن الفداء أمر غير مستحيل، والمستقبل مفتوح، والإنسان ليس حبيس خطئه أو ماضيه.

الثلاثاء، 17 فبراير 2009

يمكنك أن تو جه العاطفة


لا تخف من عواطفك


لا نُنكر أنَّ وسائل التربية الكلاسيكية، جعلتنا نتعامل مع العاطفة لا بالحوار بل بالهروب.. فقد علَّمونا أن نتحاشى كل التعبيرات العاطفية، ونحترس منها ونخشاها ونقمعها وإن استطعنا نلغيها..‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

دفعونا إلى الشعور
بأننا مذنبون إذا عبّرنا عن عواطفنا.. وقد كان الأفضل أن يعلمونا كيف نفهمها ونوجهها؟ فهذا يجعلنا نتنبه إلى كل ما يقيدنا ويحد من حريتنا، ويساعدنا أن نكون أحراراً وأُمناء في علاقتنا مع الآخرين.

إنَّ الوعي بالعاطفة يعني الانتباه إلى الحالات الداخلية التي يعيشها الإنسان، ودراسة ما يحدث له من انفعالات، فبمجرد أن ترصد الانفعال تكون قد اكتسبت أول قدرة، تستطيع أن تبنى على أساسها قدرة أخرى ألا وهى: السيطرة على الانفعال، فإن هذا سيوفر له درجة كبيرة من حرية الاختيار: هل يبقى في هذه العاطفة أم يجب أن يتخلّص منها؟

ولكنَّ العاطفة خدّاعة فكيف يستطيع الإنسان أن يكتشف ألاعيبها؟ من خلال ردَّات الفعل، فكل عاطفة لها علامات مُعينة تظهر على الجسد، فأعصابنا المضطربة، نظراتنا، حركاتنا، أقوالنا.. كلّها طُرق تستطيع من خلال مراقبتك لها وتحليلها أن تصل إلى الوعي العاطفيّ
.

إلاَّ أنَّ هناك عواطف دفينة بحيث يصعُب على كل إنسان إدراكها بسهولة، فقد تكرر كلمات كثيرة مثل: أب، أُم، حرب، حُب، جنس.. بلا سبب، ولكن لو تأمّلت في سبب التكرار، لوجدت أن هناك كبتاً أو مشكلة تؤرقك، وهى تبحث عن مخرج من خلال هذه الكلمات! أمَّا أفضل وقت لفحص العواطف، هو عندما تكون مضطربة، لأنَّ العواطف في تلك اللحظة تكون على حقيقتها، ولكي يقوم الشخص بفحص دقيق لعواطفه عليه أن يقوم بتدوين يومياته
.

إنَّ الورقة التي تدوّن عليها مشاعرك أشبه بالطبيب النفسانيّ، الذي يريحك لمجرد أن يسمعك، وقد تختلف الورقة عن الطبيب في أنَّها أقل رهبة منه، وهذا مطلوب في بعض الحالات، ولبعض الشخصيات الضعيفة، أو التي عندها مشاكل حساسة
ليس بسهوله إعلانها.

ارتبط بصديق حميم

ما من إنسان إلاَّ ويعرف آثار الكبت السيئة، ولهذا يحتاج كل واحد منَّا، إلى صديق حميم يفهمه ويثق فيه، ويستطيع أن يتكلم معه بصراحة. فما هى الصداقة؟ وما هى أنواعها؟ وما هى الأُسس التي تقوم عليها؟ وهل يمكن أن تقوم صداقة بين رجل كبير وشاب؟
وماذا نقول عن الصداقة بين الشبان والشابات؟

نستطيع أن نُعرّف الصداقة بأنَّها علاقة سامية تقوم على الصدق، وتظهر قيمتها في إخراج الإنسان من قوقعته الذاتية، لكي يهتم بغيره ويعمل على نموه ويسهر من أجل راحته.
ويتحدّث الفيلسوف " أرسطو " عن ثلاثة أنواع من الصداقة ألا وهى:

صداقة اللذة التي يبحث فيها الإنسان عن تمضية أوقاته في اللهو، وصداقة المنفعة التي يهدف الإنسان من وراءها الحصول على مصلحة شخصية، أمَّا النوع الثالث فهو صداقة المحبة التي تقوم على البذل والقيم الروحية
.
.

ونحن لا نُنكر أنَّ العثور على صديق ليس بالأمر السهل، لكننا نعترف بأنَّ الحديث إلى صديق، يساعد الإنسان على اكتشاف أفكاره المغلوطة، ألم يقل سليمان الحكيم: " عَلَىِ فَهْمِك لاَ تَعتَمِدْ " (أم3: 5).
أمَّا إذا صمت فمن المؤكد أن مشاكله ستبقى مُبهمة، ولا تنسى أنَّ من خلال كلامك وحركاتك..

يستطيع الصديق أن يعرف أشياء كثيرة عنك، ففي جو يسوده عفوية التعبير
، يسمح الإنسان لرغباته المكبوتة بالظهور من جديد! كما أن الإنسان مخلوق غير كامل، لا يستطيع أن يكفى نفسه بنفسه، أو يحيا الحياة بمفرده، ولهذا فهو في أشد الحاجة إلى آخر يقويه ويحل مشاكله.. فإذا وجدت الصديق وشعرت أن علاقتكما قد توطدت، صارحه
بما يُتعبك ولا تصمت، واطلب منه أن يقدم لك أعظم خدمة، ألا وهى: إظهار نفسك على حقيقتها، ولكن إحذر النفعيين والمُرائين!

والآن نقترب من السؤال الحائر: هل يمكن أن تقوم صداقة بين الجنسين؟ يُجيب على هذا السؤال عالم النفس " سكوت بيك " بقوله: إنَّ الرغبات الروحية والجنسية تكون متشابكة تماماً، لدرجة أنَّك لا تستطيع أن تستحث الواحدة دون الأُخرى، والباحثون في مجال كيمياء المخ قد لاحظوا أنَّ الرغبة الجنسية تنشأ من نفس نوع الكيمياء الروحية، ومع أنها تنشأ في قنوات مختلفة إلاَّ أنَّها تكون متوازية من الناحية الروحية والجنسية، ويفصلها جدار رقيق يكفى لأن يُحدث تناضج غريب، فيختلط نشاطهما
مثل منديل الورق عندما ينضح.

استغل طاقتك العاطفية

إنَّ كل إنسان يحمل في صميم تكوينه العديد من الطاقات: طاقة عاطفية، طاقة ذهنية، طاقة روحية.. أمَّا الطاقة العاطفية التي يتولّد منها الطاقة الجنسية فهى التي تربط بين الإنسان والآخر: الإنسان والمجتمع، الرجل والمرأة.. ولولا هذا العلاقة لأصاب البشر الجفاف، إذن فالطاقة العاطفية رأس مال ثمين أُعطي للإنسان ليستثمره أحسن استثمار
!

إنَّ الطاقة العاطفية هى التي تهبنا تذوق الفن والموسيقى والأدب والشعر وكل أنواع الجمال... فلو أن الإنسان استطاع أن يوجه طاقته هذه، لأبدع في شتى المجالات، فالقصر الجميل عبارة عن طاقة عاطفية تحوَّلت إلى عمل وبناء، ولهذا فإن الإنسان عندما يُبدد طاقته العاطفية بالانغماس في الخطية أو الإدمان... فإن قواه تتعطّل ويصير بلا فائدة، يتحوّل إلى إنسان عاجز، يكون عالة على المجتمع!

غذِ عقلك بأفكار بنّاءة

يتصور البعض أنَّ النزعات العاطفية أو الجنسية في الإنسان، هى نزعات اضطرارية قاهرة، لا يستطيع الفرد أن يتحكّم فيها، وهذا مفهوم خاطيء، فمن المعروف أن في المخ مركز يسمى " الهيبوثالموس " وهو خاص بالأحاسيس والمشاعر الجنسية، وعن طريق هذا المركز، يستطيع الإنسان أن يتحكّم في عواطفه ورغباته الجنسية.
وهنا يكمن الاختلاف بين الرغبة الجنسية، وبقية الأنشطة غير الإرادية في الإنسان، مثل حركة المعدة والأمعاء، وانقباضات القلب، والتنفس... التي تتحرك تلقائياً!

إذن فالنزعة العاطفية أو الجنسية في الإنسان خاضعة للإرادة والوعي، فلدى كل إنسان قوة تفكير، قادرة أن تُحوّل أفكاره السلبية إلى إيجابية تنتج عنها مشـاعر عاطفية بنّاءة! والحق إن قدرة الإنسان على التخيل تعد من أهم وأخطر وظائف العقل، ولكن للأسف الشديد فإن كثيرين يستعملون خيالهم بطريقة هدّامة، إذ يصورون أنفسهم على أنّهم عاجزين، خائفين، مرفوضي
ن.. ولهذا يعيشون في حيرة الماضي السلبية، ويتطلعون إلى المستقبل بطريقة سلبية أيضاً.

إن مبدأ ضبط العقل والمشاعر عن طريق إظهار الصور البنّاءة، يجعل الإنسان يتخلّص من اضطراباته العاطفية، بل إنَّ كثيرين من مرضى الاكتئاب استطاعوا أن يحصلوا على نتائج طيبة، عندما غيَّروا أفكارهم السلبية الحزينة بأفكار مفرحة.. ربما يظن البعض أننا نتحدث بأفكار بشرية، ولكن ألم يقل معلمنا بولس الرسول " تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ "
(رو2:12)، فأينما يذهب العقل يتبعه السلوك، فالعقل المتجدد يتبعه سلوك متجدد.

إملأ قلبك بحُب الله

أنَّ أي ارتباط عاطفيّ يتم في حالة هبوط نفسيّ أو روحيّ، عندئذ يستطيع أي مؤثر كائناً ما كان أن يؤثر عليه، أو يلعب بعقله أو قلبه الخاليّ من حُب الله، في مثل هذه الحالات ما أن تستضيء بالحُب الإلهيّ، فسرعان ما يتبدد بنورها ظلام العواطف السلبية، التي تسللت خلسة إلى قلوبنا
.

والحق إنَّ كل من يحيا مع يسوع بصدق يكتسب قوّة إلهية، يستطيع بها الانتصار على كل معوقات الحياة، وما يُقيّده ويحد من حريته، أمَّا من يسعى لضبط النفس عن طريق الفكر وحده دون الله فلن يُحقق شيئاً، لأنَّ الرب قال: " بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً " (يو5:15)، هنا يجب أن نفرق بين محبه نفسانية ومحبة روحانية، فالأولى انفعال بين إنسان وإنسان، كما أنَّها مؤقتة، ومتقلبة، ومتدنية، لأنَّها خاضعـة لسلطان الجسـد، أمَّا المحبة الروحانية فهى: دائمة، ثابتة، متسامية.