مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الخميس، 29 يناير 2009

نتــائج الخطيـة


لا شك أنَّ للخطية نتائج كثيرة، ونتائجها سيئةً.. وتستطيع أن تتحقق من هذا لو تأملت حياة الخطاة، فما من إنسان يتمرغ في وحل الخطية إلاَّ ونراه دائماً قلقاً، مضطرباً، شخصيته مهزوزه، بلا سلام، دائم الخوف..


كما أنَّ عذاب الضمير يؤرقه، والحزن يتملكه وإن إدّعي الفرح واصطنع الابتسامة!! إذ كيف يفرح والفرح ثمرة من ثمار الروح القدس الذي فارقه (غل 22:5)؟! وقد يسعى الخاطيء أن يُسكّن ضميره ولكن إلى حين!! وهذا ما يدفع الخطاة إلى الهروب من أنفسهم، والتواجد وسط الناس بصورة شبه دائمة!!


وكثيراً ما نري الخطاة وأجسادهم تحمل أمراضاً.. تعلن عن إثمهم وحياة الفساد التي انغمسوا في ملذاتها، وهناك أمراض تنتقل عن طريق العدوى، وهى تُصيب الذين ينغمسون في تلك الحياة المبتذلة، ويُعد الإيدز من أشهر هذه الأمراض..


هذا بالإضافة إلي حالة التلف والفساد التي تخلفها لنا الخطية.. إذ تفسد قوتنا الذهنية، وأعضائنا الجسدية، وتُميت أحاسيسنا أو مشاعرنا الروحية..


يكفي أنَّ الخطية تجلب علينا غضب الله، فبسببها قد غضب الله علي العالم القديم أيام نوح وأهلكه بماء الطوفان، وغضب علي سدوم وعمورة فأحرقها بالنار والكبريت..


وكثير من النتائج الأُخري سوف نتحدث عنها.


الخوف وفقدان السلام


" سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأنّي عريان فاختبأت "

(تك 10:3)


لا شك أنَّ الخطية تجلب الخوف علي صاحبها، الخوف من المسئولين الذين سيُعاقبون هنا علي الأرض، والخوف من الله الذي سيُعاقب في يوم الدينونة، ولهذا تجد الخاطيء إذا شعر بزلزلة أو سمع صوت رعد أو صاعقة، يرتعب ويرتجف، بل إنَّ أوراق الشجر إذا تحرّكت تُخيفه، هذا ما يقوله أيوب البار عن الخاطيء: " صَوْتُ رُعُوبٍ فِي أُذُنَيْهِ " (أي 1:15).


ودائماً ما يهرب كما قال سليمان الحكيم: " اَلشِّرِّيرُ يَهْرُبُ وَلاَ طَارِدَ" (أم 1:28)، ولدينا علي هذا مثلاً وهو قايين، فعلي الرغم من أن الأرض لم يكن فيها سواه، إلاَّ أنَّه بعدما قتل أخاه هابيل قال: " إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهاً وَهَارِباً فِي الأَرْضِ فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي " ( تك 14:4).


لا نُنكر أنّ السلام كان سائداً يملأ كل أركان الجنة، وذلك قبل السقوط، ولكن منذ أن سقط آدم ودخلت الخطية العالم، نُزع السلام وملأ الخوف قلوب البشر، فبعدما كان الإنسان يحيا مع الله فرحاً سعيداً، أصبح بعد السقوط يخشي التطلع إليه، ولهذا نري آدم يختبيء من وجه الله في وسط أشجار الجنة، ولما ناداه الرب صرخ بصوت مليء بالخوف قائلاً: " سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ " ( تك 10:3).


لقد زحف إلي قلب آدم شيئاً جديداً بعد الخطية، لم يكن موجوداً فيه من قبل ألآ وهو: الخوف وفقدان السلام، وبعد طرده من الجنة، شهر ضده سيف الكاروبيم، فاشتد قلق الإنسان أكثر وفقد طعم السلام، ولم يعد الله يُعلن ذاته له إلاَّ في وسط لهيب نار، حتي إن بني إسرائيل لمَّا رأوا الجبل مضطرماً عند ظهور الله في جبل سيناء قالوا لموسي " تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ " ( خر19:20).


وهكذا اعتقدوا أنَّ رؤية الله لا يلحقها سوي الموت، ولا سيما وأنَّ الله قد صرح قائلاً: " لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ " (خر20:33)، ومع أن الله قد وضع للناس ناموساً عادلاً ومقدساً، إلاَّ أنَّ الناموس زادهم اضطراباً وخوفاً، لأنَّه كما قال معلمنا بولس الرسول: " لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ " (أع10:15)، حتي إنَّ الذبائح كانت تُذبح بالسكين، فكانت السكين متعطشة دائماً لسفك الدماء، وكل هذا أعلن عن زوال السلام بين البشر..


والرؤساء كانوا ينادون: " سَلاَمٌ وَلَيْسَ سَلاَمٌ " ( حز10:13)، وإشعياء النبيّ يقول: " لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارِ " ( إش21:57)، وإرميا النبيّ يقول: " لَيْسَ سَلاَمٌ لأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ " ( إر 12:12).


وظل الحال هكذا طوال مدة العهد القديم، فكان الجميع يرجون إتيان رئيس وملك السلام، ليُعيد الطمأنينة إلي قلب الإنسان مرّة أُخري...


أمّا الأمم الوثنية فكانت لا تقل عطشاً إلي السلام عن اليهود، وذلك بعد أن رأت ضعف آلهتها، وعجزها عن تعزية أرواحهم، ونزع الخوف من قلوبهم.. لقد جرّبوا كل الديانات الكاذبة وعبدوا آلهتها، فوجدوها عاجزة عن أن تهبهم السلام والطمأنينة.


إلي أن جاء المسيح لينشر رسالة السلام علي الأرض.. ولهذا هتفت الملائكة يوم مولده قائلة: " الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " (لو14:2).


وقبل الصلب ترك لنا سلامه إذ قال: " سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ، سلاَمِي أُعْطِيكُمْ، لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا " (يو27:14)، وهذا دعا معلمنا بولس الرسول أن يقول عنه: " لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِداً " (أف14:2).


وقبل معلمنا بولس الرسول سبق إشعياء النبي أن تنبأ عنه قائلاً: " لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ " (إش6:9).


قال أحد الآباء

" فالآن بعد عودة السلام، ليطمئن آدم الخائف، وليهدأ يعقوب القائل: ما أرهب هذا المكان، وليحيا موسي المرتعب في سلام، لما أخطأنا فارقنا السلام، ولما أتي المسيح إلينا جاءت الملائكة تعلن عودة السلام، إذ قالت: " وعلي الأرض السلام ".



خيبة الأمل

" فأين إذن آمالي، آمالي من يعاينها "

( أي 15:17)


كان الابن الضال يعيش عيشة هنيئة، لا ألم أصابه من العيشة الرغدة مع أبيه، ولا ظلم وقع عليه من إخوته، ولا حُرم من عطف أو حنان أمه.. ولكنَّه تصوَّر أن السعادة مذخرة في حياة البذخ واللهو والمرح وسط الأصدقاء... فطلب من أبيه أن يعطيه نصيبه من المال، وقد كان هذا الطلب حسارة منه، فكيف يطلب ميرائاً من أبيه وهو لا يزال حياً؟!( لو12:15).


وولكنَّ أبيه لم يرفض فأخذ نصيبه وسافر إلي كورة بعيدة، ليحيا الحياة التي رسمها لنفسه.. وهناك أمضي أوقاته وسط أصدقاء السوء.. بين الخمر وسهر الليالي لإشباع شهواته، ولكن أية نتيجة وصل إليها هناك؟ خيبة الأمل..


هناك جني عوض الفرح حزناً، وعوض الراحة تعباً وشقاءً.. وعوض الغني فقراً واحتياجاً، وعوض السعادة بؤساً وآلاماً.. تغرّب عن بيت أبيه جرياً وراء سعادة تصورها، فوجدها كذباً وأحلاماً لا حقيقة لها.


وهذا أمر يفج قلوب الخطاة، إنّهم يتركون الله ويسعون وراء الخطية، أملاً في الحصول علي سعادة وهمية، وبعد أن يفنوا قواهم فيها، يشعرون أنّهم خسروا محبة الله، وفي الوقت نفسه لم يربحوا من الخطية شيئاً، وأنَّ مسرات العالم التي سعوا إليها، لم تكن إلاَّ آباراً مشققة لا تضبط ماء (إر13:2)، فتتألم نفوسهم وتحزن لخيبة الأمل التي سقطوا فيهاّ!!


ولابد أن الابن الضال تألم كثيراً.. بعد أن أكتشف حقيقة الخطية المرة وأنها لا تعطي، بل تأخذ كل شيء، فقد أخذت ماله، زاده، كساءه، حتي محبة أبيه خسرها، وأيضاً عطف أمه وإخوته، وفي النهاية فقد طهارته، وخسر سمعته وكرامته إذ أصبح الغني متسولاً وليس من يعطيه!!


ويسعى الخاطيء جاهداً للبحث عن كل ما هو جديد ومثير في عالم الخطية، وقد تخدعه شهواته وتضلله أفكاره فيضحي بكل شيء، ولكن دون جدوى، فنتائج الخطية ثابتة وهى لا تتغير لا بتغير الأشخاص أو بتنوع الملذات!


عذاب الضمير


" اشــفني يارب لأنَّ عظـامي قـد

اضطربت ونفسي قد انزعجت جداً "

( مز6: 3،2)

إنَّ عذاب الضمير هو السوس الذي ينخر في عظام الخطاة علي الدوام، ومهما حاول الخاطيء أن يهرب من الناس والعدالة الأرضية، فإنّه لا يقدر أن يهرب من عذاب ضميره، الذي هو أشر عذاب يُقلق الخاطيء ويزعجه.


يقول القديس أُغسطينوس

" سوف تهرب من الريف إلي المدينة، ومن الساحة إلي بيتك، ومن عتبة الباب إلي مخدعك ويظل الضيق يتبعك، وهل تهرب إلي مخدعك إلاَّ إلي سريرك، وإذا كان سريرك قلقاً عالقاً بدخان الشر، مضطرباً إثماً.. فلا يمكنك أن تفزع إليه بل تُطرد عنه، ثم تُطرد عن ذاتك ".


فلا عجب إذا رأينا من يتحدي الله وينغمس في الشر، يحيا في توتر قاتل لنفسه، وبحثه الدائم عن نشوات جديدة واختبارات مثيرة، تجعله دائماً في قبضة الخوف والشك والقلق وعذاب الضمير.


يقول ذهبي الفم

" تأمّل في عذاب أولئك الذين يشعرون بعظم خطيتهم ومرارة بكائهم، ثق بأنَّهم أشد كآبة من الذين يُطرحون في النار، اُذظر ماذا يفعلون؟ كيف يتألمون؟ كم يذرفون من الدموع؟ وكم يصعدون من الزفرات ليتخلصوا من عذاب الضمير؟ ".


الحــزن

" حياتي قد فنيت بالحزن "

( مز 10:31)

إنَّ كان الفرح هو ثمرة من ثمار الروح القدس (غل 22:5)، فالحزن ثمرة أيضاً ولكن من ثمار الخطية، لأنَّ الخاطيء إنسان مأسور روحياً، فمهما رأي وسمع لا يُسر ولا يفرح قلبه، مثل شعب بني إسرائيل أيام السبي، كانوا جالسين علي أنهار بابل، التي تحيط بها أشجار الصفصاف الجميلة، ومع ذلك لم تسرهم تلك المناظر الجميلة، بل نراهم وقد مزجوا مياه النهر بدموع الحزن والألم، وعوض أنغام الطرب علت أصوات البكاء، والسبب أن الفرح ليس له مكان في ظل العبودية (مز137).


وداود النبيّ بعد أن أخطأ امتلأ قلبه من الحزن، وكانت الدموع ثمرة هذا الحزن المفرط، فكان يُبلل فراشه بدموعه (مز6:6)، وصارت له دموعه خبزاً (مز3:42)، وقد مزج شرابه بدموعه.


والمرأة الخاطئة حزنت علي خطاياها جداً، حتي إنَّها غسلت رجلي المسيح بدموعها ( لو44:7).


ولا تُحزن الخطية الخاطيء وحده، بل تُحزن الله أيضاً، ولهذا بعد أن كثر شر الإنسان في الأرض، يقول الكتاب المقدس: " فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ " ( تك6: 6).


كما تحزن الخطية الروح القدس، ولهذا عندما طلب معلمنا بولس الرسول من أهل أفسس أن يطرحوا خطاياهم قال لهم: " وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ " ( أف 30:4).


المــرض

" ها أنت قد برئت فلا تخطيء

أيضاً لئلا يـكون لك أشر "

( يو 14:5)

كان المرض في العهد القديم إحدي الضربات، التي يعاقب بها الله الخطاة علي خطاياهم، وقد كان البرص مرتبطاً قديماً بالخطية وعقاباً لها ولهذا عاقب به الرب مريم أخت موسي، بسبب كلامها علي أخيها موسي (عد10:12).


كما عاقب به جيحزي، بسبب سعيه وراء نعمان السريانيّ، ليأخذ منه الفضة والثياب، ثم كذبه علي سيده أليشع ( 2مل 5: 27).


وأيضاً عُزيّا الملك بسبب تعدّيه علي وظيفة الكهنوت، ودخوله الهيكل ليوقد علي مذبح البخور (2أخ 26: 16-21)..


هكذا أيضاً مرض الفلج، ولهذا عندما شفي المسيح المفلوج قال له: " يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ " (مر5:2)، وبعد أن شفي المخلع قال له: " هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلاا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ " (يو14:5)، موضحاً أنّ الخطية هي السبب الأول لمثل هذه الأمراض، وقد كان لابد قبل الشفاء أن يغفر لهم خطاياهم.


ولأنَّ هذه الأمراض كانت ضربة من الله، لم يكن ممكناً لأحد أن يشفي منها إلاَّ بواسطة الله، ولهذا عندما أرسل ملك آرام إلي ملك إسرائيل يطلب منه أن يشفي نعمان السريانيّ من برصه، مزّق ملك إسرائيل ثيابه وقال: " هَلْ أَنَا اللَّهُ لِكَيْ أُمِيتَ وَأُحْيِيَ، حَتَّى إِنَّ هَذَا يُرْسِلُ إِلَيَّ أَنْ أَشْفِيَ رَجُلاً مِنْ بَرَصِهِ؟ " (2مل7:5)، هذا بالإضافة إلي الأمراض الكثيرة التي تُصيب الخاطيء كنتيجة طبيعية لتلك الحياة الملوثة التى يعيشون فيها، فالمدخن قد يصاب بالسرطان والزاني بالسيلان..


فالحقيقة إنَّ الخطية تتسبب في كثير من الأمراض، لكن ما هي قوة مرض الخطية إزاء مهارة الطبيب الأعظم، رب المجد يسوع الذي كسر السبت ليشفي يد مشلولة تعيد للجسد رونقه وجماله، وأوقف نزيف امرأة ليتجدد خصب جسدها من جديد، وأعاد لمُقعد أذله المرض ثمانية وثلاثين عاماً القدرة علي الحركة والعمل، هؤلاء غير المفلوجين الذين شفاهم، والعمي الذين أعاد إليهم النور، والبرص الذين طهّرهم من مرضهم الملعون..


فإن كان يسوع وقف أمام الجسد البشري، وقفة طبيب ماهر لا يُعادله فيها طبيب، فلماذا لا تتقدم إليه ليشفي أمراضك؟! فهو كما يقول مار أفرام السرياني: " ليس طبيباً قاسياً ولا عديم التحنن ولا فاقد الرحمة، ولا يستعمل دواءاً مضراً وكاوياً، من أجلك تجسد وتأنّس ليشفي جراحاتك الخفية، وبمحبة جزيلة يدعوك قائلاً: قوم وابرأ واطرح عنك ثقل خطاياك، فتقدم إلي طبيب أيها الخاطيء وقدم له الدموع، فهي الدواء البليغ الجودة، فإنّ الطبيب السماوي يريد أن يبرأ كل أحد بدموعه ".


يقول القديس إشعياء الأسقيطيّ

" الطبيب صالح لا يطالبني بأتعابه، لكن كسلي لا يسمح لي أن أذهب إليه لأستشيره، يأتي إلي بنفسه ليتعهدني فيجدني أستعمل أطعمة تزيد من تقيح جروحي، يناشدني ألاّ أستعملها فيما بعد، ولكن توبتي ليست صادقة، يرسل إلي أطعمة فيقول لي: كل منها لكي تشفي، لكن عاداتي الشريرة لا تدعني أتعاطاها ".


اليــأس

" قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً..

ثم مضـي وخنـق نفســه "

( مت27: 5،4)


قد يُخطيء إنسان، فيتسرّب القلق والحزن إلي قلبه وتتملكه الكآبة، فيتوهم أنَّ لا خلاص له! وهكذا تظلم الدنيا أمام عينيه، ويري العالم وقد أصبح آباراً جافة، وأرضاً يابسة، لا تروي نفساً عطشي... ثم يلتفت وراءه فيري أبدية مظلمة تنتظره، هى بحيرة متقدة بنار لا تطفأ ودود لا ينام، لا يري أمامه سوي اليأس، إذ يشعر أنَّه فقد كل رجاء في العالم الحاضر والحياة الأبدية!!


ولعل أعظم مثل ليأس الخطاة هو يهوذا الإسخريوطيّ، الذي بعدما أسلم سيده، لم يحتمل عذاب ضميره، الذي أتعبه جداً فندم علي خطيته، وذهب لرؤساء الكهنة ورد الثلاثين من الفضة قائلاً: " قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ! " (مت4:27)، وأخيراً " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " (مت5:27)..


وقد ثبت إحصائياًَ أن أعلي نسبة انتحار علي مستوي العالم في البلاد الأكثر مدنية، وهي البلاد التي أباحت الشر وحللت الخطية، حتي إنهم صاروا يمارسون الجنس، في الشوارع والميادين العامة أمام أعين الناس وبلا أي خجل!! فكانت النتيجة أن تسرّب اليأس إلي قلوبهم، وكثيرون وصل بهم اليأس أن قالوا: لا علاج لأي شيء في الحياة، الموت هو العلاج التام لكل المآسي وخُتمت حياتهم بالانتحار!!


منذ القرن الثامن عشر ومع التقدّم العلميّ والرفاهية.. ابتعد الإنسان عن الله في الغرب، وساد تيار الألحاد والمادية، وأقام الغرب نظرية خالية من النبض الروحيّ، والتواجد الإلهيّ، وانتصب العلم إلهاً، والطبيعة معبداً، والإنسان سيداً وقائداً لمسيرة المادة، وظهر (نيتشه) الفيلسوف الألمانيّ الملحد وألّف كتاب أسماه ( مات الله)!! فيه سخر بالإيمان وبكل ما هو مقدس، لكن هل مات الله كما ألحد نيتشه؟! بالطبع لا، فحاشا للحياة أن يموت.


لكن نيتشه الفيلسوف هو الذي مات مجنوناً،

وبقي الله حياً، وسيظل هكذا إلي أبد الآبدين.


وأيضاً (سارتر) الفيلسوف الفرنسيّ المُلحد، قد عاش مع عشيقته متمرداً علي كل النظم الاجتماعية، فلم يعقد عق زواج ولم يعترف بهذه الأوراق، وأقام نظرية متكاملة عن الحياة بدون الله!!


ومات سارتر وماتت معشوقته سيمون،

وظل الله لا يشوبه تغيير ولا ظل دوران.


قال أحد علماء الغرب

" انتشر الفساد في الغرب وسادت الخطية وأصبحت نقطة ارتكاز وآمال الكثيرين، حتي قال البعض: لقد مات الله في القرن التاسع عشر، ولكن بعد أن اكتشفوا حقيقة الخطية المرّة وما يجنيه الإنسان منها قالوا: والإنسان قد مات في القرن العشرين ".


وهذا دليل علي أنّه لا سعادة يجنيها الإنسان من حياة الخطية، إنّما يجني ألماً ويأساً وموتاً..



غضب الله

" فصعد عليهم غضب الله وقتل من أسمنهم وصرع مختاري
إسرائيل في هذا كله أخطأوا بعد ولم يؤمنوا بعجائبه

( مز78: 32،31)


ليس هناك شيء يُهيّج غضب الله علي الإنسان أكثر من الخطية، فبسببها لعن الله الأرض التي خلقها وأحسن تكوينها، فقد قال لآدم بعد أن أخطأ: " مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ، بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ " (تك17:3).. كما لعن قايين بعد قتله أخيه البار هابيل: " مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ! " (تك 11:4).


بسبب الخطية أغرق الله العالم الأول بماء الطوفان (تك 8). وبسببها أيضاً أحرق مدينة سدوم وعمورة بنار وكبريت، وجعلها عبرة للعتيدين أن يفجروا (2بط 6:2).


وهل يُنكر أحد أنَّ الخطية هي التي جعلت الرب يضرب شعب بني إسرائيل في البرية، فسقط منهم في يوم ثلاثة وعشرين ألفاً، وذلك بعد أن زنوا مع بنات موآب (1كو8:10)، (عد1:25)، وبنو إسرائيل أليس بسبب خطية عخان بن كرمي هُزموا أمام عاي القرية الصغيرة ( يش 7).


ألم يغضب الرب علي أهل نينوى، لمّا صعد شرهم أمامه (يون2:1)، وأرسل لهم يونان النبيّ ليُنادي عليهم بالهلاك؟ وغضب علي قورح وداثان وأبيرام أيضاً، ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل ما كان لهم (عد16: 31-33)..



العار والخجل


" البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية "

( أم 24: 34 )


إنَّ من يتأمل في الكتاب المقدس يري أنَّ بر يوسف الصديق، رفع من شأن أمة بني إسرائيل وعظّمها في عيني فرعون، وكان سبباً في الرخاء الذي حل عليهم أيام المجاعة..


في حين لما أخطأوا انحط شأنهم، واستعبدتهم الشعوب وأذلوهم وعاشوا في خزي وعار، حتي إنَّ جُليات الجبّار كان يقف صباحاً مساء مدة (40 يوماً) يُعيّر الإسرائليين، ولم يكن هناك من يصده! بل عندما كانوا يسمعون كلامه، كانوا يرتاعوا ويخافوا بما فيهم شاول الملك نفسه (1صم17: 16،11،10).


وهنا ندرك بشاعة الخطية، وما تجلبه علي الإنسان من خزي وعار، ولهذا عندما قتل داود جُليات قال: " أنا سللت سيفه الذى كان بيده وقطعت رأسه و نزعت العار عن بنى اسرائيل " ( مز151).


وإذا أردت أن تعرف معني العار الذي تجلبه الخطية، اُنظر إلي السكّيرين والزناة ومدمني المخدرات.. لتعرف كم صاروا عاراً، لا لأنفسهم فقط بل ولأُسرهم والمجتمع!!


ولأنَّ الخطية تجلب العار، لازلنا حتي الآن نري في الأماكن المتشددة قتل المنحرفات اللواتي أسلمن أعضاءهن للنجاسة! لماذا؟ لأنهن جلبن العار لأسرهن ولوثن سمعتهن، ولهذا فضّل كثيرون الموت عن أن يتلوّثوا بعار الخطية، حتي إنّه قيل في المثل الشعبي: النار لا العار!! فعالجوا الخطية بخطية أشر!!


وكما تجلب الخطية العار، تجلب الخزي والخجل أيضاً.. فالخاطيء يخجل من نفسه ومن خطيته.. التي تقف أمامه في كل حين (مز51)، وتطارده صورتها في كل وقت كأنها سياط من نار، تلهب ضميره أينما ذهب!!


ماذا يحدث لو ضبط اثنان وهما متلبسان في خطية زني؟ في الحال يغطيان نفسيهما، ويضعا أيديهم علي وجوههما.. لماذا؟ لأنّ الخاطيء وإن كان يسعى للخطية، إلاَّ أنَّه لا يريد أن يراه أحد في هذا المنظر البشع المخجل.


ولا يخجل الخاطيء من نفسه ومن الآخرين فقط.. وإنَّما يخجل من الله أيضاً، فكثيراً ما نري الخطاة منكسي الرؤوس.. فلا يستطيعون أن ينظروا إلي السماء من شدة الخجل، لأنَّ خطاياهم أنزلتهم إلي المستوي الترابيّ، فكيف يتطلعون إلي الله البار، أو إلي السماء مسكن الأطهار!


وليست مبالغة إذا قلنا: إنَّ الخاطيء يخجل حتي من أعدائه.. الذين يشمتون به ويفرحون لسقطاته.. وغالباً ما يُشهّرون به في كل مكان أينما وجدوا، للإضرار به وتشويه سمعته..


كما أنَّ الخاطيء يخجل من الكنيسة وقُدسيتها.. ويخجل أيضاً من الهيكل والمذبح.. فالخطية هي الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان لا يحتمل أن يجلس في الكنيسة ولو لمجرد لحظات..



الجـوع


كم من أجير لأبى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعاً "

(لو15:17)



النفس الخاطئة هي نفس جائعة، جائعة وإن امتلأت مخازنها بالأموال، ونالت كل مظاهر السعادة العالمية، هي جائعة من نحو التعزية وقت الأحزان، وما أظلم ساعات الحزن علي الأشرار، الذين بسبب بعدهم عن الله لا ينالون أية تعزيات وقت الضيق!!

ماذا فعلت الخطية في الابن الضال؟ هل أشبعته شيئاً من خيراتها؟ كلاّ! بل جعلته يهلك جوعاً.. حتي إنَّه عندما رجع إلى نفسه قال: " كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! " (لو17:15).


هناك حقيقة يجب أن نعرفها ألا وهى: إنَّ الخطية لا تملك سوي الفقر والجوع والحزن والمرض.. وهذا ما يمكن أن تُكافيء به محبيها! وهذا ما أعطته للابن الضال الذي فقد كل شيء، كما أنَّ الأرض أصابها جوع، والناس منعوا عنه الخرنوب طعام الحيوان، الذي كان يشتهي أن يملأ بطنه منه ولكن دون جدوى!!


لقد شعر الإبن الضال بأنَّ خطر الهلاك يُهدده، وأنَّ الجوع سيقضي علي حياته، وهذا هو شعور كل خاطيء ترك مائدة الرب الروحية، وطعام الملائكة السماويّ.. من أجل التلذذ بحياة الخطية ومعاشرة الخطاة، والأكل علي موائد السكّيرين والزناة..


قال صاحب فندق مشهور

" لي كل شيء ماديّ يشتهي أن يصل إليه إنسان، وظننت أنّي قد بلغت إلي ما تسعي إليه نفسي، لكني اكتشفت أني متّخم وحزين بكل هذا، إذ لمَّا حصلت علي شهواتي بدت في نظري أقل مما كنت أظنها، أعتقد أنَّ الحياة أكثر من هذا بكثير ".


أليس هذا قمة الجوع الروحي، أن يملك إنسان كل ما

تشتهيه نفسه ويكون غير قادر علي إشباع نفسه ؟!


فالنفس الخاطئة هي نفس جائعة وستظل هكذا طالما تحيا في الخطية، والحقيقة التي يجب أن نعرفها، هي أنَّ ثمر شجرة الخطية لا يُشبع، وكل من يأكل منه سيظل دوماً جائعاً، فالمرأة السامرية التي أفلت زمام شهواتها، وتربّعت علي عرش الرذيلة، لم تشبع إلاَّ عند البئر عندما سقاها رب المجد يسوع ماء التوبة، فارتوت الشجرة التي جفت أغصانها، وأخرجت ثماراً لازلنا حتى الآن نأكل منه فتتعزى نفوسنا وتتهلل أرواحنا.


والمرأة الخاطئة - خاطئة المدينة المشهورة - أُسطورة الجمال التي قيل: إنَّ قائد الحامية الرومانية قدّم وزنها ذهباً هدية لها، وكان شعرها الغزير المسترسل حتي قدميها، يحمله في سلة من القطيفة خادم أينما ذهبت، لم يشبعها المال ولا عشق الأُمراء لها، ولا الرقص والسكر في الأفراح، إنّما اشبعها حب يسوع الذي ارتمت تحت قدميه وبللت رجليه بدموعها، ومسحتهما بشعر رأسها في بيت سمعان الفريسي..


لأنَّ الخطية لا تُشـبع وفي نفس الوقت لا تشبع،

يسوع وحده القادر على إشباع نفوسنا وأرواحنا.


التلف والفساد


" قد أكلوا يعقوب وأخربوا مسكنه "

( مز 7:79)


لا شك أنَّ الخطية عندما تتملك علي إنسان لا تُدنّسه فقط.. إنّما وتتلف أيضاً كل ما أعطاه الله من قوي روحية وأدبية.. وتخربها، فهي تفسد:


++ القوي الزهنية


يقول معلمنا بولس الرسول: " كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِراً، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضاًوَضَمِيرُهُمْ " ( تي15:1).


ومعني فساد الذهن: إختلاله وفقدان صفائه.. بحيث كل ما تراه العين لا يقبله الذهن علي صورته الطاهرة، ولهذا يقول معلمنا بولس الرسول: " لَيْسَ شَيْءٌ نَجِساً بِذَاتِهِ إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئاً نَجِساً فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ " (رو14:14).


وهذا ما يفعله ذهن الأشرار الذي أفسدته الخطية وأتلفته، فأصبح كالمنظار القذر الذي يري كل ما حوله نجس، حتي إنَّه يري الصورة الطاهرة وكأنّها نجسة! والكلمات الطاهرة يفهمها فهماً نجساً، والحوادث النقية يري فيها فصولاً كلها رجس وفساد..!!


++ الأعضاء


بالرغم من أنَّ الله قد خلق كل شيء طاهراً ومقدساً في الإنسان، إلاَّ أنَّ الخطية عندما تتسرّب إلي قلب إنسان، تشوّه الحقائق فتجعل هذه الأشياء الطاهرة دنسة فتختل وظائفها، فالعين تفقد نظرتها البسيطة، وتستبدلها بالنظرات الشريرة! والأُذن تميل إلي سماع العثرات وكلام الإدانة والنميمة! وهكذا اللسان وسائر الأعضاء.. تُصاب كلها بالبرص الروحي! وأفعالها تنادي أمام الكل ( نجس نجس).


++ الأحاسيس الروحية


لقد أوجد الله في الإنسان أحاسيس، يستطيع من خلالها أن يُميز بين الخير والشر، ولكنه عندما يخطيء يفقد هذه العطية! ولهذا قال الرب: " كَهَنَتُهَا خَالَفُوا شَرِيعَتِي وَنَجَّسُوا أَقْدَاسِي. لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ, وَلَمْ يَعْلَمُوا الْفَرْقَ بَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ, وَحَجَبُوا عُيُونَهُمْ عَنْ سُبُوتِي فَتَدَنَّسْتُ فِي وَسَطِهِمْ " ( حز26:22)، حتي إنّهم يرتكبون الإثم ولا يرون في ذلك عيباً أو خجلاً!


ولهذا قال سليمان الحكيم: " الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ. أَكَلَتْ وَمَسَحَتْ فَمَهَا وَقَالَتْ: «مَا عَمِلْتُ إِثْماً! " ( أم20:30)، ومعلمنا بولس الرسول يقول: " اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ " ( أف19:4).


++ الميول الداخلية


فلا تصبح اشتياقاتها موجّهة نحو الله والفضيلة، لكن كل ميولها تصبح متجهة نحو الرذيلة، التي ينظرون إليها كمصدر فرح لهم، ولهذا يسعون إليها بكل جهد ونشاط.. فيعيشون ويميتون في نجاستهم، وعبثاً يحاول الأخرون إنتشالهم منها!


ومن نتائج الخطية الموت


وقد تحدثنا عن هذه النقطة باستفاضة في الفصل الأول، تحت عنوان (الخطية موت) فنرجو الرجوع إليها.


الاثنين، 26 يناير 2009

أسباب الخطية



قد يُخطيء الإنسان مدفوعاً بأسباب كثيرة.. وهذه الأسباب إمَّا أن تكون داخلية أي مصدرها الإنسان نفسه.. وإمَّا أن تكون خارجية..


ويعد الجهل من الأسباب الداخلية التي تتسبب في سقوط الإنسان في الخطية، وهناك الجهل المقصود الذي صاحبه يعرف الحق، ولكنّه يتجاهله لأسباب في نفسه، وهناك الجهل الذي يأتي عفواً.


كذلك الغضب الممقوت يُعد سبباً آخر لسقوط الإنسان، وهو غالباً ما يقود الإنسان إلي عدة خطايا أُخري قد تنتهي في مواقف بالقتل أحياناً..


هذا بالإضافة إلي لذة الخطية، وهى كثيراً ما تجعل الإنسان ينس أشياء كثيرة أهمها محبة الله ووصاياه..


أمَّا الأسباب الخارجية فمنها الناس الأشرار الذين معاشرتهم تفسد الأخلاق الجيدة، وأيضاً إبليس الذي منذ البدء قتَّالاً للناس، وهو يسعى أن يُسقط جميع الناس.


كما أنَّ البعد عن الوسائط الروحية يُضعف من قوة الإنسان الروحية، ويجعله عرضة للسقوط في أي وقت.


ولا نُنكر وسائل العصر الحديثة من تليفزيونات وفيديوهات ودشات وشرائط كاسيت ومجلات.. نقلت لنا تطورات المجتمع الغربي العابثة بالقيم والمباديء الأخلاقية، وهي بلا شك ساعدت كثيراً في انتشار الإباحية والجنس بصورة لم تكن موجودة من قبل، وأدخلت لنا بعض المفاهيم الخاطئة التي أضرت بالكثيرين.


الجهـل

" هلك شعبي من عدم المعرفة "

( هوشع 6:4)

الجهل هو عدم المعرفة التي يجب علي الإنسان الإلمام بها في دائرة اختصاصه. إلاَّ أنَّ هناك معارف هامة يجب علي كل إنسان الإلمام بها مثل العلوم الدينية... وهي بالتأكيد لها دور هام في حياتنا الروحية، وتُعد كحصن يحمي الإنسان من سهام الخطية، وتقوده إلى الطريق الصحيح للحياة مع الله..


فسبب الجهل كاد أهل نينوي أن يهلكوا، أولئك الذين ما كانوا يعرفون يمينهم من شمالهم ( يون11:4)، وقد قال الله: " قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلَهِكَ أَنْسَى أَنَا أَيْضاً بَنِيكَ " ( هو6:4).


يقول القديس إبيفانيوس

" النظر في الكتب حرز عظيم، وهو يمنع الإنسان من الوقوع في الخطية ويستميله إلي عمل البر، والجهالة بالكتب جرف سريع السقوط، وهوة عظيمة، إنَّ الذي لا يعرف النواميس الإلهية قد أضاع رجاء خلاصه ".


وهناك ما يعرف بالجهل المقصود، أو الجهل الاختياريَّ، والذي أصحابه يعرفون الحق، ولكنهم يتجاهلونه باختيارهم لسبب في نفوسهم مثل الذين يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم، ويقولون الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ ( مز 94: 7،6)، وكما قال معلمنا داود النبي: " قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَهٌ " ( مز1:14).


ويُعد قيافا من أصحاب الجهل المقصود، فهو اختار أن يكون جاهلاً برغبته! لأنَّه كان يعلم أن المسيح هو ابن الله وقد نطق بنبوته المشهورة: " خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا " ( يو11 : 50-52)، إلاَّ أنَّه عندما سأل المسيح: " أأنت هو المسيح ابن الله؟ " وأجاب المسيح بالإيجاب، تظاهر قيافا بالاشمئزاز من جوابه وحسبه تجديفاً، وقال أنه غير محتاج إلي شهود بعد، فحكموا عليه بصوت واحد بالموت ( مت26: 65-68).


وهناك جهل يأتي عفواً أيّ بدون قصد، وهو ما يعرف بالجهل غير الإختياريّ، كما حدث مع معلمنا بولس الرسول عندما كان يحتج أمام المجمع اليهودي، فلمَّا أمر رئيس الكهنة بضرب بولس قال له: " سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ! أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ النَّامُوسِ وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ؟ "، ولما قال الواقفون: " أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللهِ؟ "، قال بولس: " لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءاً " (أع 23: 2-5).


وينطبق هذا الجهل علي الذين صلبوا المسيح، ولهذا قال وهو علي الصليب: " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو34:23)، وقال عنهم معلمنا بولس الرسول: " لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْد " (1كو8:2).


وقد اعترف القديس بولس أنَّه بجهل غير مقصود اضطهد الكنيسة، فيقول لتلميذه تيموثاوس: " نَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إيمان " (1تي13:1).


هذا وقد اعتبر القديس مرقس الناسك الجهل أحد الثلاثة الجبابرة الغرباء الأشداء، وهو أصل كل الشرور، فيقول: " وها أنا أُحدثك عن ثلاثة جبابرة غرباء أشداء، يعتمد العدو عليهم في تشكيل وعمل قواته العقلية المضادة لنا، فإذا أفلحت في طرحهم وقتلتهم ينتهي مصير كل قوات الشر حتماً بالهزيمة، هؤلاء الجبابرة الثلاثة الذين من صنع الشرير هم:


1- الجهل: وهو أصل (أم) كل الشرور.

2- النسيان: أخ الجهل المساعد والمعضد له.

3- الكسل: وهو يحيك من الظلمة رداء وغطاء يطمس به النفس.


والبابا أثناسيوس الرسوليّ يعتبر الجهل والموت والخطية مرتبطين معاً فيقول: " هذه الثلاثة: الجهل والموت والخطية مرتبطة معاً بعضها ببعض وكل واحدة تعزز وتقوي الأُخريين ".


أمَّا الوحي الإلهي: فقد حدثنا عن العقاب الشديد الذي سيُصيب الجهال، فيقول سليمان الحكيم: " اَلْقِصَاصُ مُعَدٌّ لِلْمُسْتَهْزِئِينَ وَالضَّرْبُ لِظَهْرِ الْجُهَّالِ " (أم29:19).


ومعلمنا داود النبيّ يقول: " وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ " ( مز107: 17،18). ومعروف أن العقاب جزاء لكل خطية،وهذا الجهل له عقابه فهو إذن خطية.


يقول مار إسحق

" ثمّة خطية ينجذب إليها الإنسان مكروهاً نتيجة ضغط ما، والثانية يفعلها بإرادته عن جهل، والثالثة تحصل لسبب عابر، وأُخري تتم بالاعتياد علي الشر وإلقاءه فيها، ورغم أنّها تستحق الذم مجتمعة، إلاَّ أنَّ عقوبة كل منها تختلف عن الأُخرى.


لكن إن كان الجهل أحد مسببات الخطية، فالمعرفة والثقافة الروحية تعد من أقدر الوسائل للسيطرة علي الخطية، وفي هذا يقول مار غريغوريوس المُلقب بابن العبريّ:


" الشغف بمحبة العلم من أقدر الوسائل لاستئصال العادات الرديئة من النفس، وطالب العلم الديني ليبدأ بدراسة سفر المزامير، ثم يتدرج فيدرس أسفار العهد القديم، فالعهد الجديد، ثم يتثقّف بكتب العلماء ".


أمَّا القديس إكليمنضس السكندري فيقول: " إذا كانت الظلمة هل الجهل الذي من خلاله نسقط في الخطية غير مبصرين للحقيقة، فالمعرفة إذاً هي النور الذي نحصل عليه والذي يجعل الجهل يختفي ".


الغضـب

" الرجل الغضوب يُهيـّج الخصام،

والرجل السخوط كثير المعاصي "

(أم22:29)

الغضب هو: شهوة أو انفعال كامن في القلب ومهيج علي ارتكاب الخطية، وإن كان هناك ما يعرف بالغضب المقدس، إلاَّ أننا نتحدث عن الغضب الممقوت الذي تسبب في أول جريمة قتل في العالم.


غضب قايين لأنَّ الله قبل ذبيحة أخيه ولم يقبل تقدمته، وفي هذا يقول الكتاب المقدس: " فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدّاً وَسَقَطَ وَجْهُهُ " ( تك5:4)، وظلت مشاعر الغضب تلتهب في قلب قايين إلي أن " قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ " (تك8:4).


والغضب هو الذي جعل عيسو يحاول قتل أخيه يعقوب، الذي هرب إلي خاله لابان بناءً علي نصيحة أمه، التي لمَّا رأت أنَّ غضب عيسو اشتد علي يعقوب قالت له: " فَالآنَ يَا ابْنِي اسْمَعْ لِقَوْلِي وَقُمِ اهْرُبْ إِلَى أَخِي لاَبَانَ إِلَى حَارَانَ وَأَقِمْ عِنْدَهُ أَيَّاماً قَلِيلَةً حَتَّى يَرْتَدَّ غَضَبُ أَخِيكَ عَنْكَ " ( تك 27: 41-45).


وبسبب الغضب صار شاول الملك عدواً لداود كل الأيام حتى موته (1صم 29:18)، وقد حاول قتله أكثر من مرّة، وطارده من برية إلي برية، بل حمي غضبه علي ابنه يوناثان لما دافع عن داود، وسبه قائلاً: " يَا ابْنَ الْمُتَعَوِّجَةِ الْمُتَمَرِّدَةِ " (1صم30:20).


يقول القديس يوحنا الدرجي

" شنيع هو تعكّر القلب بالغضب، وأشنع منه ظهور الغضب بالشفتين، وأشنع من هذا مد اليد للأخ (الضرب).


ألم يقل سليمان الحكيم: " اَلرَّجُلُ الْغَضُوبُ يُهَيِّجُ الْخِصَامَ وَالرَّجُلُ السَّخُوطُ كَثِيرُ الْمَعَاصِي " ( أم 22:29)، فالغضب إذن يتسبب في كثير من المعاصي.. فالغضوب هو إنسان قاسي القلب، فقد جاء في سفر الأمثال: " اَلْغَضَبُ قَسَاوَةٌ " ( أم4:27).


والغضوب هو إنسان لا يغفر، لأنّه لو غفر لأخيه ما كان قد غضب عليه، وحينما لا يغفر الإنسان يُعرّض نفسه لعدم غفران الله " وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ " (مت15:6).


كما أنَّ الغضوب يحمل لوناً من البُغضة، لأنَّه لا يحتمل في حين أنَّ المحبة " َلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ " (1كو7:13).. وكثيراً ما يقع الإنسان الغضوب في كثير من خطايا اللسان العديدة، مثل الشتيمة وغيرها.


هذا بالإضافة إلي فقدان السلام والعزاء الداخلي، والحرمان من الراحة والهدوء، وغليان الدم وثورة الأعصاب، وكل هذا له تأثير علي العقل وطريقة تفكيره، وفي هذا يقول مار إسحق السريانيّ: " القلب المتوقد بالغضب هو فارغ من العزاء الجوانيّ، وعادم من المعزيين الذين من خارج ".


كما أنَّ صلوات وتقدمات الغضوب غير مقبولة عند الله، وقد أكد هذا مار أوغريس بقوله: " صلاة الغضوب هي بخور نجس مرذول، وقربان الغضوب هو ذبيحة غير مقبولة "، والقديس أنبا أغاثون يقول: " ولو أقام الغضوب أمواتاً فما هو مقبول عند الله ".

هذا وقد أثبتت بحوث علم النفس ومشاهدات كبار الأطباء والجرّاحين، أنَّ الغضب سُم للجسد قبل أن يكون سُمّاً أخلاقياً، فقد قال أحد الأطباء: " إنَّ والدة كانت ترضع طفلها، في الوقت الذي تحمل فيه غضباً وحقداً دفيناً لجارتها، وكان غضبها قد وصل لقمته، فسقط طفلها الرضيع صريع السُم الذي تسرّب لجسمه من لبن رضاعها ".


وقد أثبت أحد الأطباء بعد تجارب عديدة أجراها علي عدد كبير من المرضي: إنَّ الغضب والحقد من الأسباب الرئيسية لأمراض الربو والتهاب المفاصل والمغص وتصلّب الشرايين وارتفاع الضغط.. فالغضوب هو إنسان يحمل خنجراً يطعن به قلبه، قبل أن يطعن قلوب من يحقد ويغضب عليهم، فليس أقسي علي الغضوب إلاَّ الغضب، لأنّه يطعنه في صميم قلبه ونفسه!!


يكفي في ذم الغضب ما قاله يعقوب الرسول: " غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ " (يع20:1)، أيّ لا يتفق مع البر الذي يريده الله.


لـذة الخطية

" الشهوة الحاصلة تلُذ النفس "

( أم 19:13)

إذا ما ذاق الإنسان الخطية ووجدها حلوة، وشعر فيها بلذة، فما أسهل عليه أن يبتعد عن الله وينسي محبة، ولا يعود يعمل بوصاياه، فلذة الخطية تُغطي علي كل شيء، وتبسط غشاوة علي العقل والقلب..


لذة الخطية هي التي خدّرت شمشون، وأنسته كل شيء بل أنسته أنَّ دليلة لم تكن مخلصة له، وسلّمته لأعدائه أكثر من مرّة..

وهي التي قسّت قلب فرعون، فقد كان يمكن أن يترك اليهود يمضون، لكن لذة خطية السيادة والتسخير، قسّت قلبه فلم يستفد من كل الضربات التي حلّت عليه وعلي مصر كلها، وكلَّما كان القلب يستجيب ليتركهم كانت لذة الخطية تثنيه فيرجع!


ولذة خطية الامتلاك هي التي جعلت آخاب الملك، يشتهي حقل نابوت اليزرَعيليّ، ويُلفق له تهمة ويقتله! لقد كانت حلاوة الحقل تغشي علي ضميره تماماً، وتقسي قلبه الذي قَبِلَ الظلم والقتل!


يقول ابن العبريّ

" إنَّ تمتع الإنسان باللذات في الحياة الفانية يصدّه عن الاستعداد للحياة الأبدية، وكما أنَّ الإنسان لا يتمكن من رؤية صورته في الماء العكر، هكذا أيضاً لا يتمكن من أن يرى ذاته متّحدة بربّها، إن لم تتطهر مِرآة نفسه من اللذات ".


فلا تغرنكم حلاوة الخطية خاصة في بدايتها لأنَّ آخرتها مرَّة كالأفسنتين، فهي التي ظهرت ليهوذا كأنّها حلوة فارتكبها وسلم سيده، ولكن آخرته كانت الانتحار إذ مضي وشنق نفسه (مت5:27). فكأنَّ الخطية سلَّمت له سلاحاً حاداً، علي أمل أن يقتل به غيره فقتل به نفسه!


يقول مار أفرآم السرياني

" إهرب من اللذة فإنّ ثمارها أثمار الخزي، فقبل اللذة شهوة وبعد اللذة حزن، كرر الافتكار في أن اللذة يعقبها حزن وخزي ".

ولا تخدعك الخطية لأنها تبدو كالوردة في البستان، لا يمل أحد من التطلع إلي جمالها أو تنسم عبير رائحتها.. ولكن إلي حين، لأنّها سرعان ما تتحوّل حلاوتها إلي مرارة لا يحتملها الخاطيء.


وقد تقطف الوردة لتتمتع برائحتها، ولكن سرعان ما تجف وتذبل، ولا يبقي منها سوي الأشواك التي تُدمي اليدين، والشيء العجيب أنَّ الأشواك تكون في بدايتها خفيفة الآلام، ومع مرور الزمن تزداد حِدة، وبالتالي تزداد معها آلامها.


يقول القديس أغسطينوس

" لا تثق بسعادة تجنيها من الخطية لأنَّ آلامها تفوق أفراحها، فبقدر ما تشعر بسعادة تجد أنَّك مشدود ومقيد برباطات صيرتك عبداً للخطية.. لتلك العادات الرديئة التي تملَّكت عليك ".


وفي أحيان كثيرة كان يناجي الله قائلاً: " لقد أبعدت عني اللذة الشنيعة وجلست مكانها أيها اللذة الحقيقية، لذتك تفوق كل لذة مهما كانت طيبة، إلاَّ أنَّها غير معروفة عند الناس الجسدانيين ".


قصة


وإليك قصة توضح أنّ الذين ينغمسون في اللذات الجسدية، يشبهون رجلاً فر من أمام حيوان مفترس وهو في حالة غضب، ونجا من قبل أن يفترسه، وبينما هو يجري مسرعاً سقط في بئر عميقة. فبسط يديه وتعلق بغصنين كانا قد غُرسا بجانبها، وأمسك بهما شديداً، فظن أنَّه نجا من الخطر، لكنه نظر فأبصر( فأرين) أحدهما أبيض والآخر أسود، وهما مربوطان لا ينفكان، يأكلان هذين الغصنين الذي كان ممسكاً بهما، ثم نظر إلي أسفل البئر، فرأي تنيناً جسيماً ينفث ناراً وعيناه تتقدان، وقد فتح فاه ليلتقطه، ثم حوّل نظره إلي الموطيء الذي كان واقفاً عليه، فإذا بأربع أفاع قد أطلعت رؤوسها، من أوكارها في الحائط الذي كان متوكئاً عليه، وأخيراً رفع عينيه فرأى نحلاً قد كوّن عسلاً يقطر من الشجرة فذافه وتلاهي به عن التفكير في عاقبة أمره والاهتمام بالأخطار المحيطة به.. أمّا العسل فهو لذة الخطية الذي يخدع الإنسان، ولا يسمح له أن يهتم بخلاص نفسه!! فهل بعد هذا تتجرأ وتفعل الخطية وتقول إن فيها لذة؟!


الناس الأشرار

" المعاشرات الردية تُفسد الأخلاق الجيدة "

( 1كو 33:15)

المقصود بالناس هم الأقارب والأصحاب والأصدقاء.. كل ما يحيط بنا من بشر، الذين بلا شك لهم تأثير علي حياة الإنسان الروحية. فإن عاشرت أناس قديسين، تعلمت منهم حياة الفضيلة.. وإن عاشرت أناس خطاة قد تضعف وتسير معهم في طريق الرزيلة.


إنَّ معاشرتك للأتقياء تكسبك فضيلة وتجعلك واحداً منهم، فشاول لما اجتمع مع الأنبياء تنبأ مثلهم، ولكنه لما كان بين الجهال صار جاهلاً.


وبطرس الرسول حينما كان في وسط التلاميذ أقرَّ واعترف بأن المسيح ابن الله، ولكن لما كان في دار قيافا أنكره ثلاث مرات، فالمعاشرة تؤثر في الأخلاق بل تجعل الإنسان كعشيره.


يقول مار إسحق السريانيّ

" معاشرة المجاهدين تغنينا وتغنيهم بأسرار الله، أما معاشر المتهاونين والكسالى فإنه يتخم بطنه ولا يشبع من التسلية مع الآخرين".


وكما أنَّ الصديق الصالح يجذبك معه إلي فوق، كذلك الصَديق الخاطيء يجذبك معه إلي أسفل.. وفبهذا قال أحد الشيوخ: " إذا مشيت مع رفيق صالح من قلايتك إلي الكنيسة فإنه يقدمك ستة أشهر، وإذا مشيت مع رفيق رديء من قلايتك إلي الكنيسة فهو يؤخرك سنة ".


ونفس هذا السبب هو الذي دفع أحد الآباء أن يقول: " الذي لا يشابهك تجنبه ولا تعاشره، لأنَّ الماء الذي من أعلي ينزل بسهولة إلي أسفل، وأما الذي من أسفل يصعد بعد جهد، لأنك عندما ترفعه إلي فوق ينحدر إلي أسفل ".


والمثل الشعبي يقول: " اختار الرفيق قبل الطريق "، فبولس الرسول عندما كان مسافراً في البحر وحصل نوء عنيف وانكسرت السفينة، نجا جميع الذين كانوا فيها إكراماً لبولس (أع 24:27).


والرب بارك لابان لنزول يعقوب عنده ( تك34:24)، وبارك بيت فرعون بل ومصر كلها لأجل يوسف (تك5:39).

ولوط لما كان مرافقاً لإبراهيم حصل علي ثروة طائلة، ولكن لما سكن بين الأمم خسر أمواله حتي استرجعها له إبراهيم (تك14:13).


أيضاً الزوج البعيد عن الوسائط الروحية قد يضعف من روحيات زوجته, وعندما تضعف الروحيات ليس هناك أسهل من الخطية.. وهكذا تفعل الزوجة غير الروحية مع زوجها، فلولا عشرة إيزابل ما كان آخاب الملك قد تقسّي قلبه ليقتل نابوت اليزرعيلي لكي يأخذ حقله. فهي التي قدمت له الفكرة الخاطئة وساعدته علي تنفيذها ودبّرت له كل شيء (1مل21).


وهكذا فعل الشباب مع رحبعام إذ نصحوه أن يقول للناس: " إنَّ خِنْصَرِي أَغْلَظُ مِنْ وَسْطِ أَبِي وَالآنَ أَبِي حَمَّلَكُمْ نِيراً ثَقِيلاً وَأَنَا أَزِيدُ عَلَى نِيرِكُمْ أَبِي أَدَّبَكُمْ بِالسِّيَاطِ وَأَنَا أُؤَدِّبُكمْ بِالْعَقَارِبِ " (1مل12: 11،10).


وسليمان الحكيم أيضاً انحرف وسقط بسبب نسائه الغريبات اللاتي أملن قلبه وراء آلهة أخري.. وأقام المرتفعات ” لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ " (1مل11 : 1-8).


هذا وقد وضع لنا القديس بولس الرسول مبدأ روحياً هاماً، في تعاملنا مع الناس قال فيه " لاَ تَضِلُّوا! فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ " ( 1كو 33:15). كما قال أيضاً: " لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاةَ " ( 1كو 9:5)، " َاعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ " (1كو 13:5).


ووردت نفس النصيحة في المزمور الأول: " طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ " ( مز 1:1).


إنَّ استنشاق الهواء النقيّ، والسكني في الأماكن المعتدلة تفيد الجسد، كذلك صحبة الأتقياء نافعة ومفيدة للأخلاق والروحيات.

فلا تضلوا وتصادقوا الخطاة علي أمل إصلاحهم إن كانت روحياتك ضعيفة، لأنَّ من لمس القار لصق به، ومن عاشر الأردياء اكتسب من صفاتهم، لأنَّه لا يوجد مرض يُعدي الأخلاق الردية أصحاب الأخلاق الجيدة.. فاهرب وابعد عن كل شرير خبيث واعتبره أشر من اللصوص والخونة، لأن السارق إنما يسرق مالك، وأما هذا يسلبك شرفك وأخلاقك، إنه يسرق غني النفس والفضائل الثمينة.


الاختراعات الحديثة

" الله صنع الإنسان مستقيماً أما

هم فطلبوا اختراعـات كثيرة "

( جا 29:7)

يقصد بالاختراعات الحديثة: أجهزة التلفزيون، والفيديو، والأفلام السينمائية، وشرائط الكاسيت، والدش، والنت.. وهذه كلها لو استُخدمت بطريقة إيجابية لكانت وسائل بنّاءة، لها دورها الفعّال في نمو الإنسان روحياً، فعن طريق هذه الأجهزة يمكن مشاهدة الأفلام الدينية، وسماع العظات والتراتيل الروحية، وكثير من البرامج الثقافية التي تنمي العقل، وتوسع مدارك الفكر...


إمَّا إذا استُخدمت بطريقة خاطئة، فإنّها تقود الإنسان إلي السقوط في الخطية، وتُعلّمه أشياء تضره، كما أنَّها تغرس فيه أفكاراً قد تُغيّر نظرته الروحية، أو تقدم له مفاهيم جديدة عن السعادة والحرية والقوة.. ربَّما تشوش علي مبادئه وتُسقطه.


فيجب أن نعترف بأنَّ الاختراعات المكرسة لحل مشاكلنا، كثيراً ما تصبح في ذاتها مشكلة، فالاختراعات الحديثة أعطتنا الطائرة والكمبيوتر.. لكنَّها أعطتنا أيضاً القنبلة الذرية، التي أنزلت الموت والألم علي هيروشيما، والسيارة التي تستخدمها في التنقل والتنزّه، هي عينها التي تنقلب بأُلوف الناس وتدوس تحت عجلتها مئات البشر، ولهذا قال البعض: إن بركة العلم تتحوّل إلي لعنة عندما تنحرف بها.


ماذا يحدث لو رأيت فيلماً سينمائياً، يُبيح العلاقات غير المشروعة التي تُحرّمها المسيحية؟ أو مسلسلاً تليفزيونياً يُحلل الطلاق غير المباح أو المصرح به في ديانتنا؟ أو بعض المفاهيم الأُخري التي تتنافي مع عقيدتنا المسيحية أو تقاليدنا القومية؟ أليس في هذا تشويشاً علي ما استلمناه وما تعلمناه من آبائنا علي مر عصور؟


ومثل الوسائل الحديثة أيضاً مصادر الفكر من كتب ومجلات ومطبوعات.. وهذه أيضاً لها تأثيرها علي الناس خاصة البسطاء والضعفاء من جهة الإيمان.. ولهذا يجب علي الإنسان أن يكون حريصاً فيما يقرأ ويسمع ويري، فعقل الإنسان لا يسكت أبداً بل هو كرحي دائمة الحركة، وكلّما ألقي فيها من الحبوب طحنته، وهو علي الدوام يطلب غذاء، وبحسب الغذاء الذي يقتات به يفكر، فمن لا يفكر في الخير يفكر في الشر، ومن لا ينظر إلي فوق ينظر إلي أسفل، ومن لا يتقدم للأمام يرجع للوراء.


يحق لنا أن نقول: إن الاختراعات الحديثة وإن كان دور هام في حياتنا، إلاَّ أنها تفشل في تلبية احتياجتنا الروحية، إنّها تصنع عجلات ومعدات تحت أقدامنا، لكنّها تصنع مخاوف وفزع في قلوبنا، قد تساعدنا أن نعيش أطول لكنها تعجز أن تجعلنا نعيش أفضل، وربّما تجعلنا ننعم بقسط أكبر من الراحة، لكن ليس بقسط أكبر من السعادة، فالسعادة مع الله وحده الذي خلقنا ولن نجد راحتنا إلاَّ فيه.


الشيطان

" اصحوا واسهروا لأنَّ إبليس خصمكم

كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه "

(1 بط 8:5)

منذ أن سقط الشيطان وهو قائم يحارب بكل جهده، عسي أن يلقي البشرية كلها تحت حكم الموت.. فهو الذي أسقط أمنا حواء وأبينا آدم وتسبب في طردهما من الفردوس.. وجلب الشقاء علي جنس البشرية.. إذ الجميع بلا استثناء يولدون محكوماً عليهم بالموت.. وبعرق جبينهم يأكلون خبزهم..


كما أنَّه قد أسقط أنبياءً ورسلاً وأشخاصاًَ حل عليهم روح الرب مثل: داود النبي، وشمشون الجبار، وشاول الملك... فهو لا يقف ساكتاً، إن وجد إنساناً يحيا مع الله يقف ضده.. ويسمي هذا أحياناً حسد الشيطان.


وقد وصفه معلمنا بطرس الرسول بعبارة قال فيها: " اُصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ" (1بط 8:5)، وقد قال السيد المسيح لبطرس مرّة: " هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ " ( لو22 : 32،31).


ومعروف أنَّ الشيطان يملك قوة هائلة تفوق إمكانات البشر، لأنَّه كان قبل أن يسقط أحد الملائكة " الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً " ( مز20:103)، وقد استطاع بقوته أن يضل العالم كله أيام الطوفان، ولم تنجو من ضلالته سوي أُسرة واحدة هي أُسرة نوح البار، ونفس الشيء بالنسبة لسدوم التي لم ينجو منها سوي لوط البار وابنتيه.


وتظهر قوة الشيطان في إسقاطه لسليمان في عبادة الأصنام (1مل 11: 4-8)، وصرعه لأُناس كثيرين، فقد كان علي واحد فرقة من الشياطين( مر5).


أمّا أساليبه فكثيرة ومتنوعة وتختلف من واحد لآخر، فهو كما يقول مار إسحق السرياني: له عادة قديمة وهي تقسيم المعارك بمكر، ضد الذين يُحاربونه فيُغير أسلحته ويستبدل أساليبه الحربية وفقاً لإمكانات الأشخاص، فكما أن الصيادين يُغيّرون الطُعمْ للطيور والأسماك والوحوش حسب طعام كل واحد، هكذا الشياطين يغيرون الحروب حسب ما تميل الإرادة للصلاح أو للشر.

يقول القديس مقاريوس

" إن الشيطان عديم الرحمة في كراهيته للبشر، لذلك لا يتوقّف عن المحاربة ضد كل إنسان، ولكن الظاهر أنّه لا يهاجم الجميع بنفس الدرجة ".


ويُعتبر الخِداع هو المبدأ الذي تنطوي عليه كل حيل الشيطان، فهو محتال في تزييف الحقائق، فالكتاب المقدس يُعلّمنا أنّ الشيطان يستطيع أن يُغيّر شكله إلي شبه " ملاك نور " (2كو24:11)، فهو دائماً يكيف نفسه حسبما تقتضي الأمور، ولا ننسى خبرته في حروبه مع البشر.


وكما أن مزوري العملات يحاولون دائماً أن يجعلوا نقودهم المزيفة تبدو تماماً مثل العملة الحقيقية، هكذا يعمل الشيطان أيضاً حتي يسقط المؤمنين ويستعبدهم، أما خداعه فقد بدأ في جنة عدن، ومنذ ذلك الحين إلي وقتنا الحاضر يخدع الناس ويضللهم.


البعد عن الوسائط الروحية

" من أجلهذا فيكم كثيرون ضعفاء

ومرضي وكثيرون يرقدون... "

(1كو 30:11)

كل الوسائط الروحية أعطاها الله لخير الإنسان، ولفائدته الروحية، فإن أهملها، لا يكون قد عصي الله فقط، لكنه أضر بنفسه!!

فالوسائط الروحية أو وسائط النعمة، هي بمثابة الأسلاك التي توصل إلينا تيار الروح القدس.. أو المجاري التي عن طريقها يصل إلينا ماء الحياة، فإذا قطعت الأسلاك توقف التيار، وإذا انسدت المجاري سوف لا يصلنا الماء.


لقد أعطانا الله الوسائط الروحية لتقوينا في الحياة الروحية، فهي المجرى الحي الذي منه نشرب حليب النعمة الإلهية، وبه يتقوي إيماننا، ويثبت رجاؤنا، وتشتعل محبتنا لله، وننمو في كل شيء.


ومهما وصل الإنسان إلي أعلى درجات الحياة الروحية، فلن يمكنه الاستغناء عنها.. لأنَّها طعامه الروحي، فهي التي تُعطي الإنسان قوة ومعونة حتي يستطيع أن يصمد ضد التجارب، ويُقاوم الحروب التي تأتي عليه.


كما أنَّها تجعل الإنسان دائماً في حضرة الله، وبهذا الحضور لا يجرؤ الشيطان أن يقترب إليه، وإن اقترب فسرعان ما يتركه، لأنَّه لا يجد في قلبه مكاناً له.. ويري طرقه لا توافق طرقه، وإذا حاربه بشيء تكون حربه ضعيفة لأنَّه مشغول دائماً بالله.


وأي إنسان يحاول أن يسلك في طريق الروح بدونها، يكون كمن يتكل علي ذراعه البشريّ!! وقد قال إرميا النبيّ: " مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ الْبَشَرَ ذِرَاعَهُ وَعَنِ الرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ " (إر5:17).


أمَّا إذا أهمل ممارستها فإنَّ حرارته الروحية تفتر، ويُعرّض نفسه لمحاربات خطيرة وسقطات كثيرة.. ولهذا فإن أول حرب يشنها العدو علي القديسين هي محاولة إبعادهم عن الوسائط الروحية، لأنّه بهذا يُبعدهم عن الله بطريقة غير مباشرة، فإذا ابتعدوا يستطيع أن يسقطهم في الخطية بطريقة سهلة.


من أهم هذه الوسائط: التناول، الاعتراف، الصوم، الصلاة، الكتاب المقدس، القراءات الروحية..


ولكي تكمُل فائدة الوسائط الروحية لابد أن تُمارس بطريقة سليمة، لا بطريقة حرفية أو بطريقة جافة، فلو أخذنا الصلاة كمثل توضيحي نقول:


إنَّ الصلاة ليست مجرد ألفاظ تخرج من أفواهنا، لأننا لم نقف أمام الله لنُعد ألفاظاً كما قال مار إسحق السريانيّ، فهذا هو المظهر الخارجي للصلاة.


أمَّا الصلاة الحقيقية فهي شركة دائمة مع الله، مخاطبة ومحادثة لذيذة مع القدير، تملأ النفس بالأشواق المقدسة، وتُعطي العزاء الحي للروح، وتزيد النعمة في القلب، وتقلع الزوان وتستأصله من النفس.


الصلاة هي سياج لكل فضيلة، بل هي السياج الذي فوقه تُبني كل فضيلة، ولا نجد مجري أوسع من هذه القناة التي تفتح لنا بسهولة باقي مجاري النعمة.

لقد عرّف القديس يوحنا الدرجي الصلاة بأنها الاتصال بالله، وحدد شروطها، إذ قال: " ينبغي لمن يريد أن يخاطب الله، أن يقف أمامه بعقل يقظ، وحرارة وفهم، ونفس نقية من الحقد، وفكر واحد متضع وكلام قليل ".


والصوم ليس هو الامتناع عن الطعام الحيوانيّ والاكتفاء بما هو نباتي، لأن هذا لا يقدّم الإنسان إلي الله، لأنه لا يعطي الإنسان نقاوة تليق بالله كما قال القديس صفرونيوس.


إنَّما الصوم في مفهومه الروحي السليم هو منع النفس عن كل شهوة كما منع الجسد عن كل الأطعمة الشهية، وكذلك اتّخاذ الصوم فترة مقدسة للصلاة، والجلوس مع النفس، في خلوة روحية، وتعميق الشركة الروحية مع الله.


ماذا ينتفع الإنسان لو صوّم فمه عن الطعام ولم يصوم قلبه عن الحقد ولسانه عن الأباطيل؟! بالطبع مثل هذا الإنسان صومه باطل، لأنَّ الصوم اللسان أفضل من صوم الفم، وصوم القلب والأفكار أفضل من الاثنين، وهذا ما أكده البابا أثناسيوس الرسولي عندما قال: " إننا مطالبون أن نصوم لا بالجسد فقط بل بالروح أيضاً ".


أيضاً القراءة في الكتاب المقدس وكتب الآباء.. ليست مجرد وسيلة لجمع المعلومات.. إنما الهدف هو تحويل المعلومات إلي حياة وكذلك التأثر والعمل بما نقرأ، والقراءة الصحيحة هي التي تشغل الفكر بالله وتقدم للقاريء مادة للتأمل والصلاة، وتهييء له جواً روحياً.. يزكّره بالله، وبالقديسين، كما أنها تُعطي استنارة للفكر..


قال أحد الآباء:

" القراءة تجلي صدأ القلوب ".