مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 24 يوليو 2010

أنت تفكر إذن أنت عظيم



خلق الله الإنسان ليكون سيداً، ملكاً يتربّع على عرش الخليقة، فكان لابد أن يكون هذا الملك حراً، يستعمل عقله في كل أعماله، أقواله، قراراته، اختراعاته॥ ولهذا فإنَّ التفكير بالنسبة للإنسان ليس مجرد وسيلة تقوده في أوقات كثيرة إلى السعادة، بل هو حاجة ضرورية لا تكتمل بدونها إنسانية ذلك الموجود البشريّ، الذي يفكّر ليحيا ويتقدم ويُحِب ويتزوج ويتسلّط على الخليقة

أتتذكرون قصة خلق الحيوانات والوحوش والطيور؟ أتعرفون أنَّ آدم هو الذي سمَّاها وليس ملاك أو رئيس ملائكة " وَكَانَ الرَّبُّ الإِلَهُ قَدْ جَبَلَ مِنَ التُّرَابِ كُلَّ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ وَطُيُورِ الْفَضَاءِ وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى بِأَيِّ أَسْمَاءٍ يَدْعُوهَا، فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ أَطْلَقَهُ آدَمُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ حَيٍّ اسْماً لَهُ " (تك19:2)। إنَّها كرامة للإنسان الذي قد خُلق على صورة الله

، ليكون سيداً ومفكّراً॥ حتى وإن تعثّرت خطواته وضل الطريق المؤدي إلى خلاصه، فإنَّه لا يمكن أن يتنازل يوماً عن تلك المنحة الإلهيّة، ولهذا فإنَّ كل المحاولات التي سعت إلى سلب فكر البشر باءت بالفشل। نعترف بأنَّ الفكر هو سر عظمة الإنسان، ولهذا كان " باسكال " الفيلسوف الفرنسيّ (1643- 1662م) على صواب عندما قال: " إنني أستطيع أن أتصوّر إنساناً بلا يدين أو رجلين،
ولكنني لا أستطيع أن أتصوّر إنساناً بلا فكر، لأنَّه سيكون مجرد صخرة أو جماد! " ونحن لا نُنكر أنَّ الإنسان جزء محدود من الكون بوصفه جسماً، ولكننا نراه يحاول أن يستوعب أجزاء كثيرة من العالم من خلال عقله، وبينما نجد الحيوان مُلزَماً بالخضوع للطبيعة، نرى الإنسان يتمرّد على قيود الطبيعة، ويسعى إلى تغيير بيئته وجعلها ملائمة باستمرار لحاجاته المتزايدة ورغباته المتجددة،

ففي وسع كل منّا أن يُعدّل من تراثه البشريّ، لأننا نملك قدرات عقليّة تجعلنا نتخطى وضعنا باستمرار، ونعلو على عالم الواقع ونتحرر من قيود كثيرة عن طريق الاختراعات، ومن أين يأتي الاختراعات؟ أليست من فكر حر يبحث بمداومة عن كل ما هو جديد! حقاً إنَّ آدم خُلق من تراب الأرض،ولكنَّ الأرض نفسها لم تلبث أن أصبحت آدمية حين تدخّلت فيها يد الإنسان،
الذي سعى بفكره نحو التقدم، ورفض أن يقف موقف المتأمّل السلبيّ العاجز عن تغيير شيء في الوجود، ولهذا منذ أن وجد الإنسان على الأرض وهو يعمل جاهداً، وكأنَّما يريد أن ينفذ بحريته الفكرية إلى أعماق الوجود الماديّ بثقله وكثافته، وسواء اتَّخذ عمل الإنسان طابع الإنتاج العلميّ، أم تجلى في صورة إبداع فنيّ، أم تمثّل في صورة اختراع آليّ، أم تجسّد على هيئة اكتشاف عقليّ॥

في كل هذه الحالات يسعى الإنسان ليكون على الصورة التي أرادها له الله: سيداً على الطبيعة والكائنات الأُخرى। حتى وإن كان الإنسان مجرد نقطة صغيرة فوق محيط دائرة الكون، ويكفي لموته أن ينقطع الأُكسيجين عن خلايا المخ بضعةدقائق! إلاَّ أنَّه حامل القيم بأسرها وهو يستخدم فكره لكشف أسرار الطبيعة وتحقيق مقاصده، ويهدف من وراء سلوكه بلوغ أهداف قد تكون روحيّة أو أخلاقيّة أو اجتماعيّة...


حقاً إنّه ينظر حوله فيجد نفسه بإزاء قوة، بل قوات هائلة من المخلوقات الأُخرى، ولكنّه لا يجد صعوبة في أن يتحقق بعقله، أنّه سيد الطبيعة ويستطيع أن يُدمّرها في لحظات! وهل نُنكر أنَّ حضارات الشعوب، هى أثر من آثار الوسائل التي ابتدعها الإنسان لتنظيم عالمه البشريّ،
ونعني بها: اللغة، الآلة॥ وما هى البيئة الثقافيّة سوى مجموعة عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية॥ كوَّنها فكر الإنسان
ولو رجعنا إلى بداية تكوين الجنس البشريّ، لوجدنا أنَّ الإنسان كان يحيا وسط الجماعة أو القبيلة، دون أن يكون له رأي حر أو فكر مستنير، فقد كان خاضعاً للتقليد السائد،

أو رؤساء القبائل الذين سيطروا على الأفراد وتحكَّموا في عقولهم، لكنَّه لم يقف عند هذا النوع من الحياة التي لا مجال فيها لفكره، فانتقل ومعه البشرية إلى عهد التفكير، ولم يعد يرى كل شيء عادياً أو مألوفاً بل أصبح كل شيء موضع بحث، فارتفع من مستوى الحياة البدائية البسيطة ليهبط على سطح الكواكب،

ونزل إلى أسفل ليغوص في أعماق البحار ويُخرج ما فيها من ثروات.. والواقع أنَّ الإنسان منذ أن وجد على الأرض،وهو يرفض أن يقف من الكونوالناس موقف الغريب كأنَّ لا علاقة بينهما، لأنَّ الكون منذ البداية يبدو لهبمثابة مجموعة من الألغاز التي تتطلب الحل، ولهذا اتَّخذت علاقته بكل ما يحيط به طابع الحوار أو الجدل أو سؤال يبحث عن جواب.والغريب أنَّ الإنسان لا يكتفي بحمل همومه وحده، بل وهموم الناس أيضاً،


وهو بذلك يحمل عبء الماضي والحاضر والمستقبل! وهذا إنَّما يدل على مركز الإنسان في الكون ومكانته بين المخلوقات الأُخرى। وهكذا تقدم الإنسان يوم بعد يوم، وتسلل النقد إلى رأسه، ولم يعد في وسعه التخلي عن نقد كل ما في الحياة وهذا يدفعنا إلى القول بأنَّ التفكير في أوقات كثيرة لا يكون نفياً أو إثباتاً، بل هو تساؤل أو استفهام، ودليلي: إنَّ الطفل ما أن يشرع في التفكير فإنَّه لا يكف عن إثارة السؤال تِلو الآخر!

السبت، 3 يوليو 2010

العالم صديق خائن


قد يكون العالم تعمّق داخلك ولذاته تملَّكت على قلبك، وقد ظهر لك بمظهر الصديق المُحب الذي يريد إسعادك، وأنت لا تدرى أن العالم عدو شرير يريد إهلاكك، وصديق خائن يسعى لإذلالك، وإن أردت أن تتحقق من هذا، فعليك أن تسأل الذين أحبّوا العالم وأفنوا حياتهم فى । سلهم وهم على فراش الموت: أحقاً أخلص العالم لكم؟ هل أوفاكم بوعوده؟ ستجد إجابتهم مكتوبة على جبينهمبأحرف بارزة: العالم صديق خائن قضى على حياتنا! وأضاع أبديتنا! وأعتقد أنَّ هذا هو السبب فى أننا لا نري الخطاة يبكون على العالم عند موتهم، إذ كيف يبكون على من أذلهم واستعبدهم! قد يبكون على أنفسهم وجهلهم، ولكنهم لا يبكون على خائن قد غدر بهم!

يجب أن تعلم أنَّ العالم اخترع لنفسه ينابيع كثيرة، للهو والمسرات لكي يجذب الناس إليه، ولكنَّ الحقيقة إنَّ ينابيع العالم كلّها جافة، وأفضل تشبيه لها هو السراب الخادع، الذي يراه السائر فى الصحراء ماءً، وبعد أن يركض نحوه يتحقق أن ما راءه إنَّما هو وهم وخيال! هلم نتساءل:

ما الذي يجذبك في عالم الشهوات؟! وما الذي يغريك في دنيا اللذات؟ ربَّما تكون شهوات الجسد! لكنى أقول: إنَّ كل الذين سعوا وراء شهوة جسدية عادوا فارغين، ولم يجنوا سوى وجع القلب ومرارة النفس وأمراض الجسد
.. هذا بالإضافة إلى ما يجنيه البنين من سمعه ردية نتيجة خطايا الوالدين وسلوكهم المنحرف!

وربّما يُغريك العالم بصنمه الذهبيّ، الذي سجد ولايزال حتى الآن يسجد له ويخر أمامه الكثيرون، الذين أصبحت الثروة هى نقطة ارتكاز آمالهم، ولأجل المال فعلوا الشرور، وضحوا بسمعتهم وشرفهم ومبادئهم، ولهذا أسألك: ما هو الشبع الروحيّ الذي ستناله من جمع المال؟ وما هى السعادة التي تجنيها إذا اقتنيت ثروة؟ على هذا السؤال أجاب سليمان الحكيم قائلاً: " مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ " (جا10:5).

هناك أيضاً التسالي والأفراح العالمية التي ينجذب إليها الناس، كمحاولة لإدخال السرور إلى قلوبهم، وهم لا يدرون أنَّ مسرات العالم وأفراحه ما هى إلاَّ ينبوعاً جافاً ليس فيه ما يُسعد، سعى إليه سليمان من قبل، إذ بنى لنفسه بيوتاً وغرس كروماً وعمل جنّات وفراديس فيها أشجار من كل نوع.. في النهاية إذ أدرك الحقيقة قال: " فإذا فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ! " (جا11:2) إنَّ أفضل ما قيل عن شهوات العالم وملذاته أنَّها: " لا تشبع ولا تُشبع آلاماً تسبقها وآلاماً تلحقها " !

لا أظن أنَّ من أحب العالم وتمرّغ في شهواته، قضى فى وقت ما لذة لم يصحبها ألم، أو راحة لم يتخللها تعب، أو تمتع بصحة جيدة دون أن يضعفها مرض، أو فرح لم يعقبه حزن.. هذه طبيعة الدنيا: تعد براحة وسرور وتُعطي كداً وتعباً، تعد بأفراح وتُعطى أحزاناً وبلايا، تعد بالشرف والكرامة وتُعطي الذل والإهانة، وهذا ليس واضحاً من خلال معاملات العالم القاسية مع كافة البشر.

ولهذا السبب قال أحد الفلاسفة عند موت إسكندر الأكبر: " هذا الذي كان بالأمس يدوس الأرض بقدميه، الآن داسته الأرض بقدميها، بالأمس لم تكن الأرض كافية لتحقيق رغباته والآن يكفيه ثلاثة أشبار ليُدفن فيها "، وقد أشار فيلسوف آخر إلى التابوت الذهبيّ الذي وضع فيه قائلاً: " بالأمس كان إسكندر يكنز الذهب والآن قد صار مكنوزاً في الذهب "، فالمجد زال، والمُلك بطُل، والذهب قد صار له تابوتاً.

مَن مِن الناس لم تمتد يد الدنيا إليه بالأذى، ومن لم يحيا فيها قلقاً من غدرها وخيانتها، فكثيراً ما قدمت لمحبيها طعاماً لذيذاً فى الغذاء، وفى العشاء كان المر طعامهم والعلقم شرابهم، وفى الوقت الذي نجد فيه أهل العالم يعيشون فى سلام تفاجئهم البراكين والحوادث فيهلكون وتنتهي حياتهم...

هذا هو العالم وهذه هى حقيقته المرّة، والحكيم
هو من يحيا في العالم دون أن يحيا العالم فيه، فيصير مثل السفينة، لا يغرقها وجودها فى الماء، وإنَّما يغرقها دخول الماء فيها.
نستطيع أن نقول: إنَّ العالم سفينتنا وليس مسكننا! فاجعل من العالم وسيلة تستطيع من خلالها أن تصل إلى الأبدية وليس غاية، لأننا أردنا أو لم نُرد سنموت، تاركين ممتلكاتنا وأموالنا، والآن ماذا تُريد؟ أن تتمسّك بعالم فانٍ وتحدّق في تراب زائل؟! أم ترفع عينيك إلى فوق وتتأمل مجد الله وما أعده لك في السماء؟