مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

ما هو الفكر؟ وكيف يتكون


لو أردنا تعريف الفكر في عبارة بسيطة لقلنا: إنَّ الفكر نشاط عقليّ غير مرئيّ يجول في ذهن الإنسان، وهو لا يتوقف حتى أثناء النوم.
عناصر الفكرة


ولكي تكتمل عملية التفكير لا بد أن تتوفّر عدة عوامل، فما هي عناصر الفكرة؟ وماذا يلزمنا لبناء عملية فكرية تُنتج أفكاراً، أو أوهاماً وأحلاماً.. للإجابة على هذا السؤال سنضرب المثال التالي: تخيّل أننا ننظر سوياً من شباك غرفة تطل على النيل، ثم سألتك: ما هى أطول مدة يستطيع الرجل أن يبقى خلالها مُعلَّقاً في الهواء فو الماء؟أعتقد أنَّك ستتعجب من سؤالي! وفي الحال ستبادرني قائلاً: وهل يستطيع رجل أن يبقى معلقاً في الهواء؟ هذا غير واقعيّ! وأنا لا أستطيع أن أُفكّر في التخيُّلات!
من هذا الجواب الطبيعيّ، نستنتج أنَّه ليس بإمكاننا أن نُفكّر إلاَّ إذا كان هناك " واقع ".

ولكن هل وجود الواقع وحده كافٍ لتكتمل منظومة التفكير؟ ولهذا سأعود أسألك: إنَّي أسمع أصواتاً واضحة في الغرفة المجاورة، تُرى كم هو عدد الأشخاص الموجودين فيها؟ ولا تقل هذه المرّة إنَّ الموضوع غير واقعيّ। جوابك: حقاً إنَّ الموضوع واقعي، ولكني لا أستطيع الإجابة، لماذا؟ لأنّي لا أراهم، دعني أنتقل إلى الغرفة المجاورة وسأعدّهم لك.من هذا يتضح لنا أنَّ وجود الواقع لا يكفي لتكوين الفكرة، وإنَّما يجب أن يقع " الحس " على هذا الواقع لكي نستطيع البدء في التفكير. وإذا طلبت منك الآن أن تُعطيني أسماء الموجودين وتواريخ ميلادهم॥ لكان ردّك: لا أستطيع أيضاً فأنا لا أعرفهم، فمن أين لي بالمعلومات التي تطلبها؟


إذن لا يكفي وجود الواقع والإحساس به، وإنَّما نحتاج أيضاً إلى " معلومات " متعلّقة بالواقع، لكي نُفكّر فيه.
وإليك مثال آخر:وأنت سائراً في الطريق رأيت " شجرة " بلا ثمر، فلو سألتك عن نوع ثمرها لعجزت عن الإجابة، ولكن لو دققت النظر فيها ورأيت عليها ثمرة منسية، لأدركت في الحال نوع الشجرة، فتقول: إنَّها شجرة تفاح।


في هذا المثال توفّرت شروط التفكير وهي:
1- الواقع ( الشجرة)
2- الحواس (البصر)
3- المعلومات (ما تعرفه عن التفاح)
من خلال هذا المثال البسيط نستخلص الآتي: إنَّ للفكرة ثلاث عناصر أساسية ألا وهي:


الواقع
حيث لا فكر بلا واقع وكل معرفة بدون واقع هي خيال، فالواقع هو أساس الفكر، والفكر تعبير عن الواقع।

الحواس
فلولا حواس الإنسان لَمَا تكون الفكر، لذلك يجب أن نحس بالواقع أو أثره، لكي تتم العملية الفكرية।

المعلومات
وهي من أساسيات عملية التفكير، وبدونها تظل الأفكار مشوشة।

فلو أعطينا إنساناً عربياً كتاباً لاتينياً، دون أن تتوفر لديه أيّة معلومات تتصل بتلك اللغة التي يجهلها، وجعلنا حسّه يقع على الكلام بالرؤية واللمس، وقمنا بتكرار هذا الحس مئات المرات، فإنَّه لا يمكن أن يعرف كلمة واحدة من كلمات الكتاب، إلاَّ إذا حصل على معلومات تؤهله لمعرفة اللغة اللاتينية، فحينئذ يبدأ في تعلّمها فيتحدّثها ويفكر بها॥ ولنأخذ طفلاً ليس عنده أيّة معلومات، ولنضع أمامه قطعة ذهب وقطعة نحاس وحجراً، ونجعل جميع حواسه تشترك في حس هذه الأشياء، فإنه لن يدركها، ولكن إذا أُعطي معلومات عنها وأحسّها فإنّه يستعمل المعلومات ويدركها। نفس الشيء لو أحضرنا إنساناً من غابات إفريقيا، ووضعناه في غرفة بها كمبيوتر، ولم نعطه المعلومات الكافية عن هذا الجهاز الذي لم يره في حياته، فإنَّه لا يمكن أن يعرف حقيقته وطريقة تشغيله..


مستويات التفكير
إنَّ مستويات التفكير متعددة، ولكن العالم السويسريّ " بياجيه " أشار إلى أربعة مستويات رئيسية ألا وهى:

التفكير الحسّيّ
ومن الاسم نعرف أنَّه يعتمد على حواس الإنسان الخمسة، وهو يُعد أول مستويات التفكير، ومن خلاله يستطيع الطفل في عامه الأول، أن يعرف أُمه عندما يراها، ويلتفت عندما يسمع صوتها وهى تناغيه।

التفكير التقليديّ
ويظهر هذا المستوى من التفكير عند الأطفال، في الفترة ما بين سن (2- 7) وهو أعلى من التفكير الحسّيّ، وفيه نرى الطفل يُقلّد والده ومن حوله، سواء في طريقة كلامهم أو مشيهم॥

التفكير الملموس
وفي هذا المستوى يستطيع الفتى أو الفتاة فيما بين سن (8-11) سنة، حل المشكلات والتفكير فيها بشرط أن تكون الأشياء اللازمة للحل يمكن إدراكها حسيّاً، مثل رؤية الخرائط وأدوات التجربة॥

التفكير المعنويّ
وهو أعلى من المستويات السابقة، ويعتمد على معاني الأشياء وما يقابلها من ألفاظ وأرقام، دون اللجوء إلى الأشياء المحسوسة أو صورها الحسّية، ففي العمليات الحسابية مثلاً لا يتم استخدام أصابع اليد، كما أننا نستطيع أن نُدرك معاني كثيرة مثل: الحرية والعدل والمساواة.. دون الحاجة إلى رؤيتها، كما نُدرك العلاقة بين شيئين أو أكثر، مثل العلاقة بين تكاثف بخار الماء على الزجاج وبين برودة الطقس..

الأحد، 10 أكتوبر 2010

مَن منّا



منْ منَّا الذي لم تُثقّل كاهله الشهوة ، فتمنّى لو خلت حياته من كل فعل شاذ أو فكر قبيح؟! منْ منَّا لم يضق ذرعاً في لحظة من لحظات حياته بأعباء الشهوة الثقيلة، فتمنّى أن يأتي يوم يتخلّص فيه من كل الشهوات؟! منْ مِن البشر لم يرهب سُم هذا الثعبان البشريّ الذي لف البشرية بذيله، فتمنّى أن يسحق تحت قدميه رأسه؟!

فما من أحد إلاَّ واختبر مرات عديدة ألواناً كثيرة، من تلك الانفعالات القاتمة بعضها عنيف كالبركان ينفجر فجأة بدون إنـذار، تاركاً وراءه نفساً مضطربة وجسماً هزيلاً، أو كزلزال مُدمّر قد حبلت به الأرض، فتمخّضت متوجّعة ولم تلد غير الخراب والشقاء!

وكم من أُناس ماتوا ضحايا للحيوان المفترس المختبيء في أعماق البشر! فالثعبان الجَهنَّميّ قد نفث السموم في الفضاء الواسع الجميل، الذي كانت تملأه عطور الورود! فما أصعب صرخات الجسد وما أشد أنينه عندما تضغط عليه الشهوات!

إننا نعلم أنَّ الشهوة الآثمة دنيئة، لكنَّها عندما تثور في إنسان فإنَّها تهزه هزاً عنيفاً، وتسحبه كشاة ذبيحة حيثما تشاء! وعندما تندس فجأة في ثنايا الشعور في غفلة وتتمكّن منَّا، تشل الإرادة، وتسجن الحرية، وتُقيّد الفكر، وتقتل الإبداع، وتجعل الحواس نارية، والقلب ملتهباً، والروح هائمة تتنقل من هنا إلى هناك، وهى لا تدري ماذا تفعل؟! أو أين تستقر؟! أو بمن تستجير؟! ألسنا في أوقات كثيرة وبغير سبب واضح، تجتاحنا تيارات عنيفة من عواطف متناقضة تهزّنا حتى الأعماق، ونشعر بحاجة شديدة إلى من يقف بجانبنا ويأخذ بيدنا، حتى تعبر هذه الموجة العنيفة بسلام؟! ألا تمر علينا فترات طويلة نشعر فيها بأنَّ جُرثومة الإثم انتشرت في كل مكان، وأنَّ السماء أغلقت أبوابها، وقد انفتح باب الجحيم وانبثق شعاع الشر، وذلك لكي يرسم صورته الحزينة على كل الوجوه؟!ليست الشهوة إلاَّ سماءً مظلمة بلا نجوم، أرضاً جافة بلا ثمار، بحراً تبخّرت مياهـه فصار نبعاً بلا حياة! إنَّها رياح عاصفة، أمواج مضطربة، وإن بدت كأنَّها زورق صغير يحملنا إلى ميناء الراحة، فالزورق بلا ربَّان، وبعد قليل ستُحطّمه الأمواج أو تقصف به الرياح! وإن توهّم الشهوانيّ أنَّه يحيا في بحر السعادة، فليعلم أنَّ أمواج بحر الشهوة لا تفتح بين موجاتها سوى القبور، فبين كل موجتين يوجد قبراً، فإن لم يُدفن في هذا سيُدفن في ذاك!

ليس أصعب على الإنسان من أن تتحوّل حياته إلى مجرد لذات حسّية وضيعة، فيصير مثل جهاز آليّ كبير يُحرّكه تُرس واحد ألا وهو: الشهوة! إنَّها قمة المأساة أن يجعل الإنسان من ذاته مزماراً في كف الشهوة، التي تضع إصبعها علي فتحات المزمار لكي تختار بنفسها أية نغمة تشاء! والحق إنَّ كل من يبحث عن الشهوة، إن فرح من جانب فسيبكي من الجانب الآخر! فالشهوة رابطة وهميّة لأنَّها رابطة في الفراغ، أو علاقة تبحث عن الألم!

نعترف بأنَّ الشهوة أنانية، والأنانية تأكل صاحبها، وبالتالي فإنَّ طعامها لا يمكن أن يكون مُغذّياً، وهكذا يستهلك الشهوانيّ نفسه بسرعة زائدة، وينحل بشكل ظاهر، لأنَّه يعيش على حساب نفسه قبل أن يعيش على حساب الآخرين! فالشهوة أشبه بوليمة ليس فيها الآكل بل المأكول! إنَّه الشهوانيّ الذي يتغذّى على نفسه، وحوله قد انعقد مؤتمر من الديدان الخبيثة، ذات الخبرة بفنون أكل البشر! قد نكون على صواب إن قلنا مع القديس مرقس الناسـك: " إنَّ القلب المُحِب للشهوات هو سجن للنفس، أمَّا القلب الطاهر فهو باب مفتوح ".

ونحن عندما نصف حُب الشهوة بالسجن، فذلك لأنَّه لا يملك سماءً، ولا أُفقاً، ولا مستقبلاًً.. بل هو حُب مُغلق حول الذات، ولهذا يرتد دائماً إلى نقطة بدايته، في الوقت الذي يتوهّم فيه الشهوانيّ أنَّه يتقدم نحو غايته! إنَّه دائرة مُقفلة فهو لا يعرف الاتجاه أو الإثراء أو الإبداع.. بل يعرف شيئاً واحداً: التكرار المستمر!

من الشهوة تتولّد الخطية، والخطية تكون مصحوبة بلذة، واللذة هي أشبه بساحر ينقلب القُبح بلمسة عصاه إلى جمال ترتاح له العيون! فاللذة إذن ليست إلاَّ نوعاً من الوهم أو الخِداع..! ومهما كانت إمكانات الإنسان فإنَّه لا يستطيع أن يبقى طويلاً فوق قمة اللذة الشامخة، وهذا هو السبب في أنَّ اللذة، كثيراً ما تجعل الإنسان يُصاب بخيبة أمل، عندما يكتشف أنَّ هذه الحياة التي قد بذل كل ما يملك لكي ينعم بها لم تُعطه شيئاً، ولم تقده إلى شيء أفضل! فيستيقظ شعور الإنسان المخدوع على تلك الحقيقة المرة ألا وهى: إنَّ الإله الذي كان يتعبد له ليس إلاَّ شيئاً تافهاً، مقززاً..‍‍!

لكننا نعترف بأنَّ إنساناً واحداً تخلو حياته من أي أثر للشهوة، لا يوجد ولن يوجد بعد، وكما أنَّ الإنسان يمضي في طريق الحياة حاملاً في باطنه جُرثومة المرض الجسميّ، فإنَّ كل إنسان أيضاً يحمل في أعماق نفسه، جُرثومـة مرض نفسيّ للشهوة قد لا يفطن إليه، وحتى حين يظن الإنسان أنَّه خالٍٍ تماماً من الشهوة! فإمَّا أنَّه يخدع نفسه، أو ليس لديه وعي صريح بهذه الشهوة، التي يُنكر حقيقة وجودها! والواقع أنَّ شقاءنا لا ينحصر فقط في شعورنا بالألم والمرض والشيخوخة، أو شتّى مظاهر الفناء البشريّ! بل إنَّ هذا الشقاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشعورنا الأخلاقيّ، ومدى حُبِنا لحياة الخطية، ولكننا نعترف بأنَّه مهما كان من نقاء قلبيّ وفكريّ، فلابد من أن يجول بخاطرنا نزعات شهوانية شيطانية، نجزع لِما فيها من خبث أسود مُخيف، يُنجّس القلب ويُلوّث الفكر، وربَّما يمتد إلى الضمير!

كتاب جذور الشهوة