مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الأربعاء، 19 يناير 2011

عيد الغطاس فى مصر


لقد كان الغطاس عيداً قومياً، تحتفل به مصر احتفالاً رسمياً، شعبياً، شائقاً بلغ حده أن حاكم مصر نفسه ورجال حكومته وأُسرته ومعاونيه.. كانوا يشتركون فيه، ويأمرون بإقامة الزينة، وإيقاد النيران، وإضاءة المشاعل، وتعميم الأفراح الشعبية فى كل مكان، وتوزيع المأكولات على الأهالى، مع الصدقات على الفقراء. وكان الناس يغطسون فى النيل تبركاً بهذه المناسبة السعيدة .

ويروي المقريزي عن عيد الغطاس فيقول:

إنه يُعمل بمصر فى اليوم الحادى عشر من شهر طوبة، وأصله عند النصارى إن يحيى بن زكريا عليه السلام ، المعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمد المسيح، أى غسّله فى بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به الروح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم فى الماء فى هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا فى شدة البرد، ويسمّونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم إلى الغاية.

عيد الغطاس فى العصر الأحشيدي

عاشت مصر تحت حكم الرومان، ما يقرب من سبعة قرون، ثم تولى من بعدهم الأتراك، فحكموها حوالى أربعة قرون، فلما تولى الأخشيديينالحكم، كان لليلة الغطاس شأن عظيم، وكان الناس- مسلمون ومسيحيون- لا ينامون فى هذه الليلة .

وقد حضر/المسعودى سنة (330 هـ) ليلة الغطاس بمصر، والأخشيد محمد بن طفج أمير مصر فى قصره، فى جزيرة منيل الروضة، وقد أمر بإقامة الزينة فى ليلة الغطاس أمام قصره، من جهته الشرقية المطلة على النيل، وأوقد ألف مشعل، غير ما أوقد أهل مصر من المشاعل والشموع على جانبى فرع النيل..

وقد حضر في تلك الليلة آلاف البشر من المسلمين والمسيحيين، ومنهم من احتفلوا في الزوارق السابحة في النيل، ومنهم من جعلوا حفلاتهم في البيوت المشرفة على النيل، ومنهم من أقاموا الصواويين على الشواطيء، مظهرين ما لا يُحصى من
المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر.. وكانوا يقضون ليلتهم فى اللهو والعزف على آلات الطرب، والتحلى بالجواهر الثمينة والزينة..

وبشهادة المسعودى كانت ليلة الغطاس فى مصر أيام الفاطميين والأخشيديين، أحسن الليالى بمصر وأشملها سروراً ولا تُغلق البوابات التى كانت مركّبة على أفواه الدروب والحارات، بل تبقى إلى الصباح، ويغطس أكثر الناس فى نهر النيل، مزعمين أن ذلك أمان لهم من الأمراض، ومناعة لأجسادهم من انتشار الداء..

عيد الغطاس فى العصر الفاطمى

بعد الأخشيديين آل حكم مصر إلى الخلفاء معهم من عاصمة مُلكهم الأصلى، ودفنوها فى تربة الزعفران حيث خان الخليلى الآن. وتُعد الدولة الفاطمية هى الدولة الوحيدة، التى أتت بأموالها إلى مصر، خلافاً لغيرها من الدول الفاتحة، فإنها كانت تنهب خيرات مصر وكنوزها إلى بلادها.

وفى مصر بنوا القاهرة والأزهر وما يحتفل به المسلمون من الأعياد الدينية، متمثلة فى عاشوراء وطبقه الشهير، والمولد النبوى، وما يُصاحب الاحتفال به من الحلوى الحمراء خاصة العروسة التى ترمز إلى مصر والحصان الذى يُجسّد الفروسية، وليلة الإسراء والمعراج وما تزدان به من اللبن والبلح، ورؤية هلال رمضان والفوانيس والعيد...

هذه الاحتفالات كلها تعود إلى العصر ولم يكتفِِِ الفاطميون بما أتوا به من خيرات إلى مصر بل عطفوا على كل المصريين على اختلاف مذاهبهم ومنهم الأقباط، فقربوهم إليهم، وجعلوا أعيادهم أعياد رسمية فى البلاد، اشترك فيها الخلفاء أنفسهم كلنيروز والميلاد والغطاس وخميس العهد.. وكانوا يُخرجون من خزائنهم العطايا، ويوزعونها على رجال الدولة، لا فرق بين مسلم ومسيحى!

فكان إذا جاء عيد اغطاس يوزعون على الموظفين: الليمون، والقصب، والسمك البورى.. وكان ذلك برسوم مقررة لكل شخص، وإذا رأينا إقبال الناس على مص القصب فى هذه الليلة، واعتباره من عادات ورموز العيد فنذكّرهم بأن هذه العادة القديمة أدخلها الفاطميين فى رسوم دولتهم.

وكانت الخيام تُنصب على الشواطئ ، ويأتى الخليفة ومعه أُسرته، من قصره بالقاهرة إلى مصر القديمة، وتوقد المشاعل فى البر والبحر، وتظهر أشعتها وقد اخترقت كبد السماء لكى تزينها بالأنوار البهية، ثم تُنصب الآسرة لرؤساء النصارى على شاطئ النيل فى خيامهم، وتوقد المشاعل، ويجلس الرئيس مع أهله، وبين يديه المغنون ثم ;يأتى الكهنة والرهبان وبأيديهم الصلبان، ويقيمون قداساً طويلاً ربما (قداس اللقان).

ويذكر المسبّحى فى تاريخه من حوادث (998 م ): كان الغطاس فضُربت الخيام والسرادق والآسرة، فى عدة مواضع على شاطئ النيل، ونُصبت آسرة للرئيس فهد النصرانى وأُوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف.

وقال فى حوادث سنة (1025م) : وفى ليلة الأربعاء 4 ذى القعدة سنة (415هـ)، كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس شراء الفواكه والضأن وغيره... ونزل أمير المؤمنين الظاهر لاعزاز إلى قصر جده العزيز بالله فى مصر، لنظر الغطاس ومعه الحرم ونودى أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم البحر وضُربت خيمة عند الجسر وجلس فيها، وأمر أميرالمؤمنين بأن توقد النار والمشاعل فى الليل، وكانت أنواراً كثيرة، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان والنيران، فصلوا على مياه نهر النيل وباركوها، ثم نادى المنادى فغطس الناس وتفرقوا، وكان عيداً عظيماً..

وذكر بن إياس:

إن نهر النيل كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، ويجتمع فيها السواد الأعظم .. من المسلمين والنصارى، فإذا دخل الليل تُزين المراكب بالقناديل، وتُشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يُشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس، وينزل رؤساء القبط فى المراكب، ولا يُغلق فى تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء فى بحر النيل، النصارى مع المسلمين سوياً، ويزعمون أن من يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف فى تلك السنة.

وهكذا استمرت الاحتفالات بعيد الغطاس أجيالاً، وقد سُجلت فى كتب التاريخ، بأيدى مؤرخين ثقاة مسلمين وأقباط، كمظهر من المظاهر القومية فى مصر، ولكن مع مزيد من الأسف، لقد أثرت روح العصر التى يغلب عليها التمدين، على تقاليدنا وها هى تسعى لتمحوها!!

الأحد، 9 يناير 2011

عقوبـات الخطيـة



للخطية عقوبة، سواء هنا على الأرض أو في الحياة الأبدية، حقاً إنَّ هناك تفاوتاً في الثواب والعقاب، إلاَّ أنَّ العقوبة أبدية أيّ ليس لها مدة تنتهي بعدها، وكذلك الثواب أيضاً، وهذه حقيقة واضحة لنا نحن المسيحيين، ولا يستطيع أن يُنكرها كل من يقرأ الكتاب المقدس، أو يطّلع علي قصص التاريخ.

فالله الرحوم الذي لا يشاء موت الخاطيء مثل أن يرجع وتحيا نفسه، هو أيضاً الله العادل، الذي وضع للخليقة ناموساً تسير بمقتضاه، ألا وهو: " الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً " (غل7:6)، " لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ " (مت 2:7).

ولا يصح لنا أن نفهم مراحم الله منفصلة عن عدله، فصفات الله كاملة، لئلا ننقاد إلي الخطية غير شاعرين بخطورتها، وتجعلنا محبة الله أن ننسي مخافته، فقد قاد هذا الفَهم الخاطيء كثيرين إلي اللامبالاة والاستهتار، بعد أن بدأوا حياتهم الروحية بقوة ونشاط.. هذا ما يقوله قداسة البابا شنودة.

هذا وقد رأينا قبل الحديث عن العقوبات (الأرضية والأبدية)، أن نتحدّث أولاً عن تفاوت العقاب، موضحين أسبابه، سواء كانت أسباب التفاوت: دوافع الخطية، أو ظروفها، أو الضرر الناتج عن الخطية، أو الشخص الخاطيء، أو الشخص المُخطيء إليه...

أولاً: تفاوت العقوبات

" لذلك الذي أسلمني له خطية أعظم "
( يو 11:19)


لقد تحدّث السيد المسيح أكثر من مرَّة، موضحاً مدي تفاوت عقاب الخطية فقال له المجد لتلاميذه: " وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجاًمِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاًمِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ (مت10: 15،14).

وقال لبيلاطس البنطي: " الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ " (يو11:19).

ومعلمنا بولس الرسول أوضح أنه يوجد تفاوت في الثواب بقوله: " لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ " (1كو41:15)، فإن كان هناك تفاوت في الثواب، فلابد أن يكون هناك تفاوت في العقاب أيضاً.

ولعل التفاوت في عقوبة الخطية يرجع إلي عدة أسباب ألا وهي:

++ دوافع الخطية

هناك خطية تحدث عن غفلة بسبب الضعف البشريّ، وهناك خطية يمارسها الإنسان بإرادة ورغبة كاملة في الخطأ، فعقوبة الخطية في الحالة الأولي تكون أقل منها في الحالة الثانية، وهذا ما كانت تقصده الشريعة عندما كتب موسى النبيّ يقول: " مَنْ ضَرَبَ إِنْسَاناًفَمَاتَ يُقْتَلُ قَتْلاً وَلَكِنَّ الَّذِي لَمْ يَتَعَمَّدْ بَلْ أَوْقَعَ اللهُ فِي يَدِهِ (أيّ سمح الله أن يموت تحت يده) فَأَنَا أَجْعَلُ لَكَ مَكَاناً يَهْرُبُ إِلَيْهِ وَإِذَا بَغَى إِنْسَانٌ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَقْتُلَهُ بِغَدْرٍ فَمِنْ عِنْدِ مَذْبَحِي تَأْخُذُهُ لِلْمَوْتِ " (خر21: 12-14).

يقول مار إسحق السريانيّ
" عذاب كل إنسان يتوقّف علي نسبة شغفة وميله للخطية، فإذا مال إليها بسبب إهمال الفضيلة سينال عقاباً قاسياً، أمَّا إذا امتُحن بزلة وهو يجدَّ في عمل الفضيلة، فلا ريب أنَّ الرحمة قريبة منه ولا تتركه بدون تطهير ".

++ ظروف الخطية

فظروف المتعلم تختلف عن ظروف الجاهل، وهناك فرق بين الرئيس والمرؤوس، وكل هذه الظروف لها تأثير من جهة عقوبة الخطية، ولهذا قال رب المجد في مثل العبد الأمين:

" وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيراً وَلَكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراًيُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراًيُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ " ( لو12: 48،47).

وقال أيضاً للفريسيين: " لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناًلَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلَكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ " ( يو41:9).

ومعلمنا القديس بولس الرسول يقول: " أنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً، وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ ايمَانٍ " (1تي13:1).

++ ضرر الخطية

إنَّ مقدار الضرر الناتج عن الخطية يزيد من ثقلها، وبالتالي من عقوبتها.. وقد يكون الضرر الناتج عن الخطية مقصوداً، كمن يقتل آخر عمداً قاصداً الاضرار به والقضاء عليه، من أجل هذا أمرت الشريعة أن يُقتل القاتل المتعمد: " وَإِنْ دَفَعَهُ بِبُغْضَةٍ أَوْ أَلقَى عَليْهِ شَيْئاً بِتَعَمُّدٍ فَمَاتَ أَوْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ بِعَدَاوَةٍ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الضَّارِبُ لأَنَّهُ قَاتِلٌ " (عد 35: 21،20).

وقد يكون القتل غير مقصود فما أكثر لحظات السهو، ولهذا رأي الله أن يسن له شريعة خاصة تتناسب مع قصد المضر، فقال: " وَلكِنْ إِنْ دَفَعَهُ بَغْتَةً بِلا عَدَاوَةٍ أَوْ أَلقَى عَليْهِ أَدَاةًمَا بِلا تَعَمُّدٍ أَوْ حَجَراً مَا مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ بِلا رُؤْيَةٍ أَسْقَطَهُ عَليْهِ فَمَاتَ وَهُوَ ليْسَ عَدُوّاًلهُ وَلا طَالِباً أَذِيَّتَهُ" (عد 35: 22-24).

++ الشخص الخاطيء

جاء في الشريعة إنَّ الكاهن إذا أخطأ يقرّب عن خطيته: " يُقَرِّبُ عَنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ ثَوْراً ابْنَ بَقَرٍ صَحِيحاً لِلرَّبِّ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ " (لا3:4).

ولكن إذا كان الخاطيء رئيساً في الشعب: " تَيْساً مِنَ الْمَعْزِ ذَكَراً صَحِيحاً " (لا 23:4).

أمَّا إذا أخطأ أحد من عامة الشعب: " يَأْتِي بِقُرْبَانِهِ عَنْزاً مِنَ الْمَعْزِ أُنْثَى صَحِيحَةًعَنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ " ( لا4: 28،27).

والعبدة إذا أخطأت: " وَإِذَا اضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةٍ اضْطِجَاعَ زَرْعٍ وَهِيَ أَمَةٌ مَخْطُوبَةٌ لِرَجُلٍ وَلَمْ تُفْدَ فِدَاءً وَلاَ أُعْطِيَتْ حُرِّيَّتَهَا فَلْيَكُنْ تَأْدِيبٌ لاَ يُقْتَلاَ لأَنَّهَا لَمْ تُعْتَقْ " (لا 20:19).

أمَّا إذا زنت ابنة الكاهن: " وَإِذَا تَدَنَّسَتِ ابْنَةُ كَاهِنٍ بِالزِّنَى فَقَدْ دَنَّسَتْ أَبَاهَا. بِالنَّارِ تُحْرَقُ " ( لا 9:21).

++ الشخص المخطيء إليه


يتوقف ثقل الخطية أيضاً علي الشخص الذي تُخطيء إليه.. فهناك خطايا توجّه إلي الله، وعن هذه يقول الكتاب: " إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً " (مر3: 29،28).

وهناك خطايا توجه ضد خدام الله.. وقد قال الله علي فم زكريا النبي قاصداً قديسيه: " مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ " ( زك 8:2)، وقد أوضح بهذا أنَّ الذي يُخطيء في حق الخدام، يكون كمن يخطيء في حق الله..

أيضاً الخطية التي تُرتكب في حق ملك أو رئيس، هى أثقل بكثير من التي تُعمل في حق شخص عادي ولهذا قيل: " لاَ تَلْعَنْ رَئِيساًفِي شَعْبِكَ " ( خر28:22).

وقيل أيضاً: " أَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: يَا لَئِيمُ وَلِلشُّرَفَاءِ: يَا أَشْرَارُ؟! " ( أي 18:34).

ثانياً: العقـوبات

" فقال أدوني بازق كما فعلت جازاني الله
وأتوا به إلي أورشـليم فمات هنـاك "
(قض: 7،6)

" إذهبوا عني يا مـلاعين إلي الـنار
الأبدية المعدة لإبلـيس وملائكـته "
(مت 41:25)


للخطية عقوبتان فهناك العقوبة الأرضية، وهى قد تكون نتيجة طبيعية للخطية، فالذي يُدخن قد يُصاب بالسرطان، والذي يلعب القمار قد يفقد أمواله ويفتقر، والذي يزني قد يصاب بالسيلان أو الأنيميا أو الإيدز..

وقد تكون العقوبة الأرضية ضربة من الله، مثل ضربة البرص التي ضرب بها الرب مريم، بسبب كلامها علي موسي أخيها " بِسَبَبِ المَرْأَةِ الكُوشِيَّةِ التِي اتَّخَذَهَا " ( عد10:12).

وضربة الدمامل التي أصابت شعب مصر عقاباً علي قساوة قلب فرعون ( خر10:9).

والوباء الذي أصاب بني إسرائيل بسبب خطية داود عندما عد الشعب، فمات منهم في يوم واحد سبعون ألف رجل (2صم15:24).

هذا بالإضافة إلي الضربات الأُخري: كالهزيمة والعبودية..

وهناك عقوبات للخطية تُصيب الإنسان علي الأرض، لا يوقّعها الله مباشرة، إنّما يوقّعها المجتمع، أو الدولة، أو الكنيسة.

فمن العقوبات التي ينالها الخاطيء من المجتمع: العار والفضيحة وسوء السمعة، ومن الدولة: الأحكام التي يصدرها القضاء علي المذنبين، سواء بالسجن أو الإعدام.. ومن الكنيسة: الحرمان من التناول، أو التجرّد من الرتبة الكهنوتية ( للكهنة)..

وأحياناً تكون العقوبة الأرضية نفس الخطية التي ارتكبها الخاطيء، لأنَّه كما يقول الكتاب: " فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً " (غل7:6)، " لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ " (مت2:7)..

ولدينا علي هذا مثلاً من الكتاب المقدس وهو أدوني بازق الذي إرتكب شروراً كثيرة منها: قطع أصابع الإبهام لأيدي وأرجل سبعين ملكا، فكان عقابه: قطع أباهم يديه ورجليه عندما انتصر عليه جيش يهوذا، وفي هذا يقول الكتاب المقدس:

" فَهَرَبَ أَدُونِي بَازَقَ. فَتَبِعُوهُ وَأَمْسَكُوهُ وَقَطَعُوا أَبَاهِمَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَقَالَ أَدُونِي بَازَقَ: سَبْعُونَ مَلِكاًمَقْطُوعَةٌ أَبَاهِمُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ كَانُوا يَلْتَقِطُونَ تَحْتَ مَائِدَتِي كَمَا فَعَلْتُ كَذَلِكَ جَازَانِيَ اللَّهُ، وَأَتُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ هُنَاكَ " ( قض1: 7،6).

كما أنَّ العقاب الأرضيّ لا تتوقف شدته علي مدة الخطية، فقد يرتكب الإنسان الخطية لمدة قصيرة جداً، ومع ذلك فإن العقاب الزمنيّ قد يطول عشرات السنين أو مدي الحياة، فالقاتل يرتكب الخطية ويقتل في لحظات معدودة، ومع هذا قد يحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.

أيضاً العقاب الأرضيّ قد يكون في الحال أو بعد فترة، إذ ينتظر الله علي الخطاة زمناً قد يطول أو يقصر، لعلهم يتوبون لأنه لا يشاء أن " أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ " (2بط9:3). ولكن إذا رأي الله أنَّ شر الإنسان قد كثر في الأرض ولا أمل في نجاته، في هذه الحالة يظهر الله بمظهر الديان ويصب جامات غضبه علي الخاطيء، وفاءً للعدل الإلهيّ.

وفي أحيان كثيرة تكون العقوبات الأرضية علاجاً للخاطيء، دواء لمرضي الخطية لتهزيبهم وإصلاحهم وشفاءهم.. فكل مريض في حاجة إلي الأدوية والخاطيء هو إنسان مريض، أما أدويته فهي التأديبات أو العقوبات التي تحل عليه، لعله يشعر بمرارة الخطية وآلامها فيجاهد ويسعي لتركها.

ويجب أن نعرف أن الذي: " لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ " (عب12: 6)، كما أن الله الرحوم هو نفسه الله العادل، الذي قال: " لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ " ( رو19:12)، وعدل الله يقضي بأنَّ الخطية لابد أن تأخذ عقوبتها، فقد قال مرّة: " كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ " ( يو30:5).

ولهذا كل من يُنكر عقاب الله يُنكر عدالته أيضاً، ومن يُنكر عدالة الله كمن يُنكر وجوده! لأنَّه ليس من المعقول أن يكون الله موجوداً ولا يكون عادلاً، ولهذا يقول: " سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ " (تك 6:9).

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
" قل لي يا من لا تؤمن بالعقاب العتيد، ما الذي جلب الطوفان المخوف في زمان نوح البار وأغرق ساكني المدينة قاطبة؟ من أرسل البروق والصواعق علي أرض سدوم وعمورة؟ من أغرق فرعون وجنوده في البحر الأحمر؟ من أحرق محلة أبيرام؟ من أمر الأرض أن تفتح فاها وتبتلع قورح وداثان وأبيرام أحياء؟ من قتل في أيام داود سبعين ألف نفس؟ من قتل من الآشوريين مائة وخمسة وثمانين ألفاً في ليلة واحدة؟ فأي جواب لك ترده علي هذه كلها؟ "

أمثلة للعقوبات الأرضية:


+ آدم وحواء

علي الرغم من أنَّ الله حكم عليهما بالموت الذي أنذرهما به من قبل ( تك 17:2) إلاَّ أنَّه أوقع عليهما عقوبة أرضية، وهي الطرد من الجنة وهذه كانت عقوبة مشتركة لكليهما.

ثم قال لآدم: " مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ، وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ (تك3: 17-19)، وظلت عقوبة التعب وأكل الخبز بعرق الجبين، لاصقة بجميع أبناء آدم إلي يومنا هذا، علي الرغم من عمل الفداء العظيم.

وقال الرب لحواء: " تَكْثِيراً أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَداً، وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ " (تك16:3)، وجاء السيد المسيح وغفر للمرأة خطيتها، ولا تزال تحبل وتلد بالوجع والتعب.

++ داود النبي

أخطأ داود إذ زني مع امرأة أوريّا الحثي، ثم قتل أوريا ليخفي جريمته ويتزوج بامرأته (2صم11)، لكنه تاب واعترف بخطيته علي يد ناثان النبي قائلاً: " قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ " ، وسمع العفو الإلهيّ بقول ناثان له: " الرَّبُّ أَيْضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ، لاَ تَمُوتُ " (2صم13:12)، وهكذا رفع الله عن داود العقوبة الأرضية.

أمَّا العقوبة الأرضية التي كان الرب قد فرضها عليه بعد خطيته فبقيت كما هي " وَالآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ لِتَكُونَ لَكَ امْرَأَةً.. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ" (2صم12: 10-12) وقد تحقق العقاب فلم يفارق الزني بيته، فقد سقط أمنون مع أخته ثامار، وأبشالوم مع سراري داود، ولم يفارق السيف بيته حيث قام ضده أبشالوم (2صم ص 13- ص 18)، وتكرر الأمر عندما عد الشعب (2صم 10:24)..

++ موسي النبي

أخطأ موسي النبيّ عندما ضرب الصخرة مرتين، في الوقت الذي طلب منه الرب هو وهرون أن ( يُكلّما الصخرة)، كما أنَّ أُسلوب العبارة غير لائق بتمجيد الله، ويميل إلي الافتخار الشخصيّ " اسْمَعُوا أَيُّهَا المَرَدَةُ! أَمِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نُخْرِجُ لكُمْ مَاءً؟ "، فكانت النتيجة أنَّ الله حكم عليه بعدم دخول أرض الموعد " مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمَا لمْ تُؤْمِنَا بِي حَتَّى تُقَدِّسَانِي أَمَامَ أَعْيُنِ بَنِي إِسْرَائِيل لِذَلِكَ لا تُدْخِلانِ هَذِهِ الجَمَاعَةَ إِلى الأَرْضِ التِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا " (عد20: 7-12).

وأصر الله علي أن موسي لا يدخل أرض الموعد، وبعد الحاح شديد وتوسلات.. سمح له الله، أن يري الأرض من بعيد، من علي الجبل، ولكن لا يدخل إليها (تث34: 1-6).

++ يعقوب أبي الآباء

يعقوب الذي أحبّه الرب وهو لا يزال في بطن أُمه قبل أن يولد (رو13:9)، وأعطاه الرياسة علي أخيه الكبير عيسو ( تك 23:25)، قد وقع في خطأ، إذ خدع أباه وأخذ البركة من عيسو... فلم يتركه الله بدون عقوبة، علي الرغم من ظهور الله له ( تك 30:32) والرؤى التي أعلنها له ( تك 28: 15،24).. إلاَّ أنه كما غش أباه سمح الله لأولاده أن يغشوه بالمثل، عندما باعوا يوسف وغمسوا قميصه في دم تيس ذبحوه وأشاعوا أنَّ وحشاً افترسه، ووقع يعقوب في خدعة أولاده حتي انه مزق ثيابه، وناح علي ابنه أياماً كثيرة ( تك 37: 31-34).

كما خدعه خاله لابان من قبل، وزوجه ليئة بدلاً من راحيل، التي كانت أحب إلي قلبه من ليئة ( تك23:29)، وغشّه أيضاً في أُجرته التي غيّرها عشر مرات ( تك41:31).

++ القديس موسى الأسود

كان في مبدأ حياته قاتلاً وقاسياً ثم تاب، وأتي إلي الدير حيث ترهّب ووصل في الحياة الرهبانية إلي درجة عالية جداً من القداسة حتي إنهم رسموه قساً، وصار مرشداً روحياً لكثيرين، وعموداً من أعمدة البرية المعدودين..

ولكن علي الرغم من توبته الصادقة، وكل هذه القداسة، وتعدد المواهب.. إلاَّ أنَّه عندما هجم البربر علي الدير، هربوا الرهبان ودعوا الأنبا موسي أن يهرب معهم، فقال: أنا أعلم يا أولادي أنَّ البربر سيقتلوني لأني قتلت كثيرين في شبابي، والكتاب يقول: من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ (مت52:26)، وحدث هذا فعلاًَ، وهجم البربر علي أنبا موسي وقتلوه...

ما ذكرناه هو بعض أمثلة للعقوبة الأرضية، وضعت كلها مثالا لتعليمنا، لئلا بحجة مراحم الله وحنوه وعطفه، نُقاد إلي الاستهانة والاستهتار، ونرتكب الخطية غير شاعرين بخطورتها، وفي محبة الله لنا ننسي مخافته.

هذا وقد رأيت ختاماً لموضوع (العقاب الأرضي)، أن أكتب تلك العبارة التي قد ذكرها قداسة البابا شنودة الثالث، ختاماً لحديثه عن العقوبة الأرضية في كتابه الرائع (حياة التوبة والنقاوة ص93)، يقول قداسته:

" ومع ذلك فلتعزيتكم، ولكي لا تقعوا في الرعب واليأس أقول لكم: إنَّ الله لا يُعاقب بعقوبة أرضية علي كل خطية، وذلك لأنَّ خطايا الإنسان لا تُحصي، وهو في كل يوم يُخطيء.. فلو كان الله يعاقب بعقوبة أرضية علي كل خطية، لتوالت العقوبات في غير نهاية، وبغير حصر لتُناسب عدد الخطايا.. ولكن الله يترك الكثير.. ووسط مئات الخطايا، قد يعاقب علي واحدة منها حتي لا يستهتر الإنسان، ويقع في اللامبالاة، وأيضاً لكي يتضع ويستفيد روحياً، كما حدث لداود النبي..

إنَّ العقوبة الأرضية هي ولا شك من مراحم الله.. يدعونا بها إلي اليقظة فنفيق من غفلتنا.. كما أنَّه يقودنا بها إلي الإنسحاق، فنشعر أننا أخطأنا، وأننا أغضبنا الله منا فنتوب ونرجع إليه.. وهكذا ننجو من العقوبة الأبدية، ليس لأنَّ العقوبة الأرضية قد حلّت محلّها، حاشا، بل لأنّها أيقظتنا لنتوب فنستحق المغفرة، إننا إن تألمنا هنا فهذا أفضل من آلام الأبدية فإن الأمر لا يزال بيدنا، فحتي هذه اللحظة ماذال في أيدينا أن نقرر مصيرنا.. ".

أما العقوبة في الحياة الأبدية فهي ما سيناله الخاطيء من العذاب المُرعب، الذي لا يحتمل بل ولا يطاق، ولا يستطيع الخاطيء نفسه أن يتخلص أو ينجو منه، فالآلام قاسية وليس من يشفق، والبكاء مرير وليس من يرحم، هناك يكون الجوع والعطش الشديد وليس من يطعم أو يسقي، وهناك أيضاً الخزي والعار الفاضح وليس من نقاب يستره.

فكل من يحيا في الخطية كمن يكوم كومة كبيرة من الحطب، ستلقي في يوم ما إلي كومة المواد الملتهبة التي ستشتعل يوماً بنيران دينونة الله، وفي هذا قال أحد الآباء: " بقدر ما تطعم النار مواداً ووقوداً هكذا يستمر إلتهابها، والمادة التي تشتعل بها نيران جهنم هي الخطية ".

إنَّ عذاب الخطاة حقيقة لكنها مرة وقاسية، ولا يستطيع أحد أن يصفها أو يُعبّر عنها، تصوروا مكاناً ليس فيه سوي أجساداً محترقة مغطاة بالقروح وغائصة في لجة نار وكبريت، وتأملوا أُناساً لا يرون سوي النار، ولا يشعرون إلاَّ بالنار، ولا يلمسون إلاَّ النار، ولا يسمعون سوي البكاء والصراخ وصرير الأسنان!!

قال أحد الآباء
إن كان المجد السماويّ يعلو أفكارنا، فعذاب الأبدية يفوق عقولنا، فعقل الإنسان محدود ولا يستطيع أن يتصوّر عدل الله القوي الجبار، لو كان العذاب مدة من الزمن ولو ملايين السنين لكان هناك أمل، ففي يوم ما سيكون هناك تنعم، لكن مرارة عذاب الأبدية تكمن شدته في أنَّه عذاب لا ينتهي.

وهذه الحقيقة أكدها رب المجد يسوع عندما قال: " فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ " (مت46:25)، ومعلمنا بولس الرسول يتحدث عن النقمة التي سينالها الذين لا يعرفون الله ولا يُطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح فيقول إنهم " سيعاقبون بهلاك أبدي " (2تس7:1)، والقديس يوحنا الحبيب أوضح أنَّ دخان عذابهم سيصعد إلي أبد الآبدين ( رؤ1: 11،10).

قديماً عندما أراد الله معاقبة سدوم وعمورة أنزل من السماء ناراً وكبريتاً، فأحرقها وأباد ما فيها، ولكن الذين أحرقتهم النيران ماتوا والنار إنطفأت، أمَّا نار غضب الله فإنَّها في جهنم لا تطفأ إلي الأبد، وأجساد الخطاة تحترق فيها علي الدوام، ولمَّا غضب الرب علي هيرودس الملك، ضربه ملاك الرب بدود فصار يأكله حتي مات، أمَّا اذزين سيأكل فيهم دود جهنم لا يموتون، كما أنَّ الدود نفسه لا يموت.

ليصف لنا الذين يتمرَّغون في وحل الخطية، ويشربون الإثم كالماء، عذاب النار التي لن تُطفيء نيرانها مطلقاً، والدود الذي لن يموت أبداً، إن كانوا يستطيعون!

إذا أراد ملك أن يقضي علي مدينة أحرقها بالنار، فليس في الأرض أعظم من عذاب النار، كما أنَّ الموت حرقاً يعد من أشر الميتات، ولكن هل يمكن أن تقارن نار العالم بنار جهنم؟! بالطبع لا! فنار العالم لا تُذكر إذا ما قورنت بنار جهنم، لأنَّ النار هنا تحرق الجسد وتلاشيه ثم بعد ذلك تنطفيء، وأمَّا النار فإنها تحرق الجسم ولكن لا تلاشيه ولا تنطفيء، كما أنَّها لا تقضي علي شعور الخطاة وأحاسيسهم، بل يبقي الهالك متيقظاً، منتبهاً لكل عذاب يقع عليه، شاعراً به شعوراً تاماً، وهذا هو قمة الآلام.

إنَّ الذين يقولون إنَّ عذاب الخطاة في جهنم، سيأتي عليه يوماً وينتهي، يخدعون أنفسهم، ويسكَّنون ضمائرهم، حتي يظلون في خطاياهم، لكنَّ الحقيقة إنَّ عذاب الخطاة لا ينتهي ولا يتغيّر ولا تخف حِِدته، بل كما يكون في بدئه هكذا يكون إلي الأبد، فالنار هي هي لا تتغير، والدود هو هو لا يموت.

علي جبل التجلي لم يرسل رب المجد يسوع، سوي قليل من أشعة مجده، فتأثر تلاميزه وسقطوا منطرحين علي الأرض، وفي بستان جثسيماني استطاع يسوع بكلمة واحدة أن يرعب الجند الذين جاءوا ليقبضوا عليه، وصاروا كالأموات، فإن كان عظم جلال هذا الإله المتأنس مخيفاً هكذا في الوقت الذي أظهر ذاته كمخلّص، فكم تكون رهبته في يوم الدينونة إذا ما صرخ هاتفاً كديان رهيب، متفوهاً بتلك الكلمات المخيفة: " اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ ؟ " (مت41:25).

في متحف أحد الملوك وجدت حبوب من القمح يرجع تاريخها إلي (5000 سنة) مضت، قيل إنَّها لو زُرعت لنبتت الآن ونمت، وحبوب القداسة والبر ليست ميتة فيك، لكنَّك لا تُعطيها المجال حتي تنمو وتثمر، لكن مع هذا لا يزال الوقت أمامك، وإن كان النهار قد تناهي لكن الفرصة لم تفلت بعد، فالذي غفر لكثيرين قادر أن يغفر لك خطاياك، ويشفيك من أمراضك الروحية.

لا يزال في مقدورنا أن نوقف نيران دينونة الله التي أوشكت أن تحل بنا ككارثة، وهذا لن يتحقق إلا إذا فكرت في وسيلة تتخلص بها من خطاياك، فاسمح لي عزيزي القاريء أن أقدم لك عدة وسائل، تساعدك أن تنهض من سقطتك وتتخلص من خطاياك.