مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 26 ديسمبر 2009

شهود ميلاد المسيح (2)

حنـّة النبية

رمز للإخلاص فى العبادة والالتصاق بالله عن حُب، لازمت الهيكل لا تفارقه قط، عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً، وفى الهيكل كم أحنت ركبتيها تمجيداً لخالقها! وكم سكبت ذبيحة صلواتها على مذبح الحب الإلهيّ عاشت بين جدران تسيل من حجارتها أصوات التسابيح والمزامير، وقد تعبّقت برائحة البخور، أرواح البشر تذوب فيها حباً لخالقها، فيها يشرب الإنسان من خمر السكينة والطمأنينة، لقد تجلى الهيكل متشامخاً في قلب أورشليم، وتجلى الله بحبه في قلب حنّة بنت فنوئيل، وهكذا يظل القلب الطاهر عرشاً لملك الملوك فالحوار بين السماء والأرضبين الله والإنسان لم ولن .

وأغلب الظن أن ضجيج الحياة، وصراع الغرائز، وتسلّط المادة، أشياء تشغل الإنسان عن سماع دقات الله في أعماقه! هل ندمت حنّة على سنين قضتها في الهيكل؟ لا! لا! لم يفشل القديسون ولم تخب آمال الأنبياء، ففي الهيكل عاشت مع الله، والله إيمان ورجاء، والعالم كفر وإلحاد، الله نقاء وعفاف، والعالم فسق وفجور، الله حق ووفاء، والعالم كذب ونفاق، فماذا خسرت بحياتها في الهيكل؟ وماذا لو عاشت في قصر تئن تحت وقع أسواط اللذة ونار الشهوات التي لا ينطفئ لهيبها؟ حيث يخلع البشر أثواب الحياء ويُغنّون للزمن ويسكرون بأصوات الطبول؟

يذكر الكتاب المقدّس عن حنّة أنَّها عاشت (84) سنة مُلازمة الهيكل (لو37:2)، فحوّلها الزمن إلى هشيم، وعزلتها هوة الشيخوخة عن البشر، وهجرها الأقارب والأصحاب، لأنَّها صارت من دنيا الأموات، ورقة صفراء عافها الشجر وهى تنتظر الخريف لتسقط، ولكن قبل الخريف أتاها الربيع بنسيمه العليل لتتنسم رائحة الحُب، فتنتعش روحها قبل أن تلفظ نفسها الأخير، لقد كانت تسكب اشتياقات قلبها على مذبح الحُب، تطلب من الله أن يجعل ملائكته تقص عليها حكايات الأزمنة والدهور، وتشرح لها خطة الأنبياء في نبواتهم عن المسيح ضمن السطور، وتكشف لها أسراراً استودعها في أناشيده داود صاحب المزامير، فقد حان لليالي السوداء الطوال أن تتمخض لتلد النور الذي اشتهت يوماً أن تراه وتكحل به عينيها، وقد كان ورأت النور!المجــوس أمَّا المجوس فهم طغمة كهنوتية علماء في الفلك والتنجيم، قضوا حياتهم في دراسة الظواهر الفلكية والحوادث المستقبلية وورد ذكرهم في سفر (دانيال2:2)بعد ميلاد المسيح جاءوا من المشرق ومعهم أكياس مليئة بالهدايا لذلك المولود، فقدموا ليسوع الذهب الذي سيذدريه، والبخور ليعلنوا أن طقوسهم الجوفاء على وشك الانتهاء، و المر الذي يُستخدم في تحنيط الأموات، لأنهم أدركوا موت ابن الإنسان! حوالي ألف سنة قبلهم جاءت ملكة سبا إلى اليهودية، تحمل الهدايا من ذهب وعطور، وقد وجدت على عرش إسرائيل سليمان الذي تلقنت منه أعظم التعاليم (1مل10)।.

المجوس

أمَّا المجوس ولهم من العلم والحكمة والشهرة أكثر مما للملوك والرؤساء، لم يجدوا سوى طفل صغير عاجز عن الحوار، ومع ذلك سجدوا تحت قدميه، طارحين على الأرض تيجانهم، ومقدمين هداياهم من ذهب ولبان ومر، في بلاد فارس لم يكن المجوس هو الملوك، بل معلمي الملوك فهم الذين يقودون الحكام، ويقدمون الذبائح، ويفسرون الأحلام، ويتنبأون بالغيبولم يكن ملك يقرر إعلان حرب إلاَّ بعد استشارتهم، وبصفتهم العارفين أسرار السماء والأرض، كانوا يُسيطرون على أبناء جنسهم باسم الدين والعلم، وكانوا بين شعب لا يعرف سوى الجسد أو المادة يمثلون جانب .

ولذلك كان لابد أن يسجد هؤلاء أمام المسيح، فبعد البهائم ممثلة الطبيعة، والرعاة ممثلون عامة الشعب، كان على سلطة المعرفة أن تسجد أمام مغارة بيت لحم، وبذلك أعلنت طبقة الكهنوت العريقة خضوعها للكاهن والمُعلّم الأعظم، الذي كان على الأمم الوثنية أن تتقبّل رسالته الجديدة، إنَّ سجود المجوس للسيد المسيح يعني، اعتراف علماء
اللاهوت القدامى بالمسيح وإيمانهم بلاهوته، وجثو المعرفة أمام البراءة، وارتماء الثروة عند أقدام الفقر يرى البعض أنَّهم كانوا كثيرين، يتقدّمهم ثلاثة فقط وهم الذين يحملون الهدايا، ولهذا السبب اضطرب هيرودس وجميع أورشليم معه (مت3:2)، والكنيسة تعتقد أن عددهم (12) وقد قال القديس يعقوب الرهاوي أنَّهم كانوا (12) ومعهم أكثر من ألف آخرين।والكنيسة اللاتينية تعد مجوساً ثلاثة أسماءهم هى:كسبار وملكيور وبلتازاروقال أنَّهم كانوا (8)، مستندين في ذلك إلى ما جاء في سفر ميخا النبيّ: " وَإِذَا دَاسَ فِي قُصُورِنَا نُقِيمُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ رُعَاةٍ وَثَمَانِيَةً مِنْ أُمَرَاءِ النَّاسِ (مي5:5)।

الأربعاء، 23 ديسمبر 2009

شهود مبلاد المسيح (1)


إنَّ شهود الميلاد كثيرين.. فها العذراء التي حملتْ جمر اللاهوت في أحشائها ولم تحترق! ويوحنَّا المعمدان الذي ارتكض فرحاً بالمسيح، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه! وهناك سمعان الشيخ الذي حمله على ذراعيه! وحنّة النبية التي عاشت مترملة 84 سنة، ملازمة الهيكل لا تفارقه قط بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً! هؤلاء غير الرعاة أول من زُفتْ إليهم بشرى الميلاد! والملاك الذي حمل إليهم البشرى! والملائكة الذين سبَّحوه يوم ميلاده! والمجوس الذين قدَّموا له هدايا من ذهب ولبان ومر.

يقول القديس كيرلس الأورشليميّ:
" ولادة ابن الله الوحيد بالجسد من عذراء ولادة بلا دنس، ولو عارض الهراطقة فإنَّ الروح القدس يلومهم.. وسيثور عليهم غبريال الملاك يوم الدين، ومكان المذود سيفحمهم، والرعاة الذين بُشّروا بالفرح العظيم سيشهدون، وجيش الملائكة الذين سبحوا الله.. والهيكل الذي حُمل إليه في اليوم الأربعين، وزوجا الحمام اللذان قُربا، وسمعان الذي حمله على ذراعيه، وحنّة النبية التي حضرت تلك الساعة ".

يوحنَّا المعمدان

لست أعلم إن كان هناك قصصاً كثيرة، تُثير الإنسان وتهز مشاعره وتلهب ضميره، مثل قصص المتوحدين الذين شقّوا طريقهم في أماكن خطرة، في البراري حيث سكنوا المغائر والكهوف، وقد كان المعمدان واحد من قلة نادرة عاشت حياة الشظف والجوع والعطش॥ شهد له السيد المسيح بأنَّه أعظم مواليد النساء (مت11:11)، وكيف لا يكون عظيماً وقد اكتشف الحبل الإلهيّ وهو جنيناً في بطن أمه! فقد فسَّر الآباء ارتكاض يوحنَّا وهو جنين في بطن أُمه (لو41:1) على أنَّه سجوداً للمخلص، وهذا ليس بغريب إذ قيل أنَّه " مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ " ( لو15:1)। لقد أحس بالروح أنَّ ما تحمله العذراء في بطنها، هو المسيح الرب الذي ينبغي له السجود والإكرام، وفي هذا تبكيت لقلوبنا الصخرية وأفكارنا المشوشة، التي تطلب المزيد من الأدلة على تجسّد ابن الله! ومع هذا نقول: إنَّ سماء الكتاب المقدس مرصّعة بالنجوم، وهى تتلألأ لترشد التائه في القفر إلى الله!

والحق إنَّ سجود المعمدان كان بمثابة عظة صامتة، تُلقّن الإنسان درساً في قدرة الله العجيبة، على تحويل الحياة إلى صلاة وسجود! فإن كان أروع ما في الطبيعة صمتها الساحر وجلالها الخاشع: صمت الغيوم في القبة الزرقاء، صمت الثلوج على الجبال، صمت الينابيع داخل الصخور، صمت الندى على الزهور، فإنَّ أروع ما في دنيا الروح: صمت الحياة الخاشعة، والركب الراكعة، والأياديَّ الضارعة، والدموع الصامتة، والقلوب الهائمة التي تُصعد حبَّها بخوراً لله في زفرات متقطعة॥

لقد كان المعمدان أمير النساك، ونبي الأطهار، ولكن هذا العظيم وقف أمام المسيح مكشوف النفس، عارياً يطلب غطاءً يستتر به، يلح على الاعتراف والتوبة لنفسه " أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (مت14:3)، فنظرات يسوع قد نفذت إلى أعماقه برهبة وحلاوة، فانخفضت عيناه الناريتان، وانعقد لسانه الذي طالما وبّخ ملوكاً وعظماءً।

الرعــاة

على مقربة من بين لحم، وبينما كان الرعاة الأتقياء يعيشون في البادية بعيداً عن العالم وملذاته، ساهرين على قطعانهم لحراستها من الذئاب واللصوص، ظهر ملاك الرب بغتة ليزف لهم بشرى الميلاد المفرحة، فاضطرب الرعاة وكان لابد أن يضطربوا، لأنَّهم لم يروا من قبل منظراً مهيباً كهذا، زاده جلالاً حدوثه فى الليل والقفر واقترانه ببهاء الملاك وهيبته، ولهذا قال لهم الملاك: " لا تخافوا "، هكذا فعل مع زكريا الكاهن ومريم العذراء (لو1: 13،30)، ثم بدأ يُعلن لهم البشرى المفرحة، بهذا يكون الرعاة هم أول من بُشروا بميلاد المسيح، الذي قال: " أنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ " (يو11:10)، ولأنَّ الراعيّ أول من يعرف بميلاد الحمل، هكذا أيضاً الرعاة هم أول من بُشّروا بميلاد حمل الله، الذي جاء ليرفع يرفع خطايا العالم كله (يو29:1)। لكنَّ المسيح إن كان حملاً قدّم ذاته ذبيحة عنا، إلاَّ أنَّه كان أيضاً لا يزال راعياً يرعى البشرية بتعاليمه المقدَّسة في مراعى حبّه، ولابد أنَّ الرعاة كانوا أتقياء مثل: إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود॥ وإلاَّ ما نالوا هذا الشرف العظيم! كما أنَّهم شابهوا الرسل الذين تعبوا في رعاية المؤمنين، وهكذا يبقى الراعي صالحاً إن قاد خرافه إلى المراعي الخضراء، ولم يدعها تهيم فوق الأراضي الجرداء!

ومما يُلفت النظر أنَّ الملائكة لم يحملوا بُشرى الميلاد للعلماء أو الملوك أو الأغنياء.. بل لرعاة! ما يُميّزهم هو سهرهم على القطيع! فقد انتهى الوقت الذي يوضع فيه ميزان للبشر! ألم يقل داود النبيّ: " والمَسَاكينْ يُبشَّرونْ " (مز4:72)، في بساطة ذهب الرعاة ليروا المولود (لو15:1)، فرجعوا مؤمنين مع أنَّهم لم يروا سوى طفلاً مُقمّطاً وموضوعاً في مذود حقير! ولكنَّهم أمام صوت الملاك الذي بشرهم سكتت عقولهم وتركوا إيمانهم يتكلّم، وبهذا أعطوا اليهود أعظم درس في الإيمان البسيط، الذي لا يعوقه فلسفات البشر، ويُقدّم لنا مارِ أفرآم السريانيّ، صورة مبهجة للقاء الرعاة بالطفل الراعيّ فيقول: " جاء الرعاة حاملين أفضل الهدايا من قطعانهم: لبناً لذيذاً ولحماً طازجاً وتسبيحاً لائقاً.. أعطوا اللحم ليوسف واللبن لمريم والتسبيح للابن.. أحضروا حملاً رضيعاً وقدموه لخروف الفصح، قدموا بكر للابن البكر، وضحية للضحية، وحملاً زمنياً للحمل الحقيقيّ.. ".

سمعان الشـيخ

مشت مريم على الدرب الطويل الصاعد من بيت لحم إلى أورشليم ، تُطوّق بذراعيها دُرّتها الثمينة، ويدخل المسيح الهيكل طفلاً لا تحمله مركبات ولا تواكبه جيوش، لكن كان في استقباله على مدخل الهيكل حشد كبير، من أنبياء وأبرار يمثلهم رجل صديق يُدعى سمعان الشيخ.

لقد جالس سمعان الكهنة والعلماء مستفسراً معاني التوراة الخاصة بالملك المسيح॥ وكم كانت أحلامه تسيل على الذبائح والقرابين، فرؤية مشتهى الأجيال حلم راوده مدى الحياة، وفى يوم ليس له نظير ولن يتكرر ثانية في التاريخ، يصعد إلى الهيكل ليرفع صلاته ويقرب بخوراً لله॥ وإذ به يُلاقي أُمّاً يشعْ من وجهها بريق طهارة عجيب، وتضم إلى صدرها طفلاً رضيعاً كأنَّه قطعة من نور، وإذا بالروح القدس يكشف له سر الوليد الإلهيّ ويكشف له عمَّا سيلقاه، فأحس سمعان بقوى الشباب تعود إليه ومعها شعلة الإيمان والرجاء، فأخذ الصبي بين يديه وراح يدهن بنور بهائه عينيه الضعيفتين اللتين أذابتهما الأيام، وكأنَّ عيون الآباء والأنبياء التي أغمضت على ذلك الرجاء، تنضم إليه لتكتحل هى أيضاً بذلك السناء، فلا عجب إن هتف البار مترنحاً بنشوة الظفر والخلاص، مترنّماً بعظائم الله (لو29: 2)، فكان نشيده شكر لله الذي أنجز وعده متجسّداً من عذراء وأصبح في حوزة يديه! ونشيد إيمان لأنَّ عينيه تكتحلان الآن بنور الأبدية، وتجعلانه ينظر مسبقاً خلاص الأمم الذي سيتم على يد هذا الوليد السماويّ، ونشيد تعزية لأنَّه انتصر على الخطية وقوات الجحيم وآمن أن نصيبه سيكون مع المفديين! وهو الآن ليس بنادم على عمر طواه فى خدمة الله، لقد أراق عمره سكيباً على مذبح الحُب الإلهيّ، وقد كافئه الله بمعاينة ابنه في غروب حياته! يُخيّل إلىّ أنَّ سمعان بعدما سبّح الله تغيّر وجهه، وامتد بصره إلى الأُفق البعيد وأطال الإمعان، وكأنَّه يقرأ سفراً عتيقاً، ثم دفع الطفل إلى أُمه وقال والحزن يتموج بين كلماته: وأنتِ سيجوز في نفسك سيف، يوم أن يُرفع ابنك على العود ويُصلب الحب على الصليب، فبين الحب والكراهية حرب، والعالم ظلمة فيها يعبث الأشرار وابنك نور ساطع البهاء، يكشف الأسرار ويقلق الأفكار... ولِذا سيكون نصيبه الموت! فأحنت مريم رأسها، وقدمت تقدمة حبّها لله وقالت: ها أنذا أمتك يارب لتكن مشيئتك

السبت، 12 ديسمبر 2009

بيت لحم قرية ميلاد ملك الملوك



هى قرية صغيرة من تلك القرى الفلسطينية المتناثرة على التلال، تُحيط بها أرض مزدانة بكثير من الأشجار والنبات، أمَّا ينابيعها فيتدفق منها ماء عذب، اشتاق داود النبيّ أن يشرب منه مرّة، وهو على بعدٍ أثناء حربه مع الفلسطينيين، يقول الكتاب المقدّس " فَتَأَوَّهَ دَاوُدُ وَقَالَ: مَنْ يَسْقِينِي مَاءً مِنْ بِئْرِ بَيْتِ لَحْمِ؟ " (2صم15:23).

معناها " بيت الخبز "، وقد دُعيت هكذا لخصوبة أرضها، التي تفيض بالثمر وبخاصة الكروم والزيتون، وهكذا شاء الله أن يولد خبز الحياة النازل من السماء فى بيت الخبز، لكي يأكل منه كل جائع إلى البر فيحيا حياة أبدية (يو54:6).

في زمن يعقوب دُعيت " أفراتة " أو " أفراثة "، وفي هذا يقول مار يعقوب السروجيّ: " اسم أفراتة تعني بيت لحم لأنَّ الحياة نزل من السماء وحل بمكانها، ها في بيت لحم خبز جديد لجياع الأرض "، ولكن بعد غزو كنعان، دُعيت بيت لحم اليهودية لتمييزها عن بيت لحم زَبولونْ.


وتأتي أول إشارة إلى بيت لحم فى الكتاب المقدس، في مكان ذُرفت فيه الدموع، فهناك نلمح على الطريق المؤدي إليها قافلة تسير متباطئة قد أناخها الحزن، وفي القافلة شخصان: رجل وامرأة، والمرأة تعاني سكرات الموت، إنَّهما يعقوب وراحيل اللذين ارتحلا من بيت إيل إلى بيت لحم لتموت راحيل وتُدفن في هذا المكان المقدس (تك16:35-20).

فأول لمحة عن بيت كانت للدموع! ثم سرعان ما تغير المشهد، لنرى بيت لحم مكاناً للحُب البريء، فقصة الحُب الجميلة بين بوعز وراعوث، نُسجتْ خيوطها الذهبية في بيت لحم، فدخلت القرية الحقيرة التاريخ، بعد أن امتلأ جوها بعبير الحُب الساميّ أحد ينابيع الوجود!

ومن هذا الحُب الفريد الذي ترعرع تحت سماء بيت لحم وبين أزهارها، جاء داود النبيّ الملك العظيم، فقد كان مسقطه بيت لحم (صم12:17)، وفيها أيضاً مُسح ملكاً (1صم13:16).

وظلت الأجيال تتعاقب، والرجاء يقوى، وفى وسط هذا الشعور الغامر بقرب مجيء المُخلّص، يأتي ميخا النبيّ بنبوة واضحة عن ميلاد المسيح في بيت لحم فيقول: " أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (مى2:5).

هذا وقد ذكر لنا الكتاب المقدس أنَّ رحبعام ابن سليمان حصنها (2أى6:11 )، كما جاء في كتب التاريخ أنَّ يوستنياس قد رمم أسوارها. وفى سنة (330م) بنت الملكة هيلانة فوق المغارة، كنيسة تُدعى الآن باسم " كنيسة المهد "، وهكذا شاءت حكمة الله أن يولد المسيح في بيت لحم رغم أنَّ العذراء كانت تسكن الناصرة! فما هى قصة الميلاد العجيب؟

أصدر أُغسطس قيصر أمر بإحصاء رعاياه فى أنحاء المملكة الرومانية، فقد كان أباطرة روما عشّاقاً لفنون تعذيب البشر وإذلالهم، ومن صور هذه القسوة الأمر الذي كان يصدره الحاكم عندما يعتلي العرش، وهو إحصاء الشعوب التي تخضع له وتؤدي الجزية، وقد كانت الأمة اليهودية خاضعة للسلطة الرومانية في ذلك الوقت.

يصدر الأمر فتتحرّك الشعوب زاحفة إلى حيث مسقط رأسها، لتُسجل أسماءها في دفاترها وأيضاً مهنتها وثروتها، فتسهل جباية الضرائب، ومن ناحية أخرى يتعمّق في وجدان الشعوب الزاحفة الإحساس بالضعف والمذلة، ويتعمق في وجدان أباطرة روما كبرياء الأقوياء وغرور المستبدين!

وما أعظم الفرق بين موكب الأُسر الكادحة الزاحفة في خوف وقلق ومشقة، تحمل متاعاً قليلاً ومعه أحزاناً كثيرة، و بين موكب الحاكم الرومانيّ، وهو يتحرك في عربة فخمة مذهّبة ومُجهزة بكل وسائل الراحة، تُحيط بها جمهرة من الجند حاملي السلاح، لكي يشيعوا مزيداً من الخوف في قلوب البائسين.

صدر الأمر فانطلق الجميع، كل واحد إلى مدينته، فصعد يوسف من الجليل إلى اليهودية، من الناصرة إلى بيت لحم ليكتتب مع مريم امرأته (لو4:2)، وما هذا الصعود إلاَّ إعلان واضح أنَّ المسيح قد نزل من السماء ليرفعنا من الأرض إلى السماء.

ويتأمل القديس يعقوب السروجيّ في قصة الاكتتاب فيقول: " خرج الأمر أن يكتتب كل واحد اسمه في بلده، فكان يجب أن يكتب ابن الله اسمه في سما السموات، لكنَّه شاء أن يولد في بيت لحم لكي يكتب بميلاده أسماء الناس في سفر الحياة ".

انطلق موكب المكتتبين، النساء تلفّهم الأوشحة السوداء وكأنَّهم ليل يسير في بطء شديد، والرجال وقد أحنى الفقر أعوادهم الصلبة وغمر العرق جباههم المرهقة، وعلى مشارف بيت لحم تفرقت العائلات، فهناك من ذهبوا إلى الأقارب والأصحاب، ومن مَلَكَ بعض المال ذهب إلى الفنادق الرخيصة، أو إلى بعض المنازل التي حوّلها أصحابها إلى فنادق مؤقتة..أمَّا يوسف ومريم فمضيا إلى مغارة على أطراف المدينة فوق تلٍ لأنَّهما من الفقراء!! ولا تزال بيت لحم تُحيط بها المغائر والكهوف، يترك فيها الناس بهائمهم في أوقات الازدحام ومواسم التجارة والأعياد.

ويبقى السؤال الحائر بلا إجابة واضحة: أين ثروة الملك داود؟! أليست العذراء أعظم ثمرة في تلك الشجرة الملوكية؟! قد لا نعرف كيف فقدت الأسرة ثروتها، لكننا نعرف أنَّ حضارات الشعوب، صنعها هؤلاء المخلصون المجاهدون، العاملون بأمانة في صمت عظيم، وهكذا عاش المسيح الحياة بعد أن حررها من آلام الغنى، فكانت حياته بسيطة لا يشوبها الطمع أو تمزقها الأنانية أو يرهقها الجشع، وقد رضي بالقليل لأنَّه امتلك غنى النفس!

وفى لحظة هى أعظم لحظات الوجود، صرخ طفل ليس له قط نظير، معلناً عن مجيئه إلى عالمنا ليفصل بين زمنين، إنَّه يسوع! لقد أتت مريم بكائن فريد ليس كباقي الأطفال، فكل يوم يشق الفضاء صوت القادمين من الغيب إلى هذا العالم، ولكل كائن آتٍٍ إلى العالم دعوة ورسالة للحياة.. ولكن ما أعظم الفرق بين هذا وهؤلاء!!