مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 8 ديسمبر 2018

أنشودة الميلاد


لقد ولِدَ أنبياء وملوك كثيرين.. لكنَّ السماء لم تزفهم كما زفت المسيح يوم ميلاده العظيم، فالملائكة أبت أن تترك رئيس جند السماء وحده، فتركت مسكنها ونزلت إليه لتُعلن عن بهجتها بميلاده العجيب! فأشرقوا بنورهم وشقوا ببهائهم الظلام، تقدّمهم الضياء وصار قدامهم اللمعان، فحوّلوا الليل نهار والأرض سماء، وأعلنوا أنَّ ابن الله جاء ليضئ على الجالسين في الظلمة، وليطرد بنوره السماويّ جيوش الظلام المعادية، وامتلأ الهواء المفعم بالغيرة والحقد والكراهية، امتلأ بذبذباتهم الروحية، وتمايلت الأغصان متهلّلة عندما عزفوا على قيثارات الحُب تسابيح المجد والسلام والسرور.


المجد لله في الأعالي

لقد مجّدت الملائكة الله الساكن في الأعالي، لأنَّها رأت شيئاً عجيباً لم تره من قبل، لنتأمل إلهاً قدوساً منزهاً عن كل شر وقادر على كل شيء، يترك الأحضان الأبوية والأمجاد السماوية... ليشترك معنا في الطبيعة البشرية، بادئاً حياته في حقارة المذود، ألا يستحق هذا الإسراف في التصاغر أن نتعجب ممجدين الله؟!
لقد رأت الملائكة الشمس تقف بواسطة يشوع بن نون، ولكن هاهم الآن يرون شمس البر خالقهم قد وضع في مذود حقير للبهائم! رأت العُليَّقة مشتعلة بنار ولم تحترق ، وهاهم يرون اللاهوت متحداً بالناسوت دون أن يمسه بأذية! قد رأوا عصا هرون اليابسة تُخرج أزهاراً، والآن يرون عذراء تحبل وتلد بغير زرع رجل! معجزات كثيرة وغريبة رأوها، ولكنَّهم الآن يقفون أمام أُعجوبة العجائب وسر الأسرار، الأمر الذي يستحق أن يهتفوا له قائلين: المجد لله في الأعالي!
غير أنَّ بيت لحم إحدى زوايا الأرض الحقيرة تُرينا مشهداً عظيماً يُذيع مجد الله، ففيها نلمس الضدين: الإله الأزليّ الغير محدود متَّحداً بجسد بشريّ! ومولود من عذراء لا في قصر بل في مذود للبهائم! فهل خسر الله بعضاً من عظمته في تنازله واتّضاعه؟ كلا! وهل خسر شيئاً من محبته في رأفته ورحمته وغفرانه؟ لقد غزا يسوع قلب الإنسان وامتلكه إلى الأبد بحُبّه وحنانه، وانتزع كبرياءه بتنازله واتّضاعه، فلولا تواضع المذود ومذلّة الصليب لَمَا عرفت أنَّ الله محبة فانجذبت بمحبته، ولولا تواضعهما ما جثوت على ركبتي أمام حقارة مذوده.
لا نُنكر أنَّ أيَّة مدينة تسمع بقدوم رجل عظيم تستعد لاستقباله، ولكن بيت لحم كانت تجهل أمر ملك الملوك يوم مولده، ولم تجهّز له مكان لائق بعظمته، وبينما كان الأغنياء يتنعمون في قصور طُلت جدرانها بالذهب، كان سيد الكون غريباً في عالم ملكاً له، وعندما لم يجد مكان بين الناس نزل ضيفاً على مملكة الحيوان، لأنَّه كان يعلم أنَّ الإنسان الذي على صورته خلقه سوف يهينه ويرفضه وبأيدي الأثمة سيصلبه ويُميته، ولكن ألم يأتِ أباطرة روما وفراعنة مصر وملوك العالم ليسجدوا له أمام مذوده؟
لقد تواضع ابن الله ونزل إلىّ ليرفعني إليه، ولهذا لا يسعني سوى أن أهتف مع الملائكة قائلاً بصوت ملؤه الحب : " المجد لله في الأعالي ".

وعلى الأرض السلام

كان السلام سائداً يملأ أركان الفردوس وذلك قبل السقوط، ولكن منذ أن دَخَلتْ الخطية العالم نُزع السلام، وملأ الخوف قلوب البشر، ألم يحيا الإنسان مع الله فرحاً، وماذا بعد السقوط؟ أصبح يخشى التطلّع إليه حتى إنَّه عندما ناداه " أيْنَ أَنْتَ؟ " قال آدم: " سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ " (تك10:3).
وبعد طرده من الجنة، شهر ضدّه سيف الكروبيم (تك4:3)، فاشتد قلق الإنسان وفقد طعم السلام، ولم يعد الله يُعلن ذاته إلاَّ في وسط لهيب النار، حتى إن بني إسرائيل لما رأوا الجبل مضطرماً عند ظهور الله في جبل سيناء قالوا لموسى: " تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ " (خر19:20).
وهكذا اعتقدوا أن رؤية الله لا يلحقها سوى الهلاك ولا سيَّما أن الله صرّح قائلاً " لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ " (خر20:33)، أتتذكرون قول منوح أبو شمشون " نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللَّهَ! " (قض22:13).
ومع أن الله قد وضع ناموساً عادلاً، إلاَّ أنه زادهم خوفاً واضطراباً، لأنَّه كما قال مُعلّمنا بولس الرسول: " لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ " (أع10:15)، حتى الذبائح التي تكفر عن الخطايا كانت تُذبح ، فكانت السكين متعطشة دائماً لسفك الدماء! وكل هذا إعلان عن زوال السلام حتى إنَّ الرؤساء كانوا يُنادون: " سَلاَمٌ وَلَيْسَ سَلاَمٌ " (حز10:13)، وقال إرميا النبيّ: " لَيْسَ سَلاَمٌ لأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ " (إر12:12) .
وظل الحال هكذا طوال مدة العهد القديم، فكان الجميع يرجون إتيان ملك السلام لكي يُعيد الطمأنينة إلى قلب الإنسان، وقد رأوه كثيرين بعين الإيمان من بعيد، مثل إشعياء النبيّ الذي قال: " لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّا ًرَئِيسَ السَّلاَمِ " (إش6:9) .
أمَّا الأمم الوثنية فكانت لا تقل عطشاً عن اليهود، وذلك بعد أن رأوا ضعف آلهتهم، وعجزها عن تغذية أرواحهم ونزع الخوف من قلوبهم! إلى إن ظهرت ملائكة الرب من السماء، لتُعلن أنَّ كلمة الله قد نزل من السماء، ليُعطي الأمم خبز الحياة ليأكلوا ويشبعوا ويمتلئوا سلاماً.
قال ناحوم النبيّ: " هُوَذَا عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَا مُبَشِّرٍ مُنَادٍ بِالسَّلاَمِ " (نا15:1)، وقال زكريا النبيّ: " وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ " (زك10:9)، أما إشعياء النبيّ فيقول: " مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ " (إش7:52)، وعند دخوله أورشليم هتف الأطفال قائلين: " سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي! " (لو38:19).
ولأنَّ المسيح جاء لينشر رسالة السماء على الأرض، قال لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء: " سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ، سلاَمِي أُعْطِيكُمْ " (يو27:14)، ويُعزّينا أحد الآباء بقول رائع يقول: " لمَّا فارق يسوع العالم ترك نفسه للآب وجسده ليوسف وثيابه للعسكر وأُمَّه ليوحنَّا، وأمَّا أولاده المؤمنين فترك لهم سلامه لا منصباً ولا غنىً ولا شرف، لمَّا أخطائنا فارقنا السلام ولمَّا أتى المسيح جاءت الملائكة تُعلن عن عودة السلام ".

وبالناس المسرة

لقد سُر الله بنا وأعلن محبته لنا بميلاد ابنه الحبيب! وهذا يدفعنا أن نقول مع مُعلّمنا بولس الرسول: " اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً افْرَحُوا " (فى4:4)، حقاً إنَّ التجسّد لا يمنع الجروح البشرية التي تُحزن قلب الإنسان، إلاَّ أن هناك جروحاً لا يُعالجها إلاَّ وليد المذود، أو تشفيها سوى الأيدي الطاهرة التي ثقبتها المسامير!
ولهذا يجب أن يفرح الخاطيء لأنَّ يسوع جاء ليلقى بخطاياه في بحر النسيان، وليترنم الحزين الباكيّ فقد ولد من يُعزّيه ويُحوّل دموعه إلى حبَّات لؤلؤ، وليُشبع الجائع لأنَّ خبز الحياة الحقيقيّ ولد في بيت لحم بيت الخبز، وليرتوي العطشان لأنَّ ينبوع ماء الحياة قد تفجر ليروى أرض قلوبنا القفرة!
المتألمون والمعذبون، المرضى والحزانى، البائسون واليتامى... ما أكثرهم في الكون! أناتهم تتعالى في كل لحظة وتشق عنان السماء، تتصاعد من الأكواخ والقصور، من الصحارى، من المستشفيات.. وراح الناس يتساءلون منذ القدم عن حل لمشكلة الألم! تعددت الحلول واختلفت المذاهب وتضاربت الآراء.. غير أن الإنسان لم يجد الحل إلاَّ عند مغارة بيت لحم حيث ولد المسيح، لكي يبدأ حياة هى في الحقيقة رحلة مع الآلام!
فمنذ أن ولد المسيح ومات على الصليب، وقد امتلأت عيناه من دموع الفقراء والمساكين، تغيّر وجه العذاب وأصبح الألم صليباً ذا جناحين بهما يطير الإنسان ليحلق في أمجاد السماء! فكم من دموع حُبست على ضفاف الجفون تحوّلت إلى حبَّات لؤلؤ على جبين المتألمين بعد أن عرفوا المسيح! وكم من أجساد قلّمتها أيدي الكرام الإلهيّ فجاءت بأجود العناقيد!
فيا كنيسة المسيح اذهبي إلى بيت لحم لتبتهجي، هيا أيها الشيوخ مع سمعان لتروا قديم الأزل قد ظهر ليسند ضعفكم! تعالوا أيها الرجال لتشتركوا مع يوسف النجار في خدمة سيده! وأنتن أيتها العذارى افرحن كما فرحت أُمه البتول! أيها المسيحيون افرحوا جميعاً كما فرحت السماء لأنَّ الباب المجد قد فُتح، وخرجت أشعة السماء منه لتملأ الأرض دفئاً روحياً واستقراراً نفسياً.
وأنت يا طفل بيت لحم، يا وليد المذود، حوّل أحزاننا إلى مسرّة، أرجع بصوتك الحنون الحياة إلى قلوبنا المائتة، وبلمس يدك الطاهرة النور إلى أجفاننا الممتلئة بالدموع، وأنت يا نجم بيت لحم، أشرق بلمعانك وقدنا إلى حيث يسوع مضطجعاً، لكي نهتف مع الملائكة قائلين:

المجـد لله فـي الأعـالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسـرة.

أجمل مشهد وديع الصافى يبكى اثناء مشاهدتة ترنيمة قدوس التى اداها بصوتة -


الطفل سمسم عادل 4 سنوات يرنم ودا من حنانه ليا


الطفل يتعلم بالتقليد وليس بالكلام


الصليب يتلألأ في السماء منظر رائع


الحـــب الإلهــي


الحـــب الإلهــي
هل أستطيع أن أتحدث عن الله أو أصف حبه ؟! لابد أولاً أن أُطهر شفتى بالنار المقدسة، وأزيح عن قلمى تلك الغبار الملوثة، وأشد أوتار قلبى الذهبية وخيوط أفكارى الفضيةلكى تعطينى القواميس الإلهية كلمات روحية ذات أحرف نورانية، أصف بها حب ربى.

كيف أُصور شعلة روحانية، تنبثق من قدس الأقداس، لتسقط على الخليقة كلها، لا تميز بين بار وشرير؟! أو أصف نهـراً بلورياً يسير متدفقاً، مترنماً، حاملاً في أعماقه أسرار السماء؟! أو أتحدث عن شعلة سمائية مقدسة، تلتهم الهشيم وتنير الطريق أمام الضعيف والبائس والمسكين؟!

من يستطيع أن يصف شمس البر وهو يختفى فى صدر الحياة المظلمة؟! أو زهرة السماء وهو يُسحق تحت الأقدام القاسية؟! أو شجرة الحياة  المثمرة، وهو يٌقطع من أرض الأموات، لكى تحيا البشرية المائتة بموته؟! أخشى أن تصير كلماتي كخيوط العنكبوت الواهية، أو كأوتار قلب ضعيفة لا تُعطى نغمات جيدة.

 أمام عظـم محبته، يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون جميعهم على جبلٍ عالٍ، صامتين مصغيين، إلى صوت الحب وهو يقول لقاتليه : " يا أبتاه أغفر لهم " !!
وهكذا تحولت الكلمات في فمي إلى ألفاظ متقطعة، والأنغام في صدري إلى سكينة، فقلت أُسكت يا قلمي فمن أنت حتى يسمعك الفضاء الهواء المثقل بالهموم والعويل، ولكن أى إنسان لم يرتشف من كأس حبه في إحدى كاساته ؟ أى زهرة لم يسكب الصباح قطـرة من الندى بين أوراقها؟

إن شعلة نارية أوقدتها السماء بين رماد قلبى وقد ألهبت قلبي، وما علىّ إلا الكلام ولماذا نصمت كالموت الأخرس وأنفاس الحياة لا زالت فينا ؟! ألم يقـل الكتاب: " أما سر الملك فخير أن يُكتم وأما أعمال الله فإذاعتها والاعتراف بها كرامة " (طوبيا12: 7)!

حتى وإن ابتلعت اللجة نغمة العصفور، ونثرت الرياح أوراق الورود، وسحقت الأقدام كأس البركة.. فالشعاع الذى أنار قلوبنا لهو أقوى من الظلام ! وإن فرقت العاصفة الهوجاء على وجه هذا البحر الغضـوب أقوالنا، فالألوان الطاهرة على الشاطئ الهادئ سوف تجمعنا، وإن قتلتنا الحياة فذاك الموت يحيينا !

ربي يسوع




ربي يسوع

أريد أن أُحبَّك قبل أن أطير وأرتمي في حضنك، كيف أعيش معك إلاَّ إذا كنت من الآن أُحبّك؟! فإن كان الشوق إلى حُبّك عذباً هكذا فكم يكون عذوبة امتلاكه؟!


قالت " قطعة الجليد " وقد مسّها أول شعاع من أشعة الشمس فى مستهل الربيع: أنا أُحب وأنا أذوب وليس فى الإمكان أن أحب وأوجد معاً!! فلابد من الاختيار بين: وجود بدون حُب وهذا هو الشتاء القارس، وحُب بدون وجود وهذا هو الموت فى مطلع الربيع، وها أنا أريد أن أذوب فى ربيع حياتى، حُبّاً فيك يارب ورغبة فى خلاص إخوتى، فهل أستطيع أن أحمل قارورة حُبّي عالياً لأقطرها بلسماً على جراح البشرية؟!

أنا لا أُريد من الحياة سوى أن تطبع صورة حُبّك على شمع قلبي، لكى يرى الناس جمالك ويتقدسون عندما ينظرون إلىٍ ضعفى، أريد أن يتنسموا رائحة البر والتقوي في حياتى فاغرسني وردة صغيرة فى بستان الحُب الإلهي، إجعلني عصفوراً صغيراً يخلب بتغريده مسمعك، ولا تدع ضباب العالم يحجب سماء حُبّك عني، أو رياح الشـر تُحرّك المياه الساكنة التي يتحرّك فيها زورق حياتي!
أؤمن أنَّ قلبي صحراء جافة، ولكنَّك وسط الصحراء القاحلة كنت تختلي على قمم الجبال لتُصلّي، وكأنّك تمسك بيدك السماء والأرض لتجمعهم فى ذاتك، فمد يدك إلىّ وأصعدني من وحل الأرض، لأنّي أُريد أن أكون بقلبي قريباً من عرش حُبّك.

سوف ألقى أزهاري لأُعطّر بأطيابها عرشك الأقدس، فاجمع ورودي المنثورة وقدّسها بين يديك الطاهرتين، وألقها على مذبح الحُب، لكي تفوح رائحتها أمام مجدك! إسمح لي يا رب أن أُحدّق في شمسك النورانية، لا لكي أحترق بل لأستدفئ بأشعة حُبّك، حتى أطرد من قلبي برودة العالم.

من الآن لا أخاف الهواء ولا المطر، وإذا أتت سُحب كثيفة تحجب كوكب الحُب عنى، سأفرح ولن أفقد ثقتي في حُبّك، لأنّي أعلم أنَّ وراء السحب لا تزال شمسك الجميلة مضيئة، وستسطع بعد قليل لكي تبددها بأشعتها الذهبية!

أعلم أنّك تُحِبّني ولكنى لازلت ألهو بعيداً عنك، وها أنا الآن أتألم، لقد تألمت قطعة النسيج من نول النسّاجين، وهى الآن تُريد أن تزداد جمالاً، بأن تطوف بها بألوانك الجميلة وريشة حُبّك الطاهرة المغسولة بماء السماء لترسم صورة من تُحِبّه نفسي، فأنا لا أريد إلاَّ رسم الحُب حتى تتقدّس النفوس برؤياك! فاسمح لي أن أُترجم أشواقي ومشاعري، وأكتب للنفوس التائهة أسرار حُبّك، حتى يأتوا إليك ويتمتَّعوا بحُبّك مثلي!


آباء من الدير المحرق


الراهب عبد مريم الحبشي (رؤى تتحقق)
روى الأنبا لوكاس العلامة في كتاب: بلوغ المرام في حياة خليفة الأنبا أبرآم (ص222- 224) الآتي: كان راهب حبشي على جانب عظيم من التقوى والورع اسمه عبد مريم (جبرا Gabra مريم بالحبشي) عاش في ديـر الأنبا تكلا هيمانوت بالحبشة مدة، ثم ذهب إلى القدس، وأخيراً استقر في الدير المحرق وكان عمره خمسين عاماً، وقبل نياحته مرض وكان القس يوحنا الحبشي يقوم بخدمته، وقبل نياحة القمص ميخائيل البحيري بخمسة عشر يوماً، رأى رجلاً طويل القامة جميل المنظر ذا شعر أصفر يقول له: بعد خمسة عشر يوماً ستسافر إلى أورشليم فأين الباسبور؟ فأجاب: إنّي مريض ولا أقوى على القيام لأعطيك إيَّاه فها هو في الطاقة التي خلفك! وعندما جاء إليه الراهب يوحنا سأله: هل دفنتم القمص المتنيح؟ فأجاب: ومن أعلمك؟! فقال: سمعت أنغاماً موسيقية وترانيم شجية كأنها تملأ الدير، ومنادياً ينادي بأنّه قدّيس ومختار! وقد تنيح الراهب عبد مريم بعد خمسة عشر يوماً كما رأى! 
القمص يوسف المحرقي (جسده لم يتحلل)
كان البابا ديمتريوس الثاني البطريرك (111) رئيساً لدير أنبا مقـــار، وبعــــــد أن صــار بطريركاً، عـين أخـاه بالجسد القمـص يوسـف المحرقي رئيساً لدير الأنبا مقار، فقبلوه نظراً لقداسته.
وفي الصوم الكبير عام (1976م)، بدأت عمليات ترميم وتوسيع لكنيسة الأنبا مقار برفع كميات كبيرة من الردم للوصول إلى أرض الكنيسة الأصلية، ومع تواصل الحفر ظهر بروز في جانب الحائط الشمالي على شكل قبو مطلي باللون الأزرق، وتحت القبو وُجدَ صندوق يزيد طوله على المترين اتضح فيما بعد أنه تابوت للقمص يوسف رئيس الدير في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، الذي لم يتحلل جسده حتى الآن، وقد تم وضع التابوت في الهيكل وشاهده أكثر من راهب. 
أبونا عبد المسيح الجاولي المحرقي (الراهب البسيط)
عندما دخلنا الدير سمعنا أنّ راهباً بسيطاً اسمه: أبونا عبد المسيح الجاولي، كان يحفظ من القدّاس الباسيلي الجزء الأول من صلاة الصلح قبطي فقط، ومن الأجبية  الثلاث قطع الأخيرة من الساعة الثالثة " أيها الملك السمائي.. كما كنت مع تلاميذك.. إذا ما وقفنا في هيكلك المقدّس.. " وكان إذا سمع صوت الجرس يُسرع إلى الكنيسة، وفي القدّاس يقول ما يحفظه سواء كان قائد الصلاة أسقفاً أو كاهناً... ثم بعد ذلك يقف صامتاً إلى نهاية القدّاس.
وقد حكى القمص منقريوس المحرقي عن بساطته المتناهية وقداسته قائلاً: في يومٍ ذهب لزيارة أهله في الجاولي بمنفلوط، وجلس أمام محل أحد المسيحيين فتوافدت عليه الناس وازداد البيع والشراء، وكان بجوار التاجر المسيحي تاجر غير مسيحي طلب من أبينا أن يجلس أمام محله ليتبارك به، فرد عليه ببساطة الأطفال: لا، أنت غير مسيحي! فاشتعلت نار الغيرة في قلبه وقرر الرجل أن ينتقم من أبينا بوضع السُم في فطيرتين من عمل زوجته، أخذهما وأعطاهما لأبينا كأنّه يستميله ليذهب عنده، فقبلهما أبونا ببساطة ووضعهما في جيب الفراجية، وفي الطريق قابله طفلان لا يعرفهما طلبا منه عطية، فأخرج الفطيرتين وأعطاهما لهما، فلمّا أكلاهما سقطا في الحال على الأرض وماتا، فقبضوا على أبينا واستجوبوه، فحكى كل ما حدث بينه وبين التاجر، وجاء تقرير الطب الشرعي يؤكد أنّ الطفلين ماتا بالسُم، وقد كانت المفاجأة مذهلة عندما عرفوا، أنّ الولدين اللذين ماتا هما ابنا التاجر الذي أراد أن يقتل أبانا! فلمّا قبضوا عليه اعترف فحاكموه وزوجته، ودخلا السجن عقاباً لهما.
القمص دانيال داود المحرقي (عالم اللاهوت)
ترهّب في الدير المحرق في (20/6/ 1906م)، ونال نعمة الكهنوت يوم (5/5/1918م)، وفي عام (1930م) أصدر كتابه اللاهوتي العميق " العقود اللؤلؤية في شرح عقائد وأفضلية المسيحية "، وقد قام القمص مينا المحرقي بإعادة طبعه سنة (2006م)، ويشهد هذا الكتاب على عِلمه الغزير، حتى إنّ الأنبا غريغوريوس اعتبره من أفضل علماء الدير، وسجل في كتابه عن الدير المحرق مدحاً للأستاذ شاكر باسيليوس عالم اللغة القبطية الشهير، الذي تولى إدارة مدرسة الرهبان بالدير المحرق وقام بتدريس اللغة القبطية فيها قائلاً:
" ليس كتاب العقود اللؤلؤية صورة كاملة لعِلم القمص دانيال، فقد كان خزانة لتفسير الكتاب المقدّس، التفسير الذي يتفق مع روح الآباء الأُول ومع العقيدة الأرثوذكسية، وكثيراً ما كان يُرجع إليه في حل معضلات الكتاب المقدّس والعقيدة ".
تولى رئاسة الدير في (16/3/ 1937م) فبنى جزءاً من السور القبلي للدير بطول (100م)، على نمط السور الذي شيده الأنبا باخوميوس الأول، وبنى الطابق الأول من البوابة الكبيرة الشرقية وما يتبعها من السور البحري الشرقي ويقدّر بحوالي (110م)، وبنى (6) قلالي في المربع، كما اشترى (34) فداناً ضُمّت إلى أوقاف الدير.
ترك رئاسة الدير في نوفمبر(1939م) وتنيح في 13 أمشير سنة (1961م) لينضم إلى صفوف الأبرار في فردوس النعيم.
القمص يوحنا الإتليدمي المحرقي (عالم وناسخ)
شهد له نيافة الأنبا غريغوريوس في كتابه عن الدير المحرق، بأنه كان عالماً وناسخاً، وهو مواليد إتليدم بمركز أبوقرقاص بالمنيا.
حضر إلى الدير عام (1842م)، وترهّب ثم نال نعمة الكهنوت عام (1845م)، أثناء رئاسة القمص عبد الملاك الهوري، وكان فاضــلاً وحكيماً لذلك أحبه الرؤساء الذين عاصرهم واحترموه، ونسخ مخطوطات كثيرة يوجد منها حتى الآن (64) مخطوطة تشمل: أسفار من الكتاب المقدّس وقطمارسات وإبصاليات وطروحات وميامر وخولاجيات.. وأحدثها كُتب بتاريخ (1886م).
القمص شنودة المحرقي (عالم الطقس)
كان الآباء في الدير المحرق يُطلقون على الأب المسئول عن الكنيسة والألحان لقب الناظر، وكان عمله يشمل: توزيع أدوار الصلاة على الكهنة الرهبان، قيادة الصلاة، الجرس، إعداد الكنيسة والقناديل، رشم التواني، تسليم الكهنة طقس القدّاس، وكان له في الكنيسة مكان خاص يقف فيه، وإذا حضر للدير أسقف وصلى قداساً كان الأب الكنائسي (الناظر) يصلي قبل رئيس الدير القمص، تقديراً لمكانته داخل الكنيسة التي يشرف على طقوسها!
وُلِدَ إسحق عام (1912م) في بلوط مركز القوصية، والده عبد الملاك إبراهيم ميخائيل وأمه سالومة حنا حلمي، وكان له أخ يُدعى بنيامين وآخر اسمه: متى الذي ترهّب في الدير المحرق بنفس الاسم، وترهّب في شهر يوليو عام (1933) باسم: أبينا شنودة (}enou;) ومعناه: ابن الله.
ويُذكر عن أبينا شنودة أنّه حفظ معظم ألحان الكنيسة، ورغم هذا كان يتميّز بتواضع العلماء، وروحانية القدّيسين، وكان موسوعة في طقوس الدير قلّما تتكرر، وهذا موقف من مواقفه التي لا تُنسى وتؤكد قدراته الفائقة: عندما تنيح أخوه بالجسد القمص متى البلّوطي، جلس أثناء صلاة الجِنَّاز في الخورس الثالث يبكي بشدة، وبينما الرهبان يصلون نسوا أن يقولوا الإبصالية الآدام التي مطلعها: " هذه النفس التي اجتمعنا بسببها يارب نيحها في ملكوت السموات.." وفجأة، وعلى غير المتوقع، نادي القمص شنودة على الرهبان من الخورس الثالث بصوت جهوري قائلاً: انتظروا.. قولوا الإبصالية الآدام الموجودة بصفحة..! وسط ذهول الرهبان!
ونظراً لروحانيته ووقاره وعِلمه الطقسي والرهباني الغزير وحبه الشديد للكنيسة.. كان أب اعتراف لمعظم رهبان الدير، وظل ثلاثين سنة ناظراً للكنيسة الأثرية.
وفي يوم أُصيب بفتق في البطن، فتم تشخيصه خطأ أنّه برد أو مغص، في اليوم الثالث أخذه أبونا ثاؤفيلس المحرقي للدكتور وهبه بالقوصية، فعرف أنّه فتق تسبب في إختناق السرة وطلب منهم الذهاب إلى مستشفى الإيمان بأسيوط فوراً، فعاد أبونا ثاؤفيلس للدير ليأخذ إذناً من أبينا القمص برسوم رئيس الدير في ذلك الوقت، وذهب في اليوم الثاني إلى المستشفى، فوقع القمص شنودة أمام باب حجرة العمليات وتنيح بسلام في (24/10/ 1978م)، وعندما علم قداسة البابا شنودة الثالث حزن عليه وقال: لقد خسرته الأديرة.
الراهب أيوب المحرقي (الراهب اللغز)
كان بالفعل لغزاً محيراً، من طراز رهبان القرون الأولى، وكان اسمه قبل الرهبنة زاهر، وعمله ترزياً، وعاش اثنين وأربعين سنة راهباً لا يقرأ ولا يكتب ولم يحفظ مزموراً!! ومع هذا لم يحزن بل كان قلبه مملوءاً بالسلام، ومن المواقف النادرة التي تُذكر عنه، حدث مرة في رفع بخور عشية، أن طلب منه القمص شنودة ناظر الكنيسة صلاة إنجيل الساعة التاسعة الذي مطلعه " لمّا رجع الرسل حدثوه بما فعلوا.. " فلم يستوعب كلامه لبساطته فرد عليه قائلاً: هو أنا عارف رجعوا ولا مرجعوش!
لم يقفل باب أو شبابيك قلايته يوماً لا صيفاً ولا شتاءً! والعجيب أنّه لم يُصب ببرد أو تعب! حتى إنّه لم يأخذ أي أدوية، ولم يذهب إلى طبيب طوال حياته! وقد عاش معظم أيامه بثوب واحد لم يستبدله ولم يغسله! ولهذا صار ثقيلاً من كثرة التراب عليه!
وفي قلايته لم ينم على سرير مطلقاً! بل ينم على كرسي لفترات قصيرة! وظل عدة سنوات مسئولاً عن الجرس في الدير، فكان يدق الجرس الأول لتسبحة نصف الليل، وينتظر حتى تنتهي التسبحة، فيدق الجرس الثاني لتقديم حمل القدّاس، وبعد الثاني يذهب إلى منطقة قلالي الرهبان المعروفة باسم: المربع، وينام على دكة خشبية لمدة ساعة، حتى تُشرق الشمس فتضربه في وجهه فيقوم.
لم تكن له قنية تُذكر، وعندما كان يجوع يطرق قلاية راهب يعرفه ويطلب منه أن يأكل ومهما قدم له لا يأخذ منه سوى احتياجه فقط، واعتاد أن يأخذ قربانة يومياً ويأكلها وهي ساخنة فيحيا عليها ساعات طويلة، وفي أحد السامرية في الصوم الكبير، أراد أن يقول شيئاً يعزيه، فوقف في القلاية يداعب السامرية قائلاً: يا سامرية يا سمرمر.. وكان وجهه منيراً كالشمس، وقد حكى لي هذه القصة القمص دانيال المحرقي كشاهد عيان!
وفي آخر أسبوع من حياته بدأ يشعر بمغص شديد وانتفخت بطنه بصورة ملحوظة، فذهب إلى قلايته من شدة التعب وهناك قدموا له مشروباً ساخناً، فلم يشربه من التعب وظل يئن، ووجهه مضيء حتى تنيح، والعجيب أنّ جنازة هذا الراهب البسيط الذي لم ينل أي رتبة كهنوتية، لم تتكرر في الدير المحرق ويصعُب أن تتكرر، فقد تنيح أثناء احتفالات الدير (20/6/1979م)، فوقف الضباط في أول الصفوف وخلفهم أفراد الأمن، ومن بعدهم شباب الكشافة المسئول عن النظام، وخلفهم الجسد يحمله الرهبان، ومن ورائهم ثلاثة أساقفة: الأنبا أغاثون مطران الإسماعيلية، والأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي، والأنبا ساويرس رئيس الدير، ثم الرهبان والكهنة والعاملين بالدير، وهذه الأحداث كلها تؤكد أنّ أبانا أيوب كان لغزاً، وتنيح ومعه أسرار كثيرة لم يعرفها الرهبان!
القمص أرمانيوس المحرقي (قصة توبة)
قد يأخذ الحماس بعض الرهبان في شبابهم، فينظرون إلى الأوضاع في الدير من وجهة نظرهم فقط، معتقدين أنهم على صواب في كل ما يفعلونه! وقد يدفعهم الحماس الزائد والغيرة على الدير، إلى الوقوف ضد من يعارضهم، وعندما تتقدم بهم الأيام يندمون على أفعالهم، ومن بين الذين سلكوا هذا المسلك القمص أرمانيوس المحرقي، الذي ينتسب إلى عائلة أرمنية، ولهذا عندما ترهّب أعطوه اسم: أرمانيوس وهذه قصة توبته: في بداية رهبنته كان يتدخل في سياسة الدير، محاولاً إصلاح ما لا يعجبه أو تغيير أوضاع لا تروق له، وعندما صار شيخاً ندم على أفعاله التي صنعها بعدم وعي في شبابه عندما كان راهباً مبتدئاً، وقدم توبة بندم ودموع، حتى إن راهباً قابله يوماً وذكّره بمنهجه في الماضي فبكى بشدة! وكان يومياً يصلي في الكنيسة الأثرية، فيقف خارج باب الهيكل لشعوره بعد الاستحقاق، ودموعه لا تجف طوال القدّاس، وكان لا يحتمل أن يقبّل راهب مبتديء يده! وكان مرضه في السنوات الأخيرة خطة إلهية لتنقيته كعلامة على محبة الله له، وقبول توبته، فأُصيب بأمراض كثيرة منها الضغط والسكر.. كما أُصيب بالعمى، فازداد إحساساً بالندم والتوبة.
وعندما أُصيب بتسوس في رجله قرر الأطباء بترها من فوق الركبة، وطلبوا إقراراً على الدير قبل البتر، فوافق الرئيس ووصلهم الإقرار، وتم تحويله إلى مستشفى الإيمان بأسيوط، وبعد عدة محاولات لعلاجه أنجحها الرب بتروا إصبعين فقط، وليلة العملية في (27/5/1979م) فاضت روحه ولم يبتروا شيئاً من جسده! 
القمص فلتاؤس المحرقي (قداسة ظهرت عند الموت)
كان بسيطاً، محبّاً، مواظباً على حضور الكنيسة، لا يدين أحداً، وقد جمع بين الحفظ الدقيق والصوت الجميل، ووصفه الأنبا غريغوريوس بالقدّيس، وقد نال نعمة الكهنوت في مايو (1932م) وتنيح في يوم (12/8/ 1977م) وإن كنا لا نملك معلومات شخصية عنه إلاَّ أنّ طريقة نياحته تؤكد قداسته، فقد عاش في البيت البحري بجانب الكنيسة الأثرية، وكان مريضاً بالاستسقاء ascites، وعندما طرق مسئول الجرس القمص يوأنس المحرقي باب قلايته في نصف الليل لم يفتح! فذهب إلى القمص دانيال المحرقي في الكنيسة وأعلمه بأنه يسمع صوت أنفاس متقطعة، وعندما ذهب القمص إبراهيم المحرقي ابنه في الاعتراف، ليأخذ منه الحِل قبل صلاة القدّاس كعادة الآباء في الدير قديماً لم يفتح له، فلمّا علم رئيس الدير أمر بكسر باب قلايته، وعندما دخل الرهبان وجدوه جالساً على دكة خشبية، عرياناً وفاتحاً ذراعيه، فغطوه ووضعوه على الدكة، وفجأة قال الأخ نصيف للقمص دانيال أُنظر، فنظر إلى نتيجة كانت معلقة أعلى الدكة التي مات عليها، وقد كُتب على ورقة اليوم قول أيوب الصديق: " عُرْيَانًا خَرَجْتُ من بَطْنِ أُمِّي وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ " (أي21:1)!
القمص هيلاسلاسي الحبشي (مريض شاكر)
جاء من الحبشة بعد انقلاب منجستو نواي في إثيوبيا ضد الامبراطور هيلاسلاسي عام (1960م) وكان يدخل قلايته بعد العشية، ويخرج منها قبل جرس تسحة نصف الليل بساعة، ويقف بين كنيسة مارجرجس والكنيسة الأثرية، ويصلي حتى يدق الجرس فيصلي التسبحة والقدّاس.
وقد أُصيب بمرض في العمود الفقري، فلم يتذمر بل عاش شاكراً مبتسماً، وكان يصلي المزامير وهو راقد على كرسي متحرك، ويعمل تمجيداً للملاك ميخائيل يومياً، وفي يوم كان ظهره يؤلمه فطلب كاهناً ليصلي له، فحضر القمص إبراهيم المحرقي وصلى مدة ساعة وترجاه أن يرتاح، فرفض قائلاً: أُتركني ساعه أُصلي المزامير وتعالى ساعدني على النوم، وكان في اليوم الذي يتناول فيه، لا يأخذ دواءً، وعندما يسأله راهب عن السبب يقول: المسيح داخلى وهو يريحني! كما أحب العطاء وكان يرسل للفقراء من مصروفه، وكانت له طريقة غريبة في العطاء، فعندما يأكل كان يترك في الطبق جزءاً من الطعام حتى لو كانت كمية الطعام قليلة، فذات مرة سأله أب: لماذا تفعل هذا يا أبانا؟ فقال: أنا الآن لا أستطيع أن أُعطي العشور بسبب مرضي فأُعطي من طعامي للقطط!
وعندما اشتد عليه المرض تم تخصيص سبعة رهبان يتولون خدمته، وأحياناً عندما يرى راهباً أو طالب رهبنة يمر أمام قلايته كان ينادي عليه، ويطلب منه أن يُخرجه وهو راقد على السرير، ليتعرض للشمس قليلاً ثم يعود إلى قلايته، وفي آخر أيامه كان الموت راحة له، فصلى راهب في القدّاس قائلاً: يا ملاك ميخائيل كفاية كده أنت شفيعه ريّحه، وفعلاً تنيح بعد القدّاس في عيد شفيعه والابتسامة تفترش شفتيه، ففي حياته وبعد مماته كان وجهه مضيئاً!

بطاركة من الدير المحرق
البابا غبريال الرابع البطريرك (86) 
لمّا تنيح البابا يوأنس العاشر (7/5/ 1363- 13/7/ 1369م)، خلا الكرسي البطريركي مدّة ستة أشهر، حتى وقع الاختيار على القمص غبريال رئيس الدير المحرق، المشهود له بالتقوى والنسك وسعة العلم ليخلفه، فتمت سيامته بطريركاً في كنيسة القدّيسين سرجيوس وواخس بالإسكندرية في عيد الغطاس (6/1/ 1370م) باسم: البابا غبريال الرابع البطريرك السادس والثمانون.
وفي حبريته تم عمل الميرون المقدّس في دير القدّيس الأنبا مقار سنة (1374م)، وفي عام (1370م) ظهر نور عظيم أضاء الطرق ليلاً واستمر حتى ظهور ضوء النهار، وفي سنة (1371م) فاض النيل فيضاناً كبيراً.
وقد تنيح البابا غبريال في (28/4/ 1378م)، بعد أن جلس علي الكرسي المرقسي ثمان سنوات وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً، ودُفن بمدافن الحبش بمصر القديمة، وهى المنطقة التي ظهر فيها رفات أكثر من ثلاث عشرة قدّيساً من بينهم آباء بطاركة، وأنبوبة بها رأس طفل شهيد، وجسد القدّيس سمعان الخرّاز، وذلك أثناء الحفر وترميم كنيسة السيدة العذراء مريم بمصر القديمة في الفترة ما بين (1989- 1991م)، وقد بدأت عمليات الحفر بسبب غيرة أحد الخدام المهتمين بالبحث عن رفات القدّيس سمعان الخرّاز..  
البابا متاؤس الثاني البطريرك (90) 
كان اسمه قبل الرهبنة سليمان الصعيدي وترهّب في الدير المحرق باسم: متى الصعيدي نسبة لمسقط رأسه، ولما تنيح البابا يوأنس الحادي عشر البطريرك (89) في (4/5/ 1452م) تم انتخاب الراهب متى الصعيدي فسيم بطريركاً في (10/9/1452م)، ودعي باسم البابا متاؤس الثاني البطريرك (90) وأقام في كنيسة العذراء الأثرية بحارة زويلة، وقام بعمل الميرون سنة (1458م) في كنيسة العذراء بحارة الروم واشترك مع في هذا العمل المقدّس ستة من الأساقفة، وفي أول فبراير سنة (1453م) حضرت إلى مصر بعثة حبشية لزيارة البابا يوأنس فوجدته انتقل، فطلبوا من البابا متاؤس الثاني اختيار مطران خلفاً لراعيهم الراحل فسيم راهباً ودعاه المطران غبريال وأرسله مع البعثة، وفد تنيح البابا متاؤس في (10/9/1465م) ودفن في دير الخندق (دير الأنبا رويس بالعباسية)، بعد أن جلس على كرسي مارمرقس ثلاث عشرة سنة.
البابا يوأنس الثاني عشر البطريرك (93) 
بعد نياحة البابا ميخائيل الرابع في (10/2/ 1478م)، خلا الكرسي البطريركي لمدة عامين وشهرين وثمانية أيام، فاجتمع الأساقفة مع أراخنة الشعب القبطي لاختيار الأب البطريرك، وقد طال البحث إلى أن اختار المجمع الراهب حنّا المحرقاوي الذي من نقادة، فأقاموه بطريركاً باسم: يوحنا الثاني في (18/4/ 1480م) وقد كانت مدّة رئاسته ثلاث سنوات وأربعة أشهر وتسعة عشر يوماً، وتنيح بسلام في (5/9/ 1483م) ودُفن في بابليون.

قديسون عاشوا في الدير المحرق - الشهيد الراهب أغابيوس المحرقي


عاش كزنابق الحقل مبتسماً، وذاب كالشمع على مذبح الحب ليخدم الرهبان في الدير، وكان مواظباً على حضور الكنيسة، محبّاً للألحان، أحببناه من عمق قلوبنا لأنّه أحبنا وخدمنا، وعندما استُشهدَ برصاص الإرهابيين في ربيع شبابه ذرفنا الدمع حزناً على فراقه، إنّه الشهيد الراهب أغابيوس المحرقي، الذي فارقنا في سن الثلاثين، لكنَّ ابتسامته الرقيقة لازالت تملأ عيوننا.
النشـأة
وُلِدَ أسامة بمدينة طوخ بمحافظة القليوبية في (27/2/1964م) طفلاً جميلاً، محباً، بسيطاً، قلبه نقياً كالثلج، ونشأ في بيت عرف معنى الصلاة والخدمة وحضور القداسات..
عمل والده صبحي عزيز بمجلس مدينة طوخ، وأمه الفاضلة هيلانة ميخائيل ربّة منزل، وكان ترتيب أسامة الثالث بين أربعة إخوة: فيوليت طبيبة بيطرية، نجوى بكالوريوس زراعة وعملت مدرسة علوم، أسامة، وفيبى بكالوريوس تجارة وتعمل محاسبة، وقد شهدت طفولة أسامة أنّه كان ملتزماً بالحياة الكنسية مواظباً على حضور القدّاسات، فقام الأنبا مكسيموس مطران القليوبية بسيامته شماساً بكنيسة مارجرجس بطوخ فى سن الرابعة باسم: مكسيموس، فكان عندما يرتدي التونية ويقف على المذبح يظهر بثيابه البيضاء كملاكٍ جميل الطلعة وشَّحته السماء بملابس الطهارة.
وقد تميز أسامة بهدوئه وطاعته وابتسامته الرقيقة، وعندما انتقل والده ليعمل مديراً لإدارة المشتريات بمجلس مدينة شبرا الخيمة، انتقلت معه الأسرة إلى القاهرة عام (1968م) ليسكن فى شارع أسعد بشبرا مصر، وانضم إلى فصول مدارس الأحد وخدمة الشماسية بكنيسة الملاك بطوسون بشبرا، ورغم حداثة سنّه إلاّ أنّه كان مواظباً على حضور القدّاسات وخدمة الشماسية.
حبه للألحان الكنسية
لقد كان حب أسامة للكنيسة وممارسة أسرارها وطقوسها ظاهرة واضحة في حياته، وكان شغوفاً بحفظ الألحان فطلب والده من مرتل الكنيسة المعلم فخري أن يقوم بتسليمه الألحان، وبعد انتقال المعلم فخرى في الثمانينات، كان أسامة قد صار شاباً فكان يذهب للمعلم فهيم مرتل الكاتدرائية المرقسية بكلوت بك، وأيضاً للمعلم جاد مرتل كنيسة العذراء بمهمشة ليحفظ منهما الألحان، وعندما دخل الدير كان حافظاً لكثير من ألحان الكنيسة ومردات الشماس وألحان التسبحة...
رؤية في سن مبكر
فى سن الثامنة خرج أسامة من المنزل في تمام الساعة الخامسة صباحاً، وذلك لحضور القدّاس بكنيسة الملاك ميخائيل بطوسون، وفجأة رأى الملاك ميخائيل يقف أمامه مبتسماً على حائط السلم فخاف من هيبة المنظر! وعندما ذهب إلى الكنيسة حكى للمعلم فخري بكل ما رأى فنصحه قائلاً: لا تقل لأحد خوفاً عليه من المديح، وعندما عاد إلى البيت أخبر أمه الفاضلة ففرحت واعتبرتها علامة من الله بسبب جهاد الطفل ومواظبته على حضور القدّاسات، ولكنها لم تنصحه بشيء، بل طلبت منه بحكمتها وخبرتها أن يقوم برشم علامة الصليب عندما يرى مثل هذه الرؤى. 
المرحلة الجامعية
أحب أسامة الدراسة كما أحب الكنيسة والخدمة فانطبقت عليه الآية: " كَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ فَكَانَ رَجُلاً نَاجِحاً "ِ (تك2:39)، ففي عام (1983م) حصل على الثانوية العامة، فالتحق بكلية التربية جامعة عين شمس، وأثناء دراسته خدم بمدارس الأحد، فانبعث من عينيه نور الإيمان، ونطقت شفتاه بعظائم الله، فازداد أكثر في النعمة، وامتلأ طهراً، وأصبح قدوة للشباب في جيله، ولم يكتفِ بشهادته الجامعية، بل تعلم مهنة الكهرباء من ابن عمته المهندس أمين، وأتقنها.
وفي عام (1987م) تخرج في كلية التربية شعبة الرياضيات، وعمل مدرساً للرياضيات لمدة عام ونصف، وكان خلالها يعطي دروساً مجانية فى الرياضيات للطلبة كنوع من الخدمة والمساعدة، وكان يذهب إليهم بعربته الخاصة في المنزل.
عوائق في طريق الرهبنة
بعد التخرج بدأ أسامة يتردد على الدير المحرق ويقضي به خلوات طويلة، فأحب الرهبنة وارتبط بحياة الأديرة، وعندما تكلم مع أب اعترافه القمص مكاري عبد الله رفض، وقد كان حكيماً في قراره، فأسامة الابن الوحيد، ووجوده وسط أخواته البنات يعطيهن إطمئناناً، كما أنّ الأسرة في حاجة إلى خدماته. فذهب مع أخته نجوى إلى بنها لمقابلة نيافة الأنبا مكسيموس مطران القليوبية، وصارحه بحبه للرهبنة، فلم يمانع بل شجعه ونصحه بأن يأخذ موافقة والديه أولاً.
وفي النصف الثاني من عام (1987م) ذهب إلى الدير المحرق ليترهّب، فتأثرت الأم لفراق ابنها الوحيد وأُصيبت بأزمة صحية، فعاد إلى البيت بعد أسبوعين بأمر الأنبا ساويرس رئيس الدير. 
علامـة اطمئنان
عاش أسامة حائراً وأصبح المستقبل أمامه مغلفاً بالضباب، فهو يريد الرهبنة ولكن هناك عوائق تمنعه، وفي يوم ذهب مع المهندس أمين أثناسيوس ابن عمته إلى دير مارمينا العجايبى بمريوط، لقضاء خلوة روحية والصلاة حتى يختار له الرب الطريق، وهناك طلب إرشاد أبينا بطرس أفا مينا (الأنبا بطرس أسقف شبين القناطر) فقال له: نصلي والله سوف يرشدك، وفى تلك الليلة خرج من بيت الخلوة في الساعة الثانية عشرة ليلاً فرأى أمامه حمامة كبيرة بيضاء، فشعر بسلام واعتبرها علامة من السماء لرهبنته، فعاد إلى القاهرة ثم اتجه مباشرة إلى الدير المحرق طالباً للرهبنة.
الرهبنة في الدير المحرق
فى يوم (7/8/ 1988م) دخل أسامة الدير المحرق، وارتدى الزى الأبيض الخاص بطلبة الرهبنة وأصبح اسمه: الأخ بولا وعمل في القربان والمجمع (مطبخ الطعام) والمائدة (المخبز).
وفي (24/8/1989م) تمت رهبنة الآباء: روفائيل، أليشع، توماس، أندراوس، تكلا، سوريال، كيرلس، أغابيوس وهو اسم يوناني معناه: حبيب، وكان كذلك محباً ومحبوباً، وقد تولى بعد رهبنته مسئولية البوابة، وماكينة الإنارة والكهرباء بالدير ومستشفى سانت ماريا، ودق الجرس، وخدمة الشماسية وتوزيع أدوار الكهنة لخدمة القدّاس بالكنيسة الأثرية، وبدأ يتغذى بالحياة الروحية، وقرأ في الكتاب المقدّس وسير القدّيسين، وحفظ آياتٍ ومزامير وألحاناً وعرف معنى الصلاة في القلاية، وشهد الرهبان لمحبته ونشاطه ومواظبته على حضور الكنيسة وتفانيه في خدمتهم، حتى إنّه كان ينظف قلالي بعض الرهبان، وكان بسيطاً في تعامله وقلايته وثيابه ورفض أن يمتلك غسالة فظل يغسل ثيابه بنفسه، وكان بعد الاستحمام يقوم بغسل غياره الذي كان يلبسه وظل هكذا حتى استشهاده.
وكان من عادته إلاَّ يخرج من قلايته قبل أن يصلي قانونه من المزامير، ويدخل قلايته في حدود الساعة الثامنة ليلاً، وقبل النوم كان يقرأ في الكتاب المقدّس، أو يراجع لحناً أو يستمع إلى قداس.. ولهذا كان يردد: لا تدع الشغل يأخذك من قانونك.
عطاء بلا حدود
اختبرت محبته وحبه للعطاء بنفسي، ففي بداية رهبنتي كنت أملك آلة كاتبه أقوم بكتابة أبحاثي عليها قبل ظهور الكمبيوتر، وأحياناً كنت أحتاج ماكينة اللحام ليقوم أحد الآباء بإصلاح الحروف عندما تنكسر، فعندما كنت أطرق باب قلايته كان يُسرع إلى المخزن ليعطيني طلبي، حتى إنني كنت أخجل من تصرفه، وأصبحت في المرات القادمة أقول له: أنا أعرف مكان الماكينة جيداً من فضلك أعطني مفتاح مخزن الكهرباء لأذهب بنفسي ولا داعي لتعبك وتعطيلك! وعندما اشتغل في الكهرباء كان يعمل بيده كل شيء، ولم يخجل أن يقوم بالحفر والتكسير.. ووفّر للدير أموالاً طائلة.
رسول سلام
كان أبونا أغابيوس تربطه قرابة برئيس الدير، ورغم ذلك كان الرهبان يأتمنوه على أسرارهم، وذات مرة كان رئيس الدير على خلاف مع راهب تربطه صداقة بأبونا أغابيوس، وكان ينظف قلايته مرة كل شهر، ورغم الخلاف لم يقطع علاقته به تودداً للرئيس، بل كان في أوقات كثيرة يختلف مع رئيس الدير من أجله، وفي يوم زادت الشكاوى في هذا الراهب، فأحضر رئيس الدير أبونا أغابيوس وبعد أن حكى ما سمعه قال له: اتصرّف! فبكى أبونا ولم يسمح لرئيس الدير بعقابه، فتأثر لدموعه وخضع له، وفي يوم اختلف راهبان فأخذ الراهب المبتديء ليعتذر للراهب القديم في قلايته.
الاستشهاد
في الساعة السادسة يوم الجمعة (11/3/1994م) استشهد الراهب أغابيوس مع القمص بنيامين وآخرين في الساعة الثالثة فجر السبت (12/3/ 1994م) وكان عمره ثلاثين سنة قضى منها ست سنوات فى الرهبنة، ولما علمت الأسرة سافرت في الحال، وعند وصولهم إلى المستشفى بالقوصية كان قد تنيح، ورغم الألم الشديد والحزن المرير إلاَّ أنّ أمه الفاضلة قالت والحزن يعتصر قلبها:      " الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا " (أي21:1).
رؤية بعد الاستشهاد
روي لي أحـد الآبـاء بالديـر هـذه الرؤية التي توضح لنا مكانة الشهيد عند الله، فقال: تألمت جداً لفراق أبونا أغابيوس، وبعـد يومـين رأيته وهو يعاتبني قائلاً: لماذا أنت حزين رغم أنني سعيد؟ فقلت: كنت أتمنى أن تعرفني أنك سترحل! فرد قائلاً: هل تريد أن تأتي معي؟ فقلت: نعم، فأخذني في الصحراء وكنا نسير وحدنا، فقلت له: لماذا نسـير في الصحراء وأمـامنا شـارع جميـل ومبـاني شـاهقة...؟ فأصر أن نسير في الصحراء وكان كلٍ منا معه دوسيه فيه أوراقه الخاصة، وأثناء سيرنا قابلتنا نقطة تفتيش ففحصوا الأوراق فوجدوها سليمة فعبرنا بسلام، وحدث نفس الشيء في نقطة التفتيش الثانية ولكن في الثالثة فحصوا دوسيه أبونا أغابيوس فوجدوه كاملاً فسمحوا له بالعبور، وعندما فحصوا أوراقي وجدوا ورقة ناقصة، فطلبوا مني أن أُحضرها، فتأكدت أنني لم أصل بعد إلى قامة الشهيد، وأنّ أمامي سنين كثيرة تحتاج إلى جهاد روحي حتى أصل إلى قامته!

قديسون عاشوا في الدير المحرق - القمص بيشوي الحبشي


القمص بيشوي الحبشي
عاصرناه في الدير فرأيناه بسيطاً، ناسكاً، محباً للصلاة والكنيسة، متشفعاً بالقديسة مريم.. وإن كان قضى سنوات كثيرة من حياته خارج الدير، إلاَّ أنّه كان محبوباً من الرهبان والعلمَانيين مثل سائر الرهبان الأحباش في مصر، وقد أعطاه الله مواهب روحية كثيرة، إنّه القمص بيشوي الحبشي.
النشـأة
وُلِدَ جبرا  Gabraسيلاسي باهـلبي جـبرا (عبـد الثـالوث فـرح قـلبي عبد مريم) في قرية سبأ مركز أسمرا Asmara بمحافظة أسمرا سنة (1921م)، من أبوين مسيحيين، والده سيلاسي (ثالوث)، وأمه فكرتا مريم رزلا صهيون (حبيبة مريم بذرة صهيون).
وقد كان يصلي في كنيسة الشهيد مرقوريوس (أبو سيفين) بإريتريا Erythrea واسم أب اعترافه: أبا جبرا هيوات (عبد الروح).
نذر الرهبنة
دخل جبرا دير القديس مرقوريوس في سن العاشرة سنة (1931م) فقد كان المتبع قديماً في بعض العائلات الحبشية نذر الابن البكر للـدير، ولكـن فـي عـائلة أبينا لـم يحـدُث ذلك، فقـد تنبأ راهـب حبشي بنذره للدير، وعندما قالت له الأم: يوجد أخوه الأكبر، قال لها: لا، وقد تحقق كلامه لأنّ أخيه الأكبر لم يرغب حياة الدير.
وقد تمت سيامته شماساً بيد نيافة الأنبا ماتيوس بدير القديس مرقوريوس بأديس أبابا، وأصبح اسمه: جبر مريم (عبد مريم).
سيامته قساً
في الثلاثينيات زار جبر مريم مصر للمرة الأولى واستقر في دير البرموس، وخدم أبونا عبد المسيح الحبشي والقمص مينا المتوحد (البابا كيرلس السادس) عندما كانا متوحدين خارج الدير، فكان يُحضر لهما الماء والطعام.. وفي تلك الفترة قام قداسة البابا يوأنس التاسع عشر (١٩٢٨-١٩٤٢م) بسيامته قساً، في الكنيسة المرقسية بكلوت بك قبل نياحته بعام، أي سنة (1941م).
الهروب إلى مصر
في (12/9/ 1974م) حدث انقلاب عسكري أسفر عن سقوط الإمبراطور هيلاسلاسي وضياع عرشه وتولى الحكم الضابط الشيوعي منجستو هيلا ماريام  Mengistu Haile Mariam (1974- 1987م) فهرب القس بيشوي والراهب باخوميوس الحبشي وأتيا إلى مصر، وقد روى القمص أمونيوس المحرقي قصة مجيئهما إلى الدير المحرق قائلاً: عندما هربا ظلا يسيران في الصحراء عدة أيام حتى وصلا إلى السودان، وهناك تم القبض عليهما وتسليمهما للرئيس السوداني جعفر النميري فاستضافهما في قصر الرئاسة، وفي ذلك الوقت زار البابا شنودة الثالث السودان عام (1978م)، وعندما تقابل مع الرئيس جعفر النميري سلمهما له، فاستقبلهما نيافة الأنبا إسطفانوس أسقف أمدرمان وعطبرة ورحب بهما، وعندما عاد البابا شنودة إلى مصر عادا معه على نفس الطائرة، وفي دير الأنبا بيشوي قام بسيامة الراهب باخوميوس الحبشي قساً ورقى القس جبر مريم قمصاً باسم: القمص بيشوي، في (7/4/ 1979م)، وسألهما عن الدير الذي يرغبان أن يحيا فيه؟ فقال: الدير المحرق.
القمص بيشوي في الدير المحرق
عندما جاء القمص بيشوي إلى الدير المحرق، كان الأنبا أغاثون مطران الإسماعيلية (1972- 1999م) ناظراً لوقف الدير، والأنبا ساويرس رئيساً (1977- 2017م)، فقاما برهبنته مع القس باخوميوس، في كنيسة السيدة العذراء الأثرية (26/7/ 1979م).
وقد اتّخذ القمص بيشوي أب اعتراف له من الدير، هو القمص منقريوس المحرقي أقدم راهب بالدير، وعاش ناسكاً محبّاً مشهوداً له من الجميع، ففي أُسبوع الآلام كان يقوم بعمل (1000) ميطانية في الكنيسة، وكان يصوم من عشية الخميس حتى السبت بعد القداس.
وقد روى لي أحد معارفه أنّه عاش نباتياً يأكل السمك والفواكه والخضروات... وعندما تأتيه هدايا كان يوزعها في الحال على الموجودين، حتى الطعام كان يأكل منه القليل ويوزع الباقي.
حرب شيطانية أفقدته بصره
في يوم كان يسير معه أبونا دانيال في منطقة القلالي، فتركه وفي نصف الليل تحولت عينه السليمة إلى كتلة دم! وكان يصرخ بشدة، فطلب أبونا دانيال فذهب إليه وسأله: ماذا حدث لعينك؟ فقال له: كنت واقفاً بجانب الشباك أُصلي تحت اللمبة فلطمني الشيطان على عيني بشدة، فاشتميت رائحة عفونة، فأخذه أبونا دانيال إلى الدكتور فوزى كيرلس بملوي فكشف على العين ثم قال: إنها إصابة غير طبيعية! فلو أُصيبت بفيرس منذ شهر أو أكثر، لكانت حالتها أكثر احتمالاً من هذه الحالة، بمعنى لو في فيرس بيأكل في عينه من شهر لن تصل لِما وصلت إليه! وهذا يؤكد أن سبب العمى هو الشيطان! وبعد أن فقد بصره كان يطلب من الأستاذ ألفنس ونيس، أن يقرأ له السنكسار يومياً في التليفون ليتعزى بسير القدّيسين.
بساطة متناهية
مرة أخذه ابونا بفنوتيوس المحرقي أرض كاروت الخاصة بالدير، وكان معه تسجيلاً فأسمعه عظة لقداسة البابا شنودة فقال له: البابا كبير كيف أدخلته في هذا المسجل الصغير؟!! فلمَّا تقابل مع البابا حكى له هذه القصة! فضحك البابا وأهداه مسجل وشرائط كاسيت عليها بعض عظاته.
حبه للصلاة
في الدير كان يقضي الليل في الصلاة، وعندما يدق الجرس ينزل لحضور الصلاة بالكنيسة ويتناول يومياً في القداس.
وأثناء وجوده بالقاهرة، كان يقضي الليل في الصلاة من الساعة الثانية عشرة حتى الصباح واضعاً أمامه أناء به ماء ويرشم الماء بالصليب، وعندما يزوره محبيه كان يعطيهم من الماء المُصلى عليه كبركة، وقد تمجد الله مع كثيرين بواسطة هذا الماء..
وفي أحد الشعانيين كان يصلي بكنيسة السيدة العذراء بقصرية الريحان، وبعد القداس يذهب بيت القرباني بالقرب من الكنيسة ليأكل العدس الذي كان يعمله له خصيصاً، والغريب أنَّ بعد نياحة القمص بيشوي تغيّر المكان وتم عمل معرض مكان البيت..
وقد أحبه محافظ أسيوط اللواء عبد الحليم موسى، الذي صار وزيراً للداخلية فيما بعد، وكان يطلبه ليزوره في البيت ويصلي لأُسرته.
في صوم العذراء مريم
في السنوات الأخيرة استقر القمص بيشوي في شقة بالقاهرة، وكان يأتي للدير قبل صوم السيّدة العذراء ليعتكف مدة الصوم، وكنا نسمعه وهو يصلي بصوت عالٍ، وكان يأكل مرة واحدة بعد العشاء، وكان طعامه حمص ممزوج بالسكر أو خبز أو أي مأكولات جافة.. ولا يشرب سوى الماء لأنّه لم يكن يستعمل البوتاجاز، وعندما تقدمت به الأيام كان القمص دانيال المحرقي يعد بعض الأطعمة له.
وكان يصلي الأجبية.. وبعد كل صلاة يعمل مائة ميطانية ويقول كيرياليسون إحدى وأربعين مرة، كما كان يصلي التسبحة بألحانها، ومعظم اليوم نسمع صوته وهو يسبّح ويرتل..
مواقف ومعجزات
في يوم زار دير مارمينا العجائبي بمريوط مع أسرة، وعندما دخل من البوابة كان رجل عاجزاً يجلس على كرسي متحرّك، فناداه بعض مرافقيه للصلاة على المريض، فصلي وتمجد الله وقام الرجل، وقد شهد لهذه المعجزة العجيبة الأستاذ جودة فرج الله من مصر القديمة!
كان القمص بيشوي في مارجرجس الجيوشي بشبرا، وأُصيب بحالة إغماء بسبب السكر، فاتصلوا بالكاتدرائية ليُعلموهم بخبر وفاته وجهزوا الصندوق لدفنه وعندما وضعوا سكر في فمه استيقظ وقال لمن كانوا حوله: لماذا ايقظتموني لقد كنت أرى ملائكة..! 
في يوم عانى القمص بفنوتيوس المحرقي من كابوس وهو نائم على سطح البيت البحري بالدير (قلالي رهبان) فعندما قابلة القمص بيشوي قال: لا تجلس في هذا المكان وحدك مرة أخرى لأنّ بجانبك مدافن مش كويسه! فتعجب من كلامه لأنّه لم يُعلم أحداً بذلك.
وعندما حدد الرئيس السادات إقامة البابا شنودة بدير الأنبا بيشوي تنبأ بموته! وقد كان! وأُغتيل في حادث المنصة (6/10/1981م)!
النياحة
في آخر سنة (2002م) بدأت أمراض الشيخوخة تظهر على القمص بيشوى وتم بتر إصبع قدمه بسبب ارتفاع السكر، فخرج من المستشفى، وبعد فترة زادت أمراضه فدخل المستشفى مرة أخرى لكنه تنيح فيها في (22/2/ 2003م)، فتم نقل الجثمان إلى الدير المحرق، وتمت صلاة الجِنَّاز ودُفن بطافوس الرهبان.