مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الأحد، 19 ديسمبر 2010

زمن ميلاد السيد المسيح


يصعُب على الباحث في التاريخ الكنسيّ الوصول إلى جدول دقيق، سُجلت فيه حوادث المسيحية الهامة في القرن الأول الميلاديّ، وقد نشأت هذه الصعوبة عن عدة عوامل أهمها الآتي:

1- اعتزال المسيحيون الأُول شئون العالم، ونفرهم مادياته لأنَّ " سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ " (في2:3).

2- اعتقاد المسيحيون قُرب نهاية العالم " هَيْئَةَ هَذَا الْعَالَمِ تَزُولُ " (1كو31:7)، فاهتموا بما يقودهم للسماء، ولِذا بدأوا وهم على الأرض يعدّون أنفسهم للحياة الأبدية.

3- لم يسرد المسيحيون حوادث تاريخية ولم يعنوا بتوقيتها، إلاَّ إذا كان الغرض منها تهذيب النفس روحيّاً، وصقلها بالمعرفة والفضيلة

لكنْ حدث في القرن السادس الميلاديّ (524م) ، أن طلب البابا بونيفاشيوس (619- 625م) من راهب يُدعى " ديونيسيوس أكسيجون " المُلقب بالصغير أو السكّيثيّ، الذي كان متولّيّاً نظارة السجلات البابوية في روما، أن يحسب بدقة تاريخ ميلاد المسيح، فبحث وانتهت حساباته إلى سنة (753 من إنشاء مدينة روما).

وقد بنى ديونيسيوس حساباته على المعطيات الآتية:

1- قول مُعلّمنا لوقا الإنجيليّ: " َفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ كَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ " (لو1:3،2)، وقد بدأ المسيح رسالته بعد ذلك بقليل.

ولأنَّ بعض مصادر التاريخ الرومانيّ، تذكر أن " طيباريوس قيصر" خلف الامبراطور " أُغسطس قيصر" عام (767 من إنشاء مدينة روما)، فالمسيح إذن- كما رأى- يكون قد بدأ رسالته عام (782 من إنشاء مدينة روما) : (767 + 15 = 782)।

2- فهم ديونيسيوس ما جاء في (لو23:3) " كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً "، على أنَّ المسيح كان عمره ما يقرب من (30 سنة)، أي (29 سنة).

3- وهكذا حدد ديونيسيوس ميلاد المسيح في عام: (753 من إنشاء مدينة روما) (782 – 29 = 753).

ولكن هذه النتيجة لا تتفق مع مُعطيات الإنجيل الثابتة، التي تذكر بوضوح أن ميلاد المسيح حدث في أيام هيرودس الملك (مت1:2)، ومن الأكيد أن الميلاد كان قبل وفاة هيرودس ببضعة أشهر على الأقل، كما يتضح من أخبار: زيارة المجوس، وقتل أطفال بيت لحم، والهروب إلى مصر، ثم العودة إلى الناصرة (مت2).

ويُعطينا " يوسيفوس " المؤرخ اليهوديّ المعاصر للمسيح (37– 95م)، معلومات ثمينة نستطيع بواستطها أن نحدد بكل دقة سنة وفاة هيرودس الملك:

1- فهو يخبرنا أنَّ هيرودس قد نال لقب ملك اليهودية، من مجلس الشيوخ الرومانيّ وذلك في عهد القنصلين " دوميسوس كالفينوس Domitius calvinus وأزينيوس بوليون Asinius pollion "، اللذين شغلا هذا المنصب عام (714 من إنشاء مدينة روما)

2- كما يذكر أن وفاة هيرودس الملك، كانت في السنة الـ (37) من مُلكه ، قبل الفصح وبعد خسوف القمر بمدة قصيرة ونستنتج من ذلك أنَّ هيرودس قد توفى في عام: (750 /751 من إنشاء مدينة روما) (714 + 36/37 = 750 /751).

ولكنْ أورشليم لم تشهد أي خسوف قمريّ عام (751من إنشاء مدينة روما)، وإنَّما تتحدّث الوثائق القديمة عن خسوفين قد حدثا قبل ذلك:

الأول: كان في (15سبتمبر عام749 من إنشاء مدينة روما)، ولكن هذا التاريخ يبتعد كثيراً عن ميعاد عيد الفصح، الذي يقع فئ شهر نيسان العبريّ والذي يوافق (مارس/ أبريل).

الثاني: حدث في (12/ 13 مارس عام750 من إنشاء مدينة روما)، ويتفق هذا التاريخ مع عيد الفصح، الذي وقع في تلك السنة يوم (11 أبريل).

من الأكيد إذن أنَّ وفاة هيرودس قد حدثت قبل فصح عام (750 من إنشاء مدينة روما)، أي أنَّه يسبق التقويم الحالي بحوالي (4 سنوات) على الأقل، أي عام (749)، وليس عام (753 من إنشاء مدينة روما).

من هذه المعلومات يتبين لنا أنَّ ديونيسيوس قد أخطأ في حساباته لسببين:

+ فمن جهة لم يحدد القديس لوقا سن المسيح بدقة، وإنَّما فقط يقول إنَّ يسوع كان عمره " نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً " لمَّا بدأ خدمته العلانية (لو23:3).

+ ومن جهة أُخرى تؤكد مصادر تاريخية كثيرة، أنَّ " طيباريوس قيصر " اشترك مع " أُغسطس قيصر " في الحكم، قبل وفاة أُغسطس بحوالي سنتين على الأقل، أي عام (765 من إنشاء مدينة روما)، ولكن ديونيسيوس يحسب السنة الخامسة عشرة من مُلك طيباريوس قيصر، اعتباراً من عام (767 من إنشاء مدينة روما) .

وتعرف الكنيسة هذه الحقائق كلها، بل العالم كله يعرف خطأ ديونيسيوس، وإنَّما يتعذر عليها الآن أن تقوم وحدها بتغيير التقويم الحاليّ، ولا سيَّما بعد أن أخذت به كل بلاد العالم.

عيد الميلاد في التاريخ

إنَّ كل من يرجع للتاريخ القديم، لا يجد أي أثر للاحتفال بعيد ميلاد المسيح في فجر المسيحية، ويرجع ذلك لعدة أسباب:

1- كان الاحتفال بعيد القيامة يستقطب كل شيء، وقد استمر يوم الأحد بمثابة عيد فصح أُسبوعيّ، ثم ظهرت بعد ذلك رغبة شديدة، في الاحتفال بواحد من آحاد السنة بطريقة مُميَّزة كونه عيداً للقيامة

2- كانت الكنيسة ترى أن الاحتفال بأعياد الميلاد هى عادة وثنية يجب نبذها، وقد صرّح أوريجانوس في أوائل (ق3)، بأنَّ الكنيسة لا تنظر بعين الرضى إلى مثل هذه العوائد، وأشار إلى أنَّ الكتاب المُقدَّس لم يذكر إلاَّ عيد ميلاد فرعون وهيرودس، فأحدهما في نظره وثنيّ والثانيّ كافر

3- أما السبب الثالث فهو روحيّ فقد رأت الكنيسة، أنَّ عيد ميلاد القديس الحقيقيّ يوم نياحته ودخوله السماء، ولهذا عندما بدأت تُكرم الشهداء والقديسين في (ق3م)، صارت تحتفل بذكراهم في يوم استشهادهم.

من هذا نفهم عـدم اهتمام الكنيسـة الناشئة، بالبحث عن تاريخ ميلاد المسيح والاحتفال به.

لكنَّ الفكر المسيحيّ بدأ يتطور، وأدرك المسيحيون أنَّ المسيح يمتاز عن الرسل والشهداء والقديسين بكونه مُخلّصاً وفاديّاً.. ولهذا فكل حدث تاريخيَّ في حياته له معنى لاهوتيّ وقيمة خلاصيّة لا يُستهان بها وبالتالي لا يجوز تجاهلها.. ولأنَّ التجسّد هو أول حلقة في سلسلة الفداء، فكان ولابد أن تبحث الكنيسة عن يوم ميلاد المسيح ولو على وجه التقريب، كما أنَّ المناظرات العنيفة من (ق 4- 6) حول لاهوت المسيح وتجسّده، قد ساهمت في تزايد أهمية العيد.

ويحاول البعض نسبة عيد الميلاد إلى الرسل، مستندين في ذلك إلى ما جاء في الدسقولية: " يا إخوتنا تحفَّظوا في أيام الأعياد التي هى عيد ميلاد الرب وكمّلوه في خمسة وعشرين من الشهر التاسع الذي للعبرانيين، الذي هو التاسع والعشرون من الشهر الرابع الذي للمصريين (كيهك)

إلاَّ أنَّ كتاب الدسقولية متأخر العهد، وذلك بشهادة العلماء والمؤرخين الكنسيين، فقد ظهر في سوريا، وهو من مدونات القرن الثالث الميلاديّ وقد رفض الدارسون أن يكون كاتب الدسقولية أحد الرسل، وإلى الآن لم يستطع أحد أن يتعرّف على كاتبها، أمَّا اسم الدسقولية أو تعاليم الرسل، فيقصد به واضعها أن يُقدّم صورة واضحة ومختصرة لتعاليم المسيح كما علّمها الرسل للأمم.

في القرن الثاني، ومن كتابات القديس أكليمنضس السكندريّ (150-215م)، نعرف أنَّ أتباع باسيليدس قد أقاموا عيداً خاصاً للاحتفال بظهور الرب(الغطاس) في (11طوبة = 6 يناير) وكرَّسوا عشية هذا العيد للصلاة وقراءة الكتب الدينية

أمَّا باسيليدس فهو أحد رؤساء جماعات الغنوسيين، أو العارفين بالله كما يُترجم اسمهم، وهو المؤسس الأول للمدرسة الغنوسيّة في مصر سنة (130م)، وقد انحرفوا في معتقدات كثيرة أخطرها بدعتهم أنَّ المسيح إنسان كسائر البشر، ثم أصبح ابن الله في عماده، عندما حل عليه الروح القدس على هيئة حمامة، وتبناه الآب بقوله: " هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ " (مت17:3).

ولكن لماذا تم اختيار يوم " 6 يناير " بالذات كميعاد ثابت للاحتفال بالعيد؟! يرجع ذلك إلى اعتقاد كان سائداً لدى سكان الإسكندرية، يُوحي بأنَّ مياه النيل تنال في هذا اليوم قوة عجائبية خاصة، تمنح الشفاء لكل من يستخدمها بسبب إلقاء جسد الإله أوزوريس فيها، كما كانت الإسكندرية تحتفل فى نفس اليوم بعيد ميلاد إله المدينة " إيون " وهو حسب اعتقادهم ابن العذراء " كوري " وهى على وجه الترجيح " إيزيس ".

فماذا فعلت الكنيسة إزاء هذه المعتقدات الفاسدة؟

شجبت بدعة باسيليدس وأتباعه، ولكنها ظلت تحتفل بعيد ظهور ابن الله ولكن ليس حسب مفهومهم الخاطيء، فكانت تُقيم عيد الميلاد في (5 يناير) مساءً، وتحتفل بالعماد في صباح اليوم التالي أي (6يناير).

وهكذا بقيت الكنيسة تُقيم العيدين معاً فترة من الزمن، ثم فصلت أحدهما عن الآخر، فبقي عيد الغطاس كما هو في (6يناير)، وتم نقل عيد الميلاد إلى (25 ديسمبر)، ولا ندري متى تم هذا الفصل بالتحديد، فالأرجح أنَّ كنيسة روما هى التي قامت بهذه الخطوة في عهد البابا يوليوس الأول، في الفترة ما بين (336 – 352م)، ولا تزال القضية بين يدي علماء التاريخ

نستطيع أن نقول: إنَّ روما هى أصل نشأة عيد الميلاد، كما أنَّ الإسكندرية أصل نشأة عيد الغطاس، ولكن عيد الغطاس متقدّم في الزمن عن عيد الميلاد الذي لم يظهر إلاَّ في وقت متأخر نسبياً، ففي مطلع القرن الثالث لم يكن عيد الميلاد معروفاً، لكن في هذا الوقت ظهرت محاولات مختلفة لتحديد تاريخ عيد ميلاد المسيح، ويؤكد هذا ما جاء في كتاب " حساب الفصح " المنسوب للقديس " كبريانوس " أسقف قرطاجنة (200- 258م)، والذي يضع ميلاد المسيح في (28 مارس).

أمَّا في منتصف (ق4) كانت روما تحتفل بعيد الميلاد في (25 ديسمبر)، وأول ذِكر محقق لذلك ورد في التقويم الفيلوكالي

فما هى الأسباب التي دفعت كنيسة روما إلى الاحتفال بميلاد المسيح في (25 ديسمبر)؟ أغلب المؤرخون يعتقدون أنَّ سبب ذلك اليوم يرجع إلى سببين:

الأول: لاهوتيّ.

الثاني: رعويّ.

فمن المعروف أنّ مجمع نيقية سنة (325م)، قد أعلن أُلوهيّة المسيح منذ ميلاده، فكان ولابد من رفع الالتباس الناتج عن الاحتفال مع أتباع باسيليدس بعيد الظهور الإلهيّ، ثم تقييم ذكرى الميلاد وكشف رموز هذا السر العظيم وإظهار معانيه، وهذا يعني ضرورة فصل العيدين، فبقى عيد الغطاس في (6يناير= 11 طوبة)، ونُقل عيد الميلاد إلى (25 ديسمبر).

أمَّا اختيار يوم (25 ديسمبر) فقد فرضه على الكنيسة داعٍ رعويّ محض، فمن الواضح أنَّ يوم (25ديسمبر) يقع في الشتاء، وحوادث الميلاد تؤكَّد أنَّ المسيح لم يولد في الشتاء، لأنَّ الكتاب المقدس قد ذكر أنَّ الملاك عندما بشّر الرعاة، كانوا ساهرين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، ولا يُعقل أنَّهم في الشتاء القارص يسهرون فى العراء (لو8:2).

فالذي حدث هو الآتي:

إنَّ الإمبراطور الرومانيّ أوريليان (270 – 275م)، قد أدخل في سنة (274م) إلى العاصمة الرومانية، الاحتفال بالشمس التي لا تُقهر في (25 ديسمبر)، ومن علماء الكنيسة من يقول:

إنَّ يوم (25 ديسمبر) كانت تُجرى فيه الاحتفالات بعبادة الإله " مثرا Mithras "، إله النور عند الفرس الأقدمين للميلاد وقد ذُكر اسم " مثرا " كأحد الآلهة الهندية في القرن السادس عشر قبل الميلاد، كشاهد قوى على معاهدة أُبرمت بين ملكين، ولمَّا ظهرت الديانة الزَرَادشتية انتقل " مثرا " من غرب آسيا إلى بلاد فارس (إيران)، وأطلقوا عليه لقب إله النور، ثم ارتفعت مكانته حتى صار حارس البشرية في كل مكان، ومراقب كل المعاهدات، والمنتقم من كاسرى العهود، والمنتصر في كل الحروب..

وأخيراً دخل " مثرا " إلى الإمبراطورية الرومانية، وبدأت ديانته تنتشر من بدء حكم القيصر تراجان، وقد عُرفت باسم الديانة المثرية "Mithrsism "، ويرجع سبب انتشارها بهذه السرعة وهذا العمق، إلى عساكر الجيوش الرومانية الذين اعتنقوها وحملوها إلى أي مكان ذهبوا إليه، ثم إلى أسرى الحروب الذين حملوها معهم إلى روما قلب الدولة الرومانية.

هذه هى ديانة " مثرا " وفيها نجد التشابه الكبير بينها وبين ديانتنا المسيحية في طقوس كثيرة، كالمعمودية والمائدة المقدسة واختبار الموت والقيامة مع الإله.. ولكن ما الذي يميّز المسيحية عن الديانة المثرية؟

الفرق العظيم هو أنَّ المسيحية بُنيت على حقيقة تاريخية ملموسة، ومركزها هو شخص حقيقيّ عاش في التاريخ ومات ثم قام.. أمَّا ديانة مثرا فهى طقسية بُنيت على أُسطورة لا أساس تاريخيّ لها هى من خيال الإنسان، الذي يُريد الخلاص من التعاسة والإحساس بالخطية والخوف من الموت وضمان الخلود لنفسه

إذن فعيد ميلاد الشمس شرقيّ الأصل، فهو جزء من عبادة الإله " مثرا "، وهى ديانة وثنية ذات طقوس سرية يعرفها من يعتنقها، ومركزها عبادة الشمس الإله غير المقهور، فالشعوب القديمة كانت تعتقد أنَّ الشمس تسير في طريقها إلى الموت بسبب ضعف حرارتها في الشتاء، حتى تصل إلى أقصى الضعف يوم (21 ديسمبر) ثم تبدأ بعد ذلك في الحياة.

أو بمعنى آخر إنَّ الشمس تولد من جديد كل عام في (25 ديسمبر) وهو اليوم الذي فيه تعود الشمس إلى الارتفاع في كبد السماء، فيطول الليل وترتفع درجة حرارتها، كأنَّ الشمس قد استعادت قواها وانتصرت على قوى الظلام! وتكريماً لهذا الإله كان الرومان يقيمون الألعاب ويشعلون النار ويسجدون للشمس..

ونظراً للاحتفالات العظيمة التي كانت تُقام في هذا العيد، انقاد المسيحيون الذين لم يكن إيمانهم قد كمُل للتيار الوثنيّ، وراحوا يكرمون هم أيضاً الشمس! فلمَّا أرادت الكنيسة أن تحمي وتُبعد أبناءها عن هذه المعتقدات الوثنية الفاسدة، نقلت عيد الميلاد إلى هذا اليوم، وبهذا المنهج في فهم سيكولوجية الشعوب، نجح الغرب في استبدال عيد الشمس بعيد ميلاد المسيح، الذي وصفه ملاخd النبيّ بـ " شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا " (ملا2:4)، و" النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ " (يو9:1)، وقد ساعد على ذلك أنَّ المسيحية قد صارت الديانة الرسمية في الإمبراطورية الرومانية، في عهد قسطنطين الملك في (ق4م).

يقول (بروفسير شيرني) أُستاذ المصريات بجامعة أُكسفورد:

إن اختيار (25 ديسمبر) الذي كان يوافق (29 كيهك) قبل التعديل الغريغوريّ، تاريخاً لميلاد المسيح واحتفالات الكريسماس، هو تخليد لعيد الشمس القديم للاحتفال بميلاد " رع " إله الشمس، وهو يعرف بالمصرية القديمة باسم " ما سو رع " أي " ميلاد رع "

هذا وقد جاء في قاموس أُكسفورد: ومثل عيد الميلاد عيد الفصح، تحوّل من عيد وثنيّ إلى عيد مسيحيّ

وفي منتصف القرن الرابع كانت روما تحتفل بعيد الميلاد في هذا التاريخ (25 ديسمبر)، كما يظهر في التقويم الفيلوكاليّ سنة (354م).

وقد أشار القديس أُمبرسيوس أسقف ميلانو (ق4)، إلى ذلك بقوله: " إن المسيح هو شمسنا الجديدة ".

وقد حث القديس أُغسطينوس مسيحيّ إفريقيا الشمالية فى (ق5)، على السجود في يوم (25 ديسمبر) لا للشمس بل لخالق الشمس

لكن كنيسة روما لم تكتفِ بأنْ تعيّد لميلاد السيد المسيح في (25ديسمبر)، بل راحت تسعى إلى نشره في الشرق أيضاً، فلقيت الفكرة في البداية بعض الاعتراضات، لأنَّ الآباء الشرقيين وجدوا أنفسهم في حيرة، عندما حاولوا تحديد يوم ميلاد المسيح، لأنَّهم لم يهتموا قبل ذلك بهذه المسألة، ولكن مساعي كنيسة روما كُللت أخيراً بالنجاح.

وكانت أول كنيسة تبنت هذا التقويم الجديد هى كنيسة أنطاكية سنة (375م)، في عهد القديس يوحنَّا فم الذهب، الذي روى في عظة ألقاها سنة (386م)، أنَّ كنيسة أنطاكية بدأت ممارسة عيد الميلاد منفرداً عن عيد الغطاس منذ (10 سنوات) فقط، اعتماداً على مراسلات جرت له مع كنيسة روما، التي كانت سبقت أنطاكية في تحديد زمن العيد بوقت كثير.

يقول القديس يوحنَّا ذهبيّ الفم

" والحقيقة أنه لم يمضِ حتى الآن سوى عشر سنوات منذ أن تعرّفنا على هذا اليوم ( يقصد به يوم الميلاد 25 ديسمبر)، وبالرغم من ذلك ها هو قد ازدهر هذا اليوم وانتشر بسبب غيرتكم، وكأنَّه قد تُسلّم لنا منذ البدء، وهكذا لا يُخطئ الإنسان لو قال إن هذا العيد جديد وقديم معاً، جديد لأننا قد عرفناه حديثاً، وقديم لأنَّه هكذا اكتسب مساواة مع الأعياد القديمة.. وهذا اليوم كان معروفاً منذ البدء عند رجال الغرب، غير أنَّه وصلنا أخيراً منذ مدة وجيزة.. "

ثم حذت القسطنطينية حذو أنطاكية ففي عام (380م) كانت القسطنطينية تحتفل بعيد الميلاد في (25 ديسمبر)، ونستدل على ذلك من عظة ألقاها القديس غريغوريوس النزينزيّ بطريرك القسطنطينية (330– 390م) عن عيد الميلاد في (25ديسمبر)، وعظة أُخرى عن الموضوع ذاته في نفس اليوم من العام التالي

وفى عام (380م) كانت كنائس قيصرية كبادوكية في آسيا الصغرى، تحتفل هى أيضاً بعيد الميلاد في يوم (25 ديسمبر)، ونجد الدليل على ذلك في الخُطبة التي ألقاها القديس غريغوريوس النيسي- أُسقف نيسُس بتركيا (340 – ..4م) فى هذه السنة لتأبين القديس باسيليوس أسقف قيصرية، فنراه يُميّز بوضوح بين عيد الميلاد وعيد الظهور الإلهيّ

ومنذ عام (432م) كانت الإسكندرية تحتفل بعيد الميلاد في (25 ديسمبر) وقد كان هذا التقليد مجهولاً قبل ذلك الوقت، لأنَّ القديس يوحنَّا كاسيان (360 – 450م)، يؤكد لنا:إنَّ الكنيسة في مصر كلها، كانت لا تزال في أيامه، تُعيّد الميلاد والغطاس معاً في عيد الإبيفانيا، حيث تأتي كلمة " الإبيفانيا " بصيغة الجمع، أي تشتمل على عدة ظهورات ألا وهى: الميلاد بالجسد. ظهور النجم للمجوس. استعلان بنوة المسيح لله في العماد بصوت السماء استعلان لاهوته بمعجزة قانا الجليل . يذكر لنا كاسيان هذا الخبر في كتابه الذي يرجع إلى عام (411 – 427م)، يقول فيه:

وفى إقليم مصر هذه العادة قديمة بالتقليد، حيث يراعى أنَّه بعد عبور الإبيفانيا، التي يعتبرها الكهنة في هذا الإقليم، الزمن الخاص بمعمودية الرب وأيضا ميلاده بالجسد، وهكذا يُعيّدون التَذكَارين معاً، ولا يعيدونهما منفصلين كما هو في إقليم الغرب، ولكن في عيد واحد في هذا اليوم "

ولكننا نرى بولس أسقف إيميس يُلقى عظة رائعة عن ميلاد المسيح في يوم ( 25 ديسمبر سنة ) في كنيسة الإسكندرية، في حضور البابا كيرلس عامود الدين (400- 432م)، ومنها نستنتج أنَّ هذا التقليد دخل إلى الإسكندرية قبل ذلك بقليل، أي حوالي سنة (430م)، قبل أن يُغادر كاسيان مصر وقد جاء في المجلد الخامس من قاموس : إنَّ عيد الميلاد أُدخل لأول مرّة في كنيسة مصر بالإسكندرية عام

: إن الاحتفال بهذا العيد رسمياً في كنيسة الإسكندرية، كان في عام (430م) دائرة المعارف الدينية والأخلاقية المجلد الثالث ص406 جاء ما يلي: ولا يمكن أن يُحدد بالضبط التاريخ الذي جُعل فيه يوم (25 ديسمبر)، عيداً رسمياً للسيد المسيح في الكرسي الإسكندريّ، ولكنّه يقع يقيناً بين (400 –

أمَّا أورشليم فقد ظلت متمسّكة بالتقليد القديم، أي تُقيم العيدين معاً في (6 يناير)، لكنَّ المقاومة زالت أخيراً في منتصف (ق5)، والدليل الأكيد على ذلك هو الموعظة التي ألقاها باسيليوس أسقف سلوقية في يوم عيد القديس إسطفانوس، ونراه فيها يمدح يوفينال أسقف أورشليم، لأنَّه أول من احتفل بعيد ميلاد المسيح في (25ديسمبر) في كنيسة أورشليم، وكان يوفينال بطريركاً على أورشليم من (424 – 458م)

بعد ذلك انتقل الاحتفال بعيد الميلاد في (25 ديسمبر) إلى سائر كنائس الشرق، وقد قبلت كنائس ما بين النهرين هذا التقليد في (ق14) فقط، واليوم لا يبقى سوى الكنيسة الأرمينية، فتحتفل في يوم (6 يناير) بعيد ظهور الرب مقترناً بذكرى الميلاد، أي بعيدي الغطاس والميلاد معاً.

كما ذكرنا أنَّ أصل عيد الميلاد الغرب ثم انتقل إلى الشرق، أمَّا عيد الغطاس فأصل نشأته كنيسة الإسكندرية، وعن طريقها انتقل إلى الغرب في النصف الثاني من (ق4)، وقد أصبح عيداً رسمياً في كل الكنائس منذ بداية (ق5)، وعلى إثر هذا التبادل في الأعياد أصبحت جميع الكنائس في الشرق والغرب تحتفل بعيد ميلاد المسيح يوم (25 ديسمبر)، وبعيد الغطاس في (6يناير=11 طوبة).

لكننا نرى الآن كنيستنا تحتفل بعيد الميلاد فى يوم فما هو سبب الانتقال من (25 ديسمبر) إلى (7 يناير)؟ إنَّ الأسباب فلكية محضة، ولا علاقة لها بالعقيدة أو اللاهوت أو الروحيات.فكنيسة الإسكندرية تسير على التقويم المصريّ القديم الذي يبدأ بشهر توت، وقد حددوا رأس السنة (1 توت) في يوم قران الشمس مع ظهور نجم الشعري اليمانية، وهو ألمع النجوم في السماء ويُسمى باليونانية " سيروس وبالمصرية " سبدت وبموجب هذا التقويم يبلغ طول السنة: (365 يوم + 6 ساعات).

فلمَّا أراد الأقباط بعد دخول المسيحية مصر، عمل تقويم خاص بهم ابتدأوا من سنة (284م)، وهى السنة التى اعتلى فيها " دقلديانوس" العرش، وقد عُرف تقويمهم بتقويم الشهداء، مع أنَّ دقلديانوس لم يضطهد الأقباط سنة (284م)، بل أصدر في (23 فبراير303م)، منشوراً يقضي بهدم الكنائس، وحرق الكتب المقدسة، وحرمان العبيد من الحرية إن أصرّوا على الاعتراف بالمسيحية.. وقد حسبوا السنة كما كانت: (365 يوم + 6 ساعات). أمَّا الغرب فكان يسير حتى عام (1582م) على التقويم اليوليانيّ، الذي يحسب طول السنة مثلنا تماماً، فمن المعروف أنَّ يوليوس قيصر قد كلّف العالم الفلكيّ السكندريّ بضبط التقويم الرومانيّ القديم، فوضع تقويماً جديداً في عام (45 ق.م)، عُرف باسم التقويم اليوليانيّ نسبة إلى يوليوس قيصر.

إذن فالشرق والغرب كانوا يسيرون على تقويم واحد من حيث طول السنة، فما الذي حدث وأدى إلى هذا الاختلاف؟ كان مجمع نيقية قد قرر وقوع الاعتدال الربيعيّ في (21مارس)، ففي هذا اليوم تتساوى عدد ساعات النهار والليل وتكون كل منهما (12) ساعة في كل أنحاء العالم.

لكن في عام (1582م) لاحظ البابا غريغوريوس بابا روما (1572 – 1585م) وقوع الاعتدال الربيعي في (11) مارس بدلاً من (21) مارس، إذن هناك فرق قدره (10) أيام، فلجأ إلى علماء اللاهوت ليعرف منهم السبب، فأجابوه بأنه ليس لديهم سبب من الناحية الكنسية أو اللاهوتية، فالأمر مرجعه إلى الفلك، فرجع البابا لعلماء الفلك، فأعلموه بأن السبب يرجع لحساب السنة، فبحسب التقويم اليوليانيّ يبلغ طول السنة: (365 يوم+6 ساعات) بينما السنة في حقيقتها التي يقرّها علماء الفلك هى: (365 يوم + 5 ساعات + 48 دقيقة + 46 ثانية).إذن هناك فرق قدره: (11دقيقة + 14 ثانية)، وهذا الفرق يُكوّن تقريباً (يوم) كل (128 سنة)، و (3 أيام) كل (400 سنة)، ومنذ انعقاد مجمع نيقية سنة (325م) حتى البابا غريغوريوس (1582م) كوّن فرقاً قدره (10 أيام)، فماذا فعل بابا روما لتلافي الخطأ؟ أجرى تصحيحاً عُرف بالتصحيح الغريغوريّ يمكن اختصاره في نقطتين:

1- من جهة الـ (10 أيام) الفرق، أصدر أمراً بأنْ ينام الناس يوم (4 أكتوبر) سنة (1582م)، ليستيقظوا يوم (15 أكتوبر) بدلاً من (5 أكتوبر)، أي بدل أن يقطعوا ورقة من النتيجة قطعوا 11 ورقة (ورقة اليوم + 10 ورقات فرق الأيام ).
2– ولضمان فروق المستقبل، وضع قاعدة بموجبها يتم حذف (3) أيام كل (400) سنة.

بعد إتباع الكنيسة الغربية التقويم الغريغوريّ سنة صار ميعاد عيد الميلاد في الشرق يختلف عنه في الغرب، وقد بلغ الفرق إلى الآن (13 يوماً)والسؤال الحائر لماذا نترك دورة الشمس تفرّق بين
من تجمعهم محبّة المسيح شمس البر؟

كيفيَّة ضبط التقويم؟

إنّ مسألة ضبط التقويم ليست عقائدية حتى تقلقنا، فقبل أن يجرى الغربيون تعديلهم أجراه وأيده علماء الفلك، فالمسألة إذن فلكية بحتة! فما الذي يضيرنا من ضبط التقويم وقد ضبطه غيرنا؟! إنها حالة يمكن تشبيهها بإنسان مات وترك ساعتين لابنيه ولكن غير مضبوطتين، واحد ذهب برضاه للساعاتي وضبط ما فيها من عيب، والآخر رفض وتشدد بأن هذه الساعة عزيزة علىّ لأنَّها ميراث من أبى وسوف أتركها كما هى، هذا هو شأننا!

ألسنا نتناول جسد الرب ودمه تحت أعراض الخبز والخمر، دون أن نسأل في حقل من زُرع القمح؟ أو بيد من غُرس أو حُصد أو طُحن..؟ ربَّما تكون يد مسيحي أو غير مسيحي، وما نقوله عن القمح نقوله عن نتاج الكرمة أيضاً.. وعلى صانع الصينية والكأس والذي وضع رسم الكنيسة وبناها.. فالكنيسة لا يهمَّها اليد التي صنعت، إنَّما الشخص الذي يقدّس والصلوات التي عن طريقها يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه.

بكل بساطة وبدون الدخول في تفصيلات، نبدأ سنة الشهداء في عام يُتفق عليه قبل موعده بـ (13 يوماً) - الفرق الآن بين السنة الميلادية وسنة الشهداء - وتسير المواسم والأعياد في موعدها بدون خلخلة، مثل إنسان عنده دولاب فيه كتب وحركه بما فيه (13سم)، هل حدث تغيير في صفوف الكتب والرفوف؟ وبذلك يصبح عيد الميلاد عندنا موازياً لـ (25 ديسمبر) ميعاد عيد الميلاد عند الغرب كما كان من قبل.

نفترض أنَّ قطاران قد خرجا من القاهرة إلى الإسكندرية ليصلا في وقت واحد، فسبق أحدهما الآخر في الطريق، فضاعف الآخر سرعته فوصل القطاران في وقت واحد، فهل يمدح واحد ويُذم الآخر؟! أمَّا لضبط فروق المستقبل فيمكن حذف (3 أيام) كل (400 سنة)، وهذه أيضاً ليست معضلة، فالسنوات القرنية التي لا تقبل القسمة على (400) يُحذف منها يوم، مثل السنوات (1700، 1800، 1900)، أما سنة (2000) لأنها تقبل القسمة على(400) بدون باقي فهى تُعد كبيسة، وهكذا كل حقبة مقدارها (400) فيتم حذف(3)أيام .

الأحد، 28 نوفمبر 2010

اللـه يُحبـّك


الله يُحبّك، هذه حقيقة، والدليل: إنّه ترك عرش مجده ونزل إلى أرض الشقاء، ليخوض بحر الآلام المضطرب بأمواج الشر... حباً فيك ورغبة فى خلاصك... ومع أنَّه الإله لم يطلب منَّا أن نأتي إليه أو نقترب منه، لكن محبته جعلته يتنازل ويقترب منّا ويحيا بيننا ويحتمل إهانتنا وتعييرنا..! فمنذ أن ولد وجد نفسه موضوعاً فى مذود، ملفوفاً بأرخص الأقمشة، يرضع ثدي امرأة فقيرة، ولا نعلم فى أية حالة كانت درجة معيشته فى بيت والديه وهو بعد طفل وصبى... ولا نعلم شيئاً عن الذهب الذي قدَّمه له المجوس، إلاَّ أننا نعلم مما رواه عن نفسه إنَّ: " لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ " (مت20:8).
هل سألت نفسك مرّة لماذا خُلقت؟ إنَّ الله خلقك ليس لأنَّه في حاجة إليك بل لأنَّه يُحبّك! لقد تحمّل المسيح آلام نفسية وجسدية لا يُعبر عنها، وكلها تشهد بحُبّه، ففي بسـتان جثسيماني ابتدأ يحزن ويكتئب، وصار عرقه يتصبب كقطرات دم نازلة على الأرض... أما الذي جعل عرقه يتصبب هكذا إنَّما هو المحبة، لقد كانت كل قطرة تسقط على الأرض تكتب " أُحِبُّك " !
لو لم يكن الله يُحِبّك ما قبل أن يُعرى من ثيابه ويُجلد على ظهره وهو اللابس النور كرداء، ويرصّع ذيل ثوبه بالنجوم، ولا أن توضع قصبة فى يمينه ليسخروا بملكه وهو الملك الحقيقيّ، الذي ستخضع كل الشعوب لسلطانه، وسينحني كل ملوك الأرض أمام صولجان مجده، ولا أن يُبصق فى وجهه، الذي هو أبرع جمالاً من كل وجوه بنى البش .
إذهب بفكرك إلى الجلجثة، تلك البقعة الجرداء، التي ارتوت رمالها بدماء القتلى والمجرمين، وارفع عينيك، لترى ابن الله، الذي السماء والأرض مُعلّقة بكلمته، مُعلَّقاً هناك على خشبة، يصرخ متألماً من قسوة العذابات وشدتها.. فالدماء تملاً وجهه من آثار جروح إكليل الشوك.. وإذا نظرت إلى أسفل، لوجدت قطرات الدماء المنسكبة من موضع المسامير المغروسة فى يديه ورجليه، قد جرت على الأرض ونقشت عليها عبارة من كلمتين: (الله يُحِبُّك)، أمَّا جنبه المطعون فقد صار ينبوعاً انفتح ليُطهرنا، صخرة انفجرت لنشرب فنرتوي ونغتسل من آثامنا، مغارة فُتح بابها ليختبأ فيها الهاربون من شر العالم وقسوته..
قال أحد الآباء:
" الله محبّه هذا هو هتاف الملائكة على الدوام، وأغنية الأجناد السماوية على مرور الأعوام، ونداء حاملي بشارة الخير والسلام، هذا هو سراج القديسين فى السماء وأُنشودة المؤمنين، هذا هو لحن المتضايقين وغناء المتغربين، هذا هو أمل الخطاة ورجاء الصديقين، وإن كنَّا نشتهى أن ننطلق إلى السماء ، فليس إلاَّ لكي نرى الله المحبة، فالمحبة هى الشيء الوحيد الذي يُزين ويُنير السماء " .
اُُنظر إلى قلب الله، فهو الكتاب المفتوح الذي يجب أن تتأمل فيه على الدوام، لكي تتعلّم سر الطهارة، تبحّر فيه لتعرف أسرار الحكمة الإلهية، وادخل إلى عمقه فهو عزاء الحزين، كنز المحتاجين، ميناء المطرودين، اُُطلب هذا القليل من الماء لكي تعود إليك الحياة من جديد، فبدون ماء الحياة لا حياة ولا أمل فى الحياة ولا نمو ولا إخضرار.
جميل هو بستان الله، فكم يزداد جمالاً لو كنت وردة فيه، يتأمّل الله جمالها، وتتنسم الملائكة عبير رائحتها! إن هذا لن يتحقق إلاَّ إذا قدّمت توبة صادقة، وعدت إلى الله بكل قلبك.

الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

المسيحية ديانة سامية أسسها المسيح


لا يختلف إثنان على إن السيد المسيح هو الذى أسس الديانة المسيحية، ولكن من هو المسيح ؟
هل هو مجرد إنسان ولد وعاش وأخيراً قد مات ؟ أم معلم قدّم تعاليم جديدة ؟ أم هو نبي حمل رسالة ونفّذ مهمة إلهية؟

ذات يوم رأى سكان أورشليم موكباً كبيراً، فريداً، قادماً نحو المدينة، جماعة من الناس يسيرون في زحام شديد، والأغصان التي بأيديهم يلقونها تحت أقـدام راكب الأتان، ويعلو بالمدينة صوتهم المدوى، ويتردد صداه بين الجبال، وهم يصرخون قائلين: " أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي! " (مت9:21)، ومازال يكثر الذين يصيحون ويعترفون بالسيد لمسيح ويجلجل صوتهم في العالم: " مبارك الآتي باسم الرب أوصنّا في الأعالي".

ويذكر الكتاب المقدس إن المسيح عندما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة " من هذا ؟ " (مت10:21)، وما تزال المدن حتى اليوم ترتج.. والعقول ترتج.. العالم كله يرتج ويقول: من هو هذا؟

وحين بدأ المسيح خدمته على الأرض، التفَّت حوله جماهير كثيرة.. وصارت تتبعه في كل مكان، وأحدث ذلك هزة، أخافت رؤساء الكهنة والكتبة والقادة، ولما وصلت أخباره إلى هيرودس الملك ارتاب وتعجب، إذ ظن أن المسيح هو يوحنا المعمدان !! ولهذا سأل في فزع وقلق " يوحنا أنا قطعت رأسه! "

إذن من هو هذا الكائن الفريد؟ الذى لم يرد في التاريخ من يشبهه!! قد تقول: نبى أو إنسان ولد وعاش ومات؟ لكن ولادته الجسدية كانت فريدة، فلم نسمع عن ميلاد إنسان بدون زرع رجل!! أو عذراء تلد بدون زواج وبعد أن ولدت ظلت عذراء كما هى!! ولولا أن إشعياء النبى قد تنبأ عن هذا الميلاد العجيب: " يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (إش7: 14)، فما كان ممكناً لإنسان أن يصدقه!!

وعاش كل حياته بلا خطية! وقد قال مرة لليهود " مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ " (يو8: 46).


وكانت أعماله تدعو إلى العجب " وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ وَرَقا ًفَقَطْ فَقَالَ لَهَا: لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ فَلَمَّا رَأَى التَّلاَمِيذُ ذَلِكَ تَعَجَّبُوا " (مت21: 18 –20).

وصنع معجزات خارقة، فوق قدرة البشر! فقد شفى المرضى وجعل العرج يمشون، والصم يسمعون، والعمى يبصرون، والخرس يتكلمون، والمفلوجين يتحركون.. حتى الطبيعة كانت تخشاه وتطيعه، فكان ينتهر الريح ويأمر البحر فيهدأ...

وغفر الخطايا التى لا يغفرها إلا الله " وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحاً عَلَى فِرَاشٍ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: ثِقْ يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ " (مت9: 2) وفى بيت سمعان الفريسى قال للمرأة الخاطئة: " مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ" (لو47:7).

وقد هزم الموت عندما أقام أمواتاً من الموت وأعادهم إلى الحياة فقد أقام: ابن أرملة نايين (لو7:11- 17) وإبنة يايرس )مت9: 8- 26) ولعازر (يو11: 1- 44) وأخيراً استطاع بقوة لاهوته أن يقوم من بين الأموات ويصعد إلى السماء!!

إنه معلم قدّم تعاليم جديدة تُلهب الروح حرارة، والجسد طهارة.. وفى تعاليمه لم ينقض الناموس بل أكمله (مت5: 17)، لقد علم بسلطان وتكلم بقوة (مت7: 29) ولم تكن تعاليمه كتعاليم الكتبة والفريسيين الحرفية، وأقواله كانت ذات سلطان حتى " بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ " (مت7:28، 29).

ونبي حمل رسالة سماوية، وتكلم الله به فهو الكلمـة " وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ.. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّ" (يو1:1- 14).

وقد لُقب بألقاب كثيرة منها ما يشير إلى لاهوته ومنها ما هو يشير إلى ناسوته، من بين هذه الألقاب الكثيرة: الناصري " وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاًً " (مت2: 23)، والمسيح " يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ " (مت1: 16)، وابن الإنسان " وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ " (يو13:3)، وابن الله " وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ " (يو6: 69).

ذات يوماً سأل المسيح تلاميذه من يقول الناس إنى أنا ابن الإنسان فقالوا: " قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ" (مت16: 20) وبعدما سمع يسوع إجابة تلاميذه وجّه إليهم سؤالاً مباشراً " وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ " (مت16: 16).

أما توما فقال مرة " رَبِّي وَإِلَهي" (يو20: 28) ومرثا قالت: " أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ" (يو11: 27) والخصى الحبشي " أُومِنُ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ" (أع 8: 37) وبيلاطس البنطى وهو من أعداؤه والبعيدون عنه: " قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ" (لو23: 14) وقائد المئة "بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً " (لو23: 47) واللص اليمين على عود الصليب قال" أُذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ " (لو23: 42).

أما المسيح فقال عن نفسه " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو14: 6)، " أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو10: 11)، " أنَا وَالآبُ وَاحِدٌ " (يو10: 30) " قد دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ " (مت8:28)... آيات كثيرة قالها السيد المسيح وكلها تُعلن لنا من هو!!

ويعد حُبه أعظم أعماله " لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " (يو3: 16).

وهو أيضاُ يخلصك، لأنه من أجلك جاء، ولخلاصك قد نزل من السماء، أتذكرون قول الملاك للرعاة يوم ميلاده "هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ " (لوقا2: 11).

كما أنه يبقى معى ومعك ومع الجميع " هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الذى تفسيره اللهُ مَعَنَا " (مت1: 23)، " هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر ِ" (مت28: 20).

الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

ما هو الفكر؟ وكيف يتكون


لو أردنا تعريف الفكر في عبارة بسيطة لقلنا: إنَّ الفكر نشاط عقليّ غير مرئيّ يجول في ذهن الإنسان، وهو لا يتوقف حتى أثناء النوم.
عناصر الفكرة


ولكي تكتمل عملية التفكير لا بد أن تتوفّر عدة عوامل، فما هي عناصر الفكرة؟ وماذا يلزمنا لبناء عملية فكرية تُنتج أفكاراً، أو أوهاماً وأحلاماً.. للإجابة على هذا السؤال سنضرب المثال التالي: تخيّل أننا ننظر سوياً من شباك غرفة تطل على النيل، ثم سألتك: ما هى أطول مدة يستطيع الرجل أن يبقى خلالها مُعلَّقاً في الهواء فو الماء؟أعتقد أنَّك ستتعجب من سؤالي! وفي الحال ستبادرني قائلاً: وهل يستطيع رجل أن يبقى معلقاً في الهواء؟ هذا غير واقعيّ! وأنا لا أستطيع أن أُفكّر في التخيُّلات!
من هذا الجواب الطبيعيّ، نستنتج أنَّه ليس بإمكاننا أن نُفكّر إلاَّ إذا كان هناك " واقع ".

ولكن هل وجود الواقع وحده كافٍ لتكتمل منظومة التفكير؟ ولهذا سأعود أسألك: إنَّي أسمع أصواتاً واضحة في الغرفة المجاورة، تُرى كم هو عدد الأشخاص الموجودين فيها؟ ولا تقل هذه المرّة إنَّ الموضوع غير واقعيّ। جوابك: حقاً إنَّ الموضوع واقعي، ولكني لا أستطيع الإجابة، لماذا؟ لأنّي لا أراهم، دعني أنتقل إلى الغرفة المجاورة وسأعدّهم لك.من هذا يتضح لنا أنَّ وجود الواقع لا يكفي لتكوين الفكرة، وإنَّما يجب أن يقع " الحس " على هذا الواقع لكي نستطيع البدء في التفكير. وإذا طلبت منك الآن أن تُعطيني أسماء الموجودين وتواريخ ميلادهم॥ لكان ردّك: لا أستطيع أيضاً فأنا لا أعرفهم، فمن أين لي بالمعلومات التي تطلبها؟


إذن لا يكفي وجود الواقع والإحساس به، وإنَّما نحتاج أيضاً إلى " معلومات " متعلّقة بالواقع، لكي نُفكّر فيه.
وإليك مثال آخر:وأنت سائراً في الطريق رأيت " شجرة " بلا ثمر، فلو سألتك عن نوع ثمرها لعجزت عن الإجابة، ولكن لو دققت النظر فيها ورأيت عليها ثمرة منسية، لأدركت في الحال نوع الشجرة، فتقول: إنَّها شجرة تفاح।


في هذا المثال توفّرت شروط التفكير وهي:
1- الواقع ( الشجرة)
2- الحواس (البصر)
3- المعلومات (ما تعرفه عن التفاح)
من خلال هذا المثال البسيط نستخلص الآتي: إنَّ للفكرة ثلاث عناصر أساسية ألا وهي:


الواقع
حيث لا فكر بلا واقع وكل معرفة بدون واقع هي خيال، فالواقع هو أساس الفكر، والفكر تعبير عن الواقع।

الحواس
فلولا حواس الإنسان لَمَا تكون الفكر، لذلك يجب أن نحس بالواقع أو أثره، لكي تتم العملية الفكرية।

المعلومات
وهي من أساسيات عملية التفكير، وبدونها تظل الأفكار مشوشة।

فلو أعطينا إنساناً عربياً كتاباً لاتينياً، دون أن تتوفر لديه أيّة معلومات تتصل بتلك اللغة التي يجهلها، وجعلنا حسّه يقع على الكلام بالرؤية واللمس، وقمنا بتكرار هذا الحس مئات المرات، فإنَّه لا يمكن أن يعرف كلمة واحدة من كلمات الكتاب، إلاَّ إذا حصل على معلومات تؤهله لمعرفة اللغة اللاتينية، فحينئذ يبدأ في تعلّمها فيتحدّثها ويفكر بها॥ ولنأخذ طفلاً ليس عنده أيّة معلومات، ولنضع أمامه قطعة ذهب وقطعة نحاس وحجراً، ونجعل جميع حواسه تشترك في حس هذه الأشياء، فإنه لن يدركها، ولكن إذا أُعطي معلومات عنها وأحسّها فإنّه يستعمل المعلومات ويدركها। نفس الشيء لو أحضرنا إنساناً من غابات إفريقيا، ووضعناه في غرفة بها كمبيوتر، ولم نعطه المعلومات الكافية عن هذا الجهاز الذي لم يره في حياته، فإنَّه لا يمكن أن يعرف حقيقته وطريقة تشغيله..


مستويات التفكير
إنَّ مستويات التفكير متعددة، ولكن العالم السويسريّ " بياجيه " أشار إلى أربعة مستويات رئيسية ألا وهى:

التفكير الحسّيّ
ومن الاسم نعرف أنَّه يعتمد على حواس الإنسان الخمسة، وهو يُعد أول مستويات التفكير، ومن خلاله يستطيع الطفل في عامه الأول، أن يعرف أُمه عندما يراها، ويلتفت عندما يسمع صوتها وهى تناغيه।

التفكير التقليديّ
ويظهر هذا المستوى من التفكير عند الأطفال، في الفترة ما بين سن (2- 7) وهو أعلى من التفكير الحسّيّ، وفيه نرى الطفل يُقلّد والده ومن حوله، سواء في طريقة كلامهم أو مشيهم॥

التفكير الملموس
وفي هذا المستوى يستطيع الفتى أو الفتاة فيما بين سن (8-11) سنة، حل المشكلات والتفكير فيها بشرط أن تكون الأشياء اللازمة للحل يمكن إدراكها حسيّاً، مثل رؤية الخرائط وأدوات التجربة॥

التفكير المعنويّ
وهو أعلى من المستويات السابقة، ويعتمد على معاني الأشياء وما يقابلها من ألفاظ وأرقام، دون اللجوء إلى الأشياء المحسوسة أو صورها الحسّية، ففي العمليات الحسابية مثلاً لا يتم استخدام أصابع اليد، كما أننا نستطيع أن نُدرك معاني كثيرة مثل: الحرية والعدل والمساواة.. دون الحاجة إلى رؤيتها، كما نُدرك العلاقة بين شيئين أو أكثر، مثل العلاقة بين تكاثف بخار الماء على الزجاج وبين برودة الطقس..

الأحد، 10 أكتوبر 2010

مَن منّا



منْ منَّا الذي لم تُثقّل كاهله الشهوة ، فتمنّى لو خلت حياته من كل فعل شاذ أو فكر قبيح؟! منْ منَّا لم يضق ذرعاً في لحظة من لحظات حياته بأعباء الشهوة الثقيلة، فتمنّى أن يأتي يوم يتخلّص فيه من كل الشهوات؟! منْ مِن البشر لم يرهب سُم هذا الثعبان البشريّ الذي لف البشرية بذيله، فتمنّى أن يسحق تحت قدميه رأسه؟!

فما من أحد إلاَّ واختبر مرات عديدة ألواناً كثيرة، من تلك الانفعالات القاتمة بعضها عنيف كالبركان ينفجر فجأة بدون إنـذار، تاركاً وراءه نفساً مضطربة وجسماً هزيلاً، أو كزلزال مُدمّر قد حبلت به الأرض، فتمخّضت متوجّعة ولم تلد غير الخراب والشقاء!

وكم من أُناس ماتوا ضحايا للحيوان المفترس المختبيء في أعماق البشر! فالثعبان الجَهنَّميّ قد نفث السموم في الفضاء الواسع الجميل، الذي كانت تملأه عطور الورود! فما أصعب صرخات الجسد وما أشد أنينه عندما تضغط عليه الشهوات!

إننا نعلم أنَّ الشهوة الآثمة دنيئة، لكنَّها عندما تثور في إنسان فإنَّها تهزه هزاً عنيفاً، وتسحبه كشاة ذبيحة حيثما تشاء! وعندما تندس فجأة في ثنايا الشعور في غفلة وتتمكّن منَّا، تشل الإرادة، وتسجن الحرية، وتُقيّد الفكر، وتقتل الإبداع، وتجعل الحواس نارية، والقلب ملتهباً، والروح هائمة تتنقل من هنا إلى هناك، وهى لا تدري ماذا تفعل؟! أو أين تستقر؟! أو بمن تستجير؟! ألسنا في أوقات كثيرة وبغير سبب واضح، تجتاحنا تيارات عنيفة من عواطف متناقضة تهزّنا حتى الأعماق، ونشعر بحاجة شديدة إلى من يقف بجانبنا ويأخذ بيدنا، حتى تعبر هذه الموجة العنيفة بسلام؟! ألا تمر علينا فترات طويلة نشعر فيها بأنَّ جُرثومة الإثم انتشرت في كل مكان، وأنَّ السماء أغلقت أبوابها، وقد انفتح باب الجحيم وانبثق شعاع الشر، وذلك لكي يرسم صورته الحزينة على كل الوجوه؟!ليست الشهوة إلاَّ سماءً مظلمة بلا نجوم، أرضاً جافة بلا ثمار، بحراً تبخّرت مياهـه فصار نبعاً بلا حياة! إنَّها رياح عاصفة، أمواج مضطربة، وإن بدت كأنَّها زورق صغير يحملنا إلى ميناء الراحة، فالزورق بلا ربَّان، وبعد قليل ستُحطّمه الأمواج أو تقصف به الرياح! وإن توهّم الشهوانيّ أنَّه يحيا في بحر السعادة، فليعلم أنَّ أمواج بحر الشهوة لا تفتح بين موجاتها سوى القبور، فبين كل موجتين يوجد قبراً، فإن لم يُدفن في هذا سيُدفن في ذاك!

ليس أصعب على الإنسان من أن تتحوّل حياته إلى مجرد لذات حسّية وضيعة، فيصير مثل جهاز آليّ كبير يُحرّكه تُرس واحد ألا وهو: الشهوة! إنَّها قمة المأساة أن يجعل الإنسان من ذاته مزماراً في كف الشهوة، التي تضع إصبعها علي فتحات المزمار لكي تختار بنفسها أية نغمة تشاء! والحق إنَّ كل من يبحث عن الشهوة، إن فرح من جانب فسيبكي من الجانب الآخر! فالشهوة رابطة وهميّة لأنَّها رابطة في الفراغ، أو علاقة تبحث عن الألم!

نعترف بأنَّ الشهوة أنانية، والأنانية تأكل صاحبها، وبالتالي فإنَّ طعامها لا يمكن أن يكون مُغذّياً، وهكذا يستهلك الشهوانيّ نفسه بسرعة زائدة، وينحل بشكل ظاهر، لأنَّه يعيش على حساب نفسه قبل أن يعيش على حساب الآخرين! فالشهوة أشبه بوليمة ليس فيها الآكل بل المأكول! إنَّه الشهوانيّ الذي يتغذّى على نفسه، وحوله قد انعقد مؤتمر من الديدان الخبيثة، ذات الخبرة بفنون أكل البشر! قد نكون على صواب إن قلنا مع القديس مرقس الناسـك: " إنَّ القلب المُحِب للشهوات هو سجن للنفس، أمَّا القلب الطاهر فهو باب مفتوح ".

ونحن عندما نصف حُب الشهوة بالسجن، فذلك لأنَّه لا يملك سماءً، ولا أُفقاً، ولا مستقبلاًً.. بل هو حُب مُغلق حول الذات، ولهذا يرتد دائماً إلى نقطة بدايته، في الوقت الذي يتوهّم فيه الشهوانيّ أنَّه يتقدم نحو غايته! إنَّه دائرة مُقفلة فهو لا يعرف الاتجاه أو الإثراء أو الإبداع.. بل يعرف شيئاً واحداً: التكرار المستمر!

من الشهوة تتولّد الخطية، والخطية تكون مصحوبة بلذة، واللذة هي أشبه بساحر ينقلب القُبح بلمسة عصاه إلى جمال ترتاح له العيون! فاللذة إذن ليست إلاَّ نوعاً من الوهم أو الخِداع..! ومهما كانت إمكانات الإنسان فإنَّه لا يستطيع أن يبقى طويلاً فوق قمة اللذة الشامخة، وهذا هو السبب في أنَّ اللذة، كثيراً ما تجعل الإنسان يُصاب بخيبة أمل، عندما يكتشف أنَّ هذه الحياة التي قد بذل كل ما يملك لكي ينعم بها لم تُعطه شيئاً، ولم تقده إلى شيء أفضل! فيستيقظ شعور الإنسان المخدوع على تلك الحقيقة المرة ألا وهى: إنَّ الإله الذي كان يتعبد له ليس إلاَّ شيئاً تافهاً، مقززاً..‍‍!

لكننا نعترف بأنَّ إنساناً واحداً تخلو حياته من أي أثر للشهوة، لا يوجد ولن يوجد بعد، وكما أنَّ الإنسان يمضي في طريق الحياة حاملاً في باطنه جُرثومة المرض الجسميّ، فإنَّ كل إنسان أيضاً يحمل في أعماق نفسه، جُرثومـة مرض نفسيّ للشهوة قد لا يفطن إليه، وحتى حين يظن الإنسان أنَّه خالٍٍ تماماً من الشهوة! فإمَّا أنَّه يخدع نفسه، أو ليس لديه وعي صريح بهذه الشهوة، التي يُنكر حقيقة وجودها! والواقع أنَّ شقاءنا لا ينحصر فقط في شعورنا بالألم والمرض والشيخوخة، أو شتّى مظاهر الفناء البشريّ! بل إنَّ هذا الشقاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشعورنا الأخلاقيّ، ومدى حُبِنا لحياة الخطية، ولكننا نعترف بأنَّه مهما كان من نقاء قلبيّ وفكريّ، فلابد من أن يجول بخاطرنا نزعات شهوانية شيطانية، نجزع لِما فيها من خبث أسود مُخيف، يُنجّس القلب ويُلوّث الفكر، وربَّما يمتد إلى الضمير!

كتاب جذور الشهوة