مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الثلاثاء، 30 مارس 2010

عـبد يغـدر بمولاه

يهـوذا

العبد هو يهوذا الإسخريوطيّ، الذى اختاره المسيح ليكون له تلميذاً، وقد غمره بمواهبه وإحساناته، وأعطاه سلطاناً كسائر التلاميذ.. فصنع المعجزات مثلهم وأخرج الشياطين، وفى نفس الوقت كان كارزاً بين اليهود، ومُعلّماً للخطاة، مع أنَّه كان فى الداخل بعيداً عن تعليم المسيح!

عهد إليه المسيح بمهمة ألا وهى: أمانة الصندوق، فصار مُدبّراً للمال، وليّاً على الفقراء والمساكين، وإذ كان طمّاعاً نهب ما كان يوضع بالصندوق، ولهذا السبب انتقد مريم عندما سكبت الطيب على قدمي يسوع فى بيت سمعان الأبرص (يو12: 6)، معتبراً نفسه من المحسنين، المدبّرين، فكان يتظاهر بأنّه يهتم بالفقراء، وهو يسعى لإهلاك أب الفقراء والمساكين.

لا نُنكر أنّه كان موضع ثقة التلاميذ، والدليل أنَّ ليلة التسليم عندما أعلن المسيح عن مُسلّمه، لم يخطر على بال أحد منهم أنّه يقصد يهوذا (مت21:26)، فكيف إذن سقط هذا النجم العظيم؟! كيف الذي وعظ الناس بالمسيح يسلم المسيح؟! والذي وهب النظر للعميان هو نفسه يُصاب بعمى القلوب؟! وكيف الذي أخرج الشياطين يدخله الشيطان؟! لماذا تحوّل الحمل إلى ذئب وبدأ يعض راعى الخراف؟!
محبة المال أصل الشرور

لابد أنَّ خطية كان يهوذا يخفيها فى قلبه، وهى التى دفعته إلى ارتكاب هذا الفعل الأثيم، لقد كانت محبة المال تملأ قلبه وهى التى جعلت الثلاثين من الفضة أفضل عنده من المسيح، ألم يقل بولس الرسول: " مَحَبَّةَ الْمَالِ اصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ الَّذِي اذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا انْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ " (1تى10:6).

إنَّ حُبّه الفضة جعله يبيع خالق الفضة، باع المجد الذى ليس له ثمن، وهو لا يدرى أن هؤلاء الأشرار لم يعطوه إلاَّ ثمن حبل المشنقة!! لأن المسيح لا يُقدّر بمال، وهكذا نسى يهوذا أننا " لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ وَوَاضِحٌ انَّنَا لاَ نَقْدِرُ انْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ " (1تى7:6)، وأنَّ " التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ " (1تى6:6).

ولم يخطر على باله أنَّ المال ليس سوى ينبوع من الينابيع الجافة الكثيرة، التي اخترعها العالم لنفسه اللهو وللمسرات.. وهو أشبه بالسراب الخادع، الذى يراه السائر فى الصحراء ماءً، وبعد أن يركض نحوه فسرعان ما يتأكد أن ما رآه إنَّما هو وهم وخيال!

قال أحد الأثرياء:
" بالأمس كنت غنياً بسعادتي واليوم فقيراً بمالي، ما كنت أحسب أنَّ المال يطمس عين نفسى ويقودها إلى كهوف الجهل، ولم أدرِِ أنَّ ما يحسبه الناس مجداً كان لي جحيماً، أهذا هو المال؟! أهذا هو الإله الذى صرت كاهنه؟! من يبيعنى فكراً جميلاً بقنطار من الذهب؟! من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة؟! من يُعطيني عيناً ترى الجمال ويأخذ خزائنى؟! ثم قام من مكانه ولمَّا وصل إلى قصره نظر إليه وأشار بيده نحوه كأنّه يرثيه وكل ما فيه وقال بصوت عالٍٍ: أيها الشعب السالك فى الظلمة، الراكض وراء التعاسة، المتكلّم بالحماقة، متى تأكل الشوك وترمى الثمار والزهور إلى الهاوية؟! متى تسكن الوعر والخرائب تاركاً بستان الحياة؟! لماذا ترتدي الثياب البالية وثوب البر قد حِيك من أجلك؟! لقد انطفأ سراج الحكمة فاسقه زيتاً، وخرّب اللصوص كرم السعادة فاحرسه، أوشكت خزائن راحتك على الإفلاس فانتبه!! ".

إنَّ حياتنا أيها الأحبّاء ليست فى امتلاء خزائنا بالأموال، ولكنّها فى امتلاء قلوبنا بالسلام الروحانيّ، سلام الله الذي يفوق كل عقل، والمال لم يكن فى يوم وسيلة للحصول على هذا السلام، لأنّه لا يمس إلاَّ الحواس الخارجية فقط، وأمَّا الحواس الداخلية فلا يستطيع أن يصل إليها، ماذا جنى عخان بن كرمى من حُبّه للمال؟ لم يجنِ سوى السرقة، وماذا فعلت به السرقة؟ قادته إلى المـوت رجماً بالحجـارة (يش25:7)، وأيضاً جيحزي تلميذ إليشع النبيّ، لم ينل من الاختلاس سوى مرض البرص (2مل27:5).

تتحوّل الحياة إلى سجن إذا غلّف المال جدران بيوتنا، عندئذ يكون المال هو السلسلة التي تربطنا فتحرمنا الخروج من منازلنا، خوفاً من أن يأتى لصوص ويسرقوا أموالنا! حياتنا على الأرض رغم قصرها إلاَّ أنّها نقطة البداية للحياة الأبدية، والمال ليس هو النبع الذى منه ينطلق النهر بين الجبال والصخور وعلى السهول.. حتى يصب فى بحر الأبدية، إنَّما القداسة هى النبع الذي منه تنطلق المياه ولا تكف عن الجريان حتى تصب فى بحر الأبدية.

شهوات أُخرى

كان حُب المال هو الباعث الأقوى لخيانة يهوذا، لكنّه لم يكن الحافز الوحيد، وإلاَّ ما اكتفى أن يأخذ من اليهود ثلاثين من الفضة ثمن تسليمه ليسوع، بل لانتهز الفرصة ليأخذ مبلغا أكبر، ولكان أفضل له أن يبقى أميناً للصندوق يختلس منه ما شاء، لكنَّ الحقيقة إنَّ شهوات أُخرى كانت تتأجج نيرانها فى قلبه، فلابد أنَّه ظن أنَّ المسيح قد جاء ليُقيم مملكة أرضية كسائر الممالك، فطمع كما طمع يعقوب ويوحنا ابنا زبدي فى منصب رفيع (مت21:20)، فلمَّا خاب أمل يهوذا عرض عنه ونفر منه، وتحوّل من تلميذ له إلى عدو ضده.

هذا وقد علل القديس يوحنا الحبيب مسلك يهوذا البشع بعبارة بليغة قالها وهى " دخله الشيطان " (يو13: 7)، ويؤكد هذا ما قاله يسوع: " أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ! قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ " (يو70:6،71).

لقد نظر يهوذا إلى ممالك الأرض الواسعة، ومدن داود وسليمان الرائعة، واشتهى أن يشهر سيفه مع سيوف التلاميذ لينتصر المسيح، ويكون له مكان على عرش فى إحدى الولايات، فما أروع المملكة فى الصباح وهى ترتدى ثوبها الفضيّ، وما أبهاها فى المساء وهى تتزين بزيها الذهبيّ، أمَّا خاتم المُلك فما أجمله بين أصابع الأمراء، وتاج العرش ما ألمعه على جباه الولاه.

ولكن يهوذا لم يخطر على باله أن وراء ما ينظر ملكوت أسمى يحكمه من غدر به! وهل يمكن لمن يحوط الأرض بجناحيه أن ينشد ملجأ فى عش مهجور؟! أم هل يرتفع الحي ويتشرّف بواسطة لابسي الأكفان؟!

إن مملكة المسيح ليست من هذه الأرض، وعرشه لم يُبنَ على جماجم الموتى، أمَّا رأسه فلم ترغب سوى تاج الأشواك، وعلى كل الذين يرغبون مملكة أُخرى غير مملكة الروح، أن ينحدروا إلى مقابر أمواتهم حيث يعقد ذوو الرؤوس المتوّجة منذ القديم مجالسهم فى قبورهم، ليعطوا مجداً لعظام جدودهم وآبائهم!

فلا عجب إن تخيل يهوذا نفسه أميراً، يُعامل الرومان بقسوة مثلما عاملوا اليهود، خاصة وأن يسوع قد تكلم عن مملكته، فاعتقد أنه اختاره قائداً ولذلك تبعه برضى، ثم اكتشف أنه لم يأتِِِ ليؤسس مملكة أرضية، أو أن يُحررهم من ذل الرومان واستعبادهم، لأنَّ مملكته لم تكن سوى مملكة القلب، ولهذا يُخيل إلي أنَّ روح يهوذا كانت تتمرر وقلبه يتحجّر، عندما كان يسوع يتكلم عن المحبة والرحمة وفضائل الروح! لأنَّ ملك اليهود الذي تمنّاه تحول فى نظره إلى عازف على القيثارة لكي يسكّن حِدة أفكار البشر!

لا نُنكر أنَّه أحبّه ولكن مثل غيره من النفعيين، ولأنَّ من طبيعة النفعيّ أن يتنقل من شخص إلى آخر حسبما تقتضى المصلحة، كان ولابد ليهوذا أن يبتعد عن المسيح، ولكنه نسى أن الأنانيّ يعيش على حساب نفسه قبل أن يعيش على حساب الآخرين!! فلمَّا رأى أن يسوع لم يحرك يداً لتحريرهم من ذلك النير، ملأ اليأس قلبه وتبددت جميع آماله، فقال فى نفسه: إنَّ من يقتل آمالي ويُبدد أحلامي لابد أن يُقتل!

الإ علان الرهيب

ورغم قصد يهوذا الشرير لم يهمله المسيح، بل نبّهه مرات، فعندما جلس الرب على المائدة ليأكل الفصح مع التلاميذ، طرح خبر موته هناك على المائدة، فقال بنبرات المحبة المتناهية والحزن الشديد " الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ وَاحِداًمِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي "، فدخل الألم قلوب التلاميذ وأرعبهم وبدأوا ينظرون بعضهم لبعض ويستفسرون الواحد تِِلو الآخر " هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ ؟ ".

تُرى من يسقط من عدد التلاميذ ويفسد حسن التلمذة؟ من ذا الذي يترك صحبة الشمس المضيئة ويسير فى الطريق المملوءة غيوماً وظلاماً؟ من هو الخروف الذي حّول نفسه وصار ذئباً، وبدأ يعض راعى الخراف الصالح الأمين؟ كل هذا ويهوذا صامت ولا يريد أن يكشف عن نفسه، بل يلف نفسه بعباءة ثقيلة من الخِداع والرياء!

ويعود الرب ويُحدد ما يعنيه بأكثر توضيح " الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي "، ثم يعلن الويل على ذلك الإنسان الذي سوف يرتكب هذه الجريمة الشنعاء، فقد كان خيراً له لو لم يولد (مت25:20،26).

وتزداد حيرة التلاميذ! وينظر بطرس إلى التلميذ الذى كان يسوع يُحِبّه، إلى يوحنا الحبيب الذى كان يتكئ على صدر المسيح وقت العشاء، ويُشير له أن يتقدم إليه ليسأل عمن يتكلم، فيتقدم التلميذ البسيط المملوء حُبّاً، ويقع على صدر ابن الله ليسأله: " يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟ " فيُمزّق الرب آخر جزء من القناع الذى كان يخفي وجه الخائن ويقول: " هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ " (يو26:13).

كان من الممكن أن يعدل يهوذا عن شره، بعد سماع تلك الكلمات ويستشفع سيده فيغفر له، ولكنَّه بكل وقاحة ومكر يسأل: " هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ " متجاهلاً ما درسه، ومتناسيّاً أنَّه أمام العين التي لا تنام، أمَّا المسيح فلم يوبّخه ولم يقل له: ماذا تقول يا عبد الفضة يا عميل الشيطان؟ ألم تعلم إنّي أراك وأنت تتقدم إلى رؤساء الكهنة وتساومهم على تسليمي؟ ألم أسمعك وأنا غائب وأنت تقول لهم ماذا تعطوني وأنا أسلمه إليكم.. وإنَّما أجابه ببساطة ووداعة قلب: " أَنْتَ قُلْتَ " (مت25:26)، وفى تلك اللحظة تغلّبت على يهوذا إرادته الشريرة، وانتهى يوم خلاصه، وابتعدت عنه ملائكة السلامة فى حزن شديد، وقد دخله الشيطان بانتصار عظيم.

أخيراً قال له يسوع: " مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ " (يو27:13)، وبهذا القول أراده أن يعرف أنّه عالم بكل نواياه السيئة، لكنَّ الأحد عشر لم يفهموا هذا القول " لأَنَّ قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ " (يو13: 29).

فخرج يهوذا وعلى وجهه تتراقص أشباح الموت متهللة، وتنبعث من عينيه نظرات موجعة تتكلم عن مستقبل مر، ومن صدره تخرج ظلمة حالكة، وأفعمت رائحة أنفاسه الهواء بالخيانة، ومنذ تلك اللحظة أصبحت غرفة حياته خالية إلاَّ من التراب، صفحة خالية من القيم، ترسم عليها الرياح خطوطاً تمحوها الرياح وتتلاعب بها العواصف!

خرج اللص وكان وقت خروجه ليلاً، ليلاً فى الخارج وليلاً فى داخله، وأصـبح هذا المخلوق التعـس بجملته أداة طيّعة تحت يد شيطان الظلمة، مهيأ لارتكاب أبشع جريمة عرفتها البشرية، خرج ليعود، ولكن هذه المرّة معه جمع من المجرمين يحملون السلاح لكي يقبضوا على يسوع.

إنَّ كل الإنجيليين يصفون حادثة الصلب بساعة الظلمة، إلاَّ واحداً وهو القديس يوحنَّا الحبيب، فهو يرى ساعة الصلب، هى أسمى درجات الإشراق فى الظلمة الحالكة، أما الساعة المظلمة فى نظره فهى خيانة يهوذا لسيده، ولهذا قال: " فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ وَكَانَ لَيْلاًً " (يو27:13ـ30)، فالقديس يوحنَّا لم يذكر الظلمة عند الصلب، وذلك لأنَّ آلام المسيح هى الجانب الجوهرى للنور.

القبض على يسوع

لم يكد رب المجد يفرغ من صلاته فى بستان جثسيمانى، حتى ظهرت مصابيح، تتلألأ بأنوارها من خلال الأشجار التى قد خيّم عليها الحزن، وها جماعة من سافكى الدماء المدججين بالسلاح من سيوف وعصى تقترب فى اتجاه وادى قدرون، وكأنَّهم خرجوا ليقبضوا على لص أو زعيم متمردين (مت26: 47)!

وهكذا تراكضوا مسرعين وقـد اشرأبت أعناقهم بتشوق، لكى يحظوا بنظرة من الذي فى نظرهم قد كفر! وشارك الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجَهَنَميّة فى فضاء قريتهم! ألم يتهموه مرَّة قائلين: " هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ " (مت24:12).

وكان يتقدم الجمع رجل بوجه عابس، وعلى ملامحه شجاعة مصطنعة، يتسلل بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفه، مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف! إنّه يهوذا ابن الهلاك، ذلك الشقيّ الذي يتغطى برداء التلميذ كما يتغطى الأفعوان السام بجلده الأملس اللامع، المرائيّ الذي يخفى نفسه فى زى الرسول كما يختفى الخنجر الملوث بالدماء فى جرابه الذهبيّ، لقد كُملت الخطية فيه، وأصبح الآن يبغض يسوع بمرارة كما تبغض الظلمة النور!

سألهم رب المجد: " مَنْ تَطْلُبُونَ ؟ " فقالوا: " يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ "، فلمَّا قال لهم: " أَنَا هُوَ" سمعوا صوتاً صارخاً كما لو كان خلرحاً من أحشاء الليل! وضجة هائلة منبثقة من قلب النهار! ولهذا " رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ " (يو4:18-6)، وكأن وميضاً من البـرق قد صعقهم! أو وجّهت الشمس أشعتها برعب على الظلام فبددته! أو كأن بحر النيران اشتعل ليحرقهم! أو نسمة من القدير طوّحت بهم! فوقف يسوع ولم تتغير ملامحه، بل ظل مرفوع الرأس كالبرج أمام الزوبعة، وسالت على شفتيه ابتسامة محزنة وهو يشفق على الجمع الثائر، الذي كان أشبه بآلة قوية عمياء، فى يد مبصر ضعيف يلطمهم ويسحق الضعفاء منهم!

لمّا سمع الرجال هذا الكلام اقشعرّت أبدانهم، وارتجفت أيديهم كالأغصان اليابسة أمام الريح، وصارت ثيابهم مبللة بعرق الخوف كأنَّها خارجة من نهر الاوحال، كأنَّ عذوبة صوته قد انتزعت الحركة من أجسادهم، وأيقظت الميول السماوية الساكنة فى أعماق قلوبهم، ولكنهم عادوا فانتبهوا كأنَّ صدى صوت قيصر قد دوى على مسامعهم، وذكّرهم بالمهمة البشعة التى بعثهم من أجلها.

لقد أسقطهم الرب على وجوههم، لَعَلَّهم يحسّون بتأثير أُلوهيته غير المُدركة، وكأنَّما أراد أن يترك للعالم دليلاً عملياً، أنَّه قد صار ذبيحة ليس تحت ضغط أو إكراه بل بمحض إرادته، فياله من جبروت عظيم، فبعبارة واحدة خرجت من شفتيه ترنّحت عصابة الجناة وصارت طريحة الأرض عند قدميه، لأنَّ ليس للرمل الضعيف قوة أن يقف أمام الريح العاتية!!

أمثال هؤلاء الرجال يُخيّل إلىّ أنَّ أُمهاتهم قد حبلت بهم فى خريف السنة، وولدتهم فى العواصف الشريرة، وفى الرياح الهوجاء يعيشون يوماً ثم يهلكون إلى الأبد! لأنَّهم لم يتكلموا بغير الشر عن البار، وكانت ألسنتهم كالسهام المسمومة!
إننى أشفق عليهم وعلى كل الجمع الثائر ضد يسوع، ولكنَّ الشفقة لو أحاط بها أسف جميع الملائكة، فهى لا تحمل لهم نوراً، ونحن نعرف الأقزام الذين يتحاملون على من تلمس رؤوسهم العروش، ونعرف ما يقوله القش الحقير عن أرز لبنان الشامخ العظيم!

وبعد أن قام الجميع بسماح من الرب، ووقفوا أمامه مرّة ثانية كرر نفس السؤال: " مَنْ تَطْلُبُونَ ؟ " وفى هذه المرّة كان سؤال سُخريّة، فلمَّا قالوا يسوع الناصريّ، أجاب يسوع: " قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ " (يو7:18،8)، وقد دل هذا على إخلاصه الكريم ومحبته العظيمة لتلاميذه، فبينما يسوع يمضي إلى الصليب، لم ينسَ أن يحمى تلاميذه من العاصفة التى كانت تقترب منهم، وهذا ليتم قوله: " الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَداًً " (يو9:18).

قُبلة الموت

الآن يستعد النمر قبيل الوثوب على فريسته، فها أعداؤه يتربَّصون به لكي يصطادوه صيد الغزلان، ولا تزال جُعبة الصياد ممتلئة بالسهام، والحيَّة تهجم بعنف على نسل المرأة تريد أن تلدغه لدغة الموت، فتحت ستار الصداقة المزيفة يقترب يهوذا من سيده ويُرحّب به بعبارة كلها رياء، ويتجرأ ويُلوّث وجه ابن الإنسان، وبماذا لوّثه؟ بقُبلة غاشة كلها مكر وخداع.

لقد عانقه!! فما أن مد يده حتى ظهرت عظام أصابعه من تحت الجلد، كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة، وعيناه كالحفر المظلمة الممتلئة بالدماء، وخديه كالخرق المتجعدة، وشفتاه كورقتي خريف صفراء قد سقطتا من شجرة الحياة، لقد صار وجهه كصحيفة رماديّة ملتويّة، كُتب عليها بقلم معوج وبلغة شيطانية غريبة " خائن " !! وإن كان قد عانق المسيح، إلاَّ أنَّ هوة عميقة كانت تفصل بينهما، امتصت تحذيراته وحجبت الحقيقة عنه فلم يبصر ولم يسمع!!

ويصيح الخائن بمكر " سَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!! " فكانت هذه الكلمات كطعنة خنجر فى قلب البار، لكنّه يتقبلها ولم يرفض قُبلته الخبيثة، لأنَّه يعرف أنَّها قطرة سم مُزج فى كأس آلامه، فكان يهوذا يحمل سلاماً من الخارج، أمَّا الداخل فسيفاً مسموماً بسم الخيانة، من الظاهر كان كحمامة وديعة لكنَّ الخفي كان حيّة مملوءة مكراً ودهاءً!

أمَّا الرب ففى حزن وإشفاق وبأُسلوب رقيق يشابه رنين الأوتار الفضية يُجيبه: " يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ ؟ "، لماذا ترتدي ثياب الحملان وأنت من الداخل تحمل قلب الذئب؟ لماذا تجعل من رمز السلام علامة التسليم؟ لماذا تخفى الغش وتُظهر الصداقة؟ لماذا تدعوني سيّدك وسيّدك هو الشيطان؟ أنا لست سيدك ولا معلمك لأنى لم أُعلّمك الخيانة ولا السرقة، وليس أحد يعلّم هذا إلاَّ الشيطان، لكنَّ كلماته لم تُرجع هذا الشرير إلى صوابه، بل كانت تُغذي الشيطان القابض على نفسه! وهكذا نرى يسوع لم يترك وسيلة إلاَّ وطرقها، وها هو يقرع قرعة أخيرة على باب قلبه لَعَلّه يفتح، فإن لم تفلح تكون علامة برفض الخائن إلى الأبد، عندئذ يناديه الرب باسمه: " يَا يَهُوذَا " وكأنَّه لا يزال يريد أن يتأكد من صحة الأمر فيقول: " أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ ؟ " (لو48:22).

وقد كان هذا الوداع الأخير للمرتد التعس، ذلك الشقي البائس، الذي انتصرت عليه الجحيم وتخلّت عنه السماء، الذي أنكر كل الخيرات التى أخذها من معلمه وسيده، وعوض الخيرات كافأه شراً!! ولهذا يقول مار يعقوب السروجيّ مُحدّثاً يهوذا بلسان المسيح:

" لماذا ترفض جميع خيراتي أيها التلميذ وعوض الصالحات الكثيرة تكافئ بالشر؟! مِنْ أجل مَنْ تُسلّمني بغضب عظيم؟! من حسدك وأفرزك مَنْ بين تلاميذي؟! ومَنْ نصب لك فخاً وقعت فى حبائله؟! مَنْ أظهر لك أنَّ حنّان رئيس الكهنة يُحبُّك أكثر من مُعلّمك؟! أو قيافا بأي حسن سباك من عندي؟ إن أبغضتني فمن هو حبيبك، أو مُحب لك أعظم منى؟! ".

نهاية الخائن

ويعود يهوذا إلى بيته بعد أن قضى النهار أنفاسه، وغابت الشمس تاركة قُبلة صفراء على الأشجار، فشعر بأنَّ الأفاعي تتدلى من سقف بيته، وتخرج الحيات من شقوق جدرانه لتلف بذيلها الطويل السام عنقه، لقد سكنت الحركة فى كل زوايا البيت، ولم يبقَ سوى دبيب الحشرات وبرد الهجر القاسى وليل أسود مخيف!

وهكذا عشعشت رغبة الانتحار فى رأسه، وفى لحظة هى أسود لحظات حياته نفث ثعبان الموت الجَهَنَّميّ سمومه فى قلبه وعقله، فماذا حدث؟ لمَّا شعر الخائن أنَّ الله قد تركه والسماء تخلّت عنه، أراد أن يتخلّص من أُجرة الخطية الملعونة، فذهب إلى رؤساء الكهنة والشيوخ الذين كانوا أداة سقوطه البشع، ويعترف لهم بجسارة قائلاً: " قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاًً " (مت4:27).

لقد أتم العمل البشع وها هو يعترف بجريمته، فهو مستعد أن يعترف بخطيته ويندم عليها بمرارة، ويود لو استطاع أن يوقف تنفيذ العمل الشرير ألا وهو: صلب إنسان برئ، فيعود مسرعاً إلى الرجال الذين أعانوه على ارتكاب جريمته ويعيد لهم الرشوة اللعينة (مت3:27)، مفضّلاً احتمال العار عن أن يبقى ثمن الدماء عالقاً بيده، ويعترف جهاراً بالإثم الذى ارتكبه... ومع ذلك يهلك يهوذا لأنَّ الخطية قد استقرت على كتفه كشبح مُخيف، وظن أنَّه يستطيع أن يتخلّص من حمله الثقيل، عندما يُعيد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة، ولكن عبثاً يحاول أن يُصفّي حسابه مع الخطية بهذه الطريقة!

ويتكلّم مع رؤساء الكهنة والشيوخ.. لكنّهم لا يملكون علاجاً للخطية، ولو أنّه بكل تواضع وشجاعة حوّل وجهه إلى يسوع، مثلما فعل اللص اليمين فيما بعد، لكان قد نال غفراناً لكل خطاياه، لكنَّ الشيطان جرّه كما يجر النسر فريسته التى انقض عليها ولم يسترح، حتى انتصر عليه تماماً، فقد ملأ قلبه باليأس وجعله يلقي بنفسه فى أحضان الموت إذ " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " (مت27: 5)، وينقطع الحبل الذي شنق التعس نفسه به، والشجرة التى اختارها لتكون مقصلة يختم عليها حياته تنفضه عنها فى فزع، فيسقط المسكين إلى الأرض، وينشق من الوسط وتنسكب أحشاؤه كلها (أع8:1).

وبينما كانت هذه الحوادث تدور، كان رؤساء الكهنة والشيوخ يتشاورون، ماذا يفعلون بالثلاثين من الفضة التى طرحها يهوذا فى يأسه، فاتفقوا أن يقتنوا بأُجرة الإثم حقل الفخاريّ، ليكون مقبرة للغرباء الذين يموتون فى أورشليم، وقد أُطلق عليه حقل الدم (مت8:27).

لقد قبضت أصابع الموت على شفتيه، واحترق بنار لا نور فيها! إزداد شوقاً لأرض غير معروفة، وأثقلت كاهله رغبة المُلك وهى لا تتعدى البيت والموقد، وماذا جنى من الحياة؟ لم يجنِِِ سوى حبل المشنقة!

سئم يهوذا الحرية المقصوصة الجناح على الأرض، وأحب سجناً العذاب في الجحيم، رفض أن يكون قطرة ماء في نهر الحياة، وأحب أن يجري كجدول الدموع إلى البحر المر! عاش فى العاصفة وها هو يخرج ليعيش فى العاصفة، ولكن هذه المرة خرج ليرمى نفسه من صخرة الخيانة الصلدة، التى كل من يصعد إليها لا بد أن يسقط ميتاً! لقد أنهى حياته الصغيرة التي تحرّكت كالضباب فوق أرض العذاب المستعبدة، فما أن مات حتى نزل إلى الجحيم ولم يخرج منه، فى حين أنَّ البار كان يصعد إلى الأعالى، ليستقر موضعه عن يمين القوة.
إنَّ يهوذا قد اشتاق إلى مملكة يكون فيها أميرا ً! أمَّا يسوع فأراد مملكة يكون فيها كل الناس ملوك وأُمراء!

والآن، ماذا أقول لو كنت قد عاصرت مأساة هذا العبد الشرير؟ كنت سأُشير بيدي نحو القتيل وأصرخ بصوت أجش قائلاً:
" ملعونة هى الأيدي التي تُمد إلى هذا الجسد الملطّخ بدماء الخيانة، وملعونة هى الأعين التى تذرف دموع الحزن، على هالك قد حملت الشياطين روحه إلى الجحيم لتبقَ جثّة ابن سدوم وعمورة مطروحة على هذا التراب الدنس، حتى تتقاسم الكلاب لحمه وتُذري الرياح عظامه، فليهرب الناس من تلك الرائحة النجسة المتصاعدة من داخل قلب دنُسته الخطية وسحقته الرذيلة، ولينصرفوا مسرعين قبل أن تلسعهم ألسنة نار جهنم ".

لقد مات ابن الهلاك الذى لم يكن فى العالم الوثنيّ نظيره، ولم يكن فى إمكانه أن يُنجب مُجرماً مثله! ولكن هذا ليس بغريب لأنَّ سليمان الحكيم يقول: " اَلرَّجُلُ الْمُثَقَّلُ بِدَمِ نَفْسٍ يَهْرُبُ إِلَى الْجُبِّ " (أم17:28)، وهكذا كل من يُعانق الشيطان عليه أن يُعانق الموت أيضاً!

ولكننا نعترف بأنَّ الجرثومة التي عملت فى يهوذا الإسخريوطيّ لازالت موجودة، وإن كنَّا لا نضع أنفسنا بين يدي الله ونطلب أن يُظللنا بأجنحة حُبّه فإنَّ إبليس الذي يجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه (1بط8:5)، سوف ينقض كالوحش علينا ليفترسنا .
قطع أُذن مَلَخُس

بعد أن وجّه المسيح كلماته إلى يهوذا، نراه يسلم نفسه طوعاً لأيدي أعدائه.. هنا تحرّك الدم فى عروق التلاميذ بعد أن تجمّد ساعات طويلة فاستل بطرس سيفه " وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ اسْمُ الْعَبْدِ مَلْخُسَ " (يو10:18)، فقد أراد بطرس بهذا أن يُظهر غيرته للرب فى وقت الشدة، ولكنَّه لم يعلم أنَّ ابن الله لا يحتاج إلى المعونة، لأنَّه لو أمر أُلوفاً من الملائكة لملأوا الأرض ناراً.

وكم كانت دهشة الجميع عندما رأوا الرب فى شفقة، يميل على مَلخُسَ ويلمس أُذنه المُصابة بيده الشافية، فتوقف سيل الدم فى الحال وعادت سليمة كما كانت! فمن مِن الأطبَّاء له القدرة أن يُصحّح الأعضاء المقطوعة كمخلّصنا! لقد وضع الأُذن فى مكانها كالغصن الذى سقط من الشجرة، فكلل الجسم بالعضو الذى سقط منه، ليُعلن أنَّه سيد الخليقة وطبيب البشر الأعظم!

ونحن أيضاً نتعجب من هذه المعجزة، وما يُثير إعجابنا ليس فقط قوته التى أظهر بها مجده، ولكن الأكثر من ذلك محبته، التى لا تستثنى حتى الأعداء من أعمالها النافعة، كما أراد أن يُعلمنا أن ملكوته ليس من هذا العالم ولذلك لا مكان للانتقام، بل للوداعة التي تجمع جمر نار فوق رأس الأعداء، وما هذا إلاَّ إعلان أن حُب يسوع عميقاً كالبحر، عالياً كالنجوم، متّسعاً كالفضاء، وهكذا سيظل إناء حُبّه مملؤاً إلى الأبد لتشرب البشرية العطشانة فترتوى ويبرد حقدها وغيرتها وقسوتها!

وبينما كان الرب يمد يده الشافية المُحيية ليلمس الأُذن الجريحة، يقول لبطرس: " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ! " (مت52:26)، فالسيف ليس له استعمال إطلاقاً فى دائرة ملكوت الله، فالنصر يُحرز هنا بقوة الشهادة، وبدم الحمل، وصبر القديسين..

ومن المفسرين يرى أنَّ بطرس أراد ضرب رقبة مَلخُسَ، لكن التدبير الإلهيّ أبعد يده عن الرقبة إلى الأُذن اليمنى لأمرين:
الأول: إن الشعب قد آذانه عن سماع أقوال الأنبياء وأقوال المسيح، فوقع العقاب على العضو المُخطيء، فالشعب الأصم ضُرب على أُذنه، لأنَّ أصوات بل رعود الأنبياء صرخت فيها ولم تسمع!!

الثانى: علامة على رغبتهم فى دوام عبوديتهم إلى الأبد، ليس للرب بل للشيطان، لأنَّ الشريعة كانت تأمر أن يُخيّر العبد وقت تحرره، هل يرغب أن يُعتق أم يظل كما هو عبداً، فإن رفض أن يعتق كانت أُذنيه تثقب، علامة على رغبته أن يظل هكذا عبداً (خر6:21).

أمَّا الأُذن التى قُطعت فهى أُذن عبد رئيس الكهنة، لا أُذن أحد الجنود، وهذا إنما يدل على أن المقصود هم بنو إسرائيل الذين أعطاهم الله الشريعة، ولكنَّهم لم يفهموها ولم يعملوا بما جاء فيها!

الأحد، 28 مارس 2010

ابتهال

ربي يسوع

إنَّ حياتك على الأرض هى رحلة مع الآلام، بدايتها كانت فى بيت لحم حيث آلام الفقر والغربة، ونهايتها على الجلجثة حيث آلام الصلب والفداء، فأين سطور الفرح في كتاب حياتك؟ لقد أبادها الألم!

ألم يحكْ الإنسان من ظلمة الليل رداءً كثيفاً مُبطّناً بأنفاس الموت، لكي يستر به أضلع يسوع يوم ميلاده، وها السماء يوم صلبه تنسج ثوباً من أشعة الشمس المُظلمة، وتُلقيه على جسد خالقها.

لقد وُلِدت شُجيرة صغيرة لم تُقلّمْ أغصانها بعد، فما أن أتت الثمرة حتى سقطت ميتة فى أرض الأحياء، ألست أنت بكر مريم الذي طوّقته بذراعيها، كما تُطوّق الصدفة درّتها الثمينة، فلماذا لا تساوى الجوهرة فى نظر صالبيك سوى ثلاثين من الفضة؟!

وفى شبابك لم يأسرك المال أو تستعبدك السلطة، بل قلت للشاب الغنيّ (لو58:9)، فالفقر لم يكن حليف طفولتك فقط، بل صديقاً رافقك على الأرض كل أيام حياتك، فعشت الحياة بعد أن حررتها من آلام الغنى، فكانت بسيطة لا يشوبها الطمع، أو يُرهقها الجشع، أو تُمزّقها الأنانية، ولهذا تمتّعت بالحياة كأنّك تملكها كلها، فكنت تُصلّي فى البساتين وعلى الجبال، وتجلس تحت أغصان الكروم، تتأمل ذاتك الكرمة الحقيقية التى ستدخل المعصرة لتخرج ترياقاً يشفي البشرية من آلامها! فعلّمتنا أنَّ الحياة تتحول إلى سجن كبير إذا غلّف المال جدران بيوتنا!

أمَّا فى جثسيماني فقد خرجت الخطايا من شقوق الضمائر، تُجرجر فى خزي قُبح معاصيها، تفح كالأفاعي لَعَلَّها تقضي على الحمل الوديع، قبل أن ينقض هو عليها ويمحوها، الأمر الذى جعل عروقه تتفجر حزناً وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ! (لو44:22)، فصار الألم كزلزال حَبَلتْ به الأرض فتمخّضت متوجّعه، تريد أن تلد الخراب والشقاء، ولكنها على غير عاداتها لم تلد سوى الخلاص!

إن الحب هو الذي جعلك تتألم من أجلنا، ولولا حُبِّك لجرَّدت نفسك من الأقمطة في المزود وعدت إلى عرش مجدك، ولولا الكآبة التي في أعماقنا جميعا لَمَا كان ممكناً أن تُقيم لحظة على أرض الألم، تبكي وتنوح على خطايا لم تفعلها.

وكل إنسان إذا أحب غيره بإخلاص تحوّل الألم من أجله إلى طاقة عطاء وبذل، فالحُب هو المُحرقة التى تُقدّس الألم، ولذلك فإنَّ العرق والدم المتساقط عليك، كان يكتب على جسدك المُمزق بالسياط، أسمى كلمات الصفح والغفران التى هى رمز المحبّة الصادقة.

فيا ملك الحُب، أيها القلب السماويّ، هنا وهناك، بين الميلاد والكفن... أرى أولادك كطيور السماء يُسبّحون، وكزنابق الحقل يبتسمون ويُرددون صدى أُنشودتك، إلاَّ أنَّ العالم يصلبهم كل يوم!!

لكننا لن نُطالبك بآية مثل الفريسيين لكي نؤمن بك، فالحُب الذي أنزلك من السماء وأصعدك على الصليب هو آية الآيات!أعترف يارب بأنَّ جميع الأنهار لن تقدر أن تذهب بذكراك الخالدة من قلبي، لأنَّك قد أحببتنا وكان قلبك معصرة.

أمَّا أنا والجميع ففى استطاعتنا أن نتقدم إليك بكؤوس حُبنا فنشرب وترتوي نفوسنا، ولهذا ففي كل عام أنتظر أُسبوع آلامك كزيارة الربيع لوادي قلبي أنتظر رائحة ورودك لتتهلل روحى، ومهما تقلّبت الفصول فلم تعد لها سلطان أن تمحو جمالك من عالمي، أو تقلع أزهارك من بستان قلبي!

سوف أجعل من قلبي بيتاً لجمالك، وصدري قبراً لآلامك، سوف أُحِِبّك محبة الزهور للربيع، وأرتفع على صليبك، لكى لا أرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي السامة المنسابة بين الجحور..

فاعطنى يارب كلمات من ذهب ذات أحرف من نور، واجعل من كلامى ناراً تُلهب قلوب سامعيها، كواكب مضيئة تبحث عن ظلمة النفس لتنيرها، أمَّا رنين صوتى فليكن كالماء العذب فى أرض جافة، وحتى إن وصلت كلماتي إليكم وصول الكسيح الذي يدب على العصا، فلن أخجل لأنَّي أُريد أن أتكلم بما يجول بفكرى عن آلام سيدي.

فيا من عُلقت على الصليب أُذكر ضعفنانا وأنعم علينا ببركات صليبك المقدس، وبارك هذه التأملات المتواضعة التى أردت أن أعّبر بها عن رحلة آلامك المقدسة حُبّاً با ورغبة فى خلاصنا، آمين.

الخميس، 25 مارس 2010

الصلاة والتأمل

إن تعريفات الصلاة ما أكثرها، ولكنى أقول مع القديس مار إسحق: " إن الحياة مع الله والانشغال فى الأمور الروحية يشار إليهما أيضاً بكلمة صلاة سواء كانت تلاوة مزامير وأقوال مقدسة أو تسبيحاً لله أو تذكّر لعنايته أو سجوداً أمامه.."


ولكن مهما قيل فى تعريفات الصلاة.. فإن مايهمنا هو دور الصلاة فى الحياة الروحية.


إن الصلاة تُلبس العقل قوة، وتقوى الإيمان والرجاء والمحبة، فيصمد الإنسان تجاه الضيقات والتجارب، لأنه عندما يقارن بين الأتعاب التى يقاسيها وبين الخيرات التي سيرثها، فإنه يستهين بالعذابات التى تأتى عليه، فالصلاة إذن تُرشدنا إلى السماء وتُزيل من قلوبنا محبة العالم..


بالصلاة نستطيع أن نستدرج النعمة الالهيةي" اطْلُبُوا تَجِدُوا اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ " (مت7:7) وأعتقد أن كل من ذاق لذة الله سواء فى صلاة أو تأمل... فإنه ينسى الأرض وما عليها ولو للحظات، ولهذا يقول الشيخ الروحانى: محبتك غربتنى عن البشر والبشريات.


كما أن الصلاة هى التى تحوّل الإيمان إلى إحساس، أى تحويل الحقائق المجردة على مستوى العقل، إلى حقائق حية على مستوى القلب، فنحن فى الصلاة الربانية نقول: " أبانا الذى فى السموات "، لاشك إنها عبارة معزية، إلا أنها تصبح بلا جدوى لو أنها ظلت على مستوى اللفظ فقط!


فما قيمة الإيمان النظرى إن لم يتحول إلى إحساس وحياة، فيدخل إلى الوجدان كما دخل من قبل إلى العقل؟! ولعل هذا هو السبب الذى يدفع بالخدام المختبرين، إلى الخلوات والتأمل بعد الندوات وجلسات الإرشاد.. لأن المحاضرات لو تبعتها محاضرات... لتراكمت المعلومات على العقل من دون جدوى!


لقد ثبت أن الناس يسمعون كثيراً ويقرأون كثيراً.. فمتى تُبعث الحياة فى هذه الأفكار؟ إذا تحولت الفكرة إلى إحساس وحياة، فمجرد آية واحدة لو تحولت إلى إحساس لأحدثت إنقلاباً روحياً داخل الإنسان!


يقول مار إسحق: " الذي يتهاون بالصلاة ويظن أن له مدخل آخر للتوبة هو مخدوع من الشياطين "، فما هى علاقة الصلاة بالتوبة؟


إن الصلاة هى حديث عذب مع الله، ولأن الله قدوس، يجب على الإنسان لكى يدخل معه فى شركة روحية، أن يتنقى أولاً بالتوبة، لأن لا شركة للنور مع الظلمة (2كو14:6)، فالصلاة والتوبة مثل كفتى ميزان، كل واحدة تؤثر فى الأُخرى بما تحمله من أوزان.


الصلاة هى باب الفضائل، ولهذا فإن الإنسان العادم من الصلاة لا يمكن أن يمارس أية فضيلة، وإن تحدث عن الفضيلة يكون كالأعمى الذى يجادل على حسن الفصوص الكريمة والألوان الجميلة! تُرى ماذا سيكون شعورك لو أنك سمعت أعمى، يصف لك جمال القمر أو روعة النجوم؟!


إلا أن الصلاة ليست مجرد كلمات، تنطق بها أفواهنا عبر الأثير بل هى حياة، فالصلاة الحقيقية لانصل إليها إلا بعد جهاد.. وتعد الاهتمامات الدنيوية من أهم معوقات الصلاة، إنها من هنا كانت أهمية القناعة.


إنها تجرد العقل من الماديات ليسبح فى السمائيات، ألم يقل رب المجد: " اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ " (مت33:6)، وها معلمنا القديس بولس الرسول يقول: " وَأَمَّا التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عظيمة " (1تى6:6) تذكر هذه العبارة: كلما يصغـر العالم فى نظرك كلما تتزايد محبة الله فى قلبك.


كما أن الإفراط فى الأكل آفة من آفات الحياة الروحية، لأن معرفة أسرار الله لا تُدرك عندما يكون الإنسان متخماً، ولهذا قال أحد الآباء: " لا تثقل بطنك لئلا يتشوش ذهنك فيضطرب حين نهوضك فى الليل، وتنحل أعضاؤك وترتخى بكليتك، وتظلم نفسك وتتعكر أفكارك، فتصبح غير قادرعلى ضبطها أثناء قراءة المزامير، وهكذا تفسد طعم الصلاة ".


أما الأحاديث الباطلة، فهي كالغمامة التي تحجب عنا نور شمس البر، فتظلم النفس ولاتقوى على رؤية سيدها، ولهذا قال الشيخ الروحانى: " كثرة الكلام تولد الضجر للسامع والمتكلم"، قد نكون على صواب لو قلنا: إن كل من يقضى يومه فى أحاديث بطّالة فى النهار، سيشقى لسانه ساهراً الليل كله دون أن ينتـفع شيئاً!


ولكن ما هى علامات الصلاة المقبولة؟ أعتقد أن الصلاة النقية يجب أن تكون مقرونة بالأعمال الحسنة، فالوثنيون يصلون ولكن أعمالهم لا تتفق مع صلواتهم.


أما إذا اقترنت السيرة الحسنة بالصلاة فإن أثرها يكون كلهيب نار!كما أن فرح القلب بالتسبيح، وانحدار الدموع وقت التضرع من غير تعمد البكاء، علامات روحية تؤكد لنا قبول الصلاة.


إلا أن الصلاة لا تتوقف عند نقطة ثابتة، إنها كالترمومتر درجاته فى ارتفاع وانخفاض باستمرار ويبقى السؤال: ماذا نفعل فى حالات الجفاف الروحى، عندما نشعر بأن أنفسنا تختنق وتصير كأنها غارقة فى اللجة تلاطم الأمواج، ولا قدرة لنا أن نقرأ أو نعمل أو نخدم..؟ فى مثل هذه الحالات يرى مار إسحق إن الأفضل هو صد الهجمات بحيلة حكيمة مثل الحمامة الوديعة، وذلك بالتقاط لذيذ بألحان حلوة ذات لحن حزين يحرك المشاعر، ويجعل الجسد يسكب الدموع.. ففى الألحان كفاية لوقف اضطراب الأفكار.


والآن، بعد كثرة المشاكل والمشاغل كيف يستطيع من يحيا فى العالم أن يمارس حياة الصلاة؟ أقول:


إن الصلاة ليست مقصورة على ساكنى البرية، فالطبيب فى عيادته، والعامل فى مصنعه، والزوجة فى بيتها، والطالب سواء فى مدرسته أو كليته.. يمكن أن يكون عندهم سلام داخلى ويمارسون الصلاة بحب، فقد أعلن الله لأنبا أنطونيوس وهو فى البرية إنه يوجد فى المدينة طبيب معادل له، وهو يُعطى ما يوفره للمحتاجين، وطول اليوم يرتل تسبحة الثلاث تقديسات مع الملائكة!


وأنا أرى: إن أفضل صلوات تناسب ظروف العصر الحالى هى الصلوات القصيرة، إلى أن يتعود الإنسان على ذكر اسم الله، ثم بعد ذلك يبدأ فى ممارسة الصلوات الطويلة.


يروى لنا معلمنا لوقا، إن يسوع عندما اقترب من مدينة أريحا، كان أعمى جالساً على الطريق يستعطى (لو35:18)، فلما سمع أن يسوع مجتازاً صرخ قائلاً: " يا يسوع ابن داود ارحمنى ".


إنها صلاة قصيرة ولكنها تحمل معانى كبيرة، فما أن سمعها يسوع حتى وقف رغم الضوضاء المحيطة به! وأمر أن يُقدم هذا المتسول إليه، ويسأله يسوع: " ماذا تريد؟ " فيطلب أن يُبصر، وقد كان! تذكر دوماً أن صلاة قصيرة أوقفت يسوع! وهى إلى الآن تستطيع أن توقفه لو خرجت من قلب مملوء بالإيمان.


يقول القديس يوحنا الدرجى

" أجلد الأعداء باسم يسوع، لأنه لا يوجد سلاح أقوى منه، لا فى السماء ولا على الأرض ".


والحق إن صلاة يسوع، قادرة أن تُعطينا القوة لنقاوم كل فكر شرير، وكل إغراء يقاومنا به إبليس، وهكذا إذا قرع الشيطان أبواب قلوبنا وعقولنا.. يجد يسوع واقفاً معنا على الباب فيهرب خوفاً، لأنه لا يقدر أن يُقاوم ابن الله.


وإليك بعض التداريب على الصلاة القصيرة:


عندما يستيقظ الإنسان من نومه وهو لا يزال على فراشه يمكن أن يردد عبارة: " يَا اللهُ إِلَهِي أَنْتَ إِلَيْكَ أُبَكِّرُ" (مز1:63)، أو " هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ فلنَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيه" (مز118: 24).


فكون الإنسان يبدأ يومه بعهد الفرح، يكون له تأثير إيجابى على مشاعره وأفكاره اليوم كله، خاصة لو عرف أن الفرح الحقيقى هو فى الرب، كما أنه سيكون حريص فى تعاملاته مع الناس، لكى لا يفقد هذا الفرح، وهكذا يقل غضبه وانفعاله..


وعندما يغسل وجهه يردد عبارة " إنضح علىّ بِزُوّفَك فَأَطْهُرَ اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِـنَ الثَّلْجِ " (مز51)، فهذه الآية تجعله يتأكد أن النظافة ليست نظافة الوجه الخارجى فقط، بل هناك نظافة داخلية، يجب عليه أن ينلها..


وبينما هو يعمل يقول بمداومة، عبارة عميقة رغم بساطتها وهى: " يا ربى يسوع المسيح أعنى" وإذا مرض يضع كلمة " أشفنى " مكان " أعنى "، وإذا ضعف يقول: " ياربى يسوع المسيح أعن ضعف إيمانى"، وهكذا..


إنها الصلوات السهمية، التى تحدث عنها الآباء كثيراً، وقد مارسوها بعمق، واختبروا فاعليتها.. والتى من خلالها يستطيع كل إنسان أن يقضى يومه مع الله بفرح وحب بينما هو يعمل.


حاول مع الترديد أن تتأمل وتشعر بالصلوات التى تقولها، كما لو كانت نابعة منك، من قلبك، والأفضل لك أن تحفظ الصلوات لكى تصير فى داخلك، فهذا يساعدك أن تصلى فى أى مكان، دون أن يشعر بك أحداً.


مهم أيضاً أن تهيئ نفسك للصلاة، سواء بالصمت قليلاً، أو سماع ترتيلة معزية، أو لحن كنسى، أو قراءة جزء من الكتاب المقدس أو كتب الآباء.. ولهذا يقول مارإسحق: الصلاة يسبقها خلوة والخلوة يمكن التمرن عليها بالصلاة.


بالإضافة إلى كل ما سبق، يجب عليك ألا تنسى صلواتك الارتجالية البسيطة، لا من أجلك فقط، بل من أجل كل الناس، ومن بينهم أعدائك ومضطهديك والمسيئين إليك..


وتأتى أهمية الصلاة الارتجالية، فى أنها تعبّر عن حالتك الشخصية، بكل ما تحمل من ايجابات وسلبيات، أفراح وأحزان..

أما بعد الصلاة، فلا تُسرع فى الكلام غير المجدى، واللقاءات غير المثمرة.. وباختصار: حاول أن تحتفظ بمشاعرك الملتهبة وأفكارك المقدسة..


أقترح


أن تكون هناك أجبية عائلية، يتم تحفيظها فى الاجتماعات ومدارس الأحد، وتكون عبارة عن صلوات قصيرة ومزامير قليلة بسيطة، هذا بالإضافة إلى بعض التراتيل المعزية المشهورة، بجانب فصول من الإنجيل لا تحتاج إلى عناء فى الفهم أو التفسير.


أعتقد أن مثل هذا الاقتراح البسيط،

سيحيى الصلوات العائلية من جديد.

الثلاثاء، 23 مارس 2010

يارب


لقد أضعت فى الليل عمري.
فصرت أحيا فى ظلام وضباب الخطية.
لكن بما أنَّك نور العالم فأظهرني للنهار ابناً.

تلطَّخَ ثوب حياتي بدم اللذة الشهوانية.
فتشوّه جماله الحسن وفسد منظره الجميل.
فاقطر في قلبي نقطة واحدة من ماء طهرك.ليتنقَّ قلبي من دنس وأقذار الخطية.

بِعْتُ ثمار طهارتي كشمشون.
رُشقتُ بسهم الفِسق وطُعنتُ بحربة القتل كداود.
وما اشتهتْهُ عيناي لم أمنعْهُ عنهما كسليمان.
لكني أطلب مراحمك فارحمني يا الله كعظيم رحمتك.

نَمَتْ أشواك الرذائل فى قلبي.
فأسقطتْ على الأرض ثمار بري.
فداسها البشر ودنّسوها.
فهب لى يا راعي نفسي أن أستقي من ينبوع طُهرك.
لأُنظف أرض قلبي من أشواك وحشائش الخطية.

أعطني نعمة لأُفلّحها بالآلات المقدسة التي هي:
التوبة والصلاة وكل تعاليمك الطاهرة المُحيية.

سوف أقلع أشواك الشر وأزرع ثمار البر.
ولكن ما المنفعة إن لم تروِني بماء حُبَّك.
وتُشرق على أرض قلبي بشمس برك؟!

ماذا أنتفع لو صرتُ ملكاً وأنا عبد ذليل للخطية؟!
هل تكفيني كنوز العالم لو خسرتُ الجوهرة الحقيقية؟!
لقد كشفتُ لكم يا إخوتي جروح نفسي.
فاطلبوا إلى الطبيب فى أمر المريض.
إلى الراعي من أجل الخروف الضال.
إلى الملك من أجل أسير وعبد الخطية.
إلى الحياة من أجل المائت,
لأتمتع وأتعزى بربي مثلكم.

فيا أيها القويّ الجبّار مد يدك لإصعادي
من هاوية الشر التي فَتَحتْ فاها لتبتلعني.
أمواج الشر أطاحت بي لتُغرقني.
فانتشلني أنتَ يا رب من هياجها المتلاطم.

أيها الراعي الذي خرج في طلب الخروف الضال.
لا تتركني في يد الذئاب الخاطفة التي تُريد إهلاكي.
لا تجعلني فريسة في مخالبهم.
ولا دمي يسيل بأنيابهم.

يا كوكبي المنير أريد أن أرى ضياءك وهو يسطع في ليل حياتي.
لتُرشدني بنورك إلى حيث مسكن حُبّك.
فكن لي مصباحاً حتى لا أتعثّر في ظلام العالم ومرشداً حتى لا أضل الطريق.

افتح لي يا رب سفر الحياة لأقرأ وأتعلّم سر حُبّك.
حتى أتلذذ بحُبّك وأُسبّحك من الآن وإلى الأبد آمين.

الأحد، 21 مارس 2010

أعمى تسيل أحلامه ليرى النور


كان أعمى منذ ولادته، لم يرَ الحياة سوى ليل أسود، طلع فيه القمر ناقصاً وظهر بين النجوم كوجه ميت شاحب غارقاً في المساند السوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه! في ساحة المدينة كان يجلس للتسول،

والسكينة العميقة تخيم على صدره، كأنها كف ثقيل ألقته الظلمة على جسده، لقد خرج الأعمى من ظلمة الأحشاء ليحيا في ظلمة الحياة، خرج من بطن أمه خروج آدم من الفردوس، ولكن حواء قلبه لم تكن بجانبه، لتخدمه وتجعل له العالم فردوساً.
.

وهكذا عاش الأعمى يُسـيل أحلامه على الطريق، ويكاشف طيور السماء آماله وآلامه، تنتظر مجئ البار الذى أمم ويفتح عيون العميان (إش6:42) وها ساعة مجيئه قد اقتربت وكل شئ قد أُعد لاستقباله، وفى بيت لحم ينبثق النور وبسرعة ينمو الطفل نمو الهلال إلى أن صار قمراً، وكالبرق يتناقل الناس تعاليمه الجديدة ويتأملون معجزاته الفريدة.

.. ويأتي المسيح إلى أورشليم ليدشن رسالة العهد الجديد، ويمر والأعمى جالس فوق مستنقعاته، يُحاكى الزمان آلامه، ويمد يده يريد نوراً وحياة! وقد جاء النور ليمنحه الحياة ويفتح له أبواب السماء، ويتفل يسوع على الأرض، ويصنع من التفل طيناً يطلى به عينى ذلك الأعمى.

وينقسم الناس بين مؤيد ومعارض، ويشتد الصراع بين النور والظلمة، وتنتصر الظلمة ولكن إلى حين! فيُطرد الأعمى من المجمع! فما كان على يسوع إلا أن يعمل من قلبه مجمعاً له،

لقد امتلأت عيني الأعمى بنور الحياة وقلبه بنور الحب، فتحول الليل بظلامه إلى وشاح من نور يستر كل حواسه، وتحول هو إلى شعلة مقدسة من نور ونار،
لم تنطفئ حرارتها ولم تختفِ أشعتها، فأصبح النور يتكئ في عينيه، ويملا أُذنيه، ويسيل على شفتيه، ولم يبقَ سوى أن يشيع النور في كل مكان!

فمن كان يظن أن المتسول الذى كان يقتات خبز الاستحسان، يتجول بين الناس ليجود بنور المسيح على المساكين ويكحل به عيون العميان! آمن الأعمى بالمسيح وتبع النور فقاده من الصحراء القاحلة إلى حقول تنبت أزهاراً حيث لا تنفث الثعابين بأنفاسها، وهو الآن يتمنى أن يُعطى عينيه لكل من فقد الإيمان ليرى بهما النور،

ويُقرض قلبه النوراني لكل لمن قاسى آلاماً، وبيده مسح دموع حزانى، وبساقيه سار على درب الحياة، ساكباً دمه في تربة الإنسانية لتُنبت ورود المحبة! إن كل ما في يقظة الربيع

­­ من جمال يجتمع بين أضلع الرجل الذى حُرم النظر ثم أعطاه الله نعمة النور، إذ لا يوجد نوراً أشد سطوعاً وأكثر لمعاناً، من الأشعة التي يبعثها الله في عيني إنسان ولد أعمى! وهكذا تحول الخيال إلى حقيقة والحلم إلى يقظة، وأصبح الأعمى يعانق النور لا الظلمة، ويرتوى من جداول الماء لا الأحلام.

الجمعة، 19 مارس 2010

دمــوع في البستان


حديث الطريق

فرغ المسيح من العشاء المُقدّس، وبعد أن سبّح مع تلاميذه، وخفقت قلوبهم كالعصافير، غادر عليّة صهيون (مت26:30)، وها هو يعبر معهم وادى قدرون (يو1:18) الذي عبره من قبل داود الملك وهو يسير حافي القدمين، مُغطّى بمسوح ووجه منكساً، هارباً من بطش ابنه أبشالوم بسبب خطيته، التي أهان وجرح بها نفسه وأغضب الله (2صم30:15).

ويسير مُخلّصنا فى سكون الليل وظلامه، وأخيلة الأشجار تتحرك أمامه، كأنّها أشباح انبثقت من شقوق الأرض لتُخيفه، وأشعه القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون، كما لو كانت سهام شيطانية تتجه نحو صدره لتُميته! يُرافقه تلاميذه وهم فى تأثر عميق لِِِما جرى فى العُليّة، وإعلانه المؤلم عن مُسلّمه.

وفي أثناء السير قال لهم: " كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ : أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ " (مت31:26)، فمنذ فترة وجيزة كشف لهم عن خيانة تلميذه يهوذا خائن واحد إلاَّ أنَّ الجميع سيهجرونه، ستتبدد خراف الرعيّة لأنَّ راعى الخراف قد ضُرب ثم يعطيهم فكرة عن لقاء سعيد يلتقون فيه مّرة أُخرى عقب هذه العاصفـة فيقول : " وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَـامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " (مت32:26).

فهناك لن تكون كأس ألم يتجرعها ولا أتباعه يشكّون فيه، سيتقابل معهم مُمجداً وعلى رأسه تيجان كثيرة.. بعد أن اكتنفه الحزن طويلاً، فقد كان لابد أن يقوم ليغسل ما لحق به من إهانات وتعييرات وعذابات من اليهود والرومان، أولئك الذين شاطت عقولهم وصلبوه حسداً، وظنوا أنَّ القش يمكن أن يقف أمام اللهيب، فقام الجبَّار وازدرى بهملأنَّ الغبار لا يقدر أن يقف أمام الريح!

ويصر بطرس الرسول على أنَّه سيحتفظ بأمانته مهما حدث إذ قال وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً (مت33:26)، لا أجحدك فأنا مستعد لأمضى معك، إن بذلت ذاتك للموت ها أنا معك، وإن اخترت الصعود للصليب أصعد معك، فالموت معك ربح لى لأنه سيقودنى إلى الحياة الدائمة.. لكن يسوع بكل صراحة يُعلن أنَّه سوف يُنكره سريعاً " إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ "(مت26: 34).

ويعود بطرس يؤكد أمانته، مع التلاميذ ولكن دون جدوى، لأنَّ الجميع تركوه ساعة الصلب وحده وهربوا كل واحد إلى خاصته، وقد لبثت أُمه واقفة بجانب الجثّة الهامدة كأنّها تحرس طفلها!هربت الخراف وبقى الراعى وحده يحيط به الذئاب الخاطفة! لأنَّ الظلمة لا تعانق النور فهناك عداوة قديمة بينهما! كما أن الشيخوخة الذابلة لا تستأنس بالشباب الغض، شأنها شأن الصباح لا يلتقي بالمساء إلاَّ ليبدده!ويدخل رب المجد بستان جثسيماني، على ممر بين أشجار الزيتون لا ليحيا فيه متنعماً كآدم فى جنَّة عدن، بل متألماً! ف

فى هذا المكان جمعه الربيع فى قبضة الحُب، حيث كان يقضي أيامه في الصلاة، وفى نفس المكان جمعه خريف الأشرار المُلبّد بالزوابع أمام عرش الموت!

معصرة الزيت

تقع جثسيمانى على سفح جبل الزيتون، ومعناها معصرة الزيت، لأنَّهم كانوا يُحضرون الزيتون من أشجاره، التي تنمو هناك فى الحدائق المجاورة لتُعصر ويُستخرج منها الزيت.. وفـى المعصرة انداس المسيح وحده (إش3:63)، وقد سُر الله أن يسحقه لكى يخرج منه زيت جديد لكل من يؤمن به، لنشترك فى أصـل الزيتونة الجديدة ودسمها (رو11:17).

هناك كانت تنمو أشجار الزيتون، والمسيح قد جاء إلى جثسيمانى، لكي يغرس الزيتون الصغير بقوته الإلهية فهو الزارع السماويّ وكل غرس يغرسه فى الحقل الإلهيّ يُعلن " أمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ اللهِكان يرمز إلى الألـم لمرارته، إلاَّ أنَّه يرمز أيضاً إلى السلام، فالحمامة التى أرسلها نوح من الفُلك، عندما غطّت مياه الطوفان الأرض، عادت إليه وهى تحمل غصن زيتون أخضر فى فمها، فعلم نوح أنَّ المياه قلّت عن الأرض (تك8: 11)، فكان ذلك إشارة لحلول سلام الله على الأرض، ومنذ ذلك الوقت قد صار غصن الزيتون شعار السلام بين البشر، وشجرة الزيتون علامة تشير إلى النجاح والبركة الإلهية (مز52: 8) (هو14: 6).

وهذا يعنى: إننا لن نحيا فى سلام إلاَّ من خلال آلام المسيح، فعن طريق الآلام تم الفداء، ومن ثمار الفداء عودة السلام إلى الأرض مرة ثانية بعد أن سادها الرعب سنينَ طويلة، أتتذكرون يوم ميلاده عندما شق الملائكة ببهائهم ظلام الليل، فحوَّلوا الأرض سماء وملأوا الكون بذبذباتهم الروحية، وعزفوا على قيثارات الحُب تسبيح المجد والسلام والفرح " لْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُقمة الألم ما أن وصل يسوع إلى باب البستان حتى قال لتلاميذه: جْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ " (مت36:26).

ويجلس التلاميذ عند مدخل البستان طاعة لأمر مُعلّمهم، بينما يصطحب المُعلّم بطرس ويوحنا ويعقوب ويتقدمهم إلى داخل البستان، ويلقى بنفسه بين يدي الآب فى تضرع ولجاجة.. ولا تزال كأس الأهوال لم تعبر عن المخلص الغارق فى الألم، بل تزداد مرارتها لحظة بعد الأُخرى.
ويزداد الصراع وتعلو الزفرات.. وهل يستطيع الجالس على أجنحة الموت، أن يستحضر تغريد البلبل وهمس الزهور وحفيف الغصون؟! أيقدر الأسير المثقّل بالقيود والهموم أن يُلاحق هبوب نسمات الفجر؟وتصل الآلام النفسية إلى قمتها، وقد عبّر مُعلّمنا متى البشير عن هذه الآلام بعبارة " وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ.. نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ (مت37:26،38).

لابد أنَّه رأى كل خطايا البشرية أمام عينيه، رأى سقوط آدم وطرده من الجنَّة، وقايين الذي قام على أخيه هابيل وقتله حسداً وغدراً، وشر العالم الذى كثُر أيام نوح فاغرقهم بماء الطوفان، والفساد الذى عاش فيه أهل سدوم وعمورة فأحرقهم بالنار والكبريت.. وكان يعلم أنَّه بعد ساعات سيُعرى من الأشرار ويُجلد ويُتفل على وجهه ويُكلل بالشوك ويُسمّرعلى الصليب.. فهذه كلها أحداث تركت أثراً عميقاً فى نفس البار!

وكلمة يكتئب تعبّر عن الحزن، الذى يجعل الإنسان غير صالح للاختلاط بالناس أو غير راغب فيه.ويعطينا مُعلّمنا مرقس بوصفه الدقيق لتفاصيل المشهد الرهيب، فكرة أوضح عن الحزن الذى قد جاء علـى المسيح فى قوله " وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ " (مر33:14)، وكلمة يدهش فى الأصل تتضمن رعباً مُفاجئاً، بسبب شئ مُخيف، فالبشير يريد أن يُعلن أن فزع يسوع، كان بسبب مناظر من الخارج اقتحمته وكانت تنذر بتمزيق أعصابه.

حقيقة إنَّ الشهداء تألَّموا وماتوا لأجل المسيح، لكنَّهم لم يحزنوا كمخلصنا، لأنَّه على صليب القديسين ينطق الرب بالتطويب، الأمر الذي يجعلهم يفرحون أثناء حمل الصليب (مت10:5-12) أمَّا صليب المسيح فكان يقترن باللعنة " مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل13:3) الأمر الذى يجعله يحزن ويكتئب!

مدرسة الصلاة

بعد أن أعلم المسيح تلاميذه أن نفسه حزينة حتى الموت، ابتعد عنهم نحو رمية حجر ثم جثا على ركبتيه وخر على وجهه، وكانت تصعد أنات من نفسه المثقّلة بالحزن الشديد " يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتكَ" (لو41:22،42) وهكذا خر أيوب على الأرض وهو فى شدة الألم (أى20:1)، فالتمرغ فى التراب يُعبّر عن شدة الألم، كما يُعبّر عن التواضع والانسحاق.

وفى هذا الجو المظلم نراه يدعو الله " أبتاه " ! فمهما تكاثفت السحب، وهاجت العاصفة، وأظلم الليل.. فإنَّه يستطيع أن يرى من خلالها الله أباً، وما أجمل ما يقول المؤمن " يا أبتاه " فى أوقات التجارب، لأنَّه لمن يذهب الطفل عندما يشعر بالضيقة إلاّ إلى أبيه!وعلى الرغم من شدة آلامه إلاَّ أنّه عبّر عنها بالكأس!

سقط آدم بزلته فكان إليه صوت الرب " بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً " (تك3: 19)، ومع أنه عـرق مرات إلاَّ أنَّه لم يُشف، وفى هذا يقول مار يعقوب السروجى: " وعرق أثناء الصلاة فشفى آدم من العذاب، بعرق الرب صارت الصحة للمريض، نظر آدم عرق ربوات ولم يُشف لأجل الخطية الممزوجة به، فبغير خطية عرق مُخلّصنا دفعة واحدة وكانت نتيجتها تخليص آدم من الموت ".

يقول مار إفرآم السريانيّ:
" طوباك أيها المكان الذى تأهلت لأنْ يسقط فيك عرق الابن، إنَّ الابن بارك الأرض بعرقه ليُبطل عرق آدم الذى حل عليها، طوبى للأرض التى طيّبها بعرقه والتى كانت مريضة فشف

ومن هذا نتعلَّم أنَّ التخفيف من شدة الألم وقت الضيق وأنَّ شرب الكأس المرَّة التى يضعها الله فى أيدينا، مهما اشتدت مرارتها بشكر أفضل وسيلة للخروج من الضيقة.كما أعطانا المسيح بصلاته أعظم درس ألا وهو: إنَّ الصلاة هى أعظم سلاح نستطيع أن نُحارب به، ففى جثسيمانى صار الألم كزلزال حبلت به الأرض فتمخضت متوجعة تريد أن تلد الخراب والشقاء! ولكنّها على غير عادتها لم تلد سوى الخلاص! فهل من سبيل للخلاص من المحن والشدائد غير الصلاة ؟ لقد صار المسيح للمؤمنين كالمرآة ينظرون فيها ويتعلمون!
عرق المحبة

كان يسوع يصلى بلجاجة، فتراءت له البشرية فى لحظة خاطفة فى جميع عصورها، تجرجر فى خزى إجرامها وقبح معاصيها! وطفقت جميع الخطايا تخرج من خفايا الزوايا وشقوق الضمائر، تفح كالأفاعى لتنفث سمها وتفرغ خبثها فى الحمل الوديع، قبل أن يقضى عليها ليمحوها! لقد هاله المنظر فصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض (لو22: 44)، فقدست هذه القطرات الطاهرة والمُطهّرة الأرض وباركت تربت
اها لأنَّه نضح عرقاً عليها ".

الجسد كله يبكى لا العينان فقط

أما الذي جعل عرق يسوع يتصبب هكذا كقطرات الدم، وجسده كله يبكي عوض الد موع دماً هو المحبّة، فإن أشارت المحبّة إليكم فاتبعوها وإن كانت مسالكها صعبة! وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها! وإذا خاطبتكم المحبّة فصدقوها وإن عطّل صوتها أحلامكم!

لقد بكى كل عضو من أعضاء المسيح حزناً على فساد أعضائنا التى دنّستها الخطية، فها هى عيناه تبكيان عوض أعيننا التى تلوثت برؤية المناظر القبيحة، وأذناه تبكي عوض أذاننا التى تدنست بسماع كلام النميمة.. ويداه ورجلاه وفمه... الأعضاء كلها تبكى والعجيب أنها لا تبكى ماءً بل دماً، لأنَّه كما قال القديس بولس الرسـول : " بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ "..

نوم التلاميذ

صلى مُخلّصنا ثلاث دفعات، وبينما كان يصارع مع الموت فى جهاد لا يوصف، كان التلاميذ نياماً وقد غلب عليهم النعاس، ويوقظهم المُعلّم أكثر من مرّة لكي يسهروا معه ولو قليلاً ولكن دون جدوى! فأصبحوا أمامه كتاباً قرأ سطوره، وفسر آياته، وأخيراً عندما صل إلى نهايته إذا بعبارة " الضعف البشريّ " !


لقد ناداهم فلم يقوموا من رقادهم، بل ظلوا يسيرون فى مواكب الأحلام! طلب منهم أن يصعدوا إلى قمة الجبل ليروا ممالك العالم فرفضوا، مفضلين أعماق الوادى حيث عاش أباؤهم، وفى ظلاله ماتوا ودفنوا فى كهوفه! ولكن لا عجب فقد مضت الأيام المفعمة بأنفاس الربيع وابتساماته المُحيية، وجاء الشتاء باكياً، منتحباً، لكى يبقى يسوع وحده، فالحمل الوديع قد جُرح ولابد أن يبتعد عن سربه ويتوارى حتى الموت!

لما بكى داود على جبل الزيتون أثناء هروبه من وجه أبشالوم ابنه، بكى معه جميع أتباعه (2صم30:15)، أمَّا يسوع ابن داود عندما تحول عرقه إلى دم على نفس الجبل، كان تلاميذه الذين يجب عليهم أن يسهروا ويبكوا معه كانوا نياماً نياماً، فى حين أنَّ أعداءه الذين يترقبون خُطاه قـد كانوا فى يقظة كامــلة (مر14: 43)! ألم يعرفوا أن فى إناءه يمتزج الحلو والمر؟! ألم يدركوا أن قربهم منه يجعلهم يعيشون بين النور والنار؟!

كان يجب أن يجمعوا كل قواهم الروحية، حتى لا يخوروا أمام التجربة، ويتعرّضوا للشك والإنكار ثم الارتداد، خاصة وأن رئيس هذا العالم قد استعد بسلاحه وبكل قواته، لكنهم تثقلوا من الحزن الذى صفعهم، ولم يعد فيهم قوة ليتقدموا إلى الطلبة والتضرع.
أما الدافع الذى جعل الرب يسوع يوقظ تلاميذه هكذا، ليس شعوره بالحاجة إلى من يواسيه بسبب نفسه المتألمة، بل كان أيضاً عطفه الشديد عليهم، إذ كانوا مثله تُحيط بهم قوات الظلمة، وقد حانت الساعة التى أشار عنها " هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَة " (لو53:22).

ولسنا نعلم إذا كانوا قد سهروا فما الذى كان ممكناً أن يقولوه فى صلاتهم؟! إن قالوا لا يجب أن يموت البار من أجل الأثمة فلن يسمع لهم الله! وإن قالوا فليمت الابن لتحيا البشـرية بموته فهذه جسارة عظيمة!! لأنَّه من يستطيع أن يقول للآب يُصلب ابنك أو لا يُصلب!
وقد كان هذا الصمت أفضل لهم!

الثلاثاء، 2 مارس 2010

لماذا الخطية ؟!

أخي الحبيب/

أراك تحيا في العالم منهمكاً بمادياته، متلذذاً بشهواته، ومخدوعاً بأوهامه، وقد تركت الحيّة الخبيثة تهزأ بك، فعضَّتك بأنيابها، ومزقت ثوب النور البهيّ الذي كنت لابسه، وألبستك عوضاً عنه ثوب الليل المظلم الذي هو ثوب الخطية

ألا تعلم أنَّ الخطية بذور خبيثة
، ما أن تُلقى على أرض قلبك حتى تنمو وتتضخّم كسرطان! وإن بدت كأنَّها زورق صغير يحملنا إلى ميناء السعادة، فالزورق بلا ربَّان وبعد قليل سيتوه وتُحطّمه الأمواج!
إنَّها لهيب نار لو اشتعل فيك لأَحرق كل طاقاتك، فإن كان الهلاك هو ثمارها فلماذا تُخطيء؟! لماذا تأخذ ناراً في حضنك وأنت تعلم أنَّها ستحرق ثيابك؟! هل تمشى على جمر النار دون أن تكتوي رجلاك؟! أليست النار تتولّد من المادة ثم تعود وتحرق المادة؟! وهكذا الخطية تتولّد من الإنسان ثم تعود فتحرقه.

دعنا نتساءل: ماذا فعلت الخطية بمحبّيها؟ هل إلى الحياة قادتهم؟ كلاَّ، بل إلى الموت سلَّمتهم! فالإنسان الخاطيء هو إنسان ميت، لأنّه انفصل عن مصدر الحياة الحقيقية، رب المجد يسوع الذي قال عن نفسه: " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ " (يو25:11)، وهل يقدر إنسان انفصل عن الحياة يقول إنه حيّ؟!

إرجع إلى التاريخ القديم لتعرف أنَّ الخطية، كانت السبب فى كل المصائب التي حلّت على العالم، فهى التي أفسدت آدم وتسبّبت في طرده من الجنّة، وجعلت قايين يخرج هائماً على وجهه هارباً من مكان إلى آخر وقلبه مضطرباً، خوفاً أن يحصد ما زرعته يداه لقتله هابيل أخاه.

لولا الخطية ما أغرق الله العالم بماء الطوفان، ولا أنزل ناراً وكبريتاً من السماء لتحرق سدوم وعمورة، ولا سقط شمشون المنذر لله من بطن أُمه، ولا زنى داود رجل الصلاة والمزامير، هى التي جعلت هيروديا تطلب رأس المعمدان، وعندما أحبّها يهوذا أسلم سيده إلى الأثمة، لأنَّه لمَّا اشتهى المال أضاع الحياة، وماذا أعطاه حب المال؟ لم يُعطِه سوى ثلاثين من الفضة ثمن حبل المشنقة!

لقد صيرّتنا الخطية عبيداً بعد أن كنا أحراراً، قيَّدتنا بعد أن كنَّا معتوقين، أفنت شجاعتنا فصرنا نخشى الحيوانات التي كنَّا أسياداً عليها، ملأتنا من كل شهوة ردية، فصرنا مُحبين للخلاعة نلهث وراء اللذة الممنوعة!

إنَّ الخطية سماءً مظلمة بلا نجوم، أرضاً جافة لا تنبت سوى الأشواك، بحراً تبخرت مياهه فصار نبعاً بلا حياة! فلا تخدعك الخطية بحسن جمالها أو عبير رائحتها، فهى كالوردة الجميلة فى البستان، لا يمل أحد من التطلّع إلى جمال منظرها أو تنسم عبيرها، الذي هو ريح مليئة بالسموم، تهب على الأزهار النضرة فتيبّسها! إنّها شجرة مثمرة شراً تحمل ورقاً كثيراً، ولكن فى أوراقها يسكن أولاد الأفاعي والشياطين.

إسأل نفسك بعد كل خطية تسقط فيها: ماذا ربحت وماذا خسرت من خطيتي هذه؟ قد تربح لذة وقتية لكنَّك ستخسر الله اللذة الحقيقية، الذي لذته تفوق كل لذة مهما كانت طيبة! فلا تثق بسعادة تجنيها من الخطية لأنّك بقدر ما تشعر بسعادة تجد أنَّك مشدوداً ومقيداً برباطات كثيرة، وما أصعب فك قيود ورباطات الخطية!

ألم ترَ في حياتك مدمناً؟ ألم تسمع عن لص؟ ألم ترَ كم يُعاني الخطاة من استبداد شهواتهم؟ وكل الذين سعوا إلى الخطية بحثاً عن لذة توهموها، ما أن حققوا شهواتهم حتى شعروا أنَّهم لا يملكون سوى حفنة من الهواء الملوث، تطايرت مع أول ريح صادفتهم!

إنَّ الخطية أشبه بقطعة نسيج خيوطها منسوجة من الملل، والألم، والفراغ..