مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الثلاثاء، 26 أبريل 2011

القيامة تأكيد لعقيدة الخلود


إننا عندما نتساءل عن معنى الموت، فإننا في الحقيقة إنَّما نتساءل عن معنى الحياة ومصير الإنسان.. وهكذا نتساءل:

هذه الحياة ما معناها؟ هذا الوجود ما هدفه؟ هذه الرحلة أين تمضي؟ لماذا خُلقنا؟ هل حياتنا مجـرد نور لا يكاد يُضيء حتى ينطفيّ ؟ أو لحن ما يكاد يشجينا حتى ينقطع ؟

أعتقد أنَّ الخلود هو أمل الإنسان في الحياة، فأنا أحيا على أمل ما سأكون، وبقيامة السيد المسيح قد صار واضحاً أنَّ الروح لا تفنى ولا تموت.

لو لم تكن هناك حياة بعد الموت، فما الداعي لأنْ يتجسّد المسيح؟ ولماذا يموت؟ بل لماذا نجاهد ضد الخطية ونقاوم شهوات الجسد؟ ولماذا نحتمل ونصبر على كل ما يُصادفنا من تجارب؟ لولا القيامة لقلنا مع الأبيقوريين: لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت!

عن هذا الخلود تساءل أيوب الصديق قائلاً: " إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا ؟ " (أى14: 14)‍، فجاء المسيح وقال: " مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا " (يو11: 25).

إنَّ قضية الموت شغلتْ، ولازالتْ حتى الآن تشغل عقول كثيرين، من فلاسفة وعلماء ومفكرين، وأكثرهم يتساءلون:

لماذا الموت؟ موت كل واحد منَّا، وموت الذين نُحبَّهم؟ ما مصير الجسد الذي سنلبسه، والكون الذي نحيا فيه؟ ما مصير كل واحد منَّا؟ ما علاقة هذه الحياة بالموت وما بعد الموت؟ ومن ثَمَّ ما قيمة العمل في هذه الحياة؟ لماذا البناء والسعي وراء مجتمع أفضل.. إن كان الموت سيقضي على كل ما في الحياة ؟!

على هذه الأسئلة وغيرها أجاب المسيح بقيامته وبقوله " أنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ " (يو11: 25)، لأنَّه إن كان المسيح قد قام منتصراً، فواضح أنَّ مصير كل من يؤمن به الحياة لا الموت، والجسد الفاسد سيتغير لنلبس جسداً ممجداً غير قابل للفساد‍! وأعمال الإنسان ليست للعدم، بل كما قال يوحنَّا الحبيب " وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ " (رؤ14: 13).

السبت، 23 أبريل 2011

مظاهر الاحتفال بعيد القيامة وشم النسـيم


حينما يقترب عيد القيامة المجيد أو شم النسيم، نشعر بدافع طبيعيّ قـويّ، بحكم العادة الموروثة، يدفعنا إلى التفكير في البيض - خاصة المسلوق - وأيضاً السمك أو الفسيخ.

فقد اعتاد المسيحيون وغيرهم، الخروج في مثل هذا اليوم من بيوتهم باكراً جداً إلى الحقول والحدائق للنزهة، حاملين مأكولاتهم المُفضَّلة من البيض والسمك، وبأيديهم الورود والرياحين، لأنَََّهم إلى الآن يعتقدون أنَّ من ينام في مثل هذا اليوم بعد شروق الشمس، يظل كسلان طوال السنة! ولا يقف الأمر على مجرد الأكل فقط، وإنَّما نرى البعض يتبادلون البيض والسمك كهدايا قيّمة، في هذا اليوم العظيم.. أمَّا الأولاد الصغار فلهم أيضاً هداياهم من الحلوى والشيكولاتة.

بيض الفصح

أمَّا عادة أكل البيض ومهاداته في عيد القيامة، فمن الصعب الوصول إلى أصلها، إذ يبدو أنَّها قديمة جداً فقد زعم البعض أنَّها آتية من الفرس مستندين في ذلك إلى أنَّ الفرس، كان عندهم عيـد سنويّ كبير يُسمَّى(عيد البيض)، ولو أنَّ ميعاده يختلف عن ميعاد عيد الفصح وشم النسيم عندنا.

وهناك مَن يرى أنَّ أصل هذه العادة هم المسيحيون، فإنَّهم منذ القِِِدم يصومون الصوم الكبير، فينقطعون عن تناول الأطعمة الحيوانية والبيض، فينتج عن هذا تجمع البيض بكثرة، فيأكلونه ويتبادلونه كهدايا لوفرته وأيضاً لِِِما فيه من معانٍٍ سامية ورموز تُشير إلى قيامة المسيح.والحق إنَّ هذه الأكلات وإن كانت شعبية، إلاَّ أنَّها تحمل في داخلها معانٍ ورموزاً، تُشير إلى أشياء لاهوتية! فليس عبثاً كان آباؤنا يأكلون هذه المأكولات، وهم الذين قد عُرف عنهـم النسك وقمع شهوات الجسد، إنَّما كانوا يأكلونها لأنَّها تُشير إلى المسيح من عدة جوانب مختلفة!

البيضة عند القدماء


كان للبيضة قدسـيّة خاصة، نراها واضحة في الديانات القديمة عند اليونانيين والرومانيين والفراعنة فقد اعتقد بعض الفلاسفة القدامى أنَّ البيضة هى أصل الخلق! إذ أنَّ العالم في رأيهم كان على شكل بيضة انقسمت إلى نصفين، النصف العلويّ كوّن السماء، والسفليّ كوّن الأرض.فالبيضة منذ آلاف السنين تُمثّل للقدماء رمز الحياة وأصل الكون، ولها حكايات كثيرة وطريفة عندهم..

فأهل اليابان كانوا يرسمون البيضة أمام ثور ذهبيّ يكسرها بقرنيه ليخرج منها العالم، أمَّا الثور فقدّسوه لأنَّه يرمز إلى القوة، التى بها يستطيع أن يخلق كل شيء من العدم، وإحالةوفى التاريخ الهنديّ القديم تُعتبر البيضة مقدَّسة لأنَّهم كانوا يعتقـدون أنَّها مصدر الخليقة! إذ أنَّ أُم تريمورتي وهو الثالوث الهندوسيّ– وضعت في البدء ثلاث بيضات، خرج منها آلهة الهند الثلاثة وهم: براهما وفشنو وشيفا، أمَّا براهما فمعناه كلمة الكينونة وهو المُطلق غير المشخّص، وفشنو الإله المحسن على الدوام، وشيفا إله الصفح والمبشر بالخير.

البيضة في المسيحية

وظهرت المسيحية وقيمة البيضة تزداد، فجعلوها رمزاً للقيامة والحياة، إذ تخرج منها الحياة مجسَّمة في صورة كتكوت، وكما أنَّ الكتكوت ينقر بمنقاره البيضة، ويخرج منها مكتسباً الحياة من الموت، ومصوصاً صوصة البهجة لانتصاره على ظلمة البيضة، هكذا أيضاً السيد المسيح وهو حيّ بذاته استعمل سلطانه على الموت، متخطياً حواجز القبر فخرج منه حياً، ولكن ليس كخروج الكتكوت الضعيف، بل كالأسد الخارج من سبط يهوذا، وهو يزمجر قائلاً: أين شوكَتُكَ ياموت أين غَلَبتُكِ ياهاوية؟

ولهذا وُجِدَ بيض من الرخام في قبور بعض الشهداء، كاعتراف بقيامة الأجساد وفى كنيسة المريمات الروسيات، التى باسم القديسة مريم المجدلية بالقدس، توجد رسومات للبيض الذى حملته مريم المجدلية إلى قيصر، ودللتْ به على قيامة المسيح، وعلى أنَّ جسده الطاهر لم يرَ فسـاداً، بل كان محفوظاً في القبر كما يُحفظ الكتكوت في البيضة يالتقليد يذكر لنا:

إنَّ مريم المجدلية وضعها اليهود في مركب بلا دفة ولا مقداف أو شراع لتتوه في البحر، ولكن شاءت العناية الإلهية ألاَّ تهلك، فقذفتها الأمواج إلى شواطئ إيطاليا، فذهبتْ تشتكيّ بيلاطس البنطي إلى قيصر، فلمَّا وقفتْ أمامه قدَّمتْ له بيضة، لتشرح له المعاني التي ذكرناها.

الاحتفال ببيض العيد

والاحتفال ببيض العيد كان أيضاً معروفاً قبل المسيحية، فالبيض عند الرومان كان أفخر هدية يُقدّمها الآباء لأبنائهم في عيد رأس السنة، وكانوا يرسمون عليه رسومات رمزية وهزْليّة، تُعبّر عن مشاعرهم وعاداتهم ومعتقداتهم.ومَن تقاليد اليابانيين والصينيين، تبادل الهدايا من البيض في عيد رأس السنة البوذية في اليابان، ويوم التجديد في الصين الذي يقع في بدء الربيع.ومن يزور الهند يرى بيضة على معظم البنايات الكبيرة والمعابد الكثيرة، لأنَّ البيض في نظرهم رمز الخليقة.

أمَّا في مصر فكان الكهنة المسيحيون قديماً، يجمعون البيض في الصوم الكبير، إلى أن يأتي العيد فيُحضرونه إلى الكنيسة ويوزعونه على الشعب بعد قداس العيد وفى الطوائف الشرقية رمز قديم لايزال مستعملاً حتى اليوم في الكنائس، إذ يُعلّقون بيضة أو أكثر أمام الهيكل كرمز إلى قيامة السيد المسيح، وسهره الدائم على كنيسته، كما يسهر النعام على صغاره.

عادة تلوين البيض


ما أن يأتي عيد القيامة، حتى تقوم حركة غير عادية في المنازل أشبه بمشكلة فنية، وهى عادة تلوين البيض وزخرفته، ثم كتابة قائمة بأسماء الأقرباء والأصدقاء... الذين سوف تُهدى إليهم كميات البيض الملون.

فى البداية اعتاد المسيحيون تلوين البيض باللون الأحمر إشارة إلى دم المسيح الذى سُفك على الصليب، ثم أخذوا يتفننون في تلوين البيض بالألوان المختلفة خاصة وأن العيد يأتى في الربيع حيث ألوان الزهور البديعة.ويبدو أنَّ عادة تلوين البيض قديمة جداً، وترجع هى الأُخرى إلى ما قبل المسيحية بأجيال! فقد قيل: إنَّ القدماء كانوا يُكرّسون يوماً من سنتهم ليحتفلوا فيه ببدء الربيع، وكانوا يقضونه بين اللهو والمرح، ومن ضمن عاداتهم في هذا اليوم تلوين البيض، إشارة إلى مناظر الطبيعة الخلاّبة، وتفتّح الزهور بألوانها وأشكالها الجميلة.

هذا وقد اتخذ أرباب الفنون من تلوين البيض وتزينه فناً، فأبدعوا في نقش البيض وزخرفته وامتلأت المحلات من البيض المرسوم عليه صور دينية، وفى بعض البلاد كانوا يُقلّدون بيض الدجاج ببيض صناعيّ مزين بأجمل الزينات.. واعتادت بعض الفتيات الماهرات، أن يثقبن البيضة ثقوباً دقيقة، لإخراج بياضها وصفارها وتنظيفها، ثم بعد ذلك يطرزن عليها بالإبرة أشكالاً بديعة.

البيض وسيلة للتسلية

منذ القِدم والمسيحيون في كل مكان، يتسابقون في تلوين البيض واللعب به... ففي إنجلترا كانوا يُدحرجون البيض على منحدرات طويلة، بعد أن يكتب كل واحد اسمه على بيضته، والبيضة التي تقطع أطول مسافة دون أن تنكسر، ربِح صاحبها الرهان وصفّق له الجميع، وأعطوه كل البيض الداخل في الرهان.

وفى النمسا كانت جماعات من الشباب، تطوف على البيوت، منشدين الألحان وعازفين على الآلات، وذلك لجمع أكبر كمية من البيض، لكي يوزعوه على الفقراء.وفى ألمانيا كانت تُخبّأ كميات من البيض، في البيوت والغابات والحدائق، ويُدعى الأولاد للبحث عنها، والفائز هو الذى يجد أكبر كمية، وهذا كان يثبت قدرته على الكشف والنجاح في الحياة العملية.

وفي أمريكا كانت تُقام حفلة في البيت الأبيض يوم شم النسيم، فيجتمع الألوف في الساحة الخارجية، يحملون سلالاً من البيض فيدحرجونها ثم يلعبون ويهتفون للرئيس.

الثلاثاء، 12 أبريل 2011

مـــوت ظـافـــر


منذ آلاف السنين ونتيجة السقوط العظيم دخل الموت إلى العالم كنتيجة حتمية للخطية: " بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيع " (رو12:5)، فأرعب البشر ولم يفلت منه أحد قط، لا الأنبياء أو الكهنة أو الملوك.. فالجميع ساروا فى ظلام الحياة يتبعهم شبح الموت الكئيب، ذلك الوحش الذى يلتهم أجسادنا، ويشرب دماءنا، ويستنزف دموعنا، دون أن يشبع أو يرتوى‍‍‍‍!


ويُعد أبوانا الأولان - آدم وحواء - أول من رأيا سلطانه الرهيب، رأياه وهو يُظهر قوته فى ابنهما هابيل، الذى قتله قايين أخوه حسداً وغدراً (تك4: 3ـ8)، ومنذ ذلك الوقت استمر الموت يُلوّح بسيفه الرهيب على الأرض، ليفصل بين الإخوة والأحبَّاء، ويُحوّل البهجة إلى مرارة، والسعادة إلى حزن أليم، فما أكثر دموع البشر التى انسكبت فى قلب الحياة، مثلما يتساقط الندى من أجفان الليل فى كبد الصباح!


يسوع يُسلم الروح


أما ابن الإنسان القدوس، الذى لم يفعل خطية ولم يوجد فى فمه غش وقد قال مرّة لليهود " مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ " (يو46:8)، لا يدخل تحت سلطان الموت، لأنَّ الموت إذا جاء لإنسان وجد بابه مفتوحاً فالخطية قد فتحت أبواب البشر، كل البشر للموت، أمَّا يسوع فبابه مُغلق ولم يستطع الموت أن يفتحه إلا بإرادته، فالحمل الذبيح أتى برجله إلى السكين، المُخلّص ألقى بنفسه فى طريق الموت، وإن لم يُرد ما كان الموت يقدر أن يصيده لكن لكى يتم الخلاص كان لابد للبار أن يتألم من أجل الأثمة ويموت (1بط3: 18)، وإلا لماذا نزل من السماء؟ أمَّا اليهود والرومان ويهوذا فكانوا الأداة التى بها تم تنفيذ حكم الموت..!


مات المسيح وكان لابد له أن يموت فى تلك الليلة الحزينة، على ربَوة عالية فى أورشليم، ليموت فيه إنسان العهد القديم بطقوسه الجوفاء، مات الحر ليموت فيه ذل الإنسان وعبوديته للشيطان والموت والخطية، تمزّق الجسد لكي ينطلق حياً بجسد نورانيّ لا يمسّه الفساد.


ولكن إن كان المسيح قد مات بالفعل، إلاَّ أنَّ روحه قد خرجت قوية ومنتصرة وفرحة وليست مجبرة، هكذا تخرج أرواح الأبرار من أجسادهم، أمَّا الأشرار الذين قضوا حياتهم عبيداً للخطية وآلة طيّعة للإثم، فإنهم لا يخافون الموت فقط، بل ويرتعبون من مجرد اسمه، لأنَّهم يعلمون مصيرهم، فحينما يُفكّر الإنسان أنَّه لا محالة " مائت "، وسوف يُلقى فى قبر مظلم ساكن ليس فيه من يسمع أو يتكلم، كما أنَّه سيقف أمام الديان العادل ليُعطي حساباً عن نفسه، فإنَّ الخوف سرعان ما يملأ قلبه، خاصة إن كان يعلم ما فى قلبه من شرور لم يقدم عنها توبة!


ولا يظن أحد أن المسيح عندما نكّس رأسه وأسلم الروح (يو30:19)، أنَّه استسلم للموت عن ضعف، أو كمن يدفع الجزية لقوة قهرية، بل كمن يسلم نفسه للموت طوعاً برغبته، وقد قال مرّة: " لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً " (يو18:10) والدليل:


إنَّه عند موته صرخ " بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ " (مت50:27)، فمن أين له هذه القوة الهائلة؟! روحه إذن لم تُغتصب اغتصاباً، لكنّه هو الذي سلّمها بمحض إرادته فى يدي أبيه، فالمسيح الذى كان قوياً فى حياته كان أيضاً قوياً فى مماته، ولهذا صحبت صرخته العظيمة علامات خارقة: إنشقاق حجاب الهيكل، وزلزلة الأرض، وتشقق الصخور، وتفتّح القبور، وقيام كثير من أجساد القديسين الراقدين (مت51:27،52)، فمنذ الدهر لم نسمع أنَّ ميتاً قد أقام الأموات بموته ؟!!


قال ماريعقوب السروجى:

" بأي ميت تحرَّكتْ الأموات وقاموا من القبور! مَن مِن الأموات سقطت قدامه أسوار الهاوية! من هو الذي رفَس القبور فتجشأت الأموات! من هو الذى ألقى الخراب فى أرض الموت المخصبة! من هو الذى ربُط وصُـلب بين لصوص وحل المربوطين من الظلام وأخرجهم! من هو الميت الذى أعطى الحياة الجيدة وارتعدت منه قرية الأموات لمَّا نظرته داخلاً إليها! من هو الذى وضع عليه إكليل الشوك وصُلب وحل تاج الموت لئلا يملك أيضاً! اخز أيها اليهوديّ وأعلم أنَّه الله وابن الله.. "


صرخ يسوع بصوت عظيم فماذا قال؟ " يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي " (لو46:23)، فكانت أول كلمة ينطق بها على الصليب " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو34:23)، وهى أيضاً آخر كلمة نطق بها على الصليب فأفكاره، أعماله... تهدف كلها لتمجيد اسم أبيه، وكان طعامه وشرابه أن يفعل مشيئة الآب، أمَّا محبة أبيه فقد كانت مسرّته وبهجة قلبه.


قبل يُصلب المسيح كان كل من يموت تأتي الشياطين ويتسلّمون روحه، لأنَّ العالم كان فى قبضة الشيطان، وقد عبّر المسيح عن هذا بقوله: " رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ " (يو30:14)، وعندما مات لعازر المسكين يقول الكتاب المُقدّس: " فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ " ( لو22:16)، أمَّا ابن الله فما كان ممكناً لأحد من الملائكة أو رؤساء الملائكة أن يحمل روحه الطاهرة، إنَّما الآب هو وحده الذي له الحق أن يتسلمها.


لقد عادت روح القدوس إلى الآب، فاحتفلت السماء بانتصاره العظيم وحيته الملائكة بقيثاراتها الروحيّة، وهتف بابتهاج الواقفون أمام العرش الإلهيّ، وفى هذا اطمئنان لأرواحنا أنَّها لا تفنى بالموت بل ستظل خالدة، وعن هذا الخلود تساءل أيوب الصديق قائلاً: " إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا؟ " (أى14:14)، فجاء السيد المسيح وأجابه: " مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا " (يو25:11).


إن البشرية ترى يسوع مولوداً من امرأة ، عائشاً كالمساكين، مُهاناً كالضعفاء، مصلوباً كالمجرمين، فتبكيه وترثيه وتندبه، وهذا كل ما تفعله لتكريمه، إنَّها تقف أمام صليبه كطفلة متأوهة بجانب الطائر الذبيح، ولكنها تخشى الوقوف أمام العاصفة التي تُسقط بأعاصيرها الأغصان اليابسة، وإن كانت تستيقظ فى ذكرى صلبه يقظة الربيع وتقف باكية لأوجاعه، إلاَّ أنَّها سرعان ما تطبق أجفانها وتنام نوماً عميقاً، إلى الآن لا يزال البشر يعبدون الضعف بشخص يسوع! ولكن يسوع كان قوياً، ولَعَلَّ السبب في هذا هو أنَّهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية!! ولهذا يقول جبران خليل جبران:


" ما عاش يسوع مسكيناً خائفاً، ولم يمت شاكياً متوجعاً، بل عاش ثائراً، وصُلب متمرداً، ومات جباراً، لم يكن يسوع طائراً مكسور الجناحين، بل كان عاصفة تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة، لم يأتِِِ يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزاً للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزاً للحرية والحق، لم يخف يسوع مضطهديه، ولم يخشَ أعداءه، ولم يتوجع أمام قاتليه، بل كان حراً على رؤوس الأشهاد، جريئاً أمام الظلم والاستبداد، يسمع الشر متكلّماً فيُخرسه، ويلتقي بالرياء فيصرعه.. هذا ما صنعه يسوع وهذه هى المبادى التى صُلب لأجلها مختاراً، ولو عَقَل البشر، لوقفوا اليوم فرحين، متهللين، منشدين أناشيد الغلبة ! ".


فلا تقل: أهكذا تبتلع اللجة العصفور؟! أهكذا تنثر الرياح أوراق الورود؟! بل قل: لقد مات المسيح ليقوم، وفى وادى الموت سأرفع تمثالاً للحب الإلهى رمز الحياة، وفى الربيع سأمشى والحُب جنباً إلى جنب مترنمين بين الزهور، وفى الصيف سأتكيء والحُب ساندين رأسينا على الأعشاب، ساهرين مع القمر والنجوم، وفى الخريف سأذهب أنا والحُب، متأملين أسراب الطيور المهاجرة، وفى الشتاء سأجلس والحب بقرب الموقد مرددين حكاية يسوع البار مع البشر، متأملين كيف أحبنا وبذل ذاته من أجلنا!


طعنة فى جنب المصلوب


أسلم مخلصنا روحه الطاهرة، لينقضِِ يوم الصلب العجوز متنهداً أنفاسه الأخيرة، فتوارى النور الضئيل، وغمرت الظلمة الأودية والأكواخ الحقيرة فى الفضاء الرمادى، فنشر الموت أجنحة السواد على الصليب، وانقطعت أصوات العصافير المغردة، وهتاف الطرب والسرور من سماء الجلجثة.


ها الحزن قد طلى جدران الطبيعة، فجفت دموع الفرح من سكانها، والحدائق التى حمل هواءها أنفاس يسوع وأسراره، خيّم عليها الحزن هى الأُخرى، فتنهّد النسيم بين الأغصان تنهّد يتيم بائس، وذرفت الأزهار قطرات الندى دمعاً ساخناً ثم أغمضت عينيها، وناحت جداول المياه وتوقفت عن المسير كأنّها أُم فقدت وحيدها، وأنشدت الطيور لحن الموت ثم نامت بين قضبان الأشجار الذابة، أمَّا الشمس فلمت أذيالها متألمة، والقمر ظهر شاحباً كميت ينتحب ولم يعط هو الآخر ضوءه!!


الطبيعة كلها قد راودها الحزن والنعاس، ولم يوجد فيها سوى دموع الشتاء وحزن الخريف! وساد صمت عجيب، بعد أن تفرق الجمع الذى كان محتشداً فى مكان الصلب، ولم يبقَ سوى الحراس الرومان ومعهم يوحنا الحبيب، الذي بعد أن أوى مريم أُم يسوع فى بيته حسب وصية سيده، لم يستطع أن يُقاوم الرغبة الشديدة فى العودة للجلجثة، حيث كان من تُحبّه نفسه، مُعلّقاً هناك على الصليب، وقد دون لنا هذا الشاهد الأمين ما قد رآه (يو35:19).


وكانت عادة سائدة في إسرائيل، تقضي برفع أجساد المذنبين من على الصلبان، ليُدفنوا قبل أن تغيب الشمس، وهذه العادة تستند إلى وصية إلهية تقول: " وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباًً " (تث23:22،21).


وهكذا نظروا إلى يسوع على أنَّه ملعون من الله!! ومرفوض من السماء والأرض!! ولكنهم لم يعرفوا أن أنَّه وهو على الصليب حمل اللعنة نيابة عنَّا، ولهذا يشبّه العلامة أوريجانوس اللعنة بدائرة لها بابان، الأول هو: كسر الوصية وقد دخل منه آدم وبنيه، لكن المسيح لم يكسر الوصية فدخل من الباب الثانى وهو: الصليب، فأصبح فى دائرة اللعنة مع البشر، إلاَّ أنَّ الدائرة لم تحتمله فتفجرت، وبهذا أصبحنا خارج دائرة اللعنة لأنَّ المسيح حملنا إلى السماء!


ويذهب اليهود إلى بيلاطس البنطيّ، ويطلبون منه أن تُكسر سيقان المذنبين الثلاثة كما اعتادوا ويُرفعون ليُدفنوا (يو31:19)، فيجيب بيلاطس طلبهم ويُرسل مجموعة من العسكر إلى ساحة الصلب، لكي يكسروا سيقان المذنبين ويتأكدوا أنَّهم قد ماتوا، وكان هذا يُعد عمل رحمة للمصلوبين لكي يعّجلوا بموتهم.


فكسروا سيقان اللصين المذنبين وبعد أن أتمّوا هذا العمل جاءوا إلى يسوع، وكانت الأدلة تُشير بوضوح إلى أنَّه قد مات، ولم تعد بعد حاجة إلى كسر ساقيه، خاصة وأنَّ واحداً من العسكر طعن جنبه بالحربة، الأمر الذى يكفي بمفرده أن يقضى على القدوس، حتى لو لم يكن قد فارق الحياة، فلمَّا طُعن بالحربة للوقت خرج من جنبه دم وماء!


وكأن بئراً جديدة انفتحت على الجلجثة لكـى تروينا بماء الحياة وتخلصنا بدم الفداء، وكما يقول القديس مارإفرآم السريانيّ: " لقد تدفق من الجنب الإلهيّ قوة سرية حطّمت الشيطان مثل داجون " (1صم1:5-5).


ويبدو أنَّ مُعلمنا يوحنَّا قد حرص على تدوين هذه الحادثة، لأنَّه يرى فى عدم كسر ساق المسيح وفى طعنه بالحربة فى جنبه تدخلاً إلهياً، تمت به نبوتان من العهد القديم فيقول: " لأَنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ " (يو36:19)، وهذا قد ذُكر عن خروف الفصح الذى كان رمزاً للمسيح، فخروف الفصح كان ينبغي أن يكون ذَكَراً وبلا عيب، ليُشير إلى قداسة المسيح ولا يُكسر عظم منه إشارة إلى أنَّه سيُقدّم نفسه كفارة كاملة عن البشرية (خر12).


وفى طعنة الحربة يرى البشير إتمام نص كتابى أخير فيستطرد قائلاً: " وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: " سَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ " (يو37:19)، أمَّا الكتاب الآخر فهو سفر زكريا النبيّ الذى جاء فيه: " وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ " (زك10:12) لقد طعنوا ابن الإنسان بحـربة ولكن من قبلهم قد طعنـه الدهر، عندما أفرغ سهام الألم فى صدره!


هذا وقد تأمل كثيرون من آباء الكنيسة القدامى فى خروج الماء والدم من جنب المصلوب البار فقال القديس كيرلس الأورشليميّ: " إنَّ المُخلّص إذ قد فدى العالم بالصلب، لمَّا طُعن فى جنبه أعطى الدم والماء، حتى إنَّ البعض فى أيام السلام يعتمدون بالماء، والآخرين فى أيام الاضطهاد يعتمدون بصبغة دمائهم، أي بدم موتهم ".


أمَّا القديس أُمبروسيوس فقد قال: " بعد الموت يتجمّد الماء فى أجسادنا، ولكن من الجسد الذي لا يفسد مع أنَّه ميت نبعت حياة للكل، الماء والدم اللذان خرجا منه، الماء للاغتسال والدم للفداء ".


الدفـن



مات المصلبون الثلاثة، وبعد أن أُنزلت جثتا المصلوبين الآخرين من على الخشبة وتم دفنهما، لم تبقَ سوى جثّة الفادى معلقة على الصليب بين السماء والأرض، وكانت لابد أن تُدفن ليتعطر سرير القبر النتن ويتبدد هوله، فالدفن يزيد الموت تأكيداً، وفى نفس الوقت يزيد قيامته مجداً. فما هى قصـة دفن أعظم جسد عاش على الأرض ؟


فى غروب يوم الجمعة وقد طافت أشباح الظلمة بين تلك المنازل فى أوشليم، انطرح يسوع عى سرير الألم، فانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب صليبه، ووقف الشعب ينظر إليه نظرة الأسير الذى يستحق الموت! وسكنت حركة عابرى الطريق، ولم يعد يُسمع سوى أنات وعويل نسوة قليلة، صراخ انفصال الحياة عن الحياة! لقد اسلم يسوع روحه الطاهر فأسرع رجل إلى قصر الوالى الرومانى، وتقدم إلى بيلاطس وطلب منه جسد يسوع لكى يكفنه، أما هذا الرجل فهو يوسف الذى من الرامة، التى تقع فوق جبل أفرايم.


ذُكر عنه فى الإنجيل أنَّه كان رجلاً غنياً وتلميذاً ليسوع المسيح (مت57:27) مُشيراً صالحاً ينتظر ملكوت الله (لو3 :50،51) وفى نفس الوقت عضواً فى مجمع اليهود المعروف بالسنهدريم.


وعلى ذلك فقد كان حاضراً بنفسه أثناء المحاكمة التى أُجريت ضد يسوع وعلى الرغم من أنَّه " لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ " (لو51:23)، إلاَّ أنَّه لم يملك الشجاعة الكافية، لكى يحتج على أعمالهم وقراراتهم التي اتّخذوها ضد المتّهم البريء.


ولا نعلم إن كان يوسف حضر أحداث الصلب الدامية على الجلجثة أم لا، لكنّه رأى أن يكرمه عند موته ويدفنه باحتفال مهيب، مع أن هذا كان ممكناً أن يُسبب له متاعب كثيرة، فربَّما يُعزل من منصبه فى مجلس اليهود، وكان من الممكن أن تظن الحكومة أنّه شريك يسوع، وأيضاً سيُحرم من أكل الفصح لأنّه لمس جثّة إنسان ميت، هذا بالإضافة إلى العار الذى كان ممكناً أن يحل عليه لتبعيته ليسوع المصلوب، الذى أصبح الجميع ضده.


فلمَّا وافق بيلاطس البنطيّ وأمر أن يُعطى الجسد (مت58:27)، شعر يوسف وكأنَّه حصل على أثمن كنز ليشترى به أنقى كتان، يمكن الحصول عليه ليلف فيه جسد المصلوب! لأنَّه كان يؤمن أن يسوع الذي قُتل وها هو الآن يلف شبابه بالأكفان، وبهدوء سينام فى قلب الأرض الصامته، سوف ينهض بالروح ويخرج بجيوشه من الأرض التى تولد فيها الشمس، إلى الأرض التى تُقتل فيها الشمس والقمر معاً لأنَّه سيكون للمؤمنين شمساً وقمراً ونجوماً..


وقد ذكر مُعلّمنا يوحنا البشير أنَّ نيقوديموس قد جاء، ومعه مزيج مر وعود نحو مئة مناً، فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب، كما كان لليهود عادة أن يُكفّنوا (يو9: 39،40)، وهذا يعني أنَّ الاثنين اشتركا فى تكفين جسد المسيح علامة إيمانهما به وحبَّهما له.


أمَّا نيقوديموس هذا فهو زميل يوسف الرامى فى عضوية مجمع اليهود، وهو ذلك الفريسيّ الذى جاء إلى يسوع راغباً فى المعرفة وساعياً للخلاص، ولكن ليلاً!! لأنَّه هو أيضاً كان يخاف من اليهود رغم محبته للحق!! أمَّا الآن فقد حطّم قيود الخوف، لأنَّه من خلال السحب الرعدية التى اكتستْ بها سماء الجلجثة، فاضت نعمة غنية حوّلت الخوف إلى شجاعة والضعف إلى قوة! فلم يعد للجبن مكان فى قلب هذا أو ذاك!!


ولابد أن يوسف ونيقوديموس تكلما معاً ولو قليلاً، وتأملا فى منظر المصلوب، وعرّفا الحرس بالتصريح الذي حصلا عليه من بيلاطس وهو الخاص بأمر دفن يسوع، فلم يبقَ الآن سوى تشييع الجُثّمان.


وبالفعل فى موكب بلا مشيعيين ينزلان من فوق جبل الجلجثة يحملان جسد يسوع، وليس من نغمات حزينة ترافق الموكب الهادئ ولا كلمة تأبين، وعندما يصلان إلى البقعة الصخرية التى كان يوسف قد نحت فيها قبره الجديد، نجد أن المشهد لا تنقصه حاشية من المشيعيين، فقد كانت النساء المخلصات: مريم المجدلية ومريم الأُخرى.. يتبعنّهما عن بعد، لأنّهن كن يرغبن أن يعرفن الموضع الذى سيوضع فيه، من كان موضوع رجائهن ومحبتهن (مت27: 60،61).


ويرحّب يوسف ونيقوديموس بهن ترحيباً قلبياً، ويقبلان بسرور معاونتهما فى الدفن، ويوضع الجسد المقدس على الأرض برفق شديد, وتغسل النسوة بدموعهن أكثر مما بالماء الذى أحضرنه بقع الدماء من على رأسه وصدره، ويملأ الرجلان الكتان الأبيض النقى الذى سيُلف فيه الجسد بالمر والعود وبكثير من أثمن العطور التي أحضرا منها قدراً كبيراً (يو19: 39)، وبعد لف الجسد بلفائف الكتان كما جرت العادة عند اليهود، يلقون نظرة أخيرة على وجه الحبيب، ثم يغطونه بالمنديل الذى قد وجد بعد القيامة المجيدة ملفوفاً فى موضع وحده (يو7:20).


ومرّة أُخرى يرفع الصدّيقان جسد يسوع، ويحملانه برفق وخشوع إلى داخل القبر الجديد المنحوت فى الصخر، ليستريح بعد رحلة طويلة مع الآلام، ثم يضعون حجراً كبيراً على باب القبر . وقد كانت دحرجة الحجر الكبير على باب القبر هى نهاية مراسيم الجنازة.


ولابد أنَّهم وضعوا باقة من زهور حُبّهم فوق جسده الهامد، لتتكلم بذبولها وفنائها البطئ عن مصير النفوس، التى يقدّسها الحُب بين قوم أعماهم الحقد، وأخرسهم الجهل عن إعلان الحق..


وكم كان يوسف الراميّ سعيداً أن يُعد لسيده قبراً، فهو الرجل الغنى الذى قد تنبأ عنه إشعياء النبى قائلاً: " وَجُعلَ معَ الأَشرَارِ قَبرُهُ وَمعَ غَنيٍّ عِندَ مَوْتِهِ " (إش9:53) وكم كان يتمنى أن تعجّل ساعة موته، ليدخل قبره ويُدفن مع ذاك الذى تخلى عنه فى غير شجاعة وهو فى حياته .


إنَّ ما فعله يوسف ونيقوديموس هو أقل إكرام لأعظم جسد عاش على الأرض، لأنَّ الجسد الذى تقدّس باتحاد اللاهوت به، ما كان ممكناً أن تأكله الجوارح أو يُلقى فى وادى هنوم، لأنَّ الرومان اعتادوا أن يتركوا الجثث على الصليب تأكلها الجوارح، واليهود اعتادوا أن يطرحوها فى وادى هنوم حيث تُلقى عليها القمامة، وبين الحين والآخر تحرق بالنار، فجسد يسوع هو الجسد الذى تنبأ عنه معلمنا داود النبى قائلاً " لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ ولا تَدَعَ َقِدوسَّكَ يَرَى فَسَاداًً " (مز10:16).


لقد أظهر الصدّيقان أنَّ المحبة نحو المخلص لم ولن تنقرض أبداً، وفي عملهما توبيخ لأولئك الذين تبعوه منتفعين، فما أن حل به الضيق وظهر فى نظرهم ضعيفاً، تركوه وابتعدوا عنه! وكم كنا نتمنى أن اليد اليابسة التى شفاها تتقدم قبل أيدى يوسف ونيقوديموس، لكي تُخرج المسامير من يديه ورجليه! ولكن المنتفعين لا يظهرون وقت الشدة.


وكم كانت آلام أُم ربى قاسية عندما رأت ابنها الحبيب، الذي كان يجول في كل مكان يصنع خيراً.. وحيداً فى موته، لا يعترف بجميله سوى قلة قليلة، أليس هذا هو يسوع الذى رنمت الملائكة يوم مولده أنشودة السلام " الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " (لو14:2)، فلماذا لم تحضر الملائكة دفنه كما حضرت يوم ميلاده؟! لماذا لم يحضر المجوس الذين سجدوا له معترفين بألوهيته وملكه؟! أين الرعاة أول من بُشروا بميلاده ؟!


لقد صمتت السماء ولم ينزل منها أحد! والأرض اكتفت هى الأُخرى بدمائه التى ابتلعتها! ولكن حُب يسوع لا يقدر أحد أن يحتقره، ودمه لا يُزدرى به! ولا بد أن مريم قد ضمته إلى صدرها وخاطبته قائلة: لقد جئت لتدلنى على الطريق المؤدية إلى الحياة، فسر أمامى لنذهب من هذا الكهف المظلم إلى أنوار الحياة.


أما القبر الذى لا يشبع من عظام الموتى، لم يستطع أن يحمل جسد المسيح أكثر من ثلاثة أيام وقد قيل: إن التراب تعب من حمل جسد يسوع، لأن جسده ليس من تراب كباقى البشر.


وإن كان كل قبر يفتخر بما فيه من عظام، إلا أن قبر المسيح هو القبر الوحيد، الذى يفتخر بأنه خالٍٍ من جسده، وإن كانت أكثر القبور عزيزة علينا لِِما تحويه من أجساد الأقارب والأحباء، وكم نقف على قبور وقلوبنا ملتهبة نحو ما تضمه من أجساد الأعزاء، إلا أنه يوجد قبر واحد له مجد لا يفنى لكونه قبراً فارغاً هو قبر المسيح، الذى أمامه نشعر بالفرح والانتصار على الموت والشيطان والخطية.


قديماً كان الناس يرون القبر سجناً، مدخلاً لا خروج منه، لكن بعد موت المسيح ودفنه صار القبر جسراً، يعبر عليه أولاد الله من هذه الدار إلى الدار الأبدية، فإننا ندخل القبر هنا لنخرج منه بالقيامة إلى الحياة الأبدية، فالقبر الذى لم يستطع أن يضبط المسيح بين جدرانه المظلمة، لا يستطيع أن يضبط خرافه، وتلك القوة التى أقامت المسيح راعى الخراف الأعظم من الموت، ستقيم كل رعيته فى الوقت الذى حدده الله لقيامة البشر.


قال مار إفرآم السريانى:

"طوباك أيها القبر الفريد فإن النور الوحيد قد تجلى فيك، فى داخلك تنقى الموت المتعجرف لأن الحياة الذى مات دخل إليك، طوبى لأحشائك التى فيها سُد ذلك الفم الذى يبتلع الكل ولا يشبع" .


أيتها القبور


أنتِ التربة الخصبة التى عليها تُـلقى بذور الإنسان فتنطلق براعم الأبدية، البراعم الخضرة العطرة النقية، عند أعتابك ينتهى الزمن، وعلى أبوابك يصحو الفجر ذو العينين المنيرتين والأصابع الوردية.

أنتِ باب الأبدية، بداية الطريق إلى عالم النور والحق والحرية، على ترابك تسكن الآلام، وتكف الجراح عن الأنين، ويخرس الشك، وبين يديك يموت الضلال، وتسود الألفة بين الإنسان وسائر المخلوقات .

نظرت بين جدرانك فلم أرَ فقيراً، بل رأيت المساواة تسود بين البشر، ولم أرَ طبيباً إذ كل إنسان صار طبيب نفسه، ولم أرَ كاهناً لأن الضمير أصبح الكاهن الأعظم، ولم أرَ محامياً لأن طبيعة الحياة ألزمت الإنسان على عدم فعل الشر!


أيتها القبور


يا عيون الأبدية، يا كتاب التاريخ الحقيقى، الذى لا يمسه الزور من قرب أو من بعد ، يا سطور البداية والنهاية، يا أعظم لوحة، نصفها ظلام ونصفها نور، ألوانها مادية ونورانية، وملامحها زمنية وسماوية.


أيتها القبور


أسألك: هل رأيتِ أمير النور وهو يشق حجارتك الصماء ؟ أرأيت الفارس الإلهى الذى امتطى الزمن وهو يشعل النور فى الظلام، أرأيتِ شمس البر وهو يغسلك بأشعته الإلهية، ويسكب على ترابك دمه وعرقه وينفخ فى جدرانك أنفاسه الأزلية؟! قولى لنا بحق ماذا رأيتِ وماذا سمعت !!


تعترف لك ياسيدى كل الأفواه المسدودة التى فتحتها، والألسن التى ربطها الموت وحللتها.. يرتل لك كل الأبرار والصديقين بقيثاراتهم من داخل قبورهم، لأنك كسرت قيود الحديد وحطمت متاريس الهاوية.


كل جنس الأموات يمجدونك كثيراً، لأنك دست على الحية الخبيئة وضمدت الجروح بصليبك .


الآن فليأتِِ آدم إلى جنة عدن مسكنه الذى طُرد منّه، ولتأتِِ معه حواء، لأن يسوع عتقها من صك إبليس الذى أغواها.


غطس مخلصنا فى بحر الموت وصعد يحمل جوهرة الخلاص الثمينة، فلنفرح جميعاً بموته الذى أحيانا، ونمجد قبره لأن منه خرج الخلاص .

الجمعة، 8 أبريل 2011

الخطية أعمت قلوب الأشرار


" وَأُضَايِقُ النَّاسَ فَيَمْشُونَ كَالْعُمْيِ لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَى الرَّبِّ "
(صفنيا17:1)


ماذا يحدُث لو رأيت إنساناً أعمي؟ لابد أنّك ستشفق عليه، أمَّا إذا رأيته وقد عاد إليه البصر، فأعتقد أنَّ قلبك سيمتليء بالفرح والسرور، علي أنَّ هناك عمى من نوع آخر، ويحتاج إلي إشفاق أعظم وعطف أكثر، والخلاص منه يدعو إلى سرور أوفر، ألا وهو: عمى القلوب!! الذي يُصيب كل الذين يعيشون في الخطية.

وعن هذا العمى تنبأ الأنبياء، عندما أعلنوا أنَّ السيد المسيح سيأتي ليهب النظر للعميان، فقد قصدوا بذلك العمى الباطني أكثر من عمى العينين الخارجيّ، لأنَّ المسيح لم يهب النظر إلاَّ لقلة من البشر، في حين أنَّه منح بصيرة الروح وأنار قلوب لأعداد لا حصر لها.

وإشعياء النبيّ عندما نطق بهذه النبوة: " وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ " (إش6:42،7)، إنَّما كان يتنبأ عن ذلك العمل العجيب، الذي كان المسيا مزمعاً أن يعمله في القلوب التي قد أظلمتها الخطية، وجعلتها غير قادرة أن تري النور.

يقول البابا أثناسيوس الرسوليّ

" إنَّ الخطية استشرت في جذور الإنسان، والخطية أدّت إلى عمى الإنسان الروحيّ ".

فالخطية إذن تُعمي القلوب عن رؤية أشياء كثيرة لَعَلَّ أهمها:

رؤية الرب

جاء السيد المسيح إلى عالمنا، لكي يقرع أبواب قلوبنا الحديدية، وقد استطاع بمجيئه أن يفتح لنا باب الشركة القلبية بين النفس والله، إذ قال: " إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً " (يو23:14).

وعن هذه الشركة قال معلمنا يوحنا الحبيب: " وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (1يو3:1).

لكن الحياة مع الله تستلزم القداسة، ولهذا كتب مُعلّمنا بولس الرسول في رسالته إلي العبرانيين يقول: " اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ " (عب14:12)، وهو بذلك قد وضع القداسة شرطاً لرؤية الرب.

وهل يمكن للنور أن يلتقى مع الظلمة؟! فالخطية ظلمة دامسة، وهى تنسج حجاباً كثيفاً، يفصل بين النفس والله، فتعميها عن رؤية الرب ومجده، وقد أوضح هذه الحقيقة إشعياء النبي: " آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ (إش2:59).

وكم تستر الخطايا وجه الرب عن قلوب كثيرين " الَّذِينَ فِيهِمْ إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ " (2كو4:4).

رؤية الأبدية

بعد الموت حياة أبدية " فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ " (مت46:25)، وهذه حقيقة لا ينكرها إلاَّ الملحدين الذين يُنكرون القيامة والحياة بعد الموت!! وأعتقد أن العقل يرفض فناء الإنسان الذي خُلق على صورة الله!!

ومع أننا نري الأحياء وهم يُخطَفون من بيننا ويوارون التراب، ورغم أننا نسمع رنين أجراس الكنائس وهي تدق نغمات الحزن، ونشترك في تشييع الموتى إلي مقرُّهم الأبديّ.. إلاَّ أننا لا نتأثر!! لأنَّ الخطية أعمت قلوبنا عن رؤية الأبدية وأمجادها العتيدة.

لكنَّ المؤمن الحقيقيَّ هو الذي يعيش علي الأرض، وفي نفس الوقت يضع الحياة الأبدية والأمجاد السماوية أمام عينيه " وَأَيْضاً جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ " (جا11:3).

والحق إنَّ التأمل في الأمجاد السمائية، يجعل نفس المؤمن تتعزى وروحه تتهلل، فيحتمل آلام الزمان الحاضر بكل فرح، لأنَّه متيقن أنَّها لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فيه (رو18:8)، وعندما يدنو منه الموت لا يفزع، ولكنه يتهلل ويُشرق وجهه كما تهلل إسطفانوس عند موته، إذ رأي السماء مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الآب فاتحاً له زراعيه لاستقباله (أع 56:7).

أمَّا الخطاة فلا يبصرون مجد السماء، ولهذا عندما يسمعون عن الأبدية يرتعبون كما ارتعب فيلكس الوالي أمام بولس الرسول: " ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ فِيلِكْسُ مَعَ دُرُوسِلاَّ امْرَأَتِهِ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، فَاسْتَحْضَرَ بُولُسَ وَسَمِعَ مِنْهُ عَنِ الإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ، وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْبِرِّ وَالتَّعَفُّفِ وَالدَّيْنُونَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ ارْتَعَبَ فِيلِكْسُ وَأَجَابَ: أَمَّا الآنَ فَاذْهَبْ وَمَتَى حَصَلْتُ عَلَى وَقْتٍ أَسْتَدْعِيكَ " (أع24:24،25)، لأنَّ خطاياهم أعمت قلوبهم عن رؤية تلك الأمجاد السماوية، وضمائرهم المثقلة بالشرور اقتلعت من قلوبهم كل رجاء في الأبدية.

رؤية طريق السلام

يقول الوحي الإلهيّ عن الأشرار: " طَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَيْسَ فِي مَسَالِكِهِمْ عَدْلٌ، جَعَلُوا لأَنْفُسِهِمْ سُبُلاً مُعَوَّجَةً، كُلُّ مَنْ يَسِيرُ فِيهَا لاَ يَعْرِفُ سَلاَماً " (إش8:59).

وها نحن نتساءل: كيف يعرفون طريق السلام وهم من صغرهم يسيرون في طريق النجاسة، الذي لا يُعطي سلاماً، إنَّما يقضي علي ما في القلب من سلام وفرح..؟!

طريق السلام هو مع رب المجد يسوع، الذي قال: " سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ، سلاَمِي أُعْطِيكُمْ، لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا " (يو27:14)، فكيف يرون طريق السلام وقد أعمت الخطية قلوبهم عن رؤية رئيس السلام نفسه؟!

وهل نُنكر أنَّ طريق السلام هو ثمرة حياة البر والتقوي وعمل الرحمة مع الآخرين.. فكيف يرونه وخطاياهم فصلتهم عن العيشة الطاهرة، وأعمال الخير والمحبة، وأشغلتهم بأعمال دنيوية، وبحياة كلها دنس..؟! ولهذا يقول إشعياء النبيّ: " لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارِ" (إش21:57).

رؤية شرور الحياة

نفوس كثيرة تعيش في الشر ومستعبدة لخطايا كثيرة، وبينما هم غارقون في بحر آثامهم، وقد أتلفت الخطية نفوسهم، وقضت علي حياتهم، لم ينظروا لعيب في حياتهم!! كملاك(راعي) كنيسة اللاودكيين، الذي خاطبه الرب قائلاً: " إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ " (رؤ17:3).

وماذا تقول عن المدمنين الذين أفنوا حياتهم وأهلكوا أنفسهم.. ومن أجل حقنة مُخدرة قد يسرقون ويقتلون أو يضحون بأولادهم.. ومع كل هذا لا ينظرون لنتائج شرورهم!!

هل لهؤلاء عيون تبصر؟ لو كانت لديهم بصيرة روحية لعرفوا ما هو الخير؟ وما هو الشر؟ ولكن هذا ليس بغريب لأنَّ سليمان الحكيم يقول: " اَلذَّكِيُّ يُبْصِرُ الشَّرَّ فَيَتَوَارَى، وَالْحَمْقَى يَعْبُرُونَ فَيُعَاقَبُونَ " (أم3:22).

وقد يفتخرون بفضائلهم كالفريسيّ، الذي تحوَّلت صلاته إلى إدانة العشار!! يقول مُعلمنا لوقا: " أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ " (لو11؛18)، لأنَّ خطاياهم أعمت قلوبهم عن رؤية شرورهم القبيحة التي يعملونها، وأظلمت قلوبهم عن رؤية النور، فلم يدركوا الظلام الذي فيهم.

وهكذا يحيا الأشرار فى حالة إدانة دائمة، وإسقاط خطاياهم وضعفاتهم على الآخرين ومحاولة تدميرهم، ولو أنَّهم جلسوا مع ذواتهم وحاسبوا أنفسهم، على ما قد وصلت إليه من إنحطاط وفساد لتغيرت حياتهم.

مثل هؤلاء العميان بحاجة ماسة إلي لمسة من يد المخلص، لكي تزول الغشاوة التي علي قلوبهم، ويظهر ما كان مخفياً بالداخل من خطايا، عندئذ سيرددون مع الأعمي، تلك الأُنشودة الجميلة التي نطق بها عندما انفتحت عيناه قائلاً:
" أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ " (يو25:9).

إنَّ لمسة واحدة من يد المُخلص..
حوَّلت ظلمة حياة الأعمي إلي نور..
ولمسة واحدة من نفس يده تقع علي قلوبنا،
فتنقلنا من حياة الظلمة إلي النور..
والرب الآن وفي كل وقت يمد إلينا يده..
يريد أن يلمس قلوبنا حتي نبصر هذا النور..
فلنركض إليه كما ركض الأعمي..
ونطلب منه أن يمد يده لتلمسنا..
حتي نري النور ونسير فيه..
قبل فوات الآوان.

الأحد، 3 أبريل 2011

طـــــريق الصــلــــيـب


حمْل الصليب


تمّت عملية تسليم المتهم مكتوفاً، لكنَّ الحُب والرحمة كانا عن يمينه ويساره، كأنَّهما جناحان يطير ويُحلّق بهما في السحاب، وأصبح يسوع بين أيدي أعدائه كحمل وسط ذئاب وكحمامة بين الجوارح! وبقسوة ووحشية يُمزّقون الرداء القرمزيّ عن جسده المُلطّخ بالدماء والدموع، ويُلبسونه ثيابه من جديد (مت31:27).


وبعد أن قام العسكر بترتيباتهم الوحشية ظهر الصليب الرهيب، الذى أصبح الوقت رمز خلاصنا، نرسمه على معصمنا، ونضعه فوق صدورنا، ونُزيّن به بيوتنا وكنائسنا لأنَّه علم مملكتنا الذي لولاه ما تم الخلاص ولا تأسست مملكة المسيح.

وقد جرت العادة عنـد الرومان أنَّ المحكوم عليهم بالصلب يحملون كل واحد صليبه، إلى مكان الصلب، فحمل مُخلّصنا البار خشبة الصليب على ظهره الجريح، وكأنَّه يحمل راية النصر كملك عائد من الحرب منتصراً، وأتوا بمجرمين آخرين يحمل كل منهما صليباً مماثلاً لكي يُنفّذ فيهما نفس الحكم.


ويتحرك الموكب ببطئ شديد، تلفّه سحابة من الغبار الكثيف، ويسير ملك الملوك مُطأطئ الرأس يتبعه حصانه الكئيب بين أضلع وادى قدرون، وعدد ليس بقليل من الجمع الغفير، فالعسكر يُحيطون بهم من كل ناحية، وفى أشعة الشمس تلمع حرابهم وسيوفهم المسلولة وخوذاتهم، وها هم الكهنة والكتبة، وجمع من الكبار يصرخون، ومن الأطفال يصيحون، وقوم من اليهود، وآخرون أُمميّون..


جموع غفيرة التقت لتشاهد آلام المسيح !! وقد تموّجت أنفاسهم المسمومة حوله، أمَّا يسوع فكان يسير كطيف الحب جاراً أجنحته المكسورة، وقد يبّس التعب مفاصله، وانتـزع الجوع قواه، وأخفت الدماء ثيابه وملامحه كأنَّها تُريد أن تُكفّنه قبل أن تُميته، فكان يتقدم إلى الأمام ورياح الأشرار تصدّه تارة، وتقذف به إلى الأمام تارة أُخرى، كأنَّها أبت أن تراه فى منازل الأحياء، وها هى تُعجّل به إلى الموت.


وتمسك الطريق الوعرة بأقدامه فيسقط ثم يقوم، وبين سقوطه وقيامه كان يصرخ مستغيثاً، ثم يُسكته الألم فيعود صامتاً مرتجفاً، كأنَّه عصفور مجروح الجناحين، سقط فى النهر فحمله التيار إلى الأعماق، أو كطائر ظاميء يحوم مرتفعاً فوق ينبوع ماء حفره ثعبان مُخيف، ولكنَّ الطائر ظل مرفرفاً فوق الينبوع حتى أضعفه العطش، فما أن سقط حتى قبض عليه الثعبان!


وهكذا ظل الموت يتبع يسوع رافضاً أن يتركه حتى خارت قواه، فارتمى على الطريق وصرخ بصوت عظيم هو بقيّة الحياة فى جسده، صـوت مؤلم كما لو كان قد رأى خيال الموت وجهاً لوجه، صوت مُنازع فى النفس الأخير، أتلفته الظلمة وقبضت عليه العاصفة لترمى به فى أحضان الهاوية! ففتشوا عن رجل لكي يضعوا عليه صليب يسوع ليحمله ما تبقى من الطريق، فوقعت عيونهم على شخص غريب، فلاحاً كان عائداً من الحقل يحمل على منكبيه نير الحياة، فسخَّروه ليحمل الصليب وقد كان هذا الشخص هو سمعان القيروانيّ.


سمعان القيراونيّ



أمَّا سمعان فكان عبداً من القيروان، لذلك سُخّر ليحمل الصليب خلف يسوع، فأداة العار هذه لا يحملها إلاَّ العبيد، وقد حمل سمعان الصليب وهو لا يدري، أنَّ من يحمل صليبه هو القدوس الذى أخلى نفسه " آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ " (في7:2)، ليعتقنا " مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ " (رو21:8).


وليس بغريب إن كان سمعان قد حمل الصليب في البداية مُجبراً، لكنَّه سرعان ما فرح لأنَّه اقتنع أنَّ حمل الصليب، هو تخفيف عن رجل بريء، لم يعمل شراً فى حياته، التي كانت مثالاً للتقوى وأعمال المحبة.. وهو بذلك يُمثّل النفوس التي تهرب من حمل الصليب عندما يُلقى عليها، ولكن ما أن تضعه على منكبيها وتحمله عن رضى تفهم فى الحال قيمته الخلاصية، وتشكر الله الذى رآها جديرة لحمله، وعندما تستمر فى حمله تعرف معنى قول الرب: " اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي.. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيف " (مت30:11)، وقد كان الصليب المقدس كجناحي الطير على كتفي سمعان!


وها الصليب يصل إلى تلّة الجمجمة حيث أعدوا كل شئ لصلب البار، لكنَّ يسوع لم يتفوه بكلمة عندما سمروه.. ويخيل إلىّ أن يدى يسوع ورجليه قد ماتت من شدة الآلام، وهى ترجع آنئذ إلى الحياة مخضّبة بالدماء، لأنَّ يسوع كان يرغب المسامير كما يرغب الملك تاجه أو صولجانه، وكان يُريد أن يرتفع إلى الأعالي، فالبلبل اشتاق إلى عشّه لأنَّه مل الكهوف والمستنقعات.. ولو أنَّهم قالوا لسمعان ثانية: أحمل صليب يسوع لحمله بملء الرضا ليسير به هذه المرّة لا إلى الجلجثة، بل إلى قبره لكي يموت ويرتاح من عناء الحياة وظلم البشر!


إنَّ يسوع الذي حمل سمعان صليبه

قد صار هو نفسه لسمعان صليباً !!


فلا يظن أحد أنَّه يستطيع أن يحيا بدون صليب، ومن العبث أن يهرب الإنسان من حمل الصليب، لأنَّ السيد المسيح قد قال: " إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي " (مت24:16)، لهذا يقول القديس يوحنا ذهبى الفم: " إن أردت أن تتخلص من الصليب لن يفارقك أبداً، بل سيتبعك حتى إلى جهنم هذا ما حدث مع اللص الأيسر"، أمَّا القديس أغسطينوس فقال: " إن كنت تريد أن تطرح صليبك، الذى وضعه مُخلّصنا على ظهرك فذاك برهان على أنّك بدأت تتخلى عن مسيحيتك.


لكنَّ الصليب ليس من نصيب أولاد الله فقط كما يظن البعض، فالأشرار هم أيضاً لهم صليب حمله ثقيل، هو خطاياهم التى تلتهم أرواحهم وأجسادهم، وتمتص دماءهم ودموعهم، دون أن تشبع أو ترتوي، لكن بين صليب المؤمنين وصليب الأشرار فرقاً:


+ صليب المؤمنين من أجل البر، أمَّا صليب الأشرار فمن أجل الشر الذي يعيشون فيه.

+ هذا من أجل تبعيتنا لله والعيش بوصاياه، وأمَّا ذاك فمن أجل تبعيتهم للشيطان.

+ صليب المؤمنين بداية المجد السماويّ، ويقود إلى النعيم الأبديّ، أمَّا صليب الأشرار فيقودهم للهلاك الأبديّ حيث النار لا تُطفأ والدود لا ينام.


بنات أورشليم


لقد كان منظر يسوع وهو يسقط على الأرض رهيباً! وهو يكشف عن ثقل خطايا البشرية، ويؤكد أنَّه لا شيء يوقع حامل الكون بكلمة قدرته، لاشئ يوقعه على الأرض إلاَّ خطايانا، ومن هول المنظر أخذت النساء اللواتي كن يتبعن يسوع من بعيد ينحن، إذ شعرن بالإثم الفظيع الذى ارتكبه رجالهن في حق يسوع.


ها قلوبهن تذوب فتجرى كالدم دمعاً، لأنَّ الملك لم يبقَِ منه سوى شبح إنسان فقد هجم عليه الخنزير الوحشى فى الغابة المُظلمة ومزّق جسده بأنيابه السامة، والآن هو يسير ملطّخاً على أوراق السنين المتساقطة، إنَّ صوته لن يأتي مع الفجر إلى نوافذهن ليوقظهن مع نسيم الصباح، لقد أفلت منهن ذاك الذى تكلّم كما تتكلّم الأنهار، الذى كان صوته وقيثارته توأمين، يسوع الذي كانت المرارة تتحوّل على شفتيه إلى عسل.


لقد بكت النسوة لأنَّ الحياة فى نظرهن قد مات! أمَّا الرب فيرفض دموع النائحين عليه، ويعتبره عملاً خاطئاً، ويعد دموعهن بلا جدوى، لأن يسوع لم يكن ضرساً مسوساً فى فم البشرية، ولا سبيل إلا استئصاله لترتاح من أوجاعها وتُريح معها الآخرين، فهو الذى استطاع فى كل المواقف وتحت وطأة الآلام الشديدة أن يُظهر هدوءاً تاماً، ورغم ما حدث لم يفقد وعيه أو محبته، ولم يتخلَ لحظة عن إظهار حنانه وعنايته بخراف إسرائيل الضالة ولهذا يلتفت إليهن وهن يشاهدن آلامه ودماءه فى إشفاق ويقول: " يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ " (لو28:23).


وفى هذه الكلمات توبيخ لكل الذين ينحصر تعظيمهم للصليب، فى مجرد إظهار للعواطف الطبيعية التى نصيبها الرفض، فالمسيح لا يقبل النوح لأجله لأنَّه يجتاز الألم بإرادته، ففى استطاعته لو أراد أن يقف أمامنا بتاج مجد بدلاً من الصليب، فالأفضل أن نبدأ بالبكاء على أنفسنا، معترفين بأننا مستوجبون الموت الأبدي الذي شاء الرب برحمته أن يرفعه عنِّا.


كما أنَّ هذه الكلمات تُشير إلى المصير الرهيب، الذي ينتظر الجمع الثائر، وإشارة أيضاً إلى جريمة إسرائيل الكُبرى، التى كانت السبب الرئيسى في البلاء الذى حل عليهم فيما بعد، فها الجبابرة تحوّلت الحياة أمامهم إلى حبس ضيق، لا يروا فى جوانبه غير أنوال العنكبوت، ولا يُسمع فى زواياه سوى دبيب الحشرات.


ويستطرد الرب قائلاً: " لأنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ " (لو29:23)، فما كان من قبل يُسبب حزناً وألماً، وكان يُعد عاراً عظيماً فى إسرائيل - العقم وعدم إنجاب البنين - سيُكون فيما بعد امتيازاً يُحسد عليه، ويمتد بصر المُخلّص إلى ما بعد خراب أورشليم، ويصل إلى دينونة اليوم العظيم، فأولئك الذين بإصرارهم على عدم الإيمان بالمسيح، واستمرارهم فى عدم التوبة، سيجدون أنفسهم فى وضع يُفضّلون عليه الموت من الاسـتمرار فى الحياة، فيقول: "حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ غَطِّينَا " ( لو30:23).


ويختم الرب كلامه لبنات أورشليم بقوله: " لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ ؟ " (لو31:23)، وهنا يدعو حامل الصليب نفسه " العود الرطب "، من حيث أنَّه هو البر والحياة الذى له كل إكرام ومع ذلك تحّمل عذاباً لا مثيل له!


كواكب مُضيئة فى ليلة مُظلمة


فى طريق الصليب سار جمع كثير، منهم الكافرون الظالمون والحاقدون، وبين هؤلاء الأشرار سارت جماعة قليلة، كانت مثل كواكب مضيئة فى ليلة مظلمة، وكان الجمع ينظر إليهم كمن شاركوا الأرواح الشريرة في بث السموم فى فضاء مدينتهم، ولم يُدركوا أنَّ هذه الجماعة كانت تسير مع يسوع لتحمل دمائه إلى بلاد بعيدة!


جماعة صغيرة اشتهت أن تُعرّض نفسها لأشعة آلامه المقدسة لتحترق فى هذا الموقد موقد الحب فتتطهّر مثل الملائكة وتسبّحه بقلبٍ خالٍٍ من الغش، طاب لها المر والخل وقد شبعت من الإسفنجة، نبع لها القوت من ضرباته، وفتحت فاها لتشرب من الدم الذى يجرى منه، وأخذت الماء من جنبه وملأت به بطنها، خبَّأت نفسها فى العش المضفور على رأسه ولم تؤذها الجوارح المتربّصة أتى الصيادون من كل مكان وأحاطوا بها، ضربوها بحجارة الهزء لتفر وتخرج من داخل عشها، رجموها كثيراً وهى لم تسقط على أيديهم، بدأت تُرتل من داخل عشها بأصوات شجية أُنشودة الحُب الإلهيّ، وضعت فمها بأُذني يسوع ورتلت بإيمان قوى وألم عظيم، قالت:


لا تتركنى أفر منك إلى الأشرار، ها جميع الرياح قد هبت علىّ حتى ابتعد عنك ولكننى احتقرتها وصعدت إلى علو عشك، نفخ فىّ قيافا كشبه الحية لكن سمومه لم تقتلنى، وطلب منى حنّان التنين العظيم أن أنزل، لكني رفضت وكنت أؤمن أنَّه لن يصل إلىّ لأنّى فى حضنك أختبئ، ها الشيطان الماكر خرج خلفي لكنه لم يمسكني، لأنَّ ريشى جيد وأستطيع الطيران لأحلق فى سماء حُبّك.


فبينما تنفخ رياح الزور بشدة، اشتعل سراج الأبرار دون أن ينطفئ نور إيمانهم، وحيث تتخبّط الأمواج لتغرق سفينتهم، عبروا البحر بخشبة الصليب ولم يغرقوا، وحيث الإهانات والتعييرات، خرجت الطيور من عشها وطارت، وصعدت إلى فوق بعيداً عن فخاخ الصيادين الأشرار، ووضعت عشها فى إكليل الشوك الموضوع على رأس يسوع لتحتمي هناك فى العش بين الأشواك، فهناك لا تؤذيها أظافر الجوارح لأنَّ من يقترب منها سيُهرق دمه.


من بين هؤلاء أم ابني زبدي، إنّها تريد أن تقدم لابنيها اللذين اشتهت فى يوم أن يجلسا عن يمين ويسار المسيح فى ملكوته مثالاً للأمانة، وقد تعلَّما بحق أن يكونا أُمناء حتى الموت، وأظهرا فيما بعد أنَّهما جديران بأم قديسة طاهرة كهذه .. ولابد أنَّها خاطبت يسوع وإن كانت بلغة صامتة! وهل يحتاج الإنسان إلى لغة ليخاطب عموداً من النور أو جبلاً من البلور؟! فالقلب لا يعرف مالا ينطق به اللسان وما لم تسمع به الآذان!


لقد خاطبها يسوع عن القوة في لحظات ضعفه، ولمّا خاطبها عن المحبة بدمائه ودموعه، شعرت كأنَّ الدم توقّف عن السير، والوجود انحجب واضمحل، وأحسّت بأنَّ صوت لحن سماوي يخترق أُذنيها ويتملك على مشاعرها، فاتضعت روحها أمام نظراته الطاهرة، وأدركت في أعماق نفسها أنَّ الذي تسير بجانبه هو إله وإن كان يرتدي زي البشر!!


ومنذ تلك اللحظات وصورة يسوع ترافقها في وحدتها عندما لم يزرها أحد، وعيناه تنظران إلى أعماقها هي مغمضّة العينين، وقد كان صوته سيداً في هدوء لياليها، وهكذا صارت سجينة حُبّه إلى الأبد، وأدركت أنَّ السلامة في آلامه، والحرية في قيوده، والفرح في دموعه، وإن كان يسوع قد اختفى بعد صلبه عن حواسها، إلاَّ أنَّه اقترب بالروح أكثر فأكثر إلى قلبها! ولكن كيف تركت الأم ابنيها، حليب ثدييها، في طريق ينبوع لم يذق بعد؟! كيف احتملت ولديها، حرارة ذراعيها، يبعدان عنها من أجل بلاد باردة سيذهبان إليها؟!


وبالقرب من أم ابني زبدي كانت تسير مريم أم يعقوب ويوسى، وقد صار لها الشرف هى الأُخرى أن ترى ابنيها ضمن رفقاء يسوع يُحدّثون بعجائبه ويتكلّمون بأمثاله الحيّة وتعاليمه المُحيية، فقد كانت قوة خفية تُرافق كلماته فتستأثر القلوب، وتُزيل الصدأ من معادن النفوس، لأنَّه كان ينسج أمثاله وقصصه من خيوط الفصول وإليك مثالاً من طريقته:

" خرج الزارع ليزرع "، أو " كان لرجل غني كرم " أو " راعٍ عد خرافه "، فكلمات مثل هذه لابد أن تؤثر في سامعيه، لأنَّ كلنا عند التحقيق زارع، وجميعنا نُحِب الكرمة، وفي مراعي ذكرياتنا راعٍ وقطيع وخروف ضال وهناك أيضاً محراث ومعصرة وبيدر..


لقد عرف يسوع نوع الخيوط الذي صنع الخالق منها ثوب حياتنا، ولهذا استطاع أن يخترق بتعليمه الإلهية أعماق قلوبنا، ولأنَّه رأى الحياة بنور الله الذي هو أنقى من نور عيوننا، خاطب مشاعر البشر لا عقولهم، وعواطفهم لا أفكارهم فقط، أمّا كلامه فقد حمل قوة لم تصل إليها حكمة الفلاسفة، وكثيراً ما كان في كلماته يمتزج صوت البحر والريح وصوت الأشجار والنسيم والورود.. فإذا تكلّم كأنَّ الحياة تتكلّم مع الموت!


لقد كانت مريم تمشي بين الجمع كأنَّها روح انفصل عن الجسد، تتوجّه حيثما توجه، وإن سقط كانت تبكي بمرارة، ولأنَّ عظامها كانت من صُلب النحاس فهي لهذا لم تنثنِِ، وكانت عيناها كالسماء اتساعاً وشجاعة، فلم ترهب الجند أو الكهنة الذين ترأوا لها كأطفال! فصارت رمزاً للوفاء، وقد تمنت أن تموت لتُعطي حياتها للحياة الذي مات لأجلها، ولو استطاعت لحاكت من خيوط حُبّها ثوباً لتستر به عرى يسوع، الذي أحبّته وأحبّها، فعادت إلى بيتها وقد جلست إلى نولها لتصنع ثوباً لم تلبسه، لأنَّه لابنيها قد صنعته، إنه ثوب الشجاعة والوفاء.


وها هى مريم المجدلية التى أخرج منها الرب سبعة شياطين، تنتحب فى صراخ شديد وتريد أن تتقدم لتُقبّل وجه الحبيب، ولكنَّها خافت من الذئاب البشرية المحيطة به، أو قل تجنبتهم إلى أن تنتهي مأساة الصليب.


لقد كانت المجدلية إنسانة ميتة، ملعونة من السماء والأرض، أذلتها شياطين الشر، وأيضا شياطين البشر، ولكن لمّا نظر فجر عينى يسوع إلى عينيها غابت جميع كواكب الشر من ليل حياتها المظلم، لأنَّ حب يسوع ذبح الوحش الذي كان يسكن أعماقها، فصارت امرأة فاضلة، قدمت ذاتها بخوراً طاهراً لإله الحُب، ولكن حكمة مريم قد تجلت عندما احتضنت حُبه في قلبها، فما الذي دفعها إلى حُبه؟ هل مجاعة عينيها الراغبة في الجمال، أم جماله الذي يفتش عن النور في عينيها؟


إن يسوع استطاع أن يدخل إلى هيكل المجدلية، وقد رأى الأرواح الشريرة التي تتآمر عليه وعليها، كما رأى الأرواح الطاهرة، التي تغزل خيوط الحُب بين البشر، ولكن الطريقة التي اتّخذها لشفاء المرضى لم تكن معلومة لدى أطباء وفلاسفة البشر، فقد كان بكلمة يأمر الشياطين أن تخرج فتفر هاربة! لقد عرف المسيح الفولاذ الصحيح تحت الصدأ؟!


أمَّا مريم أم مُخلّصنا فكانت تسير فى خطوات هادئة من شدة التعب، وهى تُغطي وجهها الذابل من الحزن، وكانت تتفرس فى ابنها وهى متوجّعة القلب، لقد بلغها رمح الألم كما قال لها سمعان الشيخ يوم ميلاد يسوع: " وَأَنْتِ أَيْضا ًيَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ " (لو2: 35)، عبر الحزن فى نفس الأم الطاهرة على وحيدها، ولم تقدر أن تتقدّم إليه عندما كانوا يستهزئون به، فصرخت فى قلبها ولم تفتح فاها لئلا يسمع أحد رعد ألمها.


لقد عجزت الأم أن تُخفف آلام ابنها، فما وصل إليه من الإنكار يؤلمها كما يؤلمه، وما احتمله من عذابات حملته هى فى قلبها! لقد كانت عيناها عالقتين به لا تتحولان عنه، كما كانت عيناه الداميتان لا تتحولان عنها، لم يتكلما معاً ولكن كم من أشياء تخاطب بها قلباهما الحزين فى ذلك اللقاء؟! ويبقى السؤال الحائر: كيف احتملت الحمامة الوديعة أن ترى ابنها الوحيد وهو بهذا المنظر العجيب؟ لابد أنها كانت تعرف أن فى عذابه وموته حياة للناس أجمعين ‍‍‍‍‍!


لقد ولدت مريم بكرها شجيرة صغيرة، وكانت تُراقبه بعيون المحبة لأنَّه كان ممتلئاً بقوة الحياة، ومرت الفصول وغابت أقمار وشموس.. فصار الطفل صبياً ينمو كالنخلة في أرضنا القفرة، وعندما بلغ شبابه صار جميلاً كالربيع وكانت عيناه كالعسل ممتلئتين من حلاوة الحياة، وكان على فمه عطش قطيع الصحراء لبحيرة الماء، فهو يريد أن يُعلّم الناس لكي يجتذب إليه أبناءً للملكوت وكانت فصاحته تسمو على قلوب البشر الصامتة، التي كانت تحن إلى تعاليمه كالحنين إلى ضياء النجوم، فما الذي حدث للربيع فتحول فجأة إلى خريف ؟! ما الذي جعل الظلام يطبق بسحابته على النهار ؟!


إنني أرى مريم وقد تضخم قلبها بدماء الألم، لقد كان حزنها على ابنها شديداً، فكانت تُحدّق فيه طويلاً ثم ترفع وجهها إلى أعلى فتتأمل السماء البعيدة منذهلة، وكأنها ترى رؤى سماوية، وقد كان بينها وبين صالبيه، بين قلبها وقلبهم أودية عميقة، أو قل صحراء واسعة من الحزن والألم، لكنّها لم تكن تخشى ظلام الأشرار، لأنَّها كانت تؤمن أنَّ الليل وأشباحه لن تطول إقامتهما معها لأنَّ صباح القيامة قريب، ولهذا مشت مريم وراء ابنها برأس مرتفع، وعندما وصل الجمع إلى الجلجثة ورفعوا يسوع على الصليب، لم يكن وجهها حزيناً بل كان أشبه بمنظر الأرض المثمرة، التي تلد أولادها بغير انقطاع وتقبرهم بلا ملل، طالما أنَّ في موتهم حياة لآخرين، فمريم التي كانت في ربيع حياتها ترأت لي شيخة طاعنة في السن، لأنني رأيت حصاداً في أزهارها وأثماراً يانعة في ربيعها!


يُخّيل إلىّ أن مريم كانت تناجي روحها فخراً بابنها الحبيب، فكانت تقول: أيها الرجل البار، الشجاع الكامل، الذي زار بطني مرّة، لم ولن تتكرر في البطون، أؤمن أن كل نقطة من دمك الطاهر المتساقط ستكون ينبوعاً، لأنَّ منها ستتكون أنهار الحياة الروحية لأمم وشعوب، أنت الآن تموت في هذه العاصفة، ولكني لن أحزن عليك أكثر من هذا لأنَّ في موتك حياة لكثيرين..


أما يسوع فنظر إليها وابتسامة هادئة تعلو شفتيه، وقد كانت هذه الابتسامة دليلاً على أنه قد غلب العالم، فرفعت مريم عينيها نحو السماء وقالت: أُُنظروا الآن، لقد انتهت المعركة، وأعطى الكوكب نوره، قد وصلت السفينة إلى الميناء، ويسوع الذي اتكأ على قلبي الآن يتموج في الفضاء، لقد غلب العالم، ويسرني أن أكون أمَّاً للغالب، ثم رجعت إلى أورشليم متكئة على ذراع يوحنَّا الحبيب، كما لو كانت قد حققت كل آمالها في الحياة!


إنَّها مثال للأم التي تموت لتعطي الحياة لغيرها، تحوك من الخيوط ثوباً لن تلبسه، تلقي الشبكة لتمسك السمك الذي لن تأكله! لقد بكت ورنَّمت، سكبت دموع الحزن ولآلئ الفرح، لأنَّها كانت هى الأخرى في حاجة إلى الخلاص.. فهل رأيت عصفورة ترنم وعشها في الهواء يحترق!


وكان هناك فى طريق الصليب يوحنَّا الحبيب، الذي وهو فى حاجة إلى تعزية، يحاول أن يشدد أم ربّه فى أحزانها، إنَّه التلميذ الوحيد الذى كان يسير فى طريق الصليب، فالرجال هربوا وبقيت النساء، فأين توما الذي قال: " لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ؟ " (يو16:11)، وأين بطرس الغيور الذى قال لمعلمه: " وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً.. وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ! " (مت33:26،35) لم نرَ أحداً لا هذا ولا ذاك حتى الذين أقام موتاهم أو فتح أعينهم أو شفاهم.. أنكروا الجميل وتملّك عليهم الجبن، لكي تتم نبوة إشعياء النبى: " دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَد" (إش3:63).


إنَّ هذا القطيع القليل فى عدده والكبير فى محبته، يُعلن لنا أنَّ المحبة نحو المُخلّص المتألم، لم ولن تنقرض من على الأرض، وفى هذه الجماعة الباكية نرى البذور التى دبّت فيها الحياة بلمسة هذا المصلوب، والتى أنبتت فى المستقبل مملكة عظيمة، تتبع ملك الملوك الذي عُلق على الصليب!لقد صاروا كعصافير صغيرة، نثروا حبوبه المقدسة التي وضعها في أيديهم، نثروها على القلوب لكي تنمو وتفيض على الأمم من ثمار الروح التي هى: محبة وفرح وسلام.. فيشبعوا ولا يلجأوا إلى تجار العالم الذين يخلطون الحق بالباطل، وطعامهم المغشوش قد سم كثيرين.


وإن كانوا قد تألموا لموته إلاَّ أنَّهم بعد أيام رفعوا رؤوسهم التى انحنت، واستراحت قلوبهم التى احتملت التعيير من أجله، عندما يرون مجد المصلوب وهو قائم من الأموات، حينئذ ستطلب كل نفس مؤمنة، أن يجذبها خلفه حيثما يذهب، وأن يصعدها معه إلى مساكن الأبرار، ستصرخ متضرعة بالحُب طلبتني، وبالآلام اشتريتني، وبالرمح خلصتنى، والآن خذنى معك لبلد أبيك فى السموات، أنا الذى قبلت العار من صالبيك، وتألمت لمَّا احتقروك ولطموك وحمّلوك الصليب على ظهرك، وبكيت لما وضعوك فى القبر بين الأموات.. لقد احتملت آلاماً كثيرة من أجلك.. فخذنى معك لأني مطرودة من أجلك.. خذنى أيها القدوس لأنى أحببتك.. لأنى معك لا أريد شيئاً على الأرض..