مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 26 فبراير 2011

الإنسان المجروح 2

لاشك فى أن الانحلال الخُلقى، الذى اشتعلت نيرانه وغزا نواحى كثيرة من حياتنا، أضاف إلى جروح الإنسان جرحاً ما أشد ألمه! لقد صار الجنس إله هذا العصر، وما أكثر الذين سجدوا له وسقطوا تحت أوهامه، فمعظم المطبوعات اليوم، الأفلام هى عن الجنس، حتى وسائل الدعاية أصبحت هى الأُخرى تعتمد على الجنس، وما هذا إلا إعلان أن الناس فقدوا هدفهم فى الحياة، بل إرادتهم وإيمانهم، وأصبحوا يتحركون فى دائرة بلا مركز أو محيط ثابت.. فالسعى وراء الجنس هو بداية النهاية، ولهذا قال أحد مؤرخى الغرب: إن الانحلال الخُلقى سيدمرنا لو لم يدمرنا الشيوعيون.

لقد تورط المجتمع الغربى فى الجنس وامتلأ به، بحيث أصبح يسيل من مسام حياته، فأصبحت اللذة هى الهدف الوحيد الذى ينشده ملايين البشر، وأصبح المذهب المسيطر الآن هو مذهب المتعة، فكثرت الكتابات المنحرفة، والأفلام المثيرة.. ويبقى السؤال الحائر: هل الحرية أن يعيش الناس فى الفساد ؟! ثم ما هى نهاية الانغماس فى الجنس ؟! ألم يؤكد معلمنا القديس بطرس الرسول، إن الحرية لا يجب أن تكون سترة للشر (1بط 2: 16) ! قد نكون على صواب لو قلنا: إن الحريـة الحقيقية هى: أن أفعل ما يجب لا ما أريد.

إن الانغماس فى الجنس لا يولد سعادة كما يظن البعض، بل عذاباً نتيجة الشعور بالذنب والصراع الداخلى المرير، وبعد قليل يجد الخاطئ نفسه مصاباً بأمراض نفسية وجسدية.. وشخصيته قد تعطلت واُحبطت مساعيها فى البحث والنمو، وتصبح شهواته شهوات انفلت زمامها، ومن المستحيل السيطرة عليها، ولا عجب فى هذا، لأن من يتحدى قانون الطهارة الإلهى يعيش فى توتر دائم، ومن يبحث عن نشوات جديدة واختبارات مثيرة، يكون دائماً فى قبضة الخوف والشك والقلق.. وينظر للآخرين كما لو كانوا موائد شهية، يقترب منهم عندما يشـعر بحاجته للطعام، أما النفوس فتظل بعيدة كخدام أذلاء.

وليس الجنس وحده هو ثمرة الانحلال الخُلقى، وإنما انهيار العلاقات الزوجية، ورفض القوانين والمبادى الأخلاقية، وتلف عقول الملايين بسبب إدمان المخدرات وتعاطى المسكرات، وتمرد الأولاد على والديهم، كل هذه مظاهر للانحلال الخلقى، وقد زادت من جروح البشر وأكثرت من نزيفه.

أيضاً الحروب جرحاً كان ولا زال يؤلم البشر فالحروب التى مضت لا زالت تؤرق حياتهم، والحروب القائمة تُقلق ضميرهم، فرائحة الهواء حتى الآن مفعمة بالحقد التاريخى وصراعات الشعوب، ولا زالت قصص المذابح والحروب.. التى تنشرها الصحافة تثير الرعب والفزع فى قلوب الكثيرين.

إن الحرب ما هى إلا مظهر من مظاهر العنف بل قمة أعمال العنف التى تجرح الإنسان وتمزق الروابط بين البشر، وتُدخل الحقد والكراهية فى قلوب الجماعات، يكفى أنها تفقد الإنسان سلامه، وهل يمكن لإنسان أن يحيا بلا سلام! لقد قامت حروب كثيرة، وحتى الآن لم تتمكن منظمة دولية أو هيئة دينية فى وضع حد لها، ولعل السبب هو عداوة الإنسان لأخيه الإنسان، فالإنسان منذ أن سقط امتلأ قلبه بالحقد والكراهية والغيرة.. وإلا لماذا قتل قايين أخاه هابيل ؟!

كما أن للطمع دوراً خطيراً فى انتشار الحروب، فالإنسان شره للمال وكلما اغتنى طلب المزيد، فمن المعروف أن سلم الطمع لا نهاية له، فكلما ارتقى الإنسان درجة نظر الى الأبعد، أما الدرجة الأعلى فى سلم الطمع ليست إلا سراباً خادعاً أو وهماً كاذباً !

هذا عن الحروب الدموية، أما الحروب العلمية والدينية فلها أيضاً جروح، فالعلم الذى جعل الإنسان يسبح فى الفضاء ويغوص فى أعماق البحار، وأعطى له الطائرة والسيارة والكمبيوتر.. هو أيضاً الذى أعطاه القنبلة الذرية، التى أنزلت الموت والألم على هيروشيما.

وهناك وثائق تؤكد أن الحرب الجرثومية والكيميائية ستتحكم فى مصير كوكبنا قبل نهاية القرن الحالى، فما أكثر الجراثيم التى يمكن أن تقضى على أمة بأسرها، وما أكثر الفيروسات التى لها قدرة على إحداث انهيار صحى شامل فى قارة بأكملها !

أما الأديان فلازالت حروب تُقام ودماء تُسال باسمها، وها نحن نتساءل: هل يرضى الله القدوس بأنهار الدماء التى تُسال من أجـله وباسم الدين ؟! وكأن مهمة الله أن يحيى الأموات، ومهمة الإنسان أن يميت الأحياء!

وهل ينكر أحد أن الخوف مزق كيان البشر، فالخوف جرح له جذور منذ القدم، وعلى الرغم من أن المسيح سعى ليحرر الإنسان من قيدين هما: الخوف من السماء والخوف من الأرض، إلا أنه لا زال يحيا خائفاً، ويبقى السؤال الحائر: كيف ينمو مجتمع ويتقدم حضارياً، وقد ملأ الخوف قلوب شعبه؟!

فالخوف سم قاتل للحياة والتقدم، والإنسان الخائف لا يمكن أن يُبدع، أو يُطلق ما فى وجدانه من أحاسيس، والعقل الخائف المتردد حتماً سيُصيبه الشلل، وينطفئ فيه نور الحكمة والمعرفة..

أما الخوف من السماء، فقد تسرب سُمه فى كيان الجنس البشرى عن طريق كهنة الأمم، الذين صوّروا الله جباراً قاسياً منتقماً، إذ كانت فكرتهم عن الله أنه أعظم مخيف، والإنسان ما هو إلا عبد ذليل، مخلوق ضعيف، ولهذا سـجن الكهنة القدماء الإنسان فى دائرة محرمات، وأرعبوه بفكرة جهنم والنار الآكلة، فتحول الله فى نظر الأقدمين إلى أُسطورة، كما لو كانت خيالية ولكنها تبث الرعب فى النفوس.

نعم لقد أزلت طبقة الكهنوت الناس بتخويفهم من الله والسماء، بعد أن ظنوا أنهم أمسكوا بمفاتيح الجنة والنار، يُدخلون ويُخرجون من يشاؤون! أما نتائج هذا الإذلال فكان امتصاص أرزاق البسطاء وعامة الشعب، تحت ستار بناء الهياكل والمعابد، وما كان هذا التسخير إلا لبناء أنفسهم لا لبناء المعابد كما كانوا يدعون!

فى أوقات السلم كان على الشعب أن يعطوا الكهنة نصيبهم، وفى أوقات الكوارث يدفع الشعب الأموال لتقام الصلوات، حتى تكف الآلهة عن الغضب والانتقام، فتحول الإنسان إلى عبد مطحون فى دنياه، خائف ذليل أمام آخرته، وتحولت فكرة الله إلى شبح مجهول لا يُرضيه إلا الذبائح والتقدمات، وانتشرت الأساطير والخرافات وقصص الجن، وساد نفوذ السحرة والمنجمين، واُقيمت حواجز وسدود بين الإنسان والله، إلى أن جاء السيد المسيح وحرر الإنسان من خوف السماء، الذى قيده به رجال الدين، وفتح أبواب السماء على مصراعيها، ونادى بأن كل مؤمن هو ابن الله، كما علّمه طريق الاتحاد بالله، وأعلن له أن ملكوت الله فى داخله " ها ملكوت الله داخلكم " (لو21:17).

هذا عن خوف الإنسان من السماء، أما خوفه من الأرض فله أيضاً جذور، فقد مرت على البشرية فترات حاول فيها بعض البشر تأليه أنفسهم، والويل لمن لا يسجد لهم أو لمعبوداتهم، فمن طبيعة البشر فرض النفوذ، ومن طبيعتهم أيضاً الخوف من القوة، فهذه آفة ورثها الإنسان عن مجتمع الغابة وعصور الجهل والظلام !!

لكن المسيح كما حرر الإنسان من خوف السماء، حرره أيضاً من استبداد البشر، عندما نعت هيرودس الملك بالثعلب، وسمى الفريسيين بالحيات أولاد الأفاعى، وشحذ فكر رؤساء الكهنة والكتبة حرّاس شريعة موسى، وأمسك سوطاً وهو إنسان فقير يحيا فى أسرة فقيرة، لا يحمل سلطة ولا يؤيده قانون وضرب باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة..السوط الذى أرعب البشرية يمسكه المسيح لا ليجلد البشر بل روح الوثنية وشبح المادية، ويطرد روح الشر من هيكل الله.. وهكذا زلزل ابن البشر فى ثورته العارمة كل أركان الأمة اليهودية فتلعثمت قلوبهم، واضطربت سيوفهم، وخجل قوادهم وعلماؤهم، وهرب التجار والعبيد والحراس.. ولم يجسر أحد أن يتصدى له أو يرد عليه أو يدنو منه.

لأن من يجعل كتب السماء شبكة، يصطاد بها أموال البشر هو خائن لشريعة السماء، ومن يقلده المؤمنين سلطة فيمتشقها سيفاً ويرفعه فوق رؤوسهم مراءٍٍِ، ومن يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالحبال، ويقبض عليها بيد من حديد وأخرى من نار.. ولا يتركها حتى تنسحق وتتبدد كالرماد ظالم، هو ذئب كاسر! يدخل الحظيرة فيظنه الراعى خروفاً وينام مطمئناً، وعند مجئ الظلام يثب على النعاج ويخنقها، وهو نهم يحترم موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل، محتال يدخل من شقوق الجدران ولا يخرج إلا بسقوط البيت، ولص صخرى القلب، ينتزع الدرهم من الأرملة والفلس من اليتيم ‍‍!

الإنسان مجروح أيها الأحباء، لأنه عطشان إلى شئ عظيم اسمه الحرية! التى أصبحت مجرد كلمة نسمعها ونقرأ عنها، ولكن لا يعيشها الكثيرون.. كلُنا نرى العصافير فوق أغصان الشجر، وهى تتراقص فوق الأوراق، فى سعادة غامرة لا تبالى بما يحيط بها، ولكنها تقفز فى غير خوف أو قلق، لست أعرف عنها شيئاً لكنى أُدرك أن الحياة تسرى فى كيانها، وأن حيوية غامرة تتدفق فى هذه الكائنات الصغيرة الضعيفة وأن قوة تمدها بهذه الحياة، وأدرك أيضاً أن كل هذا إنما ثمرة من ثمار الحرية... لا ننكر أن فلسفة جديدة شقت طريقها فى عصرنا، تدعو إلى استقلال الفرد ذاتياً، فالنضج الروحى ينمو فى كل مكان، نضج يتفهم أهمية العدل والمساواة والحرية.. فقد أصبح الآن واضحاً أن الحياة لا تزدهر إلا فى الإنسان الحر، الذى يملك فكره، ويسيطر على ذاته، ويقود خُطواته.. ولكن حتى الآن لم تزل شعوب ترزح تحت قيود الذل والعبودية.. فبعد تحررها من عبودية الاستعمار ، رزحت تحت عبودية الفقر والجهل والتعصب.. تحررت الشعوب من قيود الأمم القوية الغنية ورزحت تحت أغلال السخرة الاجتماعية والنفسية.. وهى بلا شك قيود ما أصعب فكها! وجروح ليس من السهل تضميدها!

لقد حصلت شعوب كثيرة على الحرية، لكنها للأسف الشديد لم تحصل على عالم أفضل كما كانت ترجو! وما تزال الصحف تنقل إلينا صوراً أكثر عن الظلم والاستغلال والرياء.. بصورة تضاهى بل تفوق أحياناً ما كان يجرى فى أيام الملوك المستبدين، وهاهى تحيا فى نكسات سياسية واقتصادية واجتماعية.. إن احترام المجتمع لحرية الفرد، قانون إلهى وليس منحة أو هبة يمنحها إنسان لآخر والعدالة كما يقول سقراط الفيلسوف : ليست منحة من القاضى وإنما هى حق للمتقاضين عليه أن يوفرها لهم، أما حياة الإنسان فهى دعوة إلهية خاصة به، ولا معنى للدعوة الإلهية إذا سلبناها الحرية، والويل لمن يحتقر إنساناً ويحاول أن يذله ويسلب حريته أو يكبح النار الإلهية المقدسة المشتعلة فى وجدانه.

كل المجتمعات التى احترمت حرية الإنسان، ورفعت من شأنه، تقدمت وازدهرت حضارتها، وأبدع أُدباؤها وفنانوها ومفكريها.. أما الذين داسوا على كرامة الإنسان واحتقروا آدميته، وقتلوا حريته، عاشوا فى ظلام لايعرفون شيئاً فى الحياة، سوى إشباع رغباتهم المشتعلة وعواطفهم المضطربة! ويبقى السؤال:كيف يمكن لمجتمع أن ينمو ويتقدم، وقد تحول شعبه إلى قطيع، قُطعت عنه سُبل التفكير، واُلغيت شخصيته، وكل النظرات توجه إليه على أنه عبد ذليل!!

أما الجرح الأعظم فى حياة الإنسان، هو عدم معرفته لله معرفة حقيقية، فرغم انتشار الثقافة، واتساع الكرازة، ونمو الوعى الدينى، إلا أن كثيرين لم يخلصوا فى علاقتهم بالله! يجب أن نعرف أن الله خلق الإنسان وكوّنه، بحيث أنه لا يقدر أن يعيش بدونه، فنحن كما قال القديس أُغسطينوس: " خرجنا من عند الله، وستظل أرواحنا هائمة إلى أن تلتقى بالله ".. ولهذا مهما امتلك وتمتع.. فلا بد له من الله.

قال أحد الأدباء

" إن السماء تبكى بدموع الغمام .. ويخفق قلبها بلمعان البرق .. وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الرياح .. وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان ".

فياليتك تبكى كلما وقع نظرك على سخص متألم أو إنسان مجروح ، فتبتسم سروراً ببكائك.. واغتباطاً بدموعك.. لأن الدموع التى تنحدرعلى خديك فى مثل هذا الموقف هى حبات لؤلؤ أو قل: سطور من نور.. تسجل لك فى صحيفة الحياة البيضاء: " إنـك إنسـان ".

الإنسان المجروح 1



لاشك أن الإنسان يطرق باب الحياة، ويرحل منها فى غير موعد أو استئذان، ولكن بين الميلاد والرحيل هناك رحلة عابرة، لها جاذبيتها وجمالها، ولا زالت رحلة الحياة هى قمة القضايا الإنسانية التى تسعى كل الجماعات أن تجعلها أكثر جمالاً، فكل القوانين التى وضعها الإنسان، هدفها أن تصون الحياة وتوفر لها الأمن والسلام، والأنبياء عندما جاءوا أرادوا أن يزرعوا زرعاً إلهياً، ترتبط جذوره فى الأرض بجذور روحية تمتد إلى السماء.

ولكن على الرغم من هذا، إلا أن الألم لا يزال موجوداً، لقد زرعوا جذوراً روحية، ولكنهم لم ينزعوا جذور الألم، التى تأصلت فى كيان الإنسان، وأصبحت من المستحيل أن تُُنتزع منه.. وإن كان لكل إنسان ميزات تميزه عن الآخر، إلا أن الجميع عند الدموع يلتقون وفى البكاء من الألم يتساوون " فكل الخليقة تئن وتتمخض معاً " كقول معلمنا بولس الرسول (رو8: 22).

اُنظروا لتاريخ البشر، لتروا أنهم بدأوا جماعة صغيرة ثم ازدادوا، عاشوا موزعون على الأرض، عزلتهم الجغرافيا بجبالها وصحاريها وبحورها، ولكن بقى عنصر الإنسانية يربط البشرية المتفرقة، والألم الذى يئن تحت جبروته كل البشر।

في كل مكان في العالم صراخ يمزق القلب من كثرة مظالم لا تحصى، منها التشرد والجوع والحرمان॥ ومنها الإدمان والفساد॥ والحروب والقتل والسرقة॥ وهذا إعلان على أن العالم يتأوه والإنسان مجروح॥ البشرية كلها صارت خاضعة لنير الألم الثقيل!!


الإنسان مجروح جرحاً عميقا، جرح الفقر المُميت الذى صار يذبح الناس ذبحاً، فمعظم البشر يحصدهم الموت حصداً، بسبب القحط الذى عم كثيراً من بلاد العالم.. فأصبحت الغالبية العظمى تئن صباحاً ومساءً من قسوة وألم الجوع، وأقلية يتنعمون ويتلذذون، إلا أنهم هم أيضاً يئنون، ولكن بسبب الثراء الفاحش وما ينتج عنه من شر وفساد، وبين الأثرياء والمعدمين قلة لا قيمة لها، أو قل لا ذكر لهم فى التاريخ، الذى لا يشغل صفحاته بهؤلاء وغيرهم من المعذبين المهملين... يكفيه أخبار العظماء والأثرياء والمشهورين.

يقولون: إن ملايين من البشر يموتون كل عام جوعاً، والبشرية فى مناطق كثيرة تئن ثراءً وشبعاً وتخمة، ففى إحدى الجرائد قرأت خبراً يكاد لا يُصدق تحت عنوان ( زفاف أُسطورى ) يصف لنا احتفال ملك بروناى بزفاف إبنته، يقول الخبر:

كان بريق الذهب والماس، أشد من سطوع أشعة الشمس فى سماء السلطنة، فمن الذهب صُنعت المقاعد والأطباق وأدوات المائدة، وبالمجوهرات الثمينة زُينت الملابس والأحزمة والساعات وحضر الحفل (6 آلاف) مدعو، أقاموا فى قصر يبلغ عدد حجراته (1778) حجرة، أما عن الهدايا فأثمنها عربة رولزرويس، تم تحويلها بمعرفة صنّاع بروناى، وبكميات من الذهب، وأمتار من الحرير.. إلى ما يُشبه عربة الزفاف الملكية، وخلف زجاج العربة جلست الأميرة تحمل باقة الورود: الأفرع من الذهب والأوراق من الماس .

لقد صُنعت كراسى (6 آلاف) مدعو من الذهب ! فى الوقت الذى ينام ملايين البشر على الأرصفة فى الشوارع! وعلى الأرض فى المنازل! فأى عالم هذا الذى نعيش فيه وأية أرض تلك التى تحملنا !! إنسان يموت جوعاً وإنسان يموت شبعاً !! ملايين الدولارات تُنفق على دعايات مشاهير العظماء! وملايين البشر يعانون من التشرد والجوع!

لقد خان أغنياء كثيرون عهد الله، فأغمدوا السيوف التى وضعها الله فى أيديهم لإقامة عمل الرحمة، وتقلدوا سيوفاً غيرها، لاهى إلى الشريعة ولا إلى الطبيعة، ومشوا بها يفتتحون لأنفسهم طريق شهواتهم ولذاتهم، حتى ينالوا منها ما يريدون، فأصبحنا نرى الفقراء يموتون جوعاً فلا يجدون من يُحسن إليهم، وما أسهل أن يخوض الإنسان بحراً من الدماء، إذا رأى على شاطئه الآخر جنيه، ولكن ما أصعب أن ينفق ولو مليماً منه، على مريض فى حاجة إلى أدوية، أو جائع فى حاجة إلى أطعمة!!

نعترف بأن الله لم يخلق الإنسان ليقتر عليه رزقه، ولم يقذف به فى المجتمع ليموت جوعاً، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض، وتحت ظلال السماء، ما يكفيه من مؤونته ويسد حاجته، ولكن قام القوى على الضعيف وغدر به وسلب رزقه، فصارت لحوم الفقراء تنحدر فى بطون الأغنياء انحداراً، فتغير نظام القسمة العادلة، وتشوه وجهها الجميل.

قال روكفلر الملياردير الأمريكى: " ما أعجب هذه الحياة، إن كل ممتع فيها مضر" ! ثم شرح وجهة نظره فقال: الطعام الدسم مضر بصحة الإنسان، والمال الكثير مثير للأعصاب، مقلق للراحة، باعث على الخوف من ضياعه، وحب إمرأة جميلة يمكن أن يدمر الإنسان، وذلك إذا تفرغ لها واستعبده جمالها، والحرص على الاستجابة لكل مطالبها.

هذه خبرة إنسان، لم يكن ينقصه المال ولا القوة ولا النجاح بمفهوم البشر، إنما كان ينقصه شئ واحد ألا وهو: حب الناس له، ولهذا عندما أراد أن يعرف شعور الناس نحوه، عمل استفتاء فى إحدى المجلات، التى كان يملكها عن أكثر الرجال المكروهين فى أمريكا، فكانت النتيجة: إن روكفلر أكثر رجل مكروه فى أمريكا كلها وبلا منافس!

وعندما أراد أن يكسب حب الناس وعطفهم بنى كنيسة، وكان يلقى فيها عظة الأحد بنفسه، ومع ذلك ما كان أحد يحضر إلا أتباعه! ولا تتعجبوا إن قلت لكم: إن الناس كانوا لا يمرون من أمام الكنيسة، بل عندما كانوا يقتربون منها، كانوا يمرون من طريق آخر، وقد وصلت كراهية الناس، أن أحد أقربائه طلب منه أن يأخذ جثة ابنه الميت ليدفنها فى مكان آخر، لأنه لا يقبل أن يدفن إبنه فى المدافن التى بناها روكفلر، الذى تلوثت يده بالقتل والنهب.. فما المنفعة أن يصرف إنسان عمره ، راكعاً أمام صنم مخيف، أقامته الأجيال المظلمة، ودعوا الخطاة إلى عبادته ؟!

فيا ليت يد الأغنياء تمتد لتمنع انحدار دموع المساكين، فاليد التى تمنع دموع الفقراء أفضل من اليد التى تُريق الدماء، والتى تفرّح القلوب أشرف من التى تُبقر البطون، فالمحسن هـو أفضل من القائد وأشرف من المجاهد، وكم هناك فرقاً: بين من يحيى الأموات ومن يميت الأحياء!

هذا هو عالمنا اليوم! وهذه هى الثمار التي نجنيها!

الخميس، 24 فبراير 2011

حاجة الإنسان إلى اللـه


نشهد فى هذا العصر محاولات فاشلة، تحاول أن تُقيم نظرية متكاملة عن السعادة، خالية من النبض الإلهى! وقد نسوا أو تناسوا أن الإنسان خرج من الله وستظل روحه هائمة إلى أن يلتقى بالله، كما قال القديس أُغسطينوس.


ولكن يبدو أن العلم وما فجّره من اكتشافات مذهلة.. جعلهم يبحثون عن ماديات، متجاهلين قدرة خالقها! ولو أنهم تعمقوا قليلاً لوجدوا أن الله داخل فى كل شئ وخارج عن كل شئ، ومن يهاجمه يؤكد حقيقة وجوده، ومن يتشكك بوجوده كمثل سمكة تشكك بوجود الماء من حولها، غير مدركة أن عدم وجود الماء يعنى موتها! وها نحن نتساءل:


إن كان الله غير موجود فلماذا يهاجمونه؟! هل يوجد غير المجنون يصارع كائنات وهمية؟ أيستطيع إنسان أن يُسمّى إبنه الله؟ فإن كان اسم الله يرهب البشر، أفليس هذا دليل لا على وجوده فقط، بل وعلى جبروته أيضاً! ولكن الإنسان لقساوة قلبه وكبرياءه لا يرى الله، فصار كالأعمى الجاهل الذي يرفض وجود الشمس لأنه لا يرى، فى حين أن حرارتها هى أعظم دليل على وجودها، فإن كان لايرى الضوء أفلا يشعر بالحرارة!!


إن كل ما فى العالم وسائل يخاطبك بها الله، لكي يؤكد لك حقيقة وجوده، ولكنك لا تسمعه بسبب ضجيج أفكارك، وهيجان رغباتك، وثورة شهواتك، ولو كان لديك حواس روحية مدرّبة، لكنت تراه فى لمعان النجوم، وتسمعه فى إيقاعات نبضات قلبك، وتشعر بوجوده فى كل نسمة هواء من حولك..


لقد حاول كثيرون على مر العصور، أن يلغوا فكرة الله من الوجود، وبالتالي العبادة الدينية من حياتهم، لكنهم فى النهاية وجدوا أنفسهم مضطرين، إلى الاستعاضة عن تلك الديانات القديمة بأُخرى جديدة من صنع البشر! فأعلنوا بهذا أن الإنسان مخلوق غير كامل، وهو فى حاجة دائمة إلي قوة أُخرى ليسد ما فى عالمه من نقص وضعف وقصور..


نعترف بأن العالم واسع، لكن رغم اتساع العالم وكثرة خيراته، إلا أنه لا يمكن أن يُشبع جوع الإنسان! هل فكرت لماذا ؟ لنرجع إلى قصة الخلق ونتساءل: لماذا خلق الله الإنسان؟ أليس لكي يحيا معه ويتلذذ بحبه، إذن فالإنسان قد خُلق لله ولن يُشبعه إلا خالقه، ولو أنه امتلك العالم فلن يشبع! والسبب: إن العالم محدود، فإذا حصل على شئ فسرعان ما يمله فيبحث عن غيره !! لأنه فى الحقيقة يبحث عن غير المحدود وإن كان لا يدركه! وكأن الإنسان اختار لنفسه أن يعيش أسيراً فى حلقة مفرغة، حُكم عليه فيها بالجوع والعطش إلى الأبد!


وإليك بعض الأمثلة:


نعلم جميعاً أن الإنسان مائت، ولكن هناك من لا يقبل الموت كحقيقة مؤكدة، وإلى الآن يحلم بظهور مادة تجدد شبابه وتُطيل عمره، وتحقق له أعظم أحلامه ألا وهو: " حلم الخلود "، ولأنه عاجز عن تحقيق هذا الوهم، فهو لذلك يسعى إلى التخليد بوسائل أُخرى قد تكون: عائلة يكوّنها، أو مملكة يحكمها.. ومن هذه الوسائل وغيرها.. يُعلن الإنسان أنه يرغب الخلود، لأن ما يريده هو الوجود الدائم وليس المحدود!


ولو تأملنا سعى البشر وراء شهوات الجسد لوجدنا أنه سعى وراء غير المحدود، ولنأخذ " حب المال " على سبيل المثال فنقول: في البداية يحاول الإنسان تأمين مستقبله وهو في هذا لم يخطئ، ولكن ما أن يزداد غناه فسرعان ما يزداد الطمع بالمال، إلا أن سُلم الطمع لا نهاية له، فماذا يفعل الإنسان؟ يظل يرتقى درجاته إلى أن ينتهى وجوده التافه، الذى لم يكن سوى فراغ محض!


قصــة


يُحكى عن " شابة جامعية " إنها أحبت المال بصورة مرضية، حتى صار الثراء كل هدفها فى الحياة، فماذا فعلت لتصير واحدة من الأثرياء؟ بدأت تجلس مع الشباب، حتى تعرفت على شاب مميز، كان يملك عربة، فاعتقدت من مظهره أنه فتى الأحلام، الذي سيحقق لها طموحاتها..


وتمر الأيام وتتوطد العلاقة بينهما، لكنها لاحظت أن زميلها كثير الرسوب، كما لو كان لا يرغب فى التخرج! فلما سألته عن سبب رسوبه ذُهلت، إذ علمت أنه يتعمد الرسوب لأنه يوزع المخدرات على الطلبة! وهذا هو مصدر غناه..!! وبكل جرأة يعرض عليها أن تشاركه هذه التجارة المربحة، إن كانت تريد أن تصبح من الأثرياء! كل ما ستفعله إنها ستقف فى مكان ما على الكورنيش، فيأتي إليها شخص ويسلمها المواد المخدرة، فتأخذها منه وتعطيها لبعض التجار...


فى البداية رفضت، إلا أنها تحت إغراء المال قبلت، وبالفعل بعد فترة قليلة جداً، صارت من أصحاب الملايين، فلما اغتنت احتقرت زميلها، لأنه لم يعد يملك من المال مثلما تملك، كما أصبح بالنسبة لها بلا منفعة، فلم يكن أمام الشاب سوى التبليغ عنها انتقاماً لكرامته، فتم القبض عليها وأودعت فى السجن.. فماذا انتفعت من المال؟ المال الذي اشتهته هو الذي ألقي بها فى السجن، ولوث اسمها وقضى على شبابها!


إنها مأساة شـابة، تذكّرنا بمأساة يهوذا الإسخريوطى، الذى لما أحب المال أسلم سيده وفى النهاية ماذا جنى؟! لم يجنِ سوى حبل المشنقة الذى خنق به نفسه!! وهكذا كل من يسعى وراء المركز، أو الشهرة، أو السلطة.. سيظل يجرى هنا وهناك، دون أن يكتب الحرف الأول من اسمه فى سجل الحياة!!


تعجبني تلك العبارة القائلة " لو أن الغزاة استطاعوا أن يصعدوا إلى السماء بعد إخضاعهم الأرض لما تراجعوا لحظة " !! وصدقوني لو أنهم امتلكوا السماء فلن يشبعوا !! ولو عقلوا لبحثوا لا عن السماء ولا الأرض بل خالقهما.


ويتساءل البعض عن " الحب ": هل يخضع هو الآخر لهذا المفهوم، أعنى البحث عن غير المحدود ؟ أقول: نعم، فالحب ليس مجرد ارتباط عاطفي، أو إشباع شهوات جسدية.. بل هناك ما هو أعمق من الروابط النفسية.. فالإنسان من خلال حبه، يبحث عن كائن يملك صفات غير محدودة، يأمل من خلاله أن يعالج سلبياته، ويقوّى ضعفاته، ويعوّض نقائصه... ألسنا نسمع كثيرين يقولون بغير تدقيق: إننا نعبد فلانة!! ألا يدل هذا على أن الحب في جوهره بحث عن كائن غير متناهٍ!


لا ننكر أن الإنسان عندما يُحِب يعتقد أن الآخر يمثل له العالم كله! ولكنه سرعان ما يكتشف حدوده ممثلة فى نقائصه وعيوبه.. فيسوده شعور مرير بالإحباط، لقد أحب شخصية اعتقد أنها مثالية، والآن يراها واقعية، وهذا هو عذاب الحب! وعامل قوى من العوامل التى تقضى عليه أو تحد من نموه!!


حتى وإن كانت هناك أمثلة، عاشت حياة الحب بكل صدق فهذه قلة، فكمال الحب يتطلب كمال الإنسان، والكمال يتطلب مقومات روحية ونفسية وجسدية.. قلما توجد فى إنسان! فالأفضل لنا أن نحيا واقع الحياة لا وهمها، أما الواقع فيُعلن فى كل وقت حقيقة الإنسان: إنه مخلوق يحمل فى أعماقه بذور الخير والشر، وفى داخله يتعانق النور والظلام..


ويتجلى العطش إلى غير المحدود فى " العلم ولهذا نجد العالم أو الباحث.. ما أن يقدم للبشرية اختراعاً، فسرعان ما يبحث عن غيره، وهكذا الفنان والكاتب والشاعر... يسعى كل منهم باستمرار إلى إبداع ما هو أسمى، فالإنسانية كلها لا ترضى بتراثها سواء العلمي أو الفكري... بل تسعى بمداومة إلى حقيقة أفضل وجمال أروع! ولذلك نرى تاريخ الشعوب حافل بالثورات، ملئ بالانقلابات، وهذه تدل: ليس فقط على مطامع الإنسان، وسد حاجاته الاقتصادية، وإشباع شهواته الجسدية، بل تؤكد أيضاً حنين الإنسان الدائم، إلى ما هو أفضل، واشمئزازه المستمر من واقعه الذى بمداومة يرفضه.


ولهذا لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، لأنه دائم التفكير فى عالم جديد، وباستمرار يتصورأشكال مثالية للحياة، معيداً الكرة بعد كل فشل، هنا تظهر فكرة التقدم، التي هي دليل على أن الإنسان يميل فى كل لحظة لتجاوز نفسه باستمرار واندفاعه للأمام بحركة لا تتوقف والسبب: إن غير المحدود يجتذبه باستمرار وهو لا يرتاح إلا إليه.


لقد ثبت لنا أن الإنسان ما أن يحصل على رغباته المادية، فسرعان ما تفقد قيمتها فى نظره، فيصير كالطفل المدلل الذى يصيح طالباً لعبه، ولكنه لا يلتفت إليها عندما تُعطى له! أتذكرون سليمان الحكيم، لقد قال مرة: " وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا " (جا10:2)، ثم بعد أن حقق رغباته ونال كل شهواته عاد وقال: " الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ " (جا11:2)! فأين المُلك؟ أين الصيت؟ أين الغنى..؟ فقاعات هوائية تطايرت مع أول رياح صادفتها! فالمشكلة إذن ليست فى الشئ بلفى رغبة الإنسان غير محدودة!

ولو تأملنا في طبيعة البشر، لوجدنا أن معظم الناس لا ينجحون في جذب الجانبين: المحدود وغير المحدود معاً، ولهذا فإن اليأس كثيراُ ما يتملك على البشر كنتيجة طبيعية للفشل المتكرر في حياتهم، وما اليأس إلا علامة تؤكد ضعف الإنسان، واحتياجه إلى قوة أعظم منه، تستطيع أن تعالج ما فشل فيه، وما عجز عن تحقيقه.


أما النفوس اليائسة، الحائرة، فلن تحقق استقرارها إلا من خلال علاقة إيمان بالله، هنا يظهر الجانب الإيجابي لليـأس، إذ يجعل الابن المتمرد على الله، يعود إلى ذراع أبيه السماوي مرة أُخرى.


وهكذا فإن العنصر الأبدي الذى زرعه الله فينا يجعلنا ولو في بعض الأوقات نشعر باليأس، ويتملكنا القلق، إلى أن ندخل أخيراً بيتنا الحقيقي، ونحيا مع الله الذى أحبنا وبذل ذاته لأجلنا، ألم تسأل نفسك مرة: لماذا عندما يقترب الإنسان من الله، يبتعد تلقائياً عن العالم بكل مادياته وشهواته ولذاته...؟


أعتقد أن الاقتراب من اللا محدود، أعنى الله، يجعل الإنسان لا يبالى بكل ما هو محدود، كما أن الحياة الصادقة مع الخالق، تجعل الإنسان لا يمكن أن يتعبد للمخلوق الضعيف، ألم يقل معلمنا داود النبي: " وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ " ( مز25:73 ) !!

إن ألطف وأسهل طريقة يستطيع بها الفكر أن يخدعك هي إقناعك بأن الحصول على السعادة الأبدية، ممكن من خلال أشياء محدودة! أليس هذا الخداع هو الذى يدفع بكثيرين إلى الانحراف والتشتت..!


ولكننا نعترف بأن الإنسان لو عاش لشهواته لشابه الحيوان، وأعتقد أن الله فى اليوم الأخير سوف يسأله: لقد خلقتك إنساناً فلماذا لم تصبح إنساناً!

الأحد، 13 فبراير 2011

المـراحــل العاطفيــة


الجنسية الأوديبية


ونقصد بالجنسية هنا الارتباط، وهو معنى أكثر شمولاً واتساعاً، من المفهوم الضيق للجنس الذي لصق بأذهاننا منذ الصغر. أمَّا الأوديبية فهو اسم مستعار من الأُسطورة اليونانية الشهيرة: " أوديب مَلِكاً "، لأنَّ مضمون هذه المرحلة العاطفية موجود في تلك الأُسطورة، التي أبقى عليها من الاندثار مؤلّف مسرحيّ كبير هو " سوفوكليس "، وقد صاغها " شكسبير " بأُسلوب جديد.

في هذه الأُسطورة نرى البطل اليوناني " أوديب " يقتل أباه الملك دون أن يعلم، وتزداد المأساة عندما يتزوج أُمَّه ويُنجب منها ابنة! فكانت النتيجة حدوث فساد فى الأرض فماذا فعل؟ جمع المنجّمون وسألهم عن سبب الفساد، فأعلموه بمأساته: إنَّه متزوج بأمه!! فلمَّا أدرك جُرمه وشعر بإثمه، ظل يجري هائماً على وجهه، وهو لا يعلم إلى أي مكان يريد أن يذهب، وبينما هو يجرى كانت ابنته " ألكترا " تتبعه، لأنَّها كانت متعلّقة به تعلّقاً شديداً!

هذا الارتباط الشديد دفع العالم النفسيّ " فرويد " إلى هذا التشبيه، إذ يرى أنَّ الطفل في سنواته الأولى يرتبط بأُمه ارتباطاً قوياً، وهكذا الطفلة في ارتباطها الشديد بوالدها.
وتُعتبر هذه المرحلة العاطفية شيئاً طبيعياً، يمر به كل طفل وطفلة في حياته، إلى أن يكتمل النضوج النفسيَّ، إلاَّ أنَّ خُطورتها تظهر لو أنَّها استمرت إلى ما بعد سن البلوغ، هنا تتحول إلى يُعرف في علم النفس بعقدة أوديب ".

وقد جسَّدت روايات كثيرة هذه العقدة، منها تلك التي تحدثت عن ابن أحب أُمَّه، الأمر الذي دفعه إلى الغيرة من أبيه! الذي تحوّل في نظرها من أب إلى حاجز بينه وبين أُمه! ويموت الأب بصورة مفاجئة ويزداد تعلّق الابن المرضيّ بأُمه، وتشعر الأم بمأساة ابنها وتُفكّر في وسيلة لعلاجه، فاختارت فتاة تُشبهها ثم خطبتها له، ولكن حدث في ليلة الزفاف، أن شعر الابن بخوف شديد دفعه إلى عدم الاقتراب منها، وذلك لأنَّه رأى فيها صورة أُمه! فاقترحت الأُم أن تنزل الزوجة إلى الشارع وتُغيّر مكياجها وتتحايل على زوجها لتسقط معه، ولكي ينكسر الحاجز النفسيّ الذي يفصل بينهما، ويوافق الابن وهو لا يعلم أنَّها زوجته، ولكن مشاجرة عنيفة حدثت بينه وبين آخرين أرادوا السقوط معها، وتعلم الأُم بالمشاجرة وتُسرع لتنقذ الموقف، ولكنها تُصاب في حادثة وتموت قبل أن تصل إليه، فلمَّا علم الابن بموت أُمه انفكت عقدته!

لا نُنكر أنَّها قصة خيالية، إلاَّ أنَّ واقع الحياة قد أثبت لنا، أن فتيات كثيرات يُفضّلن الزواج من رجال يشبهون آبائهن! أو من هم في نفس عمرهم وهم لا يدرون جوهر عقدتهم، إنَّها كارثة مصيرها الدمار!

الجنسية النرجسية

يُسمّى علماء النفس والتربية عشق النفس المرضيّ النرجسية، وذلك إشارة إلى الفتى اليونانيّ الشهير نارسيسوس الذي تروى أُسطورته: إنَّه نظر في الماء فرأى صورته، ولأنَّه كان جميلاً سقط على الماء وأخذ يُقبّل صورته، فكانت النتيجة أنَّه غرق في الماء ومات! وتزعم أُسطورة أُخرى أنَّه من شدة افتنانه بنفسه، ضعفت صحته وذبل جسده، حتى تحوَّل إلى زهرة النرجس! ومن ثمَّ يُستخدم لفظ النرجسية، للدلالة على الاهتمام الشديد بالذات والأنانية المفرطة، التي لا تُراعى وجود آخر سوى الذات !

ويتجلَّى هذا العشق الذاتي في بداية مرحلة المراهقة، ولهذا نجد المراهق يهتم بنفسه بصورة زائدة، سواء عن طريق الاستحمام الكثير، أو التزيّن، أو صفصفة الشعر.. وفى هذه المرحلة يزداد إقبال الفتيان على ممارسة العادة السرية كنوع من التلذذ الذاتيّ، إلا أن خطورتها تزداد لو استمرت إلى ما بعد الزواج! لأنَّ الزواج في أبسط معانيه خروج من الأنا وانفتاح نحو الآخر، فإذا ظل الإنسان متقوقعاً حول نفسه، محاولاً إشباعها بطريقة خاطئة، فإنَّ زواجه سوف ينهار!

كما أنَّ العادة السرية مثل كل الخطايا، لا يجنى منها الإنسان سوى إشباع ناقص، لأنَّ العمل نفسه ناقص، فالطرف الآخر الشرعيّ غير موجود، وهذا هو ما يدفع الشخص المُمارس للعادة إلى الإحساس بالذنب والشعور بالنقص.

وقد تدفع هذه الأحاسيس الإنسان إلى أن يتوقف عن ممارستها، إلاَّ أنَّ كثيرين يُكررون الفعل، على أمل أن يشغلوا فراغهم ويُشبعوا عواطفهم، فمن المعروف أن العادة هى طريقة الفتى للتنفيس عن رغباته الجنسية، وعما يصادفه في الحياة من قلق وتوتر، ولكن دون جدوى! وإن كان البعض ينظر إلى ممارسة العادة في الكِبر على أنَّها مرض، فهذا إنَّما يرجع إلى أنَّ الإنسان الذي أدمن هذه المُمارسة، يكون نموه النفسيّ قد توقف عند مرحلة المراهقة التي عجز عن تخطيها!

الجنسية المثلية

في فترة البلوغ ينشب صراع عنيف في نفس الفتى، سببه الخوف الشديد من أن تدفعه الغريزة القوية المتدفقة، إلى تكوين علاقة مُحرَّمة مع الجنس الآخر، فيميل الولد إلى التعلق بالأب والبنت بأُمَّها، إلاَّ أنَّ مكان العاطفة يظل شاغراً، ولا بد من ملئه بميل جديد، وهذا يدفع الفتى إلى الارتباط بزميل من نفس جنسه، وغالباً ما يكون هذا الشخص قويَّاً أو جذابَّاً أو متفوقاً في دراسته..

وقد يعجب الفتى بمُعلّمه وهكذا الفتاة بمعلمتها، فقد روت مُدرّسة أن طالبة شغفت بها لدرجة أنَّها كانت تبكى، إذا ما التفتت إلى طالبة أخرى وحدثتها، كما روت مُعلمة أخرى أن طالبتين قد زارتاها معاً، وكانت إحداهن مُتعلّقة بها تعلّقاً كبيراً، فحدث لمَّا أرادت أن تنصرف أنَّها أصرت أن تصحب معها زميلتها حتى لا تنفرد بمعلّمتها!

وهناك من يُعلل اندفاع المراهقين في بدء المراهقة إلى الميل نحو نفس جنسهم، إلى شعور المراهق بالضعف والنقص والخجل من الجنس الآخر، الذي ينظر إليه على أنَّه مخلوق مُخالف له، مجهول لديه، فيتّجه لذلك نحو أشخاص من نفس جنسه، كخطوة انتقالية ينتقل بعدها إلى الجنس الآخر.. إذن فالميل نحو نفس الجنس شيء طبيعيّ في مرحلة المراهقة، إنَّما الانحراف يبدأ عندما يصاحب الميل النفسيّ ميل جسدي، يدفع المراهق إلى الاحتكاك الجسدي بغيره إلى أن تتطور العلاقة بينهما إلى علاقة شاذة، قد يصعُب التخلّص منها!

الجنسية الغيرية

وتظهر بوضوح في المرحلة الجامعية، بعدما يكون الإنسان قد تحرر من الارتباطات العاطفية السابقة، ليرتبط بكائن من جنس آخر، وقد يخطئ من يظن أن هذا الارتباط حُبّاً، إنه ارتباط زائل. هذا وقد أثبتت لنا الحياة، أنَّ غالبية الذين ارتبطوا معاً في الكلية وتزوجوا فشلت حياتهم الزوجية.. لقد شعروا بأنَّ شعلة نار تتوهج في صدورهم ثم سرعان ما انطفأت، ولم يتبقَ منها سوى قليل من الرماد يشهد على هذا الحب الفاشل، وإن نجحت بعض الحالات فما أكثر الارتباطات التي فشلت!

إلاَّ أنَّ للجنسية الغيرية أهميتها، فمن خلالها يتعرف الفتى على الفتاة عن قرب، كما أنَّ الإنسان من خلال هذه المرحلة ينتقل إلى المرحلة التي يتوقف عليها مصيره، ألا وهى: " الأحادية الزوجية "، بعد أن يكون قد أدرك أن الحُب الحقيقيّ يستلزمه ثلاثة أشياء: شيء من العقل، شيء من القلب، شيء من الجسد، فالعقل يُقارن من جهة السن، الوظيفة، العائلة.. والقلب يشعر بارتياح.. والجسد له أهميته، فلا يعقل أن تتزوج فتاة شاب مريض بالسرطان.

الأحادية الزوجية

يُعد الزواج هو أمل كل فتى وفتاة يرغبان الاستقرار النفسيّ والعاطفيّ، إلاَّ أنَّ الزواج ليس سهلاً، فما أكثر المشاكل في حياة المتزوجين، فالأُسرة جزء من الحياة، ولهذا يجب أن تتحمل كل ما في الحياة من ضيقات وضعفات وسلبيات.. والحق إنَّ صعوبة الزواج ترجع إلى الفهم الخاطئ له، فالزواج ليس وظيفة غرامية أو اجتماعية، بل عملية تكيف وتوافق، ومن ثمَّ يستلزم كسباً بطيئاً يحتاج إلى وقت وكثير من الجهد والتنازلات.

أمَّا التوافق المطلوب بين المتزوجين فلا بد أن يتم في ثلاثة ميادين: العلاقة العاطفية، النفسية، الاجتماعية.
وحينما يقع في ظن الرجل أنَّ علاقته بزوجته تنحصر في الميدان الأول، ويتوهم أن زوجته ليست إلا وسيلة لتمتعه الجنسي، فحتماً سيكون الفشل هو ثمرة تلك العلاقة التي هى وحدها تكون عاجزة عن إشباع الرجل.