الخميس، 21 يوليو 2011
الفكر بين الشقاء والسعادة
الأربعاء، 20 يوليو 2011
الجهـاد الروحـى
ما هو هدف المسيحي؟ أعتقد أن الوصول إلى قلب الله، هو هدف كل مؤمن فى هذه الحياة، ولكن كما يقول رب المجد يسوع: " مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ ! " (مت7: 14)، فالكمال الروحى لا يأتى إلا بعد جهاد عنيف، وصراع طويل، مع الرغبات والشهوات..
أما العزاء الذى يأتى فجأة فى بداية توبتنا، فهو مجرد ومضة روحية ما أسرع زوالها، أو بقعه لامعة فوق قوس قُزح، سرعان ما تشرق الشمس فلا يعود لها أثر فى الوجود! ولهذا لا يسمى كمالاً روحياً، بل هو زيارة من زيارات النعمة الإلهية، يفتقدنا بها الله لكى نتمسك به أكثر، ونستمر بثبات فى حياة الجهاد، محتملين مشقات الطريق.
بدون النعمة الإلهية لا نستطيع أن نعمل شيئاً، ولكن بدون إرادتنا البشرية فإن الله لن يعمل معنا شيئاً، إذن هناك عاملان أساسيان لا يمكن الاستغناء عن أحدهما فى الحياة الروحية وهما: المعونة الإلهية، والاستجابة البشرية، فلابد أن يغصب الإنسان نفسه لأن " مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ " (مت11: 12).
فجاهدوا فى سبيل النصر، وانتصروا لكى تربحوا، وتواضعوا لكى لا تخسروا المعركة، هذا ما يقوله القديس أُغسطينوس.
قصـة
هنا أتذكر قصة الراهب العفيف، الذى أصر على الاحتفاظ بطهارته، وذلك عندما اشتد عليه قتال الزنا، فماذا فعل؟ ذهب ليلقى بنفسه فى" جحر" كانت تعيش فيه ضبعة، وكان يقول: خير لي أن أموت بهذه الضبعة من أن أموت بالخطية، وقد كان! إذ ألقى بنفسه فى" الجحر".. وهنا كانت المفاجأة المذهلة التى لا يتوقعها أحد، فالضبعة المتوحشة، تحولت إلى حيوان أليف، ترعاه وتخدمه وتأتيه بالطعام..! فعاد الراهب الطاهر، المجاهد إلى قلايته منتصراً، وهو يحمل فى قلبه كنزه الثمين، إنه عفته !!
ومن هذه القصة المعزية نتعلم: إن كل من يضبط هواه ويدقق فى الصغائر، قادر بنعمة الله، لا أن ينتصر فقط، بل ويغير طبائع الوحوش أيضاً! وإلا ما معنى قول معلمنا بولس الرسول: " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي " (فى13:4).
" أن تستريح = أن تُهزم "
هذه عبارة بليغة، نطق بها أحد الحكماء، ليؤكد أهمية الجهاد فى حياة النصرة الروحية، ولكن ألم يقل السيد المسيح: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَتْبَعْنِي" (لو23:9)، هل تأملتم مرة فى عبارة كل يوم؟
والقديس بولس الرسول يوضح مرارة الكفاح فى سبيل الطهارة فيقول: " أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَـى نامُوسِ الْخَطِيّةِ الْكائِنِ فِي أَعْضَائِي وَيْحِي أَنَـا الإِنْسَانُ الشَّـقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ " (رو7: 23،24).
إن الجهاد يعنى: أن نكد ونسهر ونتعب.. وهو أشبه بمعركة حامية، تتطلب من الجندى نظاماً حازماً، وصبراً، وشجاعة، إن كان يريد أن ينتصر ويكلل من قائده.
وهل يمكن للإنسان أن يلتقى بالله، ما لم يمر وسط الليالى المظلمة، أى يقمع ميوله الحسية ويبتعد عن ملاذه الجسدية؟! إذن ليست الحياة ورود بلا أشواك، إنها رحلة تطول أميالها، وهى ليست سهلة ومريحة، بل طرقها مليئة بالهضاب والوديان، ولكن لماذا نخشى الهبوط إن كان لدينا رغبة دائمة فى الصعود؟ أليس أفضل لنا أن نموت فى الجهاد من أن نحيا فى السقوط ! ألم يقل مار إسحق: " محبو الراحة لا يحل فيهم روح الله بل الشيطان" !
إلى أى شئ تقود الراحة ؟ أليس إلى الهلاك! إنها تؤذى أكثر من الشياطين، فالعفة وسط النياحات لا يمكن أن تلبث بغير فساد، ولهذا فإن كل من يرفض أن يسقى بذاره بعرق جبينه، فلن يحصد فى النهاية سوى الأشواك، لأنه الإنسان كالطائر، إن لم يرتفع إلى أعلى بجناحي جهاده، فسوف يلتصق بالأرض، التى تنبت شوكاً بحكم الطبيعة.
لكن القديس بولس الرسول يؤكد: إن الإنسان لا يمكن أن يُكلل " إنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيّاً " (2تى5:2)، فما المقصود بالجهاد القانونى؟
نوضح أن الإنسان لا يمكن أن يخلص بمفرده، الذى يخلص إنما يخلص من خلال الكنيسة، وفى داخل الكنيسة لابد أن يمارس الأسرار الإلهية المقدسة لا بطريقة ميكانيكية، بل بإيمان أن الله حاضر فى كل سر بصورة غير منظورة.
كما أن الجهاد المثمر يجِب أن يكون بحسب وصايا الإنجيل، ولهذا عندما سُئل الأنبا أنطونيوس: ما هى القوانين التى أحفظها لكى أرضى الله؟ أجاب: " حيثما تذهب ليكن الله أمام عينيك، وفى ما تفعل أو تقول، ليكن لك شاهد من الكتب المقدسة ".
لكن الإنسان إن لم يُحب الهدف، الذى يجاهد لكى يصل إليه، فإن جهاده يكون كفقاعات هوائية تظهر قليلاً ثم سرعان ما يتلاشى أثرها! وها نحن نتساءل:
حب الهدف هوالذى يقود الراهب إلى القفر لملاقاة الله، والباحث إلى معمله لاكتشاف أسرارالكون، والرجل إلى الزواج لاحتمال مشقات الحياة وتكوين أسرة...هو الذى يحول آلام الحياة أفراحاً، وأعمال الزهد وسائل للنمو والارتقاء!
ولو تأملنا فى طبيعة البشر، لوجدنا أن الغالبية تؤمن بوجود الله، لكن قلة هم من يتمتعون بعشرته، فما أكثر الذين يصلون ويصومون ومع ذلك لا يتعزون! وحياتهم لا تُظهر أى تغيير، لماذا ؟ لأنهم لا يُحبِون الله محبة صادقة! فهم يصلون بطريقة آلية خالية من الروح، ويصومون بقصد الرياء أو على سبيل العادة !
يقول القديس أُغسطينوس
" الحب يجعل الآلام والأخطار... سهلة القبول أو بالأحرى يصيّرها كلا شئ ".
كما أن الجهاد الروحى، يستند على ركيزة أخرى ألا هى الرجاء، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذى يحيا على أمل ما سيكون، إلا أن الرجاء ليس مجرد شعور سلبي كما يتوهم البعض، يجعل الإنسان يتمنى هذا أو ذاك فقط، بل هو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإرادة، فالإرادة البشرية القوية تتمنى، ولكنها فى نفس الوقت تجاهد لكى تحقق ما تتمناه.
ونحن نعلم أن الحيوان ليس له مصير سوى الرعى والحرث ثم الذبح، أما الإنسان فهو صاحب مصير، وهو الذى ينسج مصيره بنفسه، وإلا لماذا خلقه الله من الألف؟ أليس لكى يصل بجهاده إلى الياء، لكى يكون هو المسئول عن أعماله!
والحق إن الخلود مع الله هو شهوة المؤمنين، كل المؤمنين، فلو لم تكن هناك حياة بعد الموت لَمَا جاهدنا، بل قلنا مع الأبيقوريين: لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت!! إنما من أجل الحياة الأبدية نحن نجاهد ونتعب.. محتملين كل ما يأتى علينا من تجارب وضيقات.. هنا على الأرض لأنها لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا.
والآن بعد أن قام السيد المسيح منتصراً من بين الأموات، أصبح مصير كل من يؤمن به واضحاً: الحياة لا الموت، وكيف يموت المؤمن بعد أن قال رب المجد يسوع : " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ، مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا " (يو11: 25) !!
وهل ينكر أحد دور الإيمان فى سلسلة الجهاد الروحى، فأنا بقوتى وتقواي لا أستطيع أن أفعل شئ، ولكنى بالإيمان " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي " (فى13:4) فإن كنت أُجاهد من أجل الملكوت فيجب علىّ أن أؤمن بوجوده أولاً!
إن الإيمان يحوّل واقع الإنسان الأليم الذى يمتزج فيه الحزن بالفرح، والشقاء باللذة، والنور بالظلام، والجمال بالقبح إلى معنى لا يموت، وإلى سمو لا يفنى!
بالإيمان يصبح العالم غير مائت، والإنسان فى حماس دائم للحياة،وكأن الحياة تتحول بالإيمان إلى لحظات جميلة، من النغم المتصل والسعادة الدائمة!
وهل ينكر أحد أن الإيمان، يحوّل الألم إلى رغبة وشوق، لمعرفة المزيد من أسرار رب المجد يسوع الذى تألم وهو بار!
والموت، أليس الألم يحوّله إلى رحلة لاكتشاف عالم جديد، عالم الخلود الخالى من الغش والرياء..! فهل لنا أن نقول: إن الألم أداة تطهير لبقاء الجنس البشرى من الفناء! هذه هى ركائز الجهاد الثلاثة: الإيمان ، الرجاء ، المحـبة.
كما يجب ألا ننسى دور التواضع، فقد قال السيد المسيح: " إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائي فَلْيُنكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" (مت16 :24-26) أما حياته فقد كانت صورة حية للبساطة والتواضع فكان يجالس الفقراء، ويبحث عن الخطاة والضالين...
ألا تحطم الفراشة الشرنقة المحيطة بها، لكى تطير فى عالم النور والحرية، فلابد لها لكى تكتسب رونقها أن تفقد جزءاً هاماً منها!
وما من إنسان تغلّب على ذاته، وتحرر من سيطرة وقيود وسلطان أهوائه... إلا وانعكس وجه الله على مرآة نفسه، وشع نوره الإلهى فى كل جنبات كيانه!
أخيراً:
أختم حديثى عن الجهاد الروحى، ببعض الآيات الذهبية، المعزية ألا وهى:
" لِيَقُلِ الضَّعِيفُ: بَطَلٌ أَنَا ! " (يوئيل10:3)
" لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ " (2كو10:12)
" أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" ( فى13:4)