في كل بلاد العالم صُراخ يُمزِّق القلب
من شدِّة مظالم لا تُحصى، منها التشرّد والجوع.. ومنها الإدمان والفساد والانحلال
الخُلُقيّ.. هذا غير الاستبداد والحروب والقتل
والسرقة.. وما هذا إلاَّ إعلان واضح، على أن العالم يئن والإنسان مجروح،
البشريّة كلَّها صارت خاضعة تحت نير الألم الثقيل.
الإنسان
مجروح جُرحاً عميقاً، جُرح الفقر المُميت الَّذي صار يذبح الناس ذبحاً،
فمعظم البشر يحصدهم الموت حصداً،
بسبب القحط الَّذي عمَّ بلاد كثيرة! فأصبحت الغالبية العُظمى تئن صباحاً ومساءً من قسوة وألم الجوع، وأقلِّية يتنعَّمون
ويتلذَّذون، إلاَّ أنَّهم هم أيضاً يئنون! ولكن بسبب الثراء الفاحش وما ينتج عنه
من شر وفساد! وبين الأثرياء والمعدُمين قِلة لا قيمة لها، أو قل لا ذِكر لهم في
التاريخ، الَّذي لا يشغل صفحاته بهؤلاء وغيرهم من المُعذَّبين المهملين...
يكفيه أخبار العُظماء والأثرياء والمشهورين.
في
إحدى الجرائد قرأت خبراً تحت عنوان (زفاف
أُسطوريّ)، يصف لنا احتفال ملك بروناى بزفاف
ابنته، يقول الخبر: كان بريق الذهب
والماس، أشد من سطوع أشعة الشمس في سماء السلطنة، فمن الذهب صُنِعت المقاعد
والأطباق وأدوات المائدة، وبالمجوهرات الثمينة زُيِنت
الملابس والأحزمة والساعات وحضر الحفل (6 آلاف) مدعو،
أقاموا في قصر يبلغ عدد حجراته (1778) حُجرة، أمَّا عن الهدايا فأثمنها عربة
رولزرويس تم تحويلها بمعرفة صُنَّاع
بروناي، وبكمِّيات من الذهب وأمتار من الحرير.. إلى ما يُشبه
عربة الزفاف الملكيّة، وخلف زجاج العربة جلست الأميرة تحمل باقة الورود: الأفرع
من الذهب والأوراق من الماس! لقد
صُنعت كراسي (6 آلاف) مدعو من الذهب! في
الوقت الَّذي ينام ملايين البشر على الأرصفة في الشوارع! وعلى الأرض في المنازل! فأيّ عالم
هذا الَّذي نعيش فيه وأيّة أرض تلك التي تحملنا!! إنسان يموت جوعاً وإنسان
يموت شبعاً!!
ولا
شك أنَّ الانحلال الخُلقيّ الَّذي
اشتعلت نيرانه وغزا نواحي كثيرة من حياتنا،
أضاف إلى جروح الإنسان جُرحاً ما أشد ألمه! لقد
صار الجنس إله هذا العصر، وما أكثر الَّذين سجدوا له وسقطوا تحت أوهامه،
فمعظم المطبوعات اليوم والأفلام هى عن
الجنس، حتى وسائل الدعاية أصبحت هى الأُخرى
تعتمد على الجنس، وهذا إعلان أنَّ الناس فقدوا هدفهم في الحياة، بل إرادتهم وإيمانهم،
وأصبحوا يتحرَّكون في دائرة بلا مركز أو مُحيط ثابت، فالسعي
وراء الجنس هو بداية النهاية، ولهذا قال أحد مؤرخي الغرب: إن الانحلال الخُلقيّ سيُدمِّرنا لو لم يُدمِّرنا الشيوعيون، لقد
تورط المجتمع الغربيّ في الجنس وامتلأ به بحيث أصبح يسيل من مسام حياته،
فأصبحت اللذَّة هى الهدف الوحيد الَّذي ينشده ملايين البشر، وأصبح المذهب المسيطر الآن هو مذهب
المتعة، فكثرت الكتابات المنحرفة، والأفلام المُثيرة..
ويبقى السؤال: هل الحُرِّيَّة أن يعيش
الناس في الفساد؟! ألم يؤكِّد بطرس الرسول، إن الحُرِّيَّة لا يجب أن تكون سترة للشر
(1بط 2: 16) ! قد نكون على صواب لو قلنا: إن الحُرِّيَّة
الحقيقيّة هى: أن أفعل ما يجب
لا ما أريد.
أيضاً
الحروب جُرحّاً كان ولا زال يؤلم البشر فالحروب التي مضت لا زالت تؤرِّق
حياتهم، والحروب القائمة تُقلق
ضميرهم، فرائحة الهواء حتى الآن مفعمة بالحقد التاريخيّ وصراعات الشعوب،
ولا زالت قصص المذابح والحروب.. التي
تنشرها الصحافة تُثير الرعب والفزع في قلوب الكثيرين فالحروب هى مظهر من مظاهر
العنف بل قمة أعمال العنف التي تُجرح الإنسان وتمزق
الروابط بين البشر، وتُدخل الحقد والكراهيّة في قلوب الناس، يكفي أنَّها تفقد الإنسان سلامه!
لقد
قامت حروب كثيرة، وحتى الآن لم تتمكّن منظَّمة دوليّة أو هيئة دينيّة في وضع حد
لها، ولعلَّ السبب في هذا هو عداوة الإنسان لأخيه الإنسان، فالإنسان منذ أن سقط
امتلأ قلبه بالحقد والكراهية والغيرة..
وإلاَّ لماذا قتل قايين أخاه هابيل؟!
كما
أنَّ للطمع دوراً خطيراً في انتشار الحروب، فالإنسان شره
للمال وكلَّما اغتنى طلب المزيد، فمن المعروف أن
سلم الطمع درجاته كثيرة ولا نهاية له، فكلَّما ارتقى الإنسان درجة نظر إلى الأبعد، أمَّا الدرجة الأعلى في سُلم الطمع
ليست إلاَّ سراباً خادعاً أو وهماً
كاذباً!
هذا عن الحروب الدمويّة، أمَّا الحروب العِلميّة
والدينيّة فلها أيضاً جروح، فالعِلم الَّذي جعل الإنسان يسبح في الفضاء ويغوص في
أعماق البحار، وأعطى له الطائرة والسيارة والكمبيوتر.. هو
أيضاً الَّذي أعطاه القنبلة الذرّيّة، التي
أنزلت الموت على هيروشيما. وهناك
وثائق تؤكِّد أنَّ الحرب الجُرثوميّة والكيميائيّة ستتحكّم في مصير كوكبنا
قبل نهاية القرن الحالي، فما أكثر الجراثيم التي يمكن أن تقضى على أُمة بأسرها،
وما أكثر الفيروسات التي لها قدرة على إحداث انهيار صحيّ شامل في قارة بأكملها!
أمَّا
الأديان فلازالت
حروب تُقام ودماء تُسال باسمها!! وها نحن نتساءل: هل يرضى الله القُدّوس بأنهار الدماء التي تُسال من أجـله
وباسم الدين؟! وكأنَّ مُهمَّة الله أن يُحيي الأموات، ومُهمَّة
الإنسان أن يُميت الأحياء!!
وهل
ينكر أحد أنَّ الخوف مزّق كيان البشر، فالخوف جُرح له جذور منذ القِدم،
وعلى الرغم من أنَّ المسيح سعى ليُحرر الإنسان من قيدين هما: الخوف من السماء
والخوف من الأرض، إلاَّ أنَّه لا زال يحيا خائفاً، ويبقى السؤال الحائر: كيف ينمو مجتمع ويتقدّم حضارياً وقد ملأ الخوف قلوب شعبه؟! فالخوف سُم
قاتل للحياة وعائق للتقدُّم، والإنسان الخائف لا يمكن أن يُبدع، أو يُطلق ما في وجدانه
من أحاسيس، والعقل الخائف المتردد حتماً سيُصيبه
الشلل، وينطفيء فيه نور الحكمة والمعرفة..
لكن
المسيح كما حرَّر الإنسان من خوف السماء، حرَّره أيضاً من استبداد البشر، عندما
نعت هيرودُس الملك بالثعلب، وسمَّى الفَريسيين بالحيَّات أولاد الأفاعي، وشحذ فكر
رؤساء الكهنة والكتبة حرّاس شريعة موسى، وأمسك سوطاً وهو إنسان فقير ولا يحمل سلطة
وضرب باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة.. السوط الَّذي أرعب البشريّة يمسكه المسيح لا ليجلد
البشر بل
روح الوثنيّة وشبح الماديّة، ويطرد روح الشر من هيكل الله..
وهكذا زلزل ابن البشر في ثورته العارمة أركان الأمة اليهودية فتلعثمت قلوبهم،
واضطربت سيوفهم، وخجل قوادهم وعلماؤهم، وهرب التجّار والعبيد والحراس.. ولم يجسر أحد أن يتصدّى له أو يرد عليه أو يدنو منه، لأنَّ من يجعل
كتب السماء شبكة يصطاد بها أموال البشر هو خائن لشريعة السماء، ومن يُقلّده المؤمنين سلطة
فيمتشقها سيفاً ويرفعه فوق رؤوسهم مُراءِ، ومن
يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالحبال، ويقبض
عليها بيد من حديد وأخرى من نار.. ولا
يتركها حتى تنسحق وتتبدد كالرماد ظالم، هو ذئب
كاسر! يدخل الحظيرة فيظنه الراعي خروفاً
وينام مطمئناً، وعند مجيء الظلام يثب على النعاج ويخنقها، وهو نهم يحترم موائد
الطعام أكثر من مذابح الهيكل، ومحتال يدخل من شقوق الجدران ولا يخرج إلاّ
بسقوط البيت، ولص صخريّ القلب،
ينتزع الدرهم من الأرملة والفلس من اليتيم!
الإنسان
مجروح أيها الأحبَّاء لأنَّه عطشان إلى شئ عظيم اسمه: الحُرِّيَّة! التي أصبحت
كلمة نسمعها ونقرأ عنها، ولكن لا يعيشها الكثيرون..
كلّنا نرى العصافير فوق أغصان الشجر،
وهى تتراقص فوق الأوراق، في
سعادة غامرة لا تُبالي بما يُحيط بها، ولكنَّها تقفز في غير خوف أو قلق، لست أعرف
عنها شيئاً لكنِّي أُدرك أنَّ
الحياة تسرى في كيانها وحيويّة غامرة تتدفّق فيها وأدرك أنَّ كل هذا إنَّما هو ثمرة
من ثمار الحُرِّيَّة...
لقد
حصلت شعوب كثيرة على الحُرِّيَّة، لكنها للأسف الشديد لم تحصل على عالم أفضل كما
كانت ترجو! وما تزال الصحف تنقل إلينا صوراً أكثر
عن الظُلم والاستغلال والرياء.. بصورة تُضاهي بل تفوق أحياناً ما كان يجري في أيام
الملوك المستبدين، وها هى تحيا في
نكسات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة..
يجب أن نعرف أنَّ احترام المجتمع لحُرِّيَّة
الفرد، قانون إلهيّ وليس منحة أو هبة يمنحها إنسان لإنسان لآخر، والعدالة
كما يقول سقراط الفيلسوف: ليست
منحة من القاضي وإنَّما هى حق للمتقاضين عليه أن يوفرها لهم،
أمَّا حياة الإنسان فهى دعوة إلهيَّة خاصة به، ولا معنى للدعوة الإلهيَّة إذا
سلبناها الحُرِّيَّة، والويل لمن يحتقر إنساناً ويُحاول أن يذلَّه ويسلب حُرِّيَّته
أو يكبح النار الإلهيّة المُقدَّسة المشتعلة في وجدانه.
كل
المجتمعات التي احترمت حُرِّيَّة الإنسان، تقدَّمت
وازدهرت حضارتها وأبدع أُدباؤها
وفنانوها ومفكريها.. أمَّا الَّذين داسوا على كرامة
الإنسان واحتقروا آدميَّته، وقتلوا حُرِّيَّته عاشوا في ظلام، ويبقى السؤال: كيف يمكن
لمجتمع أن ينمو ويتقدّم،
وقد تحوّل شعبه إلى قطيع قُطعت
عنه سُبل التفكير، واُلغيت شخصيَّته، وكل
النظرات توجَّه إليه على أنَّه عبد ذليل!!
أمَّا
الجرح الأعظم في حياة الإنسان فهو عدم
معرفته
لله معرفة حقيقيّة، فرغم انتشار الثقافة، واتَّساع
الكرازة، ونمو الوعي الدينيّ، إلاَّ أنَّ كثيرين لم يخلصوا في علاقتهم بالله! ولهذا
يجب أن نعرف أن الله خلق الإنسان وكوّنه،
بحيث أنَّه لا يقدر أن يعيش بدونه، فنحن كما قال القديس
أُغسطينوس: " خرجنا من عند الله وستظل أرواحنا هائمة إلى أن تلتقى بالله
".. ولهذا مهما امتلك الإنسان وتنعم فلن يسعد
طالما هو بعيد عن الله.