إنَّ
كلمة الحُب شغلت قلب وفكر الإنسان منذ أن وجد، وستبقى تشغله إلى أن يتوقف نبض قلبه!
لأنَّ الحُب هو الشيء الوحيد الذي سيُرافق الإنسان بعد الموت، فالعالم سيزول
وشهواته تمضي معه، أمَّا الحُب فسيبقى لأنَّ " المحبة لا تسقط
" (1كو13: 8).
ولهذا
أراد الله أن نعرف الحُب على الأرض، لنتذوق رشفة من ماء الحياة الممزوج برحيق
السماء فنشتاق للشراب النقي الذي لا تشوبه مرارة، وربَّما كان هذا هو السر في تلك
المِسحة الإلهية، التي نراها على جبين المُحِبين وكأنَّهم صعـدوا على أجنحة
حُبّهـم إلى السماء، فمُسحوا على جبينهم ثمَّ عادوا إلى الأرض ليحيوا لا كبشر بل
كنجوم تُضيء في ظلام الحياة! ألم يقل فيكتور هوجو شاعر فرنسا: "
التقيت في الطريق بشاب فقير جداً يُحِب، كانت قُبَّعته رثّة، ومعطفه مُمزقاً،
والماء يتسلل من حذائه، ولكنَّ النجوم كانت تطل من خلال روحه، والنور يُشرق من
سماء وجهه " !
لقد
خلق الله الإنسان من تراب الأرض، ثمَّ نفخ فيه أنفاس الحُب، فالله محبَّة
وكل ما يصدر منه هو حُب ويدعو إلى حياة الحُب، ولو تأمَّلنا الخليقة لرأينا أنَّ الكون
بكل حركاتـه يُشير إلى الحُب فرياح الصباح تهُب لكي توقظ الأوراق النائمة على
أشجار الحُب، والليل يأتي بظلامه لا ليُخيفنا، بل ليدعو الناس إلى الصلاة في أعظم مخدع
ألا وهو: مخدع الحُب! نستطيع أن نقول: إنَّ قصة تكويـن الجنس البشريّ مكتوبة
بأعظم لغة ألا وهى:
لغة الحُب!
الحُب
في معناه الساميّ " حل "، ولكنَّ البشر صنعوا " مشكلة
" عندما لوّثوا وجه الحُب بمفاهيمهم الخاطئة، فغلّفوا الحُب الطاهر،
بغلاف الشهوة الدنسة والنفعيّة، فصار الحُب مشكلة الإنسان الذي عرف أنَّ الله محبّة،
ولكنَّه عاجز حتى اليوم عن حُبِه أو حُب غيره محبّة صادقة!
إنَّ
الحُب في نظر المسيحيّة لم يعد مجرّد هوى عنيف، يتَّخذ من الآخر واسطة لتحقيق أمله في السعادة، أو إشباع
عواطفه المضطربة! بل اتِّجاهـاً روحانيّاً يسمو بالغـريزة، وينظر للمخلوق
البشريّ على أنَّه كائن قد خُلق على صورة الله، ويتَّجه نحو الآخر لا لكي
يُدنّسه ويُشوه صورته، وإنَّما ليخدمه ويرعاه ويُسهم في تحقيق سعادته، ويشترك معه
في تثبيت دعائم ملكوت الله على الأرض! والحق إنَّ
المحبّة أصبحت أسمى فضائل المسيحيّة، ومهما حاولت أن أُفسِّر حُب المسيحيّ لعدوه
فلن أجد سوى هذه العبارة: إنَّه حُب فريد لا تفسير له سوى أنَّه لا يُفسر!
ولهذا كانت أعظم رسالة وجهها الله للبشر تلك التي أوصى فيها بمحبّة الأعداء:
" أحبوا أعدائكم " (مت44:5).
إننا
نحيا في عصر نرى الإنسان يذبح
أخاه بسيفٍ حاد علناً، وعلى مرأى من الجميع! وقد عقّد الحياة بما أدخله
عليها من أساليب التنافس والصراع، متفنناً في إيذاء غيره أو تحدّيه أو القضاء
عليه! ولا علاج لكل هذا سوى الحُب، الذي يُسقط ذلك الحاجز السميك
الذي يفصل بين البشر، ويُزيل من نفس الإنسان تلك الأنانيّة التي تعزله عن غيره،
ويُشعره بأنَّ الهوة العميقة، التي كانت تفصل بينه وبين الآخرين قد زالت تماماً!
ومعنى هذا:
إنَّ
الحُب هو الذي يُخرج الإنسان من قوقعته الذاتيّة ليندمج في الآخرين، بـل
يتّحد مع الإنسانيّة بأسرها! والحق إنَّ أُناساً كثيرين بقوا قساة، غيورين لأنَّ
قلوبهم لم تنبض بذلك الإحساس الجميل، ولو سلّطنا عليهم أشعة الحُب لاستطعنا
أن ننزع من قلوبهم تلك الكراهيّة السوداء، وأدركنا أنَّ وراء أسوار قلوبهم
الغليظة، تكمُن نفوس ساطعة تستطيع أن تُرسل ما لا حصر له من الأضواء! فهل
نقول:
إنَّ
الحُب هو نار تُطهّر معادن النفوس، وتُزيل الشوائب من داخل القلوب؟ وهو قطعة
سكر! يستطيع الإنسان أن يُذيبها في حياته المائعة، فيشرب كل يوم من مائها
الحلو متلذذاً فتهدأ حواسه، وتتعزى نفسه، فما من إنسان إلاَّ واختبر طعم مرارة
الحياة التي تجرح حلق البشر، وما الحُب سوى تلك العذوبة التي تُقلل من حِدة مرارة
الحياة إن لم تُزلها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق