مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 2 مارس 2012

الجلجثة جبل الآلام


ظل موكب المجرمين يسير فى طريق الصليب.. إلى أن وصل إلى قمة جبل، إنَّها الجلجثة، تلك البقعة القاحلة الجرداء اللعينة التي يحوّل كل عابر وجهه عنها، حيث تخضّبت بدماء القتلى والمجرمين..


على هذا الجبل قُطعت الشجرة المثمرة الثمر الجيد بين البشر! عليه صار القدوس هزءاً، ولا نستطيع أن نميزه من بين اللصين اللذين صُلب معهما! فظهر المخلص متجلياً بأعظم تاج، فآلام الأشرار ضفرت إكليل المحبة ووضعته على رأسه..


ولكن صبراً فهذه البقعة المليئة بجماجم الموتى، ستتحول إلى الجبل الذى يأتى منه العون، حيث الخلاص الأبديّ، وأورشليم التى أهانت مُخلّصنا ورفضته، ستمجده بعد أيام، فصباح القيامة آتٍٍٍ لكي يمحو بنسيمه سطور الأسى من على جبهته! سيأتي الربيع ليُنقّي الكون من أوحال الشتاء، فأعمال يسوع لن يكفّنها الدهر، أو يدفنها فى صدور الحياة!


بعد قليل سنسمع وقع المطر على الأوراق، وترنيم الجداول بين التلال، وسقوط الثلوج على رؤوس الجبال، ستتراجع أمواج الشر لكى لا تغرق بهياجانها الوجود، فالشجرة النابتة فى الكهف ستثمر، البلبل المسجون فى القفص سيحوك عشاً من ريش حُبه لفراخه، القيثارة التى طُرحت تحت الأقدام سيحرك النسيم بأمواجه ما بقى من أوتارها لتعزف لحن الخلود!


ولكن قبل أن يحدث هذا لابد من وقوع كارثة رهيبة، وهى موت المسيح على خشبة العار، فحياة العالم تنبعث فقط من موت البار، أما الخشبة فستنتصب فوق قمة الجلجثة.


معناهـا


أما كلمة جلجثة فمعناها جمجمة " فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ جُلْجُثَةُ " (يو17:19)، وقد قيل إنَّ هذا الموضع دُعي هكذا للآتى:


+ لكثرة ما طُرح فيه من جماجم القتلى.

+ لأنَّ المكان يأخذ شكلاً دائرياً يُشبه الجمجمة.

+ وهناك تقليد يقول: إنَّ نوحاً عندما دخل الفلك أخذ معه جسد أبيه آدم، وعندما خرج منه وزع أعضاء الجسد على أولاده، فكان نصيب سام الذي استقر فى أورشليم رأس آدم فأخذها ودفنها فى هذا المكان، وفي هذا يقول القديس كيرلس الأورشليميّ: " لقد تألّم الرأس فوق موضع الجمجمة لأنَّه رأس كل رياسة ".


موقعهـا


يرى بعض المفسرين: إنَّ الجلجثة تقع فى وسط العالم، مستندين فى ذلك إلى قول داود النبيّ: " فَاعِلُ الْخَلاَصِ فِي وَسَطِ الأَرْضِ " (مز74 :12).


ولَعَلَّ هذا هو السبب أننا نُصلي فى قطع الساعة السادسة من صلوات الأجبية ونقول: " صنعت خلاصاً فى وسط الأرض كلها أيها المسيح إلهنا عندما بسطت يديك الطاهرتين على عود الصليب فلهذا كل الأمم تصرخ قائلة المجد لك يارب ".


وهذا يعنى: كما أنَّه بواسطة الشجرة التى فى وسط الفردوس دخل الموت إلى العالم، هكذا أيضاً بواسطة الصليب المقدس، الذى صُلب عليه مُخلصنا الصالح فى وسط العالم نلنا الخلاص.


هناك سمّروه


وصل المُخلّص إلى الجلجثة ليبدأ فصل جديد من مأساة الصليب، وهو تسمير جسد يسوع على الصليب، فبكل قسوة ينزع المتوحشون الثياب من على جسده فيقف بينهم عارياً، لا يُغطيه سوى الدماء وهو الذي يتسربل بالنور كثوب ويترصّع طرف ردائه بنجوم السماء، أمَّا إكليل الشوك فظل كما هو يُظلل رأسه المقدسة.


وبعد أن عروه وضعوه على الخشبة فنزفت دماؤه عليها، ثم يشدان بعنف ذراعيه المقدستين على ذراعى الصليب، فظهر يسوع كطفل وديع يستقر على ذراعي أمه! والقدمان توضعان فوق بعضهما مثلما رُبط إسحق فوق الحطب على جبل المُرّيا، لكنَّ الصوت الذي نادى من السماء حينئذ قائلاً: " لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً " (تك12:22)، هذا الصوت صامت فى الجلجثة!


ويمسك الجلاّدون بالمطرقة والمسامير وكأنَّها مُحمَّاة فى أتون الجحيم، وبدون أي اعتناء يدقون المسامير فى أقدس وأطهر يدين ورجلين، وتنهال ضربات المطرقة الثقيلة التى تهز القلوب، لتشهد فى أُسلوب مرعب عن خطايا البشرية وغضب الله.


لقد غاصت المسامير.. فتدفّقت دماء القدوس من يديه ورجليه، شقت المسامير صخرة خلاصنا ففاضت بماء الحياة، وعندما نفذت فى جسد البار ثقبت الصك الذي كان ضدنا مسمّرة إياه بالصليب، ودخلت فى رأس الحيّة القديمة المدعوة إبليس، فأهلكتها وأبادت سلطانها، فيسوع كما قال مار يعقوب السروجى:

" بسط ذراعيه على الصليب كالأغصان، ونثر أثماره فى الأرض الميتة، بمسامير يديه ثقب مرارة الحيَّة التى تُسمى التنين، لئلا تملأ الأرض بغشها المرذول ".


كان يجب أن تُسمّر أرجلهم السريعة إلى سفك الدماء، وأيديهم التي تلطخت بدماء الأبرار، ولكن ها هم يُسمّرون اليدين اللتين باركتا الخمس خبزات والسمكتين، فأشبعت ألوف الرجال والنساء والأولاد، والقدمين اللتين جالتا فى شوارعهم تصنع الخير بين الناس غير متذكرين أن بلمسة يده انفتحت أعين عميان، وعلى قدميه سار ساعات لكي يُخلّص خطاة، وأمامنا السامرية شهادة صادقة.


لم يُدركوا أنَّ يسوع مد ذراعيه على الصليب ليمسك كل أقطار المسكونة، وعندما بسط يديه على الصليب بدت أصابعه المُغطاة بالدماء كأغصان الرياحين المحاطة بالياسمين، ففى صليبة نهض مر الأرض ليُلاقي لُبان السماء، وفى كلماته سمعنا أُنشودة السماء تُعزّي ساكني الأرض، قَبِـلَ أن يُسمر ليُسمّر العالم للبشر، وهل نُنكر أنَّ يسوع بسط ذراعيه لكي يجذب إليه الخطاة؟! ألم يمت لتموت معه الخطية وننهض نحن فى البر؟!


إننى كلَّما نظرت إلى يسوعي البار وهو مُعلّق على الصليب، أشعر أننى أرى طائراً سماوياً يبسط جناحيه استعداداً للطيران، وقبل أن يضمحل آخر بريق فى عينيه ارتسمت ابتسامة قدسيّة على شفتيه هى أشبه بالنسيم، الذى يأتى قبل نهاية الشتاء مبشراً بقدوم الربيع، فصار وجهه كليلة لا ظلمة فيها، وكنهار ساكن الذى لا يعرف ضجيج البشر، وإن كان يبدو كئيباً إلاَّ أنَّه كان ممتلئاً بفرح الخلاص الذي قدّمه للبشر!


وأخيراً انتهت مأساة التسمير، وها هم يستعدون لرفع الصليب من على الأرض، لينتصب مرتفعاً إلى السماء، وقد تم ذلك بتقريب الصليب من حفرة كانت قد حُفرت له، ويمسك رجال أقوياء بحبال رُبطت بقمة الصليب ويجذبونها بقوة، والصليب يرتفع إلى أعلا حاملاً الذبيحة عليه إلى أن ينتصب. وهكذا ترفض الأرض بقسوة رئيس الحياة وتلفظه مـن فوق سطحها!!


وما أن رُفع الصليب حتى تدفق من جروح المصلوب نبع أحمر هو دمه الطاهر، إذا مس القفار تزهر كالنرجس، وحيث يتساقط ما كان دنساً يصبح نقياً، وعندما يُرَشْ على قوائم أبواب قلوبنا، تصير فى أمان من سيف المهلك، وبدونه لا حياة ولا أمل فى حياة.


انتصب الصليب ليبقى يسوع وحده، مُعلّقاً بين السماء والأرض، كعمود من نور فاتحاً ذراعيه أمام اللانهاية لاحتواء ظلام الكون وظلام البشر، ناظراً من وراء حجاب الموت إلى أعماق الحياة ، وإن بدا كشبح مُكلّل بالأشواك تغطية ظلمة حالكة، إلاَّ أنَّه فى الحقيقة هو كوكب الصبح المُنير!


وهكذا تَفرّق الجمع وأسرعوا إلى مضاجعهم المُظلمة، لأنَّ أغانى الملائكة المتموّجة فوق شهيد الحب، لا تدخل آذانهم المسدودة بتراب الحقد، أسرعوا من هذا المكان المملؤ برائحة البخور، هكذا الخنازير ترفض استنشاق العطور الذكية، واللصوص الخاطفة تهاب سيد البيت وتخشى قدوم الصباح!


وهرب التلاميذ!! وكان لابد أن يهربوا، فما الذى بقى من مُعلّمهم فى نظر الناس والمجتمع: بقايا إنسان، وبقايا نبى، وبقايا معلم فشل فشلاً ذريعاً، وصُلبت دعوته، ونُزف دمه كما نزفت كلماته، ولم يبق منه إلاَّ هيكل بشري مُعلّق بمسامير حادة قوية مثل ذبائح الحملان، كأنَّ القوة الخارقة التى لازمته فى حياته فارقته إلى غير رجعة، والهالة المجهولة التى اختلطت به أثناء حياته وتعاليمه سقطت وذهبت كالأحلام والرؤى.


وإن كان لم يبقَ من التلاميذ إلاَّ يوحنا، فهذا لا يعنى أنَّه كان يملك شجاعة أعظم منهم، وإنَّما لأنَّه كان على صلة ودية مع أهل بلاط الوالي ورؤساء الكهنة، فلم يخشَ على ذاته أذية.


ذهب الجميع، وهرب التلاميذ، وعادت النسوة إلى بيوتهن، وقد أدّين ما عليهن من واجب البكاء والعويل.. وبدت الطبيعة فى الغروب هزيلة، كئيبة، لقد ظنوا أن المأساة قد انتهت، وسينزل ستار الليل وتُطفأ أنوار الحقيقة، ونسى البشر أن الحقيقة لا تُخفى والحق لا يموت! فالصليب قد انتصب متجهاً إلى السماء، وما هذا إلاَّ علامة الرفعة، والصالبون واقفون تحت أقدامه، وما هذا إلاَّ علامة عبوديتهم لمن صلبوه، وهل تعاند العين سهماً ولا تفقأ؟! أو تناضل اليد سيفاً ولا تقطع؟!


يقول مارإفرآم السريانى:

" لقد نصبوا صليبه عياناً على تلّة ثم نزلوا فجلسوا عند أقدامه، فبهذا الرمز صوروه جالساً على عرشه، بينما هم موطيء لقدميه " .


وهكذا صار الأشرار فى القاع كمستنقعات خبيثة تدُب الحشرات فى أعماقها، وتتلوى الأفاعى فى جنباتها! وإن كانوا قد ظنوا أنَّهم سمّروا المحبّة وفنوا العدل معه تحت صخرة الظلم، ولم يتلو فوق جثمانه صلاة الأموات كيلا تقوم له قيامة، فقد فاتهم أنَّ الحياة ستغلب الموت، ومعه سوف تنتصر القيم التى لا تمسها يد الفناء!


والآن أتُريدون أن تعرفوا من قتل يسوع؟ الرومانيون أم كهنة اليهود؟ فأعلموا أنَّه لا الرومانيون قتلوه ولا الكهنة صلبوه! ولكن العالم بأسره وقف تحت التلة ليُعطيه حقه، من الاحترام على ما أعطاه من دمه وحُبَّه، فما من رجل يربح الكل إلاَّ الذي أعطى الكل!


الخل والمرارة


اعتاد العسكر الرومانى أن يُقدّموا للمحكوم عليه بالإعدام خلاً أو خمراً، لتسكين آلامه بإسكاره وتخديره، ولهذا قدموا ليسوع خلاً ممزوجاً بمرارة ليشرب، أما هو فبعد أن ذاق رفض أن يشرب (مت34:27)، وإلى هذا الحدث قد أشـار داود النبى بقوله: " وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًًّ " (مز21:69).


أمَّا السبب الذى من أجله رفض المسيح أن يشرب: هو رغبته فى احتمال الآلام بإرادته الحرّة، لأنَّه لأجل هذه الساعة قد أتى ولهذا " بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاّ ًفَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ " (يو19: 28ـ 30).


بهذا كافئوا من كان يجول في كل مكان يصنع خيراً، فعوض المن الحلو الذي أكلوه فى البرية أعطوه المر، وعوض المياه التى أخرجها لهم من الصخرة مزجوا له الخل، أمَّا الرب فإن كان قد تألم من مرارة الخل، إلاَّ أنَّه تألم أكثر من مرارة خطاياهم.


عِلّة صلبه


جرت العادة قديماً من أجل إيضاح العدالة، والتشهير بالمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام صلباً، أن تُكتب علّة صلبهم على لافتة توضع فوق رؤوسهم، لإعطاء عامة الشعب فكرة عن نوع تهمتهم، فيعرفون سبب صلبهم فيحتقرونهم، ولهذا كتب بيلاطس لافتة عليها " يسوع ملك اليهود " وجعلها أعلى (مت37:27).


وعلى الرغم من أن هذه العبارة، قد قصدوا بها تعيير المسيح وتحقيره واتّهامه بأنَّه ادّعى المُلك، إلاَّ أنَّها دون أن يدروا تحّولت إلى كرامة ومجد له، لأنَّه لا يوجد أي نوع من الجريمة منسوب إليه فلم يُذكر أنه مخلص كاذب الاسم، أو ملك مغتصب وقد شهد لذلك بيلاطس البنطيّ، الذي كان يعلم جيداً أنَّ اليهود قد أسلموه حسداً، وأنَّه لم يعمل شيئاً يستحق عليه الموت إذ قال: " وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟" (مت27: 18،23).


قديماً أرسل بالاق ملك موآب إلى بلعام بن بعور ليلعن بني إسرائيل، فبدلاً من أن يلعنهم باركهم ثلاث دفعات (عد10:24)، وهكذا فعل بيلاطس فبدلاً من اتّهام المسيح كمجرم أعلن دون أن يدري أنَّه ملك، وذلك ثلاث دفعات إذ كتب عبارة: " يسوع ملك اليهود " بأشهر ثلاث لغات فى العالم فى ذلك الوقت ألا وهى: اليونانيّة والرومانيّة والعبرانيّة (لو23: 38).


أمَّا اللغة اليونانيّة فهى: لغة الحكماء والفلاسفة، والرومانيّة: لغة الرومان أكثر الأمم قوة فى ذلك الوقت، والعبرانيّة: لغة شعب الله وهم اليهود، ولهذا قال القديس كيرلّس الأورشليميّ :

" كتبها بالعبرانيّة واليونانيّة والرومانيّة، ليحقق بالثالوث أنّه ملك على الجميع، الشهود ثلاثة والشعوب ثلاثة ".


لكنَّ الحقيقة التي لم يفهمها بيلاطس، كما أنَّ اليهود لم يدركوها هى: إنَّ المسيح لم يأتِ لكي يملك على أُناس مُلكاً أرضياً، بل على قلوب المؤمنين مُلكاً روحيًاً، وهذا قد تحقق بالفعل على الصليب، فالمسيح تولى المُلك بآلامه وموته، لأنَّه على الصليب اشترانا بدمه الثمين، وهكذا ملك على العالم وصارت له مملكة روحية يملك فيها على المؤمنين.


والعجيب أنَّ بيلاطس واليهود لم يفهموا معنى مُلك المسيح، في حين أنَّ المجوس الوثنين وهم طغمة كهنوتية وعلماء فى الفَلكْ والتنجيم قد فهموه، ولهذا جاءوا من بلاد المشرق وهم يحملون معهم أكياساً مليئة بالهدايا للمولود ملك اليهود، وقد كان من بين تلك الهدايا الذهب الذي يرمز إلى مُلكه (مت2: 11).


لاشك أنَّه منظر عجيب بل ومثير للدهشة، أن نرى ملك الملوك يموت كالخطاة المجرمين!! وهذا ربَّما يدفع بالكثيرين إلى الشك قائلين: كيف يُعلّق ملك الملوك على خشبة؟ أين المجد؟!! أين البهاء؟!! أين العظمة؟!! أين القوة؟!!


لكنَّ الحقيقة إنَّ من يشك يعوزه الإيمان والفهم، وليس المسيح هو الذى ينقصه المجد والبهاء والعظمة والقوة.. وإن أردت أن تتحقق من هذا، فعليك أن تفتش الكتب المقدسة، لترى أن آلامه كانت السلم الذى ارتقى درجاته ليجلس على عرش ملكه.


إنَّ داود االنبيّ الذى تحدث عن آلامه أكثر من جميع الأنبياء، هو الذي قال: " الرَبُ قدْ مَلَكَ عَلى خَشَبة " (مز95).


وإشعياء النبيّ الذي تكلّم عن المسيح المجروح لأجل معاصينا (إش5:53)، هو الذى تنبأ عن ميلاده قائلاً: " لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَد " (إش9: 6، 7).


فلا يعثرك الجو المظلم الذي أحاط بالصليب، ولا السحابة القاتمة التي أخفت مجد المصلوب، لأنَّ عين الإيمان تنفذ من خلال كل ذلك، لترى ابن الله وهو جالس على عرش مجده، وحوله رؤساء الملائكة يجثون على وجوهم، من أجل عظمة بهاءه غير المنظور ولا المنطوق به، ألسنا نرى من خلال ظلام الليل نجوم السماء؟‍‍‍‍!


إنَّ يسوع المرذول الذي بلغ فى موقفه أقصى درجات الاحتقار، ظهر مجده وعظمته وسلطانه كإله السماء والأرض وهو مصلوب، ولذلك فزعت الطبيعة من منظره وهو على الصليب حتى إن الشمس أخفت شعاعها والقمر لم يعطِ ضوءه..!


لقد كان يسوع عظيماً فى ميلاده وحياته وأيضاً فى صلبه، أمَّا سر عظمته فقد ظهر بوضوح مُعلناً أن العظمة الحقيقية، ليست فى المال، أو الجاه، أو السلطة، أو القوة الجسمانية، لكنَّها كائنة في الحياة الداخلية ذات المباديء الروحيّة السامية، ونقاوة القلب، وحياة التقوى، والنُصرة على النفس وكبح شهواتها، والمحبة الباذلة من أجل الآخرين.


أمَّا الذين يظنون أنَّ العظمة فى غير ذلك، فهؤلاء نفوسهم ضعيفة، وقلوبهم ملوثة، وضمائرهم سقيمة، وهم يحصلون على ظل العظمة لا حقيقتها، ولا يلبث لُباس عظمتهم الزائفة قليلاً حتى يتمزق، فيكشف عما تحمله حياتهم الخفية من غش ونفاق وفساد..


فلا عجب لو قلنا: إنَّ اليهود الذين ظنوا أنَّهم أقوياء عندما صلبوا المسيح، هم فى الحقيقة ضعفاء أمام حسدهم وغيرتهم، ضعفاء أمام شيطان القسوة ونكران الجميل، أمَّا المسيح فقد كان الأقوى فى محبته وبذله وتحطيمه لمملكة الشيطان وتتميم الفداء وفتح باب الفردوس مرَّة ثانية، بعد أن كان قد أُغلق بسبب خطية آدم، ولهذا يقول البابا أثناثيوس الرسوليّ: " يا من صنعت بالضعف ما هو أعظم من القوة " !


تقسيم الميراث


أراد رب المجد الغنى فى كل شيء، أن يترك لنا ميراثاً كان يملكه وهو على الأرض، تُرى ما هو ذلك الميراث؟ إنَّه ثيابه التي نزعوها عنه عندما سمّروه على الصليب، لقد تركها ميراثاً للعسكر، أمَّا نحن فقد ترك لنا سلامه وتعزياته.


ولهذا قال أحد الآباء: " لما فارق يسوع العالم ترك نفسه للآب، وجسده ليوسف، وثيابه للعسكر الذين صلبوه، وأمه ليوحنَّا، أمَّا أولاده المؤمنون فترك لهم سلامه، لامنصباً ولا غنى ولا شرفاً ".


قديماً كان لباس اليهوديّ يتكوّن من خمسة أنواع، فهناك الأحذية والعمامة والمنطقة والثوب الداخليّ والرداء الخارجيّ، خمسة أشياء يجب أن توزع على أربعة جنود، فقد جرت العادة أن تكون ثياب المحكوم عليهم بالإعدام هى أُجرة منفذى الحكم، فأخذ كل واحد نصيبه وبقى الثوب الداخليّ، الذى كان يسوع يرتديه تحت ردائه البهى، وهو قميص منسوج بجملته من من المحبّة النقيّة، بلا عيب ولا خياطة، فمحاولة تمزيقه إلى أربعة يجعله بلا منفعة، فاقترعوا عليه وسعيد الحظ هو الذى كان من نصيبه (يو19: 23، 24).


أمَّا من الناحية الروحية، فالثوب يُشير إلى الإيمان الذى رفض المسيح أن يشقوه، لأنه لم يشأ أن يقسم أحد إيمانه، بل تركهم يقترعون عليه وفازت بالقرعة الشعوب الغريبة لكى ينالوا الإيمان، وينضم صوتهم إلى صوت إشعياء النبى قائلين:

" فَرَحاً أَفْرَحُ بِالرَّبِّ تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ، كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ مِثْلَ عَرِيسٍ يَتَزَيَّنُ بِعِمَامَةٍ وَمِثْلَ عَرُوسٍ تَتَزَيَّنُ بِحُلِيِّهَا " (إش10:61).


يقول مار يعقوب السروجى:

" لمَّا صلبوه اقترعوا هناك عند الجلجثة على ثيابه، وفازت الشعوب الغريبة وأخذوا الثوب والإيمان بغير انشقاق ولا تقسيم ".


يظن البعض أن ذلك الثوب كان نفيساً جداً، ولهذا استحق أن يتنازعوا عليه، لكن هذا الرأي لا يتفق مع حالة الفقر الاختياريّ التى كان يبدو فيها المسيح، وقد قال مرّة: " لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ " (مت20:8).


أو لَعَلّهم سمعوا عن الذين شُفوا بمجرد لمس هدب ثوبه " وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ! " (مر20:56) ولذلك حسبوه ثميناً جداً بفضل قوة سحريّة فيه.

أو من باب الاستهزاء أرادوا أن يتظاهروا، بأنَّهم يقدّرون قيمته كثوب ملكيّ.

أو ربّما أرادوا مجرد اللهو فقد كانوا ينتظرون موته، ولذلك فكّروا فى هذا النوع من التسلية بثيابه.

ومهما كان قصدهم من تقسيم الثياب، فإن كلمة الله قد تمت كما تنبأ داود النبيّ: " يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ " (مز22: 18).


تعييرات واستهزاءات


لازال الشغب والضجيج يجتاح جبل الجلجثة، والتجديفات والتعييرات والإهانات بالكلام والإشارات.. تنهال على القدوس من عامة الشعب وقادة اليهود (مت27: 39-44)، وعلى الرغم من أنهم أرادوا تعييره، إلا أنهم دون أن يدروا نطقوا بكلمات إذا فُحصت فى النور تجد أنها تتضمن اعترافات مشرفة تشهد له!


ولست أعرف لماذا يخاطبون جثه هامدة، لم يبقَ منها سوى أنفاس متقطّعة، عمَّا قريب سوف يشتريها الموت براحة القبر؟! ولكن لا عجب فالأشباح فى ظلام الليل تصرخ وتستغيث وخيال الموت منتصب أمام عينيها، وأجنحته السوداء تُخيّم عليها، ويده الهائلة تجرف إلى الهاوية روحها‍!


لقد عيرّوه بهدم الهيكل " يا ناقض الهيكل " أي يا من تدّعى بأنك القوى القادر على كل شئ.. أرنا الآن قدرتك على الخلاص من هذا الصليب، واخرج هذه المسامير وخلص نفسك.


ولكن لاحظوا هنا كيف يؤكدون، ما قد سبق أن أعلنه المخلص بخصوص قيامته من بين الأموات، التي إليها أشار بنقض الهيكل وبنائه (يو21:2،22).


وبنفس الطريقة يُعنّفونه قائلين: " إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب "، وهنا نراهم ينتزعون من فم الشيطان كلماته التى هاجمه بها فى البرية " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً.. إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلًُ " (مت3:4،6)، لقد خُيّل إليهم أن هذه هى الفرصة الأخيرة، التى لن تعوض ليبرهن على أنَّه هو ابن الله، متناسين أنَّه قد برهن على هذه الحقيقة بالمعجزات التى فعلها وهى ما أكثرها.


هذا عن تعييرات المجتازين (عامة الشعب) أما القادة ويمثلهم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، فعيّروه بأنَّه عاجز عن أن يخلص نفسه قائلين: " خلّص آخرين وأمَّا نفسه ما يقدر أن يخلصها ".


وفى الحقيقة إن هذا الاعتراف الصريح، من جانب أعدائه يُعد فى غاية الأهمية، حيث يقدم من جديد أدلة تاريخية عن أعمال يسوع الخلاصية، كما هى مسجلة فى البشائر، فهو بشهادتهم خلص آخرين.


كما عيروه بأنه " ملك إسرائيل " وهم بذلك يؤكدون الحقيقة، أن المخلص قد انطبقت عليه هذه الصفة، إنه ملك فى ظروف كثيرة.

ثم يقولون: " قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده" ويتضح من هذا القول: إن طبيعته الإلهية قد انطبعت بوضوح على هيئته، حتى إنها لم تعد تُخفى عن الأشرار، يكفى اعترافهم الصريح بأنه يتكل على الله، أى يحيا حياة التسليم لله، الإله الحقيقى الذى يعبدونه وليس إله الوثنين.


وعبارة " لأنه قال أنا ابن الله " لا نجد فيها إلا نداءً قوياً لنا، لنصغِِ إلى برهان جديد، يأتى على فم خصومه الحاقدين أن الرب أعلن أنه هو ابن الله، ليؤكد نبوات الأنبياء والرسل وكل ما جاء فى الكتاب المقدس..


ورغم هذه التعبيرات والإهانات، نرى غافر الخطايا والذنوب يطلب شفاعة من أجلهم " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو34:23) فغطى رؤوس قاتليه الفجار بغطاء محبته، لكى يحميهم من عاصفة غضب الله العظيم العادل، حملهم على أذرع محبته، وصعد بهم فوق حيث عرش أبيه، ليسأل الرحمة من أجلهم!

ليست هناك تعليقات: