العبد هو يهوذا الإسخريوطيّ، الذى اختاره المسيح ليكون له تلميذاً، وقد غمره بمواهبه وإحساناته، وأعطاه سلطاناً كسائر التلاميذ.. فصنع المعجزات مثلهم وأخرج الشياطين، وفى نفس الوقت كان كارزاً بين اليهود، ومُعلّماً للخطاة، مع أنَّه كان فى الداخل بعيداً عن تعليم المسيح!
عهد إليه المسيح بمهمة ألا وهى: أمانة الصندوق، فصار مُدبّراً للمال، وليّاً على الفقراء والمساكين، وإذ كان طمّاعاً نهب ما كان يوضع بالصندوق، ولهذا السبب انتقد مريم عندما سكبت الطيب على قدمي يسوع فى بيت سمعان الأبرص (يو12: 6)، معتبراً نفسه من المحسنين، المدبّرين، فكان يتظاهر بأنّه يهتم بالفقراء، وهو يسعى لإهلاك أب الفقراء والمساكين.
لا نُنكر أنّه كان موضع ثقة التلاميذ، والدليل أنَّ ليلة التسليم عندما أعلن المسيح عن مُسلّمه، لم يخطر على بال أحد منهم أنّه يقصد يهوذا (مت21:26)، فكيف إذن سقط هذا النجم العظيم؟! كيف الذي وعظ الناس بالمسيح يسلم المسيح؟! والذي وهب النظر للعميان هو نفسه يُصاب بعمى القلوب؟! وكيف الذي أخرج الشياطين يدخله الشيطان؟! لماذا تحوّل الحمل إلى ذئب وبدأ يعض راعى الخراف؟!
لابد أنَّ خطية كان يهوذا يخفيها فى قلبه، وهى التى دفعته إلى ارتكاب هذا الفعل الأثيم، لقد كانت محبة المال تملأ قلبه وهى التى جعلت الثلاثين من الفضة أفضل عنده من المسيح، ألم يقل بولس الرسول: " مَحَبَّةَ الْمَالِ اصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ الَّذِي اذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا انْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ " (1تى10:6).
إنَّ حُبّه الفضة جعله يبيع خالق الفضة، باع المجد الذى ليس له ثمن، وهو لا يدرى أن هؤلاء الأشرار لم يعطوه إلاَّ ثمن حبل المشنقة!! لأن المسيح لا يُقدّر بمال، وهكذا نسى يهوذا أننا " لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ وَوَاضِحٌ انَّنَا لاَ نَقْدِرُ انْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ " (1تى7:6)، وأنَّ " التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ " (1تى6:6).
ولم يخطر على باله أنَّ المال ليس سوى ينبوع من الينابيع الجافة الكثيرة، التي اخترعها العالم لنفسه اللهو وللمسرات.. وهو أشبه بالسراب الخادع، الذى يراه السائر فى الصحراء ماءً، وبعد أن يركض نحوه فسرعان ما يتأكد أن ما رآه إنَّما هو وهم وخيال!
قال أحد الأثرياء:
" بالأمس كنت غنياً بسعادتي واليوم فقيراً بمالي، ما كنت أحسب أنَّ المال يطمس عين نفسى ويقودها إلى كهوف الجهل، ولم أدرِِ أنَّ ما يحسبه الناس مجداً كان لي جحيماً، أهذا هو المال؟! أهذا هو الإله الذى صرت كاهنه؟! من يبيعنى فكراً جميلاً بقنطار من الذهب؟! من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة؟! من يُعطيني عيناً ترى الجمال ويأخذ خزائنى؟! ثم قام من مكانه ولمَّا وصل إلى قصره نظر إليه وأشار بيده نحوه كأنّه يرثيه وكل ما فيه وقال بصوت عالٍٍ: أيها الشعب السالك فى الظلمة، الراكض وراء التعاسة، المتكلّم بالحماقة، متى تأكل الشوك وترمى الثمار والزهور إلى الهاوية؟! متى تسكن الوعر والخرائب تاركاً بستان الحياة؟! لماذا ترتدي الثياب البالية وثوب البر قد حِيك من أجلك؟! لقد انطفأ سراج الحكمة فاسقه زيتاً، وخرّب اللصوص كرم السعادة فاحرسه، أوشكت خزائن راحتك على الإفلاس فانتبه!! ".
إنَّ حياتنا أيها الأحبّاء ليست فى امتلاء خزائنا بالأموال، ولكنّها فى امتلاء قلوبنا بالسلام الروحانيّ، سلام الله الذي يفوق كل عقل، والمال لم يكن فى يوم وسيلة للحصول على هذا السلام، لأنّه لا يمس إلاَّ الحواس الخارجية فقط، وأمَّا الحواس الداخلية فلا يستطيع أن يصل إليها، ماذا جنى عخان بن كرمى من حُبّه للمال؟ لم يجنِ سوى السرقة، وماذا فعلت به السرقة؟ قادته إلى المـوت رجماً بالحجـارة (يش25:7)، وأيضاً جيحزي تلميذ إليشع النبيّ، لم ينل من الاختلاس سوى مرض البرص (2مل27:5).
تتحوّل الحياة إلى سجن إذا غلّف المال جدران بيوتنا، عندئذ يكون المال هو السلسلة التي تربطنا فتحرمنا الخروج من منازلنا، خوفاً من أن يأتى لصوص ويسرقوا أموالنا! حياتنا على الأرض رغم قصرها إلاَّ أنّها نقطة البداية للحياة الأبدية، والمال ليس هو النبع الذى منه ينطلق النهر بين الجبال والصخور وعلى السهول.. حتى يصب فى بحر الأبدية، إنَّما القداسة هى النبع الذي منه تنطلق المياه ولا تكف عن الجريان حتى تصب فى بحر الأبدية.
شهوات أُخرى
كان حُب المال هو الباعث الأقوى لخيانة يهوذا، لكنّه لم يكن الحافز الوحيد، وإلاَّ ما اكتفى أن يأخذ من اليهود ثلاثين من الفضة ثمن تسليمه ليسوع، بل لانتهز الفرصة ليأخذ مبلغا أكبر، ولكان أفضل له أن يبقى أميناً للصندوق يختلس منه ما شاء، لكنَّ الحقيقة إنَّ شهوات أُخرى كانت تتأجج نيرانها فى قلبه، فلابد أنَّه ظن أنَّ المسيح قد جاء ليُقيم مملكة أرضية كسائر الممالك، فطمع كما طمع يعقوب ويوحنا ابنا زبدي فى منصب رفيع (مت21:20)، فلمَّا خاب أمل يهوذا عرض عنه ونفر منه، وتحوّل من تلميذ له إلى عدو ضده.
هذا وقد علل القديس يوحنا الحبيب مسلك يهوذا البشع بعبارة بليغة قالها وهى " دخله الشيطان " (يو13: 7)، ويؤكد هذا ما قاله يسوع: " أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ! قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ " (يو70:6،71).
لقد نظر يهوذا إلى ممالك الأرض الواسعة، ومدن داود وسليمان الرائعة، واشتهى أن يشهر سيفه مع سيوف التلاميذ لينتصر المسيح، ويكون له مكان على عرش فى إحدى الولايات، فما أروع المملكة فى الصباح وهى ترتدى ثوبها الفضيّ، وما أبهاها فى المساء وهى تتزين بزيها الذهبيّ، أمَّا خاتم المُلك فما أجمله بين أصابع الأمراء، وتاج العرش ما ألمعه على جباه الولاه.
ولكن يهوذا لم يخطر على باله أن وراء ما ينظر ملكوت أسمى يحكمه من غدر به! وهل يمكن لمن يحوط الأرض بجناحيه أن ينشد ملجأ فى عش مهجور؟! أم هل يرتفع الحي ويتشرّف بواسطة لابسي الأكفان؟!
إن مملكة المسيح ليست من هذه الأرض، وعرشه لم يُبنَ على جماجم الموتى، أمَّا رأسه فلم ترغب سوى تاج الأشواك، وعلى كل الذين يرغبون مملكة أُخرى غير مملكة الروح، أن ينحدروا إلى مقابر أمواتهم حيث يعقد ذوو الرؤوس المتوّجة منذ القديم مجالسهم فى قبورهم، ليعطوا مجداً لعظام جدودهم وآبائهم!
فلا عجب إن تخيل يهوذا نفسه أميراً، يُعامل الرومان بقسوة مثلما عاملوا اليهود، خاصة وأن يسوع قد تكلم عن مملكته، فاعتقد أنه اختاره قائداً ولذلك تبعه برضى، ثم اكتشف أنه لم يأتِِِ ليؤسس مملكة أرضية، أو أن يُحررهم من ذل الرومان واستعبادهم، لأنَّ مملكته لم تكن سوى مملكة القلب، ولهذا يُخيل إلي أنَّ روح يهوذا كانت تتمرر وقلبه يتحجّر، عندما كان يسوع يتكلم عن المحبة والرحمة وفضائل الروح! لأنَّ ملك اليهود الذي تمنّاه تحول فى نظره إلى عازف على القيثارة لكي يسكّن حِدة أفكار البشر!
لا نُنكر أنَّه أحبّه ولكن مثل غيره من النفعيين، ولأنَّ من طبيعة النفعيّ أن يتنقل من شخص إلى آخر حسبما تقتضى المصلحة، كان ولابد ليهوذا أن يبتعد عن المسيح، ولكنه نسى أن الأنانيّ يعيش على حساب نفسه قبل أن يعيش على حساب الآخرين!! فلمَّا رأى أن يسوع لم يحرك يداً لتحريرهم من ذلك النير، ملأ اليأس قلبه وتبددت جميع آماله، فقال فى نفسه: إنَّ من يقتل آمالي ويُبدد أحلامي لابد أن يُقتل!
الإ علان الرهيب
ورغم قصد يهوذا الشرير لم يهمله المسيح، بل نبّهه مرات، فعندما جلس الرب على المائدة ليأكل الفصح مع التلاميذ، طرح خبر موته هناك على المائدة، فقال بنبرات المحبة المتناهية والحزن الشديد " الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ وَاحِداًمِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي "، فدخل الألم قلوب التلاميذ وأرعبهم وبدأوا ينظرون بعضهم لبعض ويستفسرون الواحد تِِلو الآخر " هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ ؟ ".
تُرى من يسقط من عدد التلاميذ ويفسد حسن التلمذة؟ من ذا الذي يترك صحبة الشمس المضيئة ويسير فى الطريق المملوءة غيوماً وظلاماً؟ من هو الخروف الذي حّول نفسه وصار ذئباً، وبدأ يعض راعى الخراف الصالح الأمين؟ كل هذا ويهوذا صامت ولا يريد أن يكشف عن نفسه، بل يلف نفسه بعباءة ثقيلة من الخِداع والرياء!
ويعود الرب ويُحدد ما يعنيه بأكثر توضيح " الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي "، ثم يعلن الويل على ذلك الإنسان الذي سوف يرتكب هذه الجريمة الشنعاء، فقد كان خيراً له لو لم يولد (مت25:20،26).
وتزداد حيرة التلاميذ! وينظر بطرس إلى التلميذ الذى كان يسوع يُحِبّه، إلى يوحنا الحبيب الذى كان يتكئ على صدر المسيح وقت العشاء، ويُشير له أن يتقدم إليه ليسأل عمن يتكلم، فيتقدم التلميذ البسيط المملوء حُبّاً، ويقع على صدر ابن الله ليسأله: " يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟ " فيُمزّق الرب آخر جزء من القناع الذى كان يخفي وجه الخائن ويقول: " هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ " (يو26:13).
كان من الممكن أن يعدل يهوذا عن شره، بعد سماع تلك الكلمات ويستشفع سيده فيغفر له، ولكنَّه بكل وقاحة ومكر يسأل: " هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ " متجاهلاً ما درسه، ومتناسيّاً أنَّه أمام العين التي لا تنام، أمَّا المسيح فلم يوبّخه ولم يقل له: ماذا تقول يا عبد الفضة يا عميل الشيطان؟ ألم تعلم إنّي أراك وأنت تتقدم إلى رؤساء الكهنة وتساومهم على تسليمي؟ ألم أسمعك وأنا غائب وأنت تقول لهم ماذا تعطوني وأنا أسلمه إليكم.. وإنَّما أجابه ببساطة ووداعة قلب: " أَنْتَ قُلْتَ " (مت25:26)، وفى تلك اللحظة تغلّبت على يهوذا إرادته الشريرة، وانتهى يوم خلاصه، وابتعدت عنه ملائكة السلامة فى حزن شديد، وقد دخله الشيطان بانتصار عظيم.
أخيراً قال له يسوع: " مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ " (يو27:13)، وبهذا القول أراده أن يعرف أنّه عالم بكل نواياه السيئة، لكنَّ الأحد عشر لم يفهموا هذا القول " لأَنَّ قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ " (يو13: 29).
فخرج يهوذا وعلى وجهه تتراقص أشباح الموت متهللة، وتنبعث من عينيه نظرات موجعة تتكلم عن مستقبل مر، ومن صدره تخرج ظلمة حالكة، وأفعمت رائحة أنفاسه الهواء بالخيانة، ومنذ تلك اللحظة أصبحت غرفة حياته خالية إلاَّ من التراب، صفحة خالية من القيم، ترسم عليها الرياح خطوطاً تمحوها الرياح وتتلاعب بها العواصف!
خرج اللص وكان وقت خروجه ليلاً، ليلاً فى الخارج وليلاً فى داخله، وأصـبح هذا المخلوق التعـس بجملته أداة طيّعة تحت يد شيطان الظلمة، مهيأ لارتكاب أبشع جريمة عرفتها البشرية، خرج ليعود، ولكن هذه المرّة معه جمع من المجرمين يحملون السلاح لكي يقبضوا على يسوع.
إنَّ كل الإنجيليين يصفون حادثة الصلب بساعة الظلمة، إلاَّ واحداً وهو القديس يوحنَّا الحبيب، فهو يرى ساعة الصلب، هى أسمى درجات الإشراق فى الظلمة الحالكة، أما الساعة المظلمة فى نظره فهى خيانة يهوذا لسيده، ولهذا قال: " فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ وَكَانَ لَيْلاًً " (يو27:13ـ30)، فالقديس يوحنَّا لم يذكر الظلمة عند الصلب، وذلك لأنَّ آلام المسيح هى الجانب الجوهرى للنور.
القبض على يسوع
لم يكد رب المجد يفرغ من صلاته فى بستان جثسيمانى، حتى ظهرت مصابيح، تتلألأ بأنوارها من خلال الأشجار التى قد خيّم عليها الحزن، وها جماعة من سافكى الدماء المدججين بالسلاح من سيوف وعصى تقترب فى اتجاه وادى قدرون، وكأنَّهم خرجوا ليقبضوا على لص أو زعيم متمردين (مت26: 47)!
وهكذا تراكضوا مسرعين وقـد اشرأبت أعناقهم بتشوق، لكى يحظوا بنظرة من الذي فى نظرهم قد كفر! وشارك الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجَهَنَميّة فى فضاء قريتهم! ألم يتهموه مرَّة قائلين: " هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ " (مت24:12).
وكان يتقدم الجمع رجل بوجه عابس، وعلى ملامحه شجاعة مصطنعة، يتسلل بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفه، مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف! إنّه يهوذا ابن الهلاك، ذلك الشقيّ الذي يتغطى برداء التلميذ كما يتغطى الأفعوان السام بجلده الأملس اللامع، المرائيّ الذي يخفى نفسه فى زى الرسول كما يختفى الخنجر الملوث بالدماء فى جرابه الذهبيّ، لقد كُملت الخطية فيه، وأصبح الآن يبغض يسوع بمرارة كما تبغض الظلمة النور!
سألهم رب المجد: " مَنْ تَطْلُبُونَ ؟ " فقالوا: " يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ "، فلمَّا قال لهم: " أَنَا هُوَ" سمعوا صوتاً صارخاً كما لو كان خلرحاً من أحشاء الليل! وضجة هائلة منبثقة من قلب النهار! ولهذا " رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ " (يو4:18-6)، وكأن وميضاً من البـرق قد صعقهم! أو وجّهت الشمس أشعتها برعب على الظلام فبددته! أو كأن بحر النيران اشتعل ليحرقهم! أو نسمة من القدير طوّحت بهم! فوقف يسوع ولم تتغير ملامحه، بل ظل مرفوع الرأس كالبرج أمام الزوبعة، وسالت على شفتيه ابتسامة محزنة وهو يشفق على الجمع الثائر، الذي كان أشبه بآلة قوية عمياء، فى يد مبصر ضعيف يلطمهم ويسحق الضعفاء منهم!
لمّا سمع الرجال هذا الكلام اقشعرّت أبدانهم، وارتجفت أيديهم كالأغصان اليابسة أمام الريح، وصارت ثيابهم مبللة بعرق الخوف كأنَّها خارجة من نهر الاوحال، كأنَّ عذوبة صوته قد انتزعت الحركة من أجسادهم، وأيقظت الميول السماوية الساكنة فى أعماق قلوبهم، ولكنهم عادوا فانتبهوا كأنَّ صدى صوت قيصر قد دوى على مسامعهم، وذكّرهم بالمهمة البشعة التى بعثهم من أجلها.
لقد أسقطهم الرب على وجوههم، لَعَلَّهم يحسّون بتأثير أُلوهيته غير المُدركة، وكأنَّما أراد أن يترك للعالم دليلاً عملياً، أنَّه قد صار ذبيحة ليس تحت ضغط أو إكراه بل بمحض إرادته، فياله من جبروت عظيم، فبعبارة واحدة خرجت من شفتيه ترنّحت عصابة الجناة وصارت طريحة الأرض عند قدميه، لأنَّ ليس للرمل الضعيف قوة أن يقف أمام الريح العاتية!!
أمثال هؤلاء الرجال يُخيّل إلىّ أنَّ أُمهاتهم قد حبلت بهم فى خريف السنة، وولدتهم فى العواصف الشريرة، وفى الرياح الهوجاء يعيشون يوماً ثم يهلكون إلى الأبد! لأنَّهم لم يتكلموا بغير الشر عن البار، وكانت ألسنتهم كالسهام المسمومة!
وبعد أن قام الجميع بسماح من الرب، ووقفوا أمامه مرّة ثانية كرر نفس السؤال: " مَنْ تَطْلُبُونَ ؟ " وفى هذه المرّة كان سؤال سُخريّة، فلمَّا قالوا يسوع الناصريّ، أجاب يسوع: " قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ " (يو7:18،8)، وقد دل هذا على إخلاصه الكريم ومحبته العظيمة لتلاميذه، فبينما يسوع يمضي إلى الصليب، لم ينسَ أن يحمى تلاميذه من العاصفة التى كانت تقترب منهم، وهذا ليتم قوله: " الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَداًً " (يو9:18).
قُبلة الموت
الآن يستعد النمر قبيل الوثوب على فريسته، فها أعداؤه يتربَّصون به لكي يصطادوه صيد الغزلان، ولا تزال جُعبة الصياد ممتلئة بالسهام، والحيَّة تهجم بعنف على نسل المرأة تريد أن تلدغه لدغة الموت، فتحت ستار الصداقة المزيفة يقترب يهوذا من سيده ويُرحّب به بعبارة كلها رياء، ويتجرأ ويُلوّث وجه ابن الإنسان، وبماذا لوّثه؟ بقُبلة غاشة كلها مكر وخداع.
لقد عانقه!! فما أن مد يده حتى ظهرت عظام أصابعه من تحت الجلد، كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة، وعيناه كالحفر المظلمة الممتلئة بالدماء، وخديه كالخرق المتجعدة، وشفتاه كورقتي خريف صفراء قد سقطتا من شجرة الحياة، لقد صار وجهه كصحيفة رماديّة ملتويّة، كُتب عليها بقلم معوج وبلغة شيطانية غريبة " خائن " !! وإن كان قد عانق المسيح، إلاَّ أنَّ هوة عميقة كانت تفصل بينهما، امتصت تحذيراته وحجبت الحقيقة عنه فلم يبصر ولم يسمع!!
ويصيح الخائن بمكر " سَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!! " فكانت هذه الكلمات كطعنة خنجر فى قلب البار، لكنّه يتقبلها ولم يرفض قُبلته الخبيثة، لأنَّه يعرف أنَّها قطرة سم مُزج فى كأس آلامه، فكان يهوذا يحمل سلاماً من الخارج، أمَّا الداخل فسيفاً مسموماً بسم الخيانة، من الظاهر كان كحمامة وديعة لكنَّ الخفي كان حيّة مملوءة مكراً ودهاءً!
أمَّا الرب ففى حزن وإشفاق وبأُسلوب رقيق يشابه رنين الأوتار الفضية يُجيبه: " يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ ؟ "، لماذا ترتدي ثياب الحملان وأنت من الداخل تحمل قلب الذئب؟ لماذا تجعل من رمز السلام علامة التسليم؟ لماذا تخفى الغش وتُظهر الصداقة؟ لماذا تدعوني سيّدك وسيّدك هو الشيطان؟ أنا لست سيدك ولا معلمك لأنى لم أُعلّمك الخيانة ولا السرقة، وليس أحد يعلّم هذا إلاَّ الشيطان، لكنَّ كلماته لم تُرجع هذا الشرير إلى صوابه، بل كانت تُغذي الشيطان القابض على نفسه! وهكذا نرى يسوع لم يترك وسيلة إلاَّ وطرقها، وها هو يقرع قرعة أخيرة على باب قلبه لَعَلّه يفتح، فإن لم تفلح تكون علامة برفض الخائن إلى الأبد، عندئذ يناديه الرب باسمه: " يَا يَهُوذَا " وكأنَّه لا يزال يريد أن يتأكد من صحة الأمر فيقول: " أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ ؟ " (لو48:22).
وقد كان هذا الوداع الأخير للمرتد التعس، ذلك الشقي البائس، الذي انتصرت عليه الجحيم وتخلّت عنه السماء، الذي أنكر كل الخيرات التى أخذها من معلمه وسيده، وعوض الخيرات كافأه شراً!! ولهذا يقول مار يعقوب السروجيّ مُحدّثاً يهوذا بلسان المسيح:
" لماذا ترفض جميع خيراتي أيها التلميذ وعوض الصالحات الكثيرة تكافئ بالشر؟! مِنْ أجل مَنْ تُسلّمني بغضب عظيم؟! من حسدك وأفرزك مَنْ بين تلاميذي؟! ومَنْ نصب لك فخاً وقعت فى حبائله؟! مَنْ أظهر لك أنَّ حنّان رئيس الكهنة يُحبُّك أكثر من مُعلّمك؟! أو قيافا بأي حسن سباك من عندي؟ إن أبغضتني فمن هو حبيبك، أو مُحب لك أعظم منى؟! ".
نهاية الخائن
ويعود يهوذا إلى بيته بعد أن قضى النهار أنفاسه، وغابت الشمس تاركة قُبلة صفراء على الأشجار، فشعر بأنَّ الأفاعي تتدلى من سقف بيته، وتخرج الحيات من شقوق جدرانه لتلف بذيلها الطويل السام عنقه، لقد سكنت الحركة فى كل زوايا البيت، ولم يبقَ سوى دبيب الحشرات وبرد الهجر القاسى وليل أسود مخيف!
وهكذا عشعشت رغبة الانتحار فى رأسه، وفى لحظة هى أسود لحظات حياته نفث ثعبان الموت الجَهَنَّميّ سمومه فى قلبه وعقله، فماذا حدث؟ لمَّا شعر الخائن أنَّ الله قد تركه والسماء تخلّت عنه، أراد أن يتخلّص من أُجرة الخطية الملعونة، فذهب إلى رؤساء الكهنة والشيوخ الذين كانوا أداة سقوطه البشع، ويعترف لهم بجسارة قائلاً: " قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاًً " (مت4:27).
لقد أتم العمل البشع وها هو يعترف بجريمته، فهو مستعد أن يعترف بخطيته ويندم عليها بمرارة، ويود لو استطاع أن يوقف تنفيذ العمل الشرير ألا وهو: صلب إنسان برئ، فيعود مسرعاً إلى الرجال الذين أعانوه على ارتكاب جريمته ويعيد لهم الرشوة اللعينة (مت3:27)، مفضّلاً احتمال العار عن أن يبقى ثمن الدماء عالقاً بيده، ويعترف جهاراً بالإثم الذى ارتكبه... ومع ذلك يهلك يهوذا لأنَّ الخطية قد استقرت على كتفه كشبح مُخيف، وظن أنَّه يستطيع أن يتخلّص من حمله الثقيل، عندما يُعيد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة، ولكن عبثاً يحاول أن يُصفّي حسابه مع الخطية بهذه الطريقة!
ويتكلّم مع رؤساء الكهنة والشيوخ.. لكنّهم لا يملكون علاجاً للخطية، ولو أنّه بكل تواضع وشجاعة حوّل وجهه إلى يسوع، مثلما فعل اللص اليمين فيما بعد، لكان قد نال غفراناً لكل خطاياه، لكنَّ الشيطان جرّه كما يجر النسر فريسته التى انقض عليها ولم يسترح، حتى انتصر عليه تماماً، فقد ملأ قلبه باليأس وجعله يلقي بنفسه فى أحضان الموت إذ " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " (مت27: 5)، وينقطع الحبل الذي شنق التعس نفسه به، والشجرة التى اختارها لتكون مقصلة يختم عليها حياته تنفضه عنها فى فزع، فيسقط المسكين إلى الأرض، وينشق من الوسط وتنسكب أحشاؤه كلها (أع8:1).
وبينما كانت هذه الحوادث تدور، كان رؤساء الكهنة والشيوخ يتشاورون، ماذا يفعلون بالثلاثين من الفضة التى طرحها يهوذا فى يأسه، فاتفقوا أن يقتنوا بأُجرة الإثم حقل الفخاريّ، ليكون مقبرة للغرباء الذين يموتون فى أورشليم، وقد أُطلق عليه حقل الدم (مت8:27).
لقد قبضت أصابع الموت على شفتيه، واحترق بنار لا نور فيها! إزداد شوقاً لأرض غير معروفة، وأثقلت كاهله رغبة المُلك وهى لا تتعدى البيت والموقد، وماذا جنى من الحياة؟ لم يجنِِِ سوى حبل المشنقة!
سئم يهوذا الحرية المقصوصة الجناح على الأرض، وأحب سجناً العذاب في الجحيم، رفض أن يكون قطرة ماء في نهر الحياة، وأحب أن يجري كجدول الدموع إلى البحر المر! عاش فى العاصفة وها هو يخرج ليعيش فى العاصفة، ولكن هذه المرة خرج ليرمى نفسه من صخرة الخيانة الصلدة، التى كل من يصعد إليها لا بد أن يسقط ميتاً! لقد أنهى حياته الصغيرة التي تحرّكت كالضباب فوق أرض العذاب المستعبدة، فما أن مات حتى نزل إلى الجحيم ولم يخرج منه، فى حين أنَّ البار كان يصعد إلى الأعالى، ليستقر موضعه عن يمين القوة.
إنَّ يهوذا قد اشتاق إلى مملكة يكون فيها أميرا ً! أمَّا يسوع فأراد مملكة يكون فيها كل الناس ملوك وأُمراء!
والآن، ماذا أقول لو كنت قد عاصرت مأساة هذا العبد الشرير؟ كنت سأُشير بيدي نحو القتيل وأصرخ بصوت أجش قائلاً:
" ملعونة هى الأيدي التي تُمد إلى هذا الجسد الملطّخ بدماء الخيانة، وملعونة هى الأعين التى تذرف دموع الحزن، على هالك قد حملت الشياطين روحه إلى الجحيم لتبقَ جثّة ابن سدوم وعمورة مطروحة على هذا التراب الدنس، حتى تتقاسم الكلاب لحمه وتُذري الرياح عظامه، فليهرب الناس من تلك الرائحة النجسة المتصاعدة من داخل قلب دنُسته الخطية وسحقته الرذيلة، ولينصرفوا مسرعين قبل أن تلسعهم ألسنة نار جهنم ".
لقد مات ابن الهلاك الذى لم يكن فى العالم الوثنيّ نظيره، ولم يكن فى إمكانه أن يُنجب مُجرماً مثله! ولكن هذا ليس بغريب لأنَّ سليمان الحكيم يقول: " اَلرَّجُلُ الْمُثَقَّلُ بِدَمِ نَفْسٍ يَهْرُبُ إِلَى الْجُبِّ " (أم17:28)، وهكذا كل من يُعانق الشيطان عليه أن يُعانق الموت أيضاً!
ولكننا نعترف بأنَّ الجرثومة التي عملت فى يهوذا الإسخريوطيّ لازالت موجودة، وإن كنَّا لا نضع أنفسنا بين يدي الله ونطلب أن يُظللنا بأجنحة حُبّه فإنَّ إبليس الذي يجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه (1بط8:5)، سوف ينقض كالوحش علينا ليفترسنا .
بعد أن وجّه المسيح كلماته إلى يهوذا، نراه يسلم نفسه طوعاً لأيدي أعدائه.. هنا تحرّك الدم فى عروق التلاميذ بعد أن تجمّد ساعات طويلة فاستل بطرس سيفه " وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ اسْمُ الْعَبْدِ مَلْخُسَ " (يو10:18)، فقد أراد بطرس بهذا أن يُظهر غيرته للرب فى وقت الشدة، ولكنَّه لم يعلم أنَّ ابن الله لا يحتاج إلى المعونة، لأنَّه لو أمر أُلوفاً من الملائكة لملأوا الأرض ناراً.
وكم كانت دهشة الجميع عندما رأوا الرب فى شفقة، يميل على مَلخُسَ ويلمس أُذنه المُصابة بيده الشافية، فتوقف سيل الدم فى الحال وعادت سليمة كما كانت! فمن مِن الأطبَّاء له القدرة أن يُصحّح الأعضاء المقطوعة كمخلّصنا! لقد وضع الأُذن فى مكانها كالغصن الذى سقط من الشجرة، فكلل الجسم بالعضو الذى سقط منه، ليُعلن أنَّه سيد الخليقة وطبيب البشر الأعظم!
ونحن أيضاً نتعجب من هذه المعجزة، وما يُثير إعجابنا ليس فقط قوته التى أظهر بها مجده، ولكن الأكثر من ذلك محبته، التى لا تستثنى حتى الأعداء من أعمالها النافعة، كما أراد أن يُعلمنا أن ملكوته ليس من هذا العالم ولذلك لا مكان للانتقام، بل للوداعة التي تجمع جمر نار فوق رأس الأعداء، وما هذا إلاَّ إعلان أن حُب يسوع عميقاً كالبحر، عالياً كالنجوم، متّسعاً كالفضاء، وهكذا سيظل إناء حُبّه مملؤاً إلى الأبد لتشرب البشرية العطشانة فترتوى ويبرد حقدها وغيرتها وقسوتها!
وبينما كان الرب يمد يده الشافية المُحيية ليلمس الأُذن الجريحة، يقول لبطرس: " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ! " (مت52:26)، فالسيف ليس له استعمال إطلاقاً فى دائرة ملكوت الله، فالنصر يُحرز هنا بقوة الشهادة، وبدم الحمل، وصبر القديسين..
ومن المفسرين يرى أنَّ بطرس أراد ضرب رقبة مَلخُسَ، لكن التدبير الإلهيّ أبعد يده عن الرقبة إلى الأُذن اليمنى لأمرين:
الأول: إن الشعب قد آذانه عن سماع أقوال الأنبياء وأقوال المسيح، فوقع العقاب على العضو المُخطيء، فالشعب الأصم ضُرب على أُذنه، لأنَّ أصوات بل رعود الأنبياء صرخت فيها ولم تسمع!!
الثانى: علامة على رغبتهم فى دوام عبوديتهم إلى الأبد، ليس للرب بل للشيطان، لأنَّ الشريعة كانت تأمر أن يُخيّر العبد وقت تحرره، هل يرغب أن يُعتق أم يظل كما هو عبداً، فإن رفض أن يعتق كانت أُذنيه تثقب، علامة على رغبته أن يظل هكذا عبداً (خر6:21).
أمَّا الأُذن التى قُطعت فهى أُذن عبد رئيس الكهنة، لا أُذن أحد الجنود، وهذا إنما يدل على أن المقصود هم بنو إسرائيل الذين أعطاهم الله الشريعة، ولكنَّهم لم يفهموها ولم يعملوا بما جاء فيها!