خُلق الإنسان ليحيا في عالم ملئ بالبشر، كلٍٍٍٍ في حاجة إلى غيره، وهكذا تظل حياتنا علاقة مزدوجة قوامها الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر، وهل نُنكر أنَّ الحديث العذب المُشجع، واللقاء الحي المُثمر، والابتسامة الصافية، عوامل من شأنها تشجيعنا وإيقاظ همتنا؟ أعتقد أنَّها وسائل إيجابية تفتح أمامنا الأبواب المُغلَّقة، فنندفع بقوة إلى تحقيق ذواتنا وتأديّة رسالتنا في الحياة।
إذن ليس الآخرون مجرد صور نتأمَّلها، أو كائنات نتحدّث فقط عن مواهبهم، أو نذكر أعمالهم، أو نصف مظهرهم॥ بل هم في الحقيقة وسائل فعَّالة لنمونا وتقدمنا وتحقيق ما نصبو إليه، من هنا كانت أهمية اللقاء البنَّاء، خاصة عندما يكون مع شخصية سويّة، تحمل مواهب روحيّة وثقافيّة॥ من شأنها إثراءنا ونمونا..
ولكنَّ العلاقات الإنسانية لا تسير على وتيرة واحدة لا تناقض فيها أو ثنائية، فقد تنسجم الطباع أو تتنافر، وتتفق المصالح أو تتضارب، وتتحد المباديء والآراء والقيم أو تتصارع، وتجتمع الأهواء والميول أو تفترق॥ وهذه عوامل قد تتسبب في صفاء العلاقات أو توتّرها॥ ولكن رغم الصدمات التي يتلقّاها الإنسان في حياته، إلاَّ أنَّه يجب أن يرفض العزلة ولا يلجأ إليها، بل يستمر في علاقاته ويُكثر من لقاءاته، لأنَّه كائن اجتماعي بطبعه، ويحتاج أن يُشبع حاجاته العقلية والوجدانية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية..
نؤكد أنَّ اللقاء الحميم لا يعنى فقط المشاركة في الآراء والخبرات الشخصية فقط، بل أيضاً يمكن أن يكون وسيلة للتوافق مع الذات، فتتغير سلوكياتنا، وتتهذّب عواطفنا، وتنمو أفكارنا، وتستقر نفوسنا، فقد أكون مفرط الحساسية، منغمس في الشفقة على ذاتي دون أن أعي ذلك॥ أو مُحبّاً للمال وأميل إلى اكتنازه تحت ستار تأمين المستقبل॥ فمن خلال لقاء حميم يسوده العفوية في التعبير، يستطيع صديق أن يرصد سلبياتي ويوجهني، ويبقى لي مُطلق الحرية: أُغيّر أم لا!
ولا يقتصر اللقاء على مجرد السؤال والجواب، فمن خلال حركاتك وإشاراتك وبعض ألفاظك وردود الفعل॥ تستطيع تحليل شخصيتك واكتشاف المُختبيء في أعماقك، لذا يجب عليك أن تُفكّر في الدوافع التي دفعتك إلى هذه الردود، عسى أن تتمكّن من فهمها، أنا على يقين من أنني إذا بحثت عمَّا يكمن وراء سلوكي وحركاتي وإشاراتي.. بصورة إيجابية، أستطيع أن أقوم بتعديل في شخصيتي।
كم من مرّة سيطرت علينا أفكار سلبية فتوهّمنا أشياء خاطئة؟ ولكن من خلال لقاء صادق، فتحنا فيه قلوبنا وكشفنا أفكارنا انكشفت الحقيقة، فتبددت الأفكار الوهميّة التي كنَّا نظن أنَّها حقائق مؤكدة، وما أكثر المواقف التي فسَّرناها وقت حدوثها بطريقة، ثم بعد أيام فسَّرناها بطريقة أُخرى، عندما أفصحنا عمَّا بداخلنا لأُناس أُمناء أحببناهم وأحبونا।
وهل نُنكر أننا نحمل في أعماقنا ظلمات كثيرة، وهى تُعتم حياتنا وتُهدد حياتنا؟ ولهذا يسعى الإنسان جاهداً لكي يقترب من شخصية أُخرى، تستطيع بحكمتها وثقافتها وخبرتها... أن تُقوّى ضعفاته، وتعالج سلبياته، وتشفى أمراضه النفسية، وتضمد جراحاته الروحية، ويستطيع هو من خلالها أن يحقق ميوله ورغباته॥
هناك شك ينتاب جميع البشر حول قدرة الإنسان على حل كل مشاكله بنفسه، والواقع لو أننا اعتزلنا البشر لتآكلتنا المشاكل، وتوقّفت خبرتنا، وصرنا محدودي الثقافة التي هى رهن علاقاتنا بالآخرين ، كما أنَّ الإنسان إذا عاش وحده، فإنَّ ميوله سوف تذبل ورغباته تموت، وتتحوّل حياته إلى صحراء مقفرة।
وهل نُنكر أننا عن طريق الآخرين نتعلّم كل شيء في الحياة؟! ألست أنت وأنا والجميع ثمار لِما وضعه فينا الآخرين من علوم وغيرها؟! نعترف بأنَّ الذات لا يمكن لها أن تتحقق إلاَّ إذا سلَّمت بدور الآخرين، ولَعَلَّ هذا هو ما عبّر عنه أحد الفلاسفة حينما قال: " إنَّ الغاية الوحيدة للإنسان هى تحقيق الذات، ولكنَّ الطريق المؤدي لهذا لابد من أن يدور حول العالم، وبالتالي فهو لابد أن يمر بالآخرين "।
إنّها حقيقة، وتستطيع أن تتحقق منها لو قرأت قصص العظماء من فلاسفة وعلماء॥ فالتاريخ يحكي لنا عن معجزة الإرادة " هيلين كيلر "! التي عاشت على حاسة اللمس بعد أن فقدت حواسها الثلاثة: النظر والسمع والنطق وهي لا تزال طفلة، ولكن بفضل مُعلّمتها " آن " استطاعت أن تحصل على (ثلاث) درجات علمية، وألّفت (10) كتب، ولم تكتفِ بذلك بل تمتّعت بالحياة كالأصحاء تماماً، فركبت الخيل وقوارب التجديف، وزارت بلاد.. وأخيراً ماتت هيلين تاركة عبارتها المشهورة: إنّي عمياء لكني أُبصر، صمَّاء لكنّي أسمع، خرساء لكنّي أتكلّم।
وها (توماس إديسون) لم يستمر في مدرسته أكثر من ثلاثة أشهر، فقد طرده ناظر المدرسة لتخلّفه، وكان والده يُعامله بقسوة لِِِما يبدو منه من بلاهة، فكان يضربه باستمرار حتى أصابه بالصمم، لكنَّ أُمه الفاضلة لم تيأس فعلَّمته بنفسها، وعندما بلغ الحادية عشر من عمره، اخترع جهازاً كهربائياً لتسجيل الأصوات في الانتخابات،
ويواصل (إديسون) إبداعاته فيخترع المصباح الكهربائيّ والفونوغراف وآلة تصوير الصورة المتحرّكة، وابتكر نظام التيار المتردد والثابت وتطوير التليفون॥ وقد زادت اختراعاته عن الألف، والفضل في ذلك يرجع إلى عبقريته التي اكتشفتها أُمّه المناضلة منذ صغره، فمن خلال لقاءاتها البنّاءة بابنها استطاعت أن تُربيه وتُعلّمه، لا أن تُشبع عواطفها باللعب معه فقط كما تفعل أُمَّهات كثيرات!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق