و شخصية حقيقية واسمه القديس نيقولاوس، ونحتفل بعيد نياحته في العاشر كيهك..؟؟ وكان من مدينة مورا، اسم أبيه ابيفانيوس وأمه تونة. وقد جمعا إلى الغنى، الكثير من مخافة الله. ولم يكن لهما ولد يقر أعينهما ويرث غناهما. ولما بلغا سن اليأس، تحنن الله عليهما ورزقهما هذا القديس، الذي امتلأ بالنعمة الإلهية منذ طفولته.
الجمعة، 23 ديسمبر 2011
بابا نويل
الجمعة، 9 ديسمبر 2011
أنشودة الميلاد
لقد ولِدَ أنبياء وملوك كثيرين.. لكنَّ السماء لم تزفهم كما زفت المسيح يوم ميلاده العظيم، فالملائكة أبت أن تترك رئيس جند السماء وحده، فتركت مسكنها ونزلت إليه لتُعلن عن بهجتها بميلاده العجيب! فأشرقوا بنورهم وشقوا ببهائهم الظلام، تقدّمهم الضياء وصار قدامهم اللمعان، فحوّلوا الليل نهار والأرض سماء، وأعلنوا أنَّ ابن الله جاء ليضئ على الجالسين في الظلمة، وليطرد بنوره السماويّ جيوش الظلام المعادية، وامتلأ الهواء المفعم بالغيرة والحقد والكراهية، امتلأ بذبذباتهم الروحية، وتمايلت الأغصان متهلّلة عندما عزفوا على قيثارات الحُب تسابيح المجد والسلام والسرور.
المجد لله في الأعالي
لقد مجّدت الملائكة الله الساكن في الأعالي، لأنَّها رأت شيئاً عجيباً لم تره من قبل، لنتأمل إلهاً قدوساً منزهاً عن كل شر وقادر على كل شيء، يترك الأحضان الأبوية والأمجاد السماوية... ليشترك معنا في الطبيعة البشرية، بادئاً حياته في حقارة المذود، ألا يستحق هذا الإسراف في التصاغر أن نتعجب ممجدين الله؟!
لقد رأت الملائكة الشمس تقف بواسطة يشوع بن نون، ولكن هاهم الآن يرون شمس البر خالقهم قد وضع في مذود حقير للبهائم! رأت العُليَّقة مشتعلة بنار ولم تحترق ، وهاهم يرون اللاهوت متحداً بالناسوت دون أن يمسه بأذية! قد رأوا عصا هرون اليابسة تُخرج أزهاراً، والآن يرون عذراء تحبل وتلد بغير زرع رجل! معجزات كثيرة وغريبة رأوها، ولكنَّهم الآن يقفون أمام أُعجوبة العجائب وسر الأسرار، الأمر الذي يستحق أن يهتفوا له قائلين: المجد لله في الأعالي!
غير أنَّ بيت لحم إحدى زوايا الأرض الحقيرة تُرينا مشهداً عظيماً يُذيع مجد الله، ففيها نلمس الضدين: الإله الأزليّ الغير محدود متَّحداً بجسد بشريّ! ومولود من عذراء لا في قصر بل في مذود للبهائم! فهل خسر الله بعضاً من عظمته في تنازله واتّضاعه؟ كلا! وهل خسر شيئاً من محبته في رأفته ورحمته وغفرانه؟ لقد غزا يسوع قلب الإنسان وامتلكه إلى الأبد بحُبّه وحنانه، وانتزع كبرياءه بتنازله واتّضاعه، فلولا تواضع المذود ومذلّة الصليب لَمَا عرفت أنَّ الله محبة فانجذبت بمحبته، ولولا تواضعهما ما جثوت على ركبتي أمام حقارة مذوده.
لا نُنكر أنَّ أيَّة مدينة تسمع بقدوم رجل عظيم تستعد لاستقباله، ولكن بيت لحم كانت تجهل أمر ملك الملوك يوم مولده، ولم تجهّز له مكان لائق بعظمته، وبينما كان الأغنياء يتنعمون في قصور طُلت جدرانها بالذهب، كان سيد الكون غريباً في عالم ملكاً له، وعندما لم يجد مكان بين الناس نزل ضيفاً على مملكة الحيوان، لأنَّه كان يعلم أنَّ الإنسان الذي على صورته خلقه سوف يهينه ويرفضه وبأيدي الأثمة سيصلبه ويُميته، ولكن ألم يأتِ أباطرة روما وفراعنة مصر وملوك العالم ليسجدوا له أمام مذوده؟
لقد تواضع ابن الله ونزل إلىّ ليرفعني إليه، ولهذا لا يسعني سوى أن أهتف مع الملائكة قائلاً بصوت ملؤه الحب : " المجد لله في الأعالي ".
وعلى الأرض السلام
كان السلام سائداً يملأ أركان الفردوس وذلك قبل السقوط، ولكن منذ أن دَخَلتْ الخطية العالم نُزع السلام، وملأ الخوف قلوب البشر، ألم يحيا الإنسان مع الله فرحاً، وماذا بعد السقوط؟ أصبح يخشى التطلّع إليه حتى إنَّه عندما ناداه " أيْنَ أَنْتَ؟ " قال آدم: " سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ " (تك10:3).
وبعد طرده من الجنة، شهر ضدّه سيف الكروبيم (تك4:3)، فاشتد قلق الإنسان وفقد طعم السلام، ولم يعد الله يُعلن ذاته إلاَّ في وسط لهيب النار، حتى إن بني إسرائيل لما رأوا الجبل مضطرماً عند ظهور الله في جبل سيناء قالوا لموسى: " تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ " (خر19:20).
وهكذا اعتقدوا أن رؤية الله لا يلحقها سوى الهلاك ولا سيَّما أن الله صرّح قائلاً " لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ " (خر20:33)، أتتذكرون قول منوح أبو شمشون " نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللَّهَ! " (قض22:13).
ومع أن الله قد وضع ناموساً عادلاً، إلاَّ أنه زادهم خوفاً واضطراباً، لأنَّه كما قال مُعلّمنا بولس الرسول: " لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ " (أع10:15)، حتى الذبائح التي تكفر عن الخطايا كانت تُذبح ، فكانت السكين متعطشة دائماً لسفك الدماء! وكل هذا إعلان عن زوال السلام حتى إنَّ الرؤساء كانوا يُنادون: " سَلاَمٌ وَلَيْسَ سَلاَمٌ " (حز10:13)، وقال إرميا النبيّ: " لَيْسَ سَلاَمٌ لأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ " (إر12:12) .
وظل الحال هكذا طوال مدة العهد القديم، فكان الجميع يرجون إتيان ملك السلام لكي يُعيد الطمأنينة إلى قلب الإنسان، وقد رأوه كثيرين بعين الإيمان من بعيد، مثل إشعياء النبيّ الذي قال: " لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّا ًرَئِيسَ السَّلاَمِ " (إش6:9) .
أمَّا الأمم الوثنية فكانت لا تقل عطشاً عن اليهود، وذلك بعد أن رأوا ضعف آلهتهم، وعجزها عن تغذية أرواحهم ونزع الخوف من قلوبهم! إلى إن ظهرت ملائكة الرب من السماء، لتُعلن أنَّ كلمة الله قد نزل من السماء، ليُعطي الأمم خبز الحياة ليأكلوا ويشبعوا ويمتلئوا سلاماً.
قال ناحوم النبيّ: " هُوَذَا عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَا مُبَشِّرٍ مُنَادٍ بِالسَّلاَمِ " (نا15:1)، وقال زكريا النبيّ: " وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ " (زك10:9)، أما إشعياء النبيّ فيقول: " مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ " (إش7:52)، وعند دخوله أورشليم هتف الأطفال قائلين: " سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي! " (لو38:19).
ولأنَّ المسيح جاء لينشر رسالة السماء على الأرض، قال لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء: " سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ، سلاَمِي أُعْطِيكُمْ " (يو27:14)، ويُعزّينا أحد الآباء بقول رائع يقول: " لمَّا فارق يسوع العالم ترك نفسه للآب وجسده ليوسف وثيابه للعسكر وأُمَّه ليوحنَّا، وأمَّا أولاده المؤمنين فترك لهم سلامه لا منصباً ولا غنىً ولا شرف، لمَّا أخطائنا فارقنا السلام ولمَّا أتى المسيح جاءت الملائكة تُعلن عن عودة السلام ".
وبالناس المسرة
لقد سُر الله بنا وأعلن محبته لنا بميلاد ابنه الحبيب! وهذا يدفعنا أن نقول مع مُعلّمنا بولس الرسول: " اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً افْرَحُوا " (فى4:4)، حقاً إنَّ التجسّد لا يمنع الجروح البشرية التي تُحزن قلب الإنسان، إلاَّ أن هناك جروحاً لا يُعالجها إلاَّ وليد المذود، أو تشفيها سوى الأيدي الطاهرة التي ثقبتها المسامير!
ولهذا يجب أن يفرح الخاطيء لأنَّ يسوع جاء ليلقى بخطاياه في بحر النسيان، وليترنم الحزين الباكيّ فقد ولد من يُعزّيه ويُحوّل دموعه إلى حبَّات لؤلؤ، وليُشبع الجائع لأنَّ خبز الحياة الحقيقيّ ولد في بيت لحم بيت الخبز، وليرتوي العطشان لأنَّ ينبوع ماء الحياة قد تفجر ليروى أرض قلوبنا القفرة!
المتألمون والمعذبون، المرضى والحزانى، البائسون واليتامى... ما أكثرهم في الكون! أناتهم تتعالى في كل لحظة وتشق عنان السماء، تتصاعد من الأكواخ والقصور، من الصحارى، من المستشفيات.. وراح الناس يتساءلون منذ القدم عن حل لمشكلة الألم! تعددت الحلول واختلفت المذاهب وتضاربت الآراء.. غير أن الإنسان لم يجد الحل إلاَّ عند مغارة بيت لحم حيث ولد المسيح، لكي يبدأ حياة هى في الحقيقة رحلة مع الآلام!
فمنذ أن ولد المسيح ومات على الصليب، وقد امتلأت عيناه من دموع الفقراء والمساكين، تغيّر وجه العذاب وأصبح الألم صليباً ذا جناحين بهما يطير الإنسان ليحلق في أمجاد السماء! فكم من دموع حُبست على ضفاف الجفون تحوّلت إلى حبَّات لؤلؤ على جبين المتألمين بعد أن عرفوا المسيح! وكم من أجساد قلّمتها أيدي الكرام الإلهيّ فجاءت بأجود العناقيد!
فيا كنيسة المسيح اذهبي إلى بيت لحم لتبتهجي، هيا أيها الشيوخ مع سمعان لتروا قديم الأزل قد ظهر ليسند ضعفكم! تعالوا أيها الرجال لتشتركوا مع يوسف النجار في خدمة سيده! وأنتن أيتها العذارى افرحن كما فرحت أُمه البتول! أيها المسيحيون افرحوا جميعاً كما فرحت السماء لأنَّ الباب المجد قد فُتح، وخرجت أشعة السماء منه لتملأ الأرض دفئاً روحياً واستقراراً نفسياً.
وأنت يا طفل بيت لحم، يا وليد المذود، حوّل أحزاننا إلى مسرّة، أرجع بصوتك الحنون الحياة إلى قلوبنا المائتة، وبلمس يدك الطاهرة النور إلى أجفاننا الممتلئة بالدموع، وأنت يا نجم بيت لحم، أشرق بلمعانك وقدنا إلى حيث يسوع مضطجعاً، لكي نهتف مع الملائكة قائلين:
المجـد لله فـي الأعـالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسـرة.
الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011
المغارة والمذود
عندما تحدث القديس لوقا الإنجيليّ عن ميلاد المسيح، لم يذكر المغارة وإنَّما تحدّث عن مذود (لو6:2)، لكنَّ المسيح ولد في مذود داخل مغارة. وتُعد أقدم شهادة للمغارة أتتنا من القديس يوستينوس النابلسيّ، وهو بمصداق لأنَّ أصله فلسطينيّ، فهو إذن شاهد عيان، قوله حجة وثقة، فقد كتب في عام(155م) هذه الكلمات: " ولما لم يجد يوسف منزلاً في بيت لحم، أقام في مغارة تقع قرب البلدة، وهناك وضعت مريم المسيح وأضجعته في مذود ".
وهناك شهادة أُخرى ترجع إلى بداية القرن الثالث، أدلى بها العلامة أوريجانوس وذلك في رده على كلسُس الوثنيّ، فيقول: " أما بشأن ميلاد يسوع في بيت لحم فإذا أردنا برهاناً آخر بعد نبوة ميخا التي دونها في الأناجيل تلاميذ يسوع ، ففي بيت لحم المغارة حيث ولد، وفى المغارة المذود حيث لُف بالأقماط ".
وفى أواخر القرن الثالث يقول يوسابيوس القيصريّ المؤرخ الشهير، الذي كان من قيصرية فلسطين: " إنَّ سكان المكان يشهدون للرواية التى نقلها إليها أسلافهم.. ويدلّون على المغارة حيث وضعت مريم العذراء وليدها ".
المــذود
ليس المذود الذي ولد فيه يسوع هو الرواق المزين الرشيق الهندسة، الذي شيَّده لابن داود رسَّامون مسيحيون وقد خجلوا من قذارة المذود الذي رقد فيه سيدهم! ولا هو المغارة النظيفة المزينة وقد راحت فيها الحيوانات في غيبوبة من الذهول، بينما الملائكة ينشرون أجنحتهم فوق سطحها، وقد جثا فى تقابل محكم الانتظام فريقاً من الملوك المتدثرين بمعاطفهم وآخرين من الرعاة بقبعاتهم، كما يتصورها عبثاً بائعي التماثيل! فقد تصلح هذا المغارة موضوع أحلام أحد الأشخاص أو عروسة بين أيدي الأطفال ولكنَّها ليست الموضع الذي ولد فيه يسوع!
إنَّ الزريبة هى مأوى البهائم، بل سجن البهائم التي تكدح في سبيل الإنسان، فهى خالية من الأعمدة المتوّجة بالزخارف، غارقة في العتمة، وتفوح منها روائح كريهة، هذا هو الموضع الذي ولد فيه ملك الملوك والذي يجب أن نفتخر به! لأنَّ يسوع ضرب لنا بحقارة محل ميلاده وعيشة الفقر التي عاشها وهو العظيم المالك كل شيء أروع الأمثلة عن التواضع والفقر الاختياريّ، وحفّز بذلك المساكين على الصبر محتملين ذلهم، والأغنياء على النزول إلى مستوى الفقراء ومواستهم!
لو أراد لولد في أعظم القصور، ولكن ما قيمة قصر يترمّد في زواياه جمر الحُب؟! ولهذا ولد المسيح في مذود حقير من أم فقيرة، ليكشف لنا سر العظمة الحقيقية، ويُعلن لنا أنها كائنة في الحياة الداخلية ذات المباديء السامية، لا في المال أو السلطة أو القوة، والذين يقولون غير هذا نفوسهم ضعيفة، وقلوبهم ملوثة، وضمائرهم سقيمة، إنَّهم يعيشون وهم العظمة لا حقيقتها، ولا يلبث لباس عظمتهم الزائف قليلاً حتى يتمزق فيكشف ما تحمله حياتهم الخفية من غش وفساد.. ألم يطرح عظماء أنفسهم تحت قدميه ويخروا ساجدين أمام مجده؟! وعندما ارتفع على الصليب ووصل إلى أقصى درجات الاحتقار ظهرت عظمته الحقيقية كإله السماء والأرض، الذي فزعت الطبيعة من منظره وهو عرياناً، حتى إنَّ الشمس لمّت إشعاعاتها والقمر هو الآخر لم يُعطِِ ضوءه!
نستطيع أن نقول: إن يوم ميلاد السيد المسيح هو عيداً للفقراء، لأنَّ ملكهم وسيدهم لم يرتدِ الثياب الأرجوانية، أو ينام على أسرة ذهبية، ولم يرضع ثدي أميرة.. وبهذا نالت البشرية أعظم دواء يشفيها من أخطر داء، الاتضاع الذي يقضي على الكبرياء!
الجمعة، 30 سبتمبر 2011
عناية الله بالكون
نعترف بأن الله منذ أن خلق الإنسان، وهو موضع اهتمامه، فى أفراحه وآلامه يخاطبه.
ولكن الإنسان لا يسمعه بسبب ضجيج أفكاره وهيجان رغباته، ولو عاش بالروح لرآه داخلاً فى كل الأشياء وخارجاً منها، وإليك أدلة منطقية تؤكد عناية الله المطلقة:
يستحيل أن تكون العناية الإلهية وأن لا تكون فى وقت واحد، فإما توجد عناية وإما لا توجد، وها نحن نتساءل:
كيف يكون حال الكون، لو أن الله قد أغفل عينيه لحظة عنه ؟! ماذا ستفعل الوحوش بالبشر؟!
بدون عناية الله، هل يمكننا أن نشرح شرحاً مقبولاً، تعاقب الليل والنهار، وتتابع الفصول وحركات النجوم.. دعنا نتساءل: من الذى يمنح القوت للبشر، ويُشرق الشمس ويُغيبها، ويُسقط المطر.. ؟
هل الصدفة ؟ لتكن الصدفة هى التفسير الوحيد للوجود! فهل تترك أُسرتك للصدفة، حتى تعولهم وتعالجهم وتعلمهم.. ؟! هل يمكن للصدفة أن تحمل السموات، أو تُرسل لنا حرارة الشمس، أو مياه الأنهار..!!
نعترف بأن هناك أشياء كثيرة غامضة، لن نستطيع بالإمكانات البشرية المحدودة أن نفك رموزها، وأعظم تفسير لها: إنها لا تفسر!
إذن لا يمكن أن نفترض عدم عناية الله بخليقته أو بالكون لأننا جهلاء ؟ والدليل: إن كثيرين يستضيئون بالكهرباء، وهم لا يعرفون كيف يشع النور حين يحركون الزر الكهربائيّ!
هل تعرف كيف يتحول الطعام إلى ريش فى الطيور؟! وأنا لا أعرف كيف يتحول الدم فى بطن الأم إلى غذاء للطفل، فى حين لو أنه شربه بعد الولادة لمرض!!
إذن معرفة الله ترتفع ارتفاعاً لا حد لـه فوق جميع تصوراتنا، وكل ما يراه الإنسان غامضاً إنما يرجع إلى محدوديته، وقد كان أفضل له أن يحيا داخل السياج، الذى وضعه الله فيه.
وأن يقول مع بولس الرسول: " يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاِسْتِقْصَاءِ ! " (رو11)
الاثنين، 12 سبتمبر 2011
الوردة وقائد سرب النحل
ذات يوماً من ايام الربيع حيث تتحوّل دموع الندى إلى عطور في كؤوس الورود، وتتمايل الرياحين مرنّمة أناشيد سليمان والعصافير مغرّدة مزامير داود... والأشجار عندما تكتسي بحلل الندى البيضاء تبدو كأنَّها أطفال وشحتها السماء بملابس الطهارة، وبعثت بهم ليملأوا الأرض فرحاً ويُعلّموا الناس بساطة الحياة!
هل تعرف أن من يعيشون لذواتهم هم أناس أنانيون!! أما الأناني فهو إنسان يتعذي عل حساب نفسه قبل أن يتغذى على حساب الآخرين !
البلح والجوافة
إنَّ الرمزيّة هى اللغة الطبيعية للخليقة، فليس أحد علّم الحيوان المقتنص أن يصرخ، ولا الرضيع المريض أن يبكي، ولا الرجل المتألم أن يتنهد.. ومن الملاحظ أنَّ الناس عامة يبتسمون في حالة السرور، لكنهم يُكشّرون في حالة الحزن، وفى حالة الموافقة على شيء، نجد خفض الرأس علامة شبه متفق عليها، أمَّا تحريك الرأس من جانب إلى آخر فيُشير إلى الرفض، كما أنَّ هز الكتفين منظر مألوف، لإظهار أنَّ الشخص لا يرى أو لا يفهم ما نتحدث عنه، وإظهار الأسنان يُشير إلى العداء، واليدان المفتوحتان ترمزان إلى النزاهة.
وتتجلّى الرمزيّة بكل وضوح في سفر النشيد، الذي يتحدّث عن علاقة المسيح بكنيسته بأُسلوب رمزيّ، ولا يمكن أن يُفسر إلاَّ بطريقة رمزية، فالآيات التي تربط بين الأُخت والعروس مثل: " أُخْتِي الْعَرُوسَ!! " (نش12:4)، أو " يَا أُخْتِي يَا عَرُوسِي !! " (نش9:4)، يعجز التفسير الحرفيّ عن تفسيرها، إذ كيف يمكن لإنسانة أن تكون أُخت وزوجة في وقت واحد؟!
أمَّا من الناحية الرمزية فالسيد المسيح دعاها أُخته، لأنَّه قد أخذ طبيعتنا البشرية عند تجسّده فصار أخاً لنا، ولأنَّه كما قال: " مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي " (مت5:12)، أمَّا دعوته الكنيسة بالعروس، فذلك لأنَّه دخل مع الكنيسة في زيجة روحية لا تنفصم إلاَّ بالموت.
حتى في شكل الكنيسة تظهر الرمزية، فحينما تُبنى الكنيسة على شكل صليب، فهذا يُعلن عن طبيعة الكنيسة السرية كجسد المسيح المصلوب، والشكل الدائريّ يرمز إلى طبيعة الأبدية التي حملتها الكنيسة عن الله، وإذا اتخذت الكنيسة شكل السفينة، ففي هذا إشارة إلى فُلك نوح رمز الخلاص.
البلح
هذا وقد امتدت الرمزية إلى الحياة المسيحية لتشمل مأكولاتهم، فما أن يأتي عيد النيروز حتى نتذكّر البلح والجوافة، وما يشيران إليه من معانٍٍ روحية..
فالبلح في لونه الأحمر يُذكّرنا بدم الشهداء، الذي قد سُفك حُبّاً في فاديهم، الذي سبقهم بأن سفك دمه حبا فيهم ورغبة في خلاصهم
والبلح من الداخل لونه أبيض إشارة إلى نقاوة قلوب الشهداء.
وحلاوته البلح تُذكّرنا بحلاوة الإيمان الذي يهب قوة وسلام وفرح وعزاء..
أما صلابة نواة البلح فتُذكّرنا بصلابة الشهداء وتمسّكهم بإيمانهم المستقيم حتى الموت..
الجوافة
والجوافة في لونها الأبيض تُشير إلى نقاوة قلوبهم وحسن سيرتهم.
كما أنَّ الجوافة إذا قطّعت بطريقة دائرية، ظهر صليب من البذار على كل قطعة نقطعها، والصليب يرمز للألم الذي احتمله الشهداء.
ولا ننسى أن الجوافة تتميز ببذارها الكثيرة وفي هذا إشارة إلى كثرة عدد الشهداء ولهذا يقول المؤرخ " شاف Schaff" : لو أن شهداء العالم وضعوا في كفة ميزان وشهداء مصر في الكفة الأخري, لرجحت كفة المصريين
السبت، 3 سبتمبر 2011
الرجل والمرأة
أما المرأة فعكس الرجل، فهي تجمع ولا تفكك، تُجبر ولا تكسر، تبنى ولا تهدم ، لها سرعة بديهة، ورقة شعور، ورهافة حس أكثر من الرجل، لأنها تدرك بالقلب أكثر منها بالعقل، فلا يهمها التحليل والبرهان والحجة والإقناع، تذهب بسرعة إلى الغابة قبل أن تستقصى الوسائل المجدية للوصول إليها، هي أكثر عاطفة من الرجل، فهل لنا أن نقول: إن الرجل عقل والمرأة قلب! ولكن فلنحذر، لأن العقل كثيراً ما يقسوا بأحكامه، لو فكر يوماً بدون قلب، وكم يتهور القلب في حبه إن هو أحب دون عقل।
لقد أثبتت الدراسات أن الرجل أكثر قوة من المرأة، وهو يستخدم قوته تجاه الأشياء، إلا أنه جبان تجاه نفسه، يخفى قلقه واضطرابه وحيرته وشكه، والتشاؤم والإلحاد لا يأتيان من المرأة، بل من الرجل॥ ولكن إن كان الرجل قوة والمرأة ضعف، إلا أن ضعف المرأة يبحث عن قوة وسلطة، والعزم الرجولي يرغب في حماية ذاك الضعف، علماً منه أنه سيلقى إزاءه حنواً ولطفاً، لا يجده عند ما شابهه من الرجال।
كثيراً ما يجرح الرجل أكثر مما يعصب ويصلُب ويُميت॥ لكن المرأة تضمد الجراح، وتحتضن الميت وتغسّله بدموعها وتكفنه بحبها، لأنه ابن بطنها وثمرة حشاها، وعصارة دمها، ونحن لا نسلب من الرجل حب العطاء، ولكـن إن كان الرجـل يُعطى فالمرأة هى عطاء!
إن قلنا إن الرجـل صخر منيع يحمل البناء الشامخ، فالمرأة نهر بديع يحيط به، يبدّل صلابته إلى لين، ويكسوه بالأزهار॥ وإن قلنا إنه عمود صلب في قوته، فالمرأة وردة تنبت جواره، وتطوقه بجمالها، وتزين صدره بحسن زينتها!
إذن لا يمكن للرجل أن يعيش بدون المرأة، وإلا لماذا خلق الله لآدم حواء، والعجيب أنه لم يخلقها من قدميه لكي لا تكون له عبدة، ولا من عقله لكي لا تسود عليه، لكنه خلقها من أضلعه لتكون قريبة من قلبه، يُحبها وتحبه، ولهذا فإن من عرف الحب طريقه إلى قلبه، وإن تزوج لا يفكر في الطلاق، لمشكلات جسدية أو خلافات شخصية! فالطلاق خيانـة وطعنة نجلاء في صدر الحب!
هل نظرت مرة لإمرأة عصفت بها آلام الهجر، وأحزان الفراق؟ ما مصير أولاد مهملين، قطّب الحزن وجوههم، وكست القاذورات أثوابهم، فحولتهم إلى وحوش بشرية، قلوبهم قاسية، وطباعهم غليظة ، وضمائرهم ملتوية؟ وماذا أقول عن المضار اللاحقة بخلاص نفس الزوجين من جرّاء الطلاق ؟ فهل الزواج هدف أم وسيلة للوصول إلى قلب الله ؟ وعندما يعرّض أحد لزوجين نفس الآخر إلى الهلاك، ألا يعرّض ذاته أيضاً للهلاك ؟ ما هو الزواج إلا نفسان، تتوكآن الواحدة على الأخرى لكى تصعد إلى الله!
إن رفض الرجل أن المرأة تحتضن برحمها الطفل وسط العذاب قبل أن يولد، مثل الأرض يشقها المحراث، فتصمت لتحبل بالزرع الخصب، وأنها مصباح يضئ له في ظلمات الوجود شعاع أمل، ضلع بل جزء مستل من جسده وكيانه، يعود إليه ليصله بالينابيع الأبدية، ضاع مفهوم الحب الصحيح، وأخفق في رسالته في الوجود.
وقد يقول بعض الرجال: إن النساء شديدات المطالب، كثيرات الإلحاح، فمهما بذلنا في سبيلهن، وقدمنا من التضحيات والخدمات لا نستطيع إرضائهن، ننزل إلى بطون الأرض لنستخرج الذهب والماس، ونغوص في لجج البحار ننتزع اللآلئ ، ونصوغ الحلي ليتزين بها، وبعد ذلك لا نظفر بحبهن وودهن!
إذن فالحب يحتاج إلى جهاد لينمو ويستمر، وفى المسيحية لم يعد الحب مجرد هوى عنيف، يتخذ من الآخر واسطة لزيادة إحساسه بالحياة، أو تحقيق أمله فى السعادة، أو إشباع عواطفه المضطربة ! بل أصبح الحب إتجاهاً روحانياً يسمو بالغريزة، وينظر للمخلوق البشرى على أنه كائن سماوى، ويتجه نحو الآخر لا لكى يدنسه ويشوه صورته، وإنما ليخدمه ويرعاه ويسهم فى تحقيق سعادته، ويشترك معه فى تثبيت دعائم ملكوت الله على الأرض، وهذا هو قمة الجهاد!
لقد تجسد المسيح، ولكن لا ننسى أن المرأة هي التي احتضنته في رحمها، وأرضعته لبنها، وهدهدته طفلاً على ركبتيها، وهيأته لرسالته الكبرى وتضحيته العظمى ، وبهذا تكون المرأة أصلحت ما أفسدت، وجبّرت ما كسّرت، استُلت من جنب آدم فتركت جُرحاً كان سبب عثرة، وها هي تصبح خشبة خلاصه وبالتالي صليب فدائه!
ولهذا بعد أن أسهمت المرأة في رسالة الحب الإلهي المتجسد، صارت جاذبية الأنوثة فيها تحمل طابعاً مقدساً، تليّن الجبار وتصقل المغامر وتروض المتمرد، أصبحت أداة - إن أراد- تقوده إلى الحب السامي، إلى الله، وعندما يسمره الحب عليها ستكون خشبة تُغرس فيها المسامير، فإن لم يتهيأ لها أن تسمو به إلى السماء تكون على الأقل قد رفعته عن الأرض.
الثلاثاء، 30 أغسطس 2011
يــسوع
فى ظلاله تذبـل زهور الشباب،
وفى زواياه يترمد جمر الحب،
بل فى وادي ظل الحياة المرصوف بالألم عاش غريباً،
وهناك على نهر الدماء والدموع،
كان يقف مصغياً لهمسات قلبه !
رفض أن يعانق الشهوات،
فنفثته الثعابين البشرية بسمومها،
لكن شعلة حبه السمائية لم ولن ينطفئ لهيبها من قلبه!
على صليب العار مات شاحباً الوجه، غارقاً في دمائه،
تُحيط بجثته شموع ضئيلة من بنى البشر،
فأفصح بسكوت الموت ورهبته وجلاله،
عن معنى الحب ومفهوم الحياة،
وشرح لنا سر السعادة والخلود!
كم مرة نظرت إليه نظرة غريق نحو نجم لامع فى قبة السماء،
فمد يده الطاهرة وانتشلني!
وعندما تلاعبت أفكار الشك بعواطفي مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف،
أرسل روح قدسه وهدأني!
لقد أعطاني أكثر مما أستحق،
والآن أشتهي أن أرفع فى مدينة الأموات تمثالاً للحب الإلهي،
لكنى أحتاج إلى كلمات ذهبية ذات أحرف نورانية॥
أحتاج إلى لغة سماوية تضم كل كلمات الحب فى معانيها!
فاحملني يا رب على أجنحة حبك البيضاء لأطير نحو الزهور،
لأمتص منها رحيق الحياة لأقدمه لإخوتي ،
ليتذوقوا حلاوتك!
إسمح لي برشفة من كأس حبك،
لكى أملأ بها كاسات البشر فيرتوا وتهدأ نفوسهم الحائرة!
إرسم بريشة حبك صورة من تُحِبّه نفسى واطبعها على قلبى،
أغرسنى وردة صغيرة فى بستانك السماوى،
وإن لم تكن ساعتى قد جاءت بعد فاقبل توسلاتى إليك،
واجعلني جزيرة تحيط بها جداول الماء العذب،
ماء الحب الإلهي،
لأعيش فى عالم سكانه شخص واحد هو أنت।
شد أوتار قلبي وقوى خيوط فكرى،
ولا تجعل القلم يرتعش بين أصابعي،
لأكتب فصل من كتاب الحياة،
أُعبّر فيه عن حلاوتك،
وأصف للناس عظم محبتك،
فباركه يارب وبارك كل من انتفعت بأقوالهم. آمين.
الخميس، 21 يوليو 2011
الفكر بين الشقاء والسعادة
الأربعاء، 20 يوليو 2011
الجهـاد الروحـى
ما هو هدف المسيحي؟ أعتقد أن الوصول إلى قلب الله، هو هدف كل مؤمن فى هذه الحياة، ولكن كما يقول رب المجد يسوع: " مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ ! " (مت7: 14)، فالكمال الروحى لا يأتى إلا بعد جهاد عنيف، وصراع طويل، مع الرغبات والشهوات..
أما العزاء الذى يأتى فجأة فى بداية توبتنا، فهو مجرد ومضة روحية ما أسرع زوالها، أو بقعه لامعة فوق قوس قُزح، سرعان ما تشرق الشمس فلا يعود لها أثر فى الوجود! ولهذا لا يسمى كمالاً روحياً، بل هو زيارة من زيارات النعمة الإلهية، يفتقدنا بها الله لكى نتمسك به أكثر، ونستمر بثبات فى حياة الجهاد، محتملين مشقات الطريق.
بدون النعمة الإلهية لا نستطيع أن نعمل شيئاً، ولكن بدون إرادتنا البشرية فإن الله لن يعمل معنا شيئاً، إذن هناك عاملان أساسيان لا يمكن الاستغناء عن أحدهما فى الحياة الروحية وهما: المعونة الإلهية، والاستجابة البشرية، فلابد أن يغصب الإنسان نفسه لأن " مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ " (مت11: 12).
فجاهدوا فى سبيل النصر، وانتصروا لكى تربحوا، وتواضعوا لكى لا تخسروا المعركة، هذا ما يقوله القديس أُغسطينوس.
قصـة
هنا أتذكر قصة الراهب العفيف، الذى أصر على الاحتفاظ بطهارته، وذلك عندما اشتد عليه قتال الزنا، فماذا فعل؟ ذهب ليلقى بنفسه فى" جحر" كانت تعيش فيه ضبعة، وكان يقول: خير لي أن أموت بهذه الضبعة من أن أموت بالخطية، وقد كان! إذ ألقى بنفسه فى" الجحر".. وهنا كانت المفاجأة المذهلة التى لا يتوقعها أحد، فالضبعة المتوحشة، تحولت إلى حيوان أليف، ترعاه وتخدمه وتأتيه بالطعام..! فعاد الراهب الطاهر، المجاهد إلى قلايته منتصراً، وهو يحمل فى قلبه كنزه الثمين، إنه عفته !!
ومن هذه القصة المعزية نتعلم: إن كل من يضبط هواه ويدقق فى الصغائر، قادر بنعمة الله، لا أن ينتصر فقط، بل ويغير طبائع الوحوش أيضاً! وإلا ما معنى قول معلمنا بولس الرسول: " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي " (فى13:4).
" أن تستريح = أن تُهزم "
هذه عبارة بليغة، نطق بها أحد الحكماء، ليؤكد أهمية الجهاد فى حياة النصرة الروحية، ولكن ألم يقل السيد المسيح: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَتْبَعْنِي" (لو23:9)، هل تأملتم مرة فى عبارة كل يوم؟
والقديس بولس الرسول يوضح مرارة الكفاح فى سبيل الطهارة فيقول: " أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَـى نامُوسِ الْخَطِيّةِ الْكائِنِ فِي أَعْضَائِي وَيْحِي أَنَـا الإِنْسَانُ الشَّـقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ " (رو7: 23،24).
إن الجهاد يعنى: أن نكد ونسهر ونتعب.. وهو أشبه بمعركة حامية، تتطلب من الجندى نظاماً حازماً، وصبراً، وشجاعة، إن كان يريد أن ينتصر ويكلل من قائده.
وهل يمكن للإنسان أن يلتقى بالله، ما لم يمر وسط الليالى المظلمة، أى يقمع ميوله الحسية ويبتعد عن ملاذه الجسدية؟! إذن ليست الحياة ورود بلا أشواك، إنها رحلة تطول أميالها، وهى ليست سهلة ومريحة، بل طرقها مليئة بالهضاب والوديان، ولكن لماذا نخشى الهبوط إن كان لدينا رغبة دائمة فى الصعود؟ أليس أفضل لنا أن نموت فى الجهاد من أن نحيا فى السقوط ! ألم يقل مار إسحق: " محبو الراحة لا يحل فيهم روح الله بل الشيطان" !
إلى أى شئ تقود الراحة ؟ أليس إلى الهلاك! إنها تؤذى أكثر من الشياطين، فالعفة وسط النياحات لا يمكن أن تلبث بغير فساد، ولهذا فإن كل من يرفض أن يسقى بذاره بعرق جبينه، فلن يحصد فى النهاية سوى الأشواك، لأنه الإنسان كالطائر، إن لم يرتفع إلى أعلى بجناحي جهاده، فسوف يلتصق بالأرض، التى تنبت شوكاً بحكم الطبيعة.
لكن القديس بولس الرسول يؤكد: إن الإنسان لا يمكن أن يُكلل " إنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيّاً " (2تى5:2)، فما المقصود بالجهاد القانونى؟
نوضح أن الإنسان لا يمكن أن يخلص بمفرده، الذى يخلص إنما يخلص من خلال الكنيسة، وفى داخل الكنيسة لابد أن يمارس الأسرار الإلهية المقدسة لا بطريقة ميكانيكية، بل بإيمان أن الله حاضر فى كل سر بصورة غير منظورة.
كما أن الجهاد المثمر يجِب أن يكون بحسب وصايا الإنجيل، ولهذا عندما سُئل الأنبا أنطونيوس: ما هى القوانين التى أحفظها لكى أرضى الله؟ أجاب: " حيثما تذهب ليكن الله أمام عينيك، وفى ما تفعل أو تقول، ليكن لك شاهد من الكتب المقدسة ".
لكن الإنسان إن لم يُحب الهدف، الذى يجاهد لكى يصل إليه، فإن جهاده يكون كفقاعات هوائية تظهر قليلاً ثم سرعان ما يتلاشى أثرها! وها نحن نتساءل:
حب الهدف هوالذى يقود الراهب إلى القفر لملاقاة الله، والباحث إلى معمله لاكتشاف أسرارالكون، والرجل إلى الزواج لاحتمال مشقات الحياة وتكوين أسرة...هو الذى يحول آلام الحياة أفراحاً، وأعمال الزهد وسائل للنمو والارتقاء!
ولو تأملنا فى طبيعة البشر، لوجدنا أن الغالبية تؤمن بوجود الله، لكن قلة هم من يتمتعون بعشرته، فما أكثر الذين يصلون ويصومون ومع ذلك لا يتعزون! وحياتهم لا تُظهر أى تغيير، لماذا ؟ لأنهم لا يُحبِون الله محبة صادقة! فهم يصلون بطريقة آلية خالية من الروح، ويصومون بقصد الرياء أو على سبيل العادة !
يقول القديس أُغسطينوس
" الحب يجعل الآلام والأخطار... سهلة القبول أو بالأحرى يصيّرها كلا شئ ".
كما أن الجهاد الروحى، يستند على ركيزة أخرى ألا هى الرجاء، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذى يحيا على أمل ما سيكون، إلا أن الرجاء ليس مجرد شعور سلبي كما يتوهم البعض، يجعل الإنسان يتمنى هذا أو ذاك فقط، بل هو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإرادة، فالإرادة البشرية القوية تتمنى، ولكنها فى نفس الوقت تجاهد لكى تحقق ما تتمناه.
ونحن نعلم أن الحيوان ليس له مصير سوى الرعى والحرث ثم الذبح، أما الإنسان فهو صاحب مصير، وهو الذى ينسج مصيره بنفسه، وإلا لماذا خلقه الله من الألف؟ أليس لكى يصل بجهاده إلى الياء، لكى يكون هو المسئول عن أعماله!
والحق إن الخلود مع الله هو شهوة المؤمنين، كل المؤمنين، فلو لم تكن هناك حياة بعد الموت لَمَا جاهدنا، بل قلنا مع الأبيقوريين: لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت!! إنما من أجل الحياة الأبدية نحن نجاهد ونتعب.. محتملين كل ما يأتى علينا من تجارب وضيقات.. هنا على الأرض لأنها لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا.
والآن بعد أن قام السيد المسيح منتصراً من بين الأموات، أصبح مصير كل من يؤمن به واضحاً: الحياة لا الموت، وكيف يموت المؤمن بعد أن قال رب المجد يسوع : " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ، مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا " (يو11: 25) !!
وهل ينكر أحد دور الإيمان فى سلسلة الجهاد الروحى، فأنا بقوتى وتقواي لا أستطيع أن أفعل شئ، ولكنى بالإيمان " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي " (فى13:4) فإن كنت أُجاهد من أجل الملكوت فيجب علىّ أن أؤمن بوجوده أولاً!
إن الإيمان يحوّل واقع الإنسان الأليم الذى يمتزج فيه الحزن بالفرح، والشقاء باللذة، والنور بالظلام، والجمال بالقبح إلى معنى لا يموت، وإلى سمو لا يفنى!
بالإيمان يصبح العالم غير مائت، والإنسان فى حماس دائم للحياة،وكأن الحياة تتحول بالإيمان إلى لحظات جميلة، من النغم المتصل والسعادة الدائمة!
وهل ينكر أحد أن الإيمان، يحوّل الألم إلى رغبة وشوق، لمعرفة المزيد من أسرار رب المجد يسوع الذى تألم وهو بار!
والموت، أليس الألم يحوّله إلى رحلة لاكتشاف عالم جديد، عالم الخلود الخالى من الغش والرياء..! فهل لنا أن نقول: إن الألم أداة تطهير لبقاء الجنس البشرى من الفناء! هذه هى ركائز الجهاد الثلاثة: الإيمان ، الرجاء ، المحـبة.
كما يجب ألا ننسى دور التواضع، فقد قال السيد المسيح: " إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائي فَلْيُنكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" (مت16 :24-26) أما حياته فقد كانت صورة حية للبساطة والتواضع فكان يجالس الفقراء، ويبحث عن الخطاة والضالين...
ألا تحطم الفراشة الشرنقة المحيطة بها، لكى تطير فى عالم النور والحرية، فلابد لها لكى تكتسب رونقها أن تفقد جزءاً هاماً منها!
وما من إنسان تغلّب على ذاته، وتحرر من سيطرة وقيود وسلطان أهوائه... إلا وانعكس وجه الله على مرآة نفسه، وشع نوره الإلهى فى كل جنبات كيانه!
أخيراً:
أختم حديثى عن الجهاد الروحى، ببعض الآيات الذهبية، المعزية ألا وهى:
" لِيَقُلِ الضَّعِيفُ: بَطَلٌ أَنَا ! " (يوئيل10:3)
" لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ " (2كو10:12)
" أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" ( فى13:4)
الاثنين، 27 يونيو 2011
شجرة جافة تبحث عن ماء الحياة
وانفصلت المرأة كحمل جريح عن سرب القطيع، وصارت الوساوس تتقلب فى عقلها، مثلما تتقلب العقارب والأفاعي على جوانب المستنقعات والكهوف، وينجح شيطان الزنى النجس، أن يزوح زهرة ربيعية بأوراق خريفية واضعاً النهار فى صدر الليل!
الثلاثاء، 7 يونيو 2011
خطية أم حرب خطية
فقد تنظر لساعة زميلك، أو تنظرى لأسورة زميلتك.. فيتملكك فكر السرقة فهل هذا الفكر خطية؟؟ وقد ترى فتاة جميلة أو تتحدث مع إمرأة.. فتتحرك عواطفك ويمتليء فكرك بأفكار شهوانية.. فهل تحرك الغريزة خطية؟؟
وما أكثر الذين يشاهدون فيلماً أو تمثيلية أو يدخلون منتدى لأول مرة .. وفجأة يجدون منظراً خارجاً فيشعرون أنهم أخطأوا رغم أنهم حولوا أبصارهم ولم تكن لديهم معرفة بالمنظر من قبل!
للتوضيح والإجابة على هذه المواقف سنطرح سؤالاً " ماذا لو كنت صائماً وبينما كنت فى الطريق تحركت أمعائك فرفضت أن تأكل وأكملت صيامك ؟ " أعتقد أن هذا فضيلة فالجهاد لا يمكن أن يكون رذيلة، وتحرك الغرائز شيء طبيعي طالما يسعى الإنسان إلى قمعها. إذن ما هى الخطية؟
باختصار شديد يمكن حصر الخطية في نقطتين:
1- السقوط الفعلى فى الخطية
2- الرغبة في السقوط
ولا تحتاج الأولى إلى توضيح، إنما الثانية التى هى موضع حديثنا تحتاج إلى توضيح، فالأفكار التى تجول فينا والشهوات.. كيف نعرف أنها خطية نابعة من داخلنا، أم هى مجرد حرب خطية؟
إسأل نفسك: الآن كل الظروف متوفرة لتحقيق أفكاري هل أحققها أم لا؟ يعنى إذا تملكك فكر السرقة إسأل نفسك: الآن أستطيع سرقة الساعة فهل ستسرقها؟ لو قلت نعم أريد سرقتها فهذه خطية حتى لو لم تستطع سرقتها، وإذا قلت لا فهذه مجرد حرب فكرية.
وإذا تملكك فكر شهوانى وأنت تتحدث مع زميلتك، إسأل نفسك: كل الظروف مهيأة لسقوطى وزميلتى لن تمانع، فإذا رغبت السقوط فهذا خطية. وإذا رفضت فهذه مجرد حرب لكي تقلقك وتنزعج.
ومعروف أن مثل هذه الحروب لن تنتهى طالما نحيا فى هذا الجسد، لأننا ولدنا نحمل الثنائية فى داخلنا: الخير والشر، النور والظلمة.. في لحظة نتحرك من أقصى اليمين إلى اليسار دون أن نعرف السبب! وتستطيع أن تتحقق من هذا وأنت تصلي، فقد تبدأ صلاتك بقوة روحية وتأملات غاية السمو وفجأة يتشتت فكرك وتتذكر مواقف ومناظر أحزنتك.
وهكذا بسؤال بسيط تستطيع أن تعرف ما الفرق بين الخطية وحرب الخطية، أما السؤال فهو: الآن كل الظروف متوفرة لتحقيق أفكاري هل أحققها أم لا؟
وقد تعمدت طرح هذا الموضوع لسببين:
1- الفشل الواضح في العلاقات بين الشباب والشابات أو الرجال والنساء عامة بسبب هذه الحرب الفكرية.
2- الشعور بالذنب المرير الذي يتملك كثيرين بسبب قلة التوعية رغم جهادهم ضد الخطية.
الأحد، 22 مايو 2011
صعود المسيح وجلوسه عن يمين الله
إن إيليا صعد بمركبة ليظهر أنه محتاج لعون غيره، وهكذا أخنوخ نقل.. لكننا لا نقرأ عن السيد المسيح صعد بواسطة مركبة أو ملائكة لأنه لا يحتاج لمساعدة.
ويعطينا القديس أغسطينوس تفسيراً لعبارة يمين الله فيقول:
لا نفهم جلوسه عن يمين الله بمعنى جلوس أعضائه الجسدية، إنما نفهم اليمين بمعنى السلطان الذي قبله من الآب لكي يأتي ويدين.
وكلمة جلس هنا تعنى أنه قد استقر .. استقر فى هذه القوة ، أى أن عبارة " أخلى ذاته " ( فى7:2 ) ، قد انتهت بالصعود وما كان يسمح به من إهانات البصق واللطم والجلد وما أشبه قد انتهى وقد استقر الآن فى عظمته ، حتى إنه حينما يأتى فى مجيئه الثانى ، سيأتى فى مجدة وجميع الملائكة القديسين معه ( مت31:25 ) على سحاب السماء ، كما صعد " أع11:1 " .
يقول قداسة البابا شنوده:
المقصود بصعود السيد المسيح إلى السماء أنه صعد بالجسد لأن اللاهوت لايصعد وينزل، فهو موجود فى السماء والأرض وما بينهما ، مالئ الكل . إنما الصعود بالجسد وهذا ما رآه التلاميذ يوم الصعود " أع 9:1 " .
ومن جهة الجلوس ، الله ليس له يمين ويسار . عبارة يمين ويسار تقال عن أى كائن محدود بيمين ويسار . أما الله فهو غير محدود .
ومن ناحية أخرى لايوجد فراغ حوله يجلس فيه أحد ، لأنه مالئ الكل وموجود فى كل مكان . وكذلك لو جلس الابن إلى جواره ، لكانا متجاورين . وهذا ضد قول الابن " أنا فى الآب ، والآب فى " " يو11:14 " .
إنما كلمة ( يمين ) ترمز إلى القوة والعظمة والبر كما نقول فى المزمور " يمين الرب صنعت قوة ، يمين الرب رفعتنى . يمين الرب صنعت قوة ، فلن أموت بعد بل أحيا " " مز117 " . ومثل وقوف الابرار عن يمينه ، والاشرار عن يساره فى يوم الدينونة "مت25" . فكون المسيح عن يمين الآب أى فى عظمته وبره . لذلك قال السيد المسيح لرؤساء الكهنة " من الآن تبصرون ابن الإنسان عن يمين القوة " " مت64:26 " .