الإشارة إليها
وإلى هذه الكأس المرّة المـذاق قد أشـار المخلص أكثر من مرّة، فعندما طلبت أُم ابني زبدي، أن يجلس ابناها واحد عن يمينه والآخر عن يسـاره فى ملكوته، أجاب رب المجد متسائلاً: " أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟ " (مت22:20).
وفى بستان جثسيماني بعد جهاد فى الصلاة، سمعناه يتساءل: إن كان ممكناً أن تعبر عنه هذه الكأس " يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ " (لو42:22).
محتوياتها
++ فى الكأس كانت خطايا البشرية كلها
فكل ما ادخرته البشرية لنفسها ليوم الدينونة العظيم، من قتل ونهب وسرقة، وتجديف وجحود، وكبرياء وظلم وقساوة قلب، ومكر وخداع وشهوات رديئة، وكذب ونفاق ونميمة.. هذه كلها امتزجت فى كأس آلامه.
وهكذا صار المسيح ذبيحاً فى هابيل، ومُزدَرى فى نوح من بنيه، ومتغرباً فى شخص ابراهيم، وعبداً أجيراً فى يعقوب، وهارباً فى موسى، وأسيراً مباعاً فى يوسف الصديق.. وإلى الأبد سيذوب على مذبح الحُب، ليضئ بنوره حُبَِّه الطريق أمام كل زورق تائه في الحياة!
++ وفي الكأس أيضاً آلام الصلب
++ ولا شك أن خطايا اليهود زادت الكأس مرارة
فالمسيح عانى من كراهية وحسد اليهود!! وقد عاش مرفوضاً من خاصته يُعامل معاملة الازدراء المهين التي قلّما يُعامل بها أشر الخطاة! فكم من نفوس عاشوا فى كهوف تتدلى أفكار اليأس من سقوفها، وكم من نفوس طريدة كادت حياتها كشمس المغيب تذوب فى صدر الحياة، هؤلاء غير العميان الذين كانت أحلاهم تسيل على الطريق لَعَلَّهم يبصرون فى يوم ما النور.. إلى أن جاء المسيح وحررهم فتحوّلوا إلى شعلة من نور ونار! ومع ذلك قالوا بجهل أنّه: " بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخرِجُ الشَّيَاطِينَ " (لو11: 15)، وأرادوا كرياح الخريف إسقاط أوراقه من شجرة الحياة!
فهل أخطأ يسوع؟ ربَّما يكون فى نظرهم أخطأ عندما تحدث عن نفسه! ولكنّه فى الحقيقة لم يدّعِِ لنفسه أكثر مما يدّعى شهر الربيع فى عبيره، أليس من واجبه أن يُعلن الحقيقة اللامعة التى أرادوا لحقدهم إخفاءها؟!
وإذ هو يسعى فى البحث عن الخطاة والضالين كانوا يتهمونه بأنه " إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ " (مت19:11)، وهم لم يعرفوا أنَّ يسوع قد جاء ليجالس غير المتوجين، فهؤلاء فى نظره أفضل من ملوك كثيرين، يعبثون بلا فكر كالجماجم المطروحة بين الصخور، ينظرون إلى قصورهم نظرة الأسير إلى جدران سجنه الحديدية، أمَّا أرواحهم المحبوسة فى ظلمة الخطية، تتعذب مثل العصفور بين قضبات قفصه، وهو يرى أسراب الحمام تسبح حرّة فى الخلاء! وها نحن نتساءل:
فتح وأضاء الطريق أمام العميان، وهم حقّروه وأغمضوا عيونهم عن رؤيته! شفى بكلمته اليد اليابسة وانبسطت تلك اليد لتضربه! أطلق ألسن الخرس وأولئك شتموه وجدّفوا عليه ونفضوا البصاق فى وجهه! حوّل الماء خمراً مختاراً فى عرس قانا الجليل، وفى وقت عطشه أعطوه خلاً! أكثر الخبز وأشبع الجياع وعوض الخبز كافئوه بالمر..!!
لقد كان غريباً!! نعم كان يسوع غريباً فى أرض ليست له، وزائراً يقرع أبوابنا الحديدية، وضيفاً جاء يفتقدنا من بلاد بعيدة فى منحوتاتنا الصخرية، لكنّه لم يجد بيننا مُضيفاً عطوفاً ولذلك رجع إلى مسكنه!
لم يكن يسوع هو ابن الولاية الفخور، ولا ابن الإمبراطورية المتمتّع بحمايتها، ولذلك حسبوه غريباً عن بلاطهم، ودخيلاً على قصورهم، فعاملوه كرجل مختل العقل يثور على النظام، ومتسوّل يُقاوم المقتنيات، وسكِّير لا يفرح إلاَّ مع المحتالين والمزدرين، ولايجالس إلاَّ الزناة والعشارين! وهكذا ترفض الصخور البشرية ابن وحفيد الملوك الذين أسسوا مملكة الروح!
++ هذا بالإضافة إلى حروب الشياطين
ولعنة الناموس التى لم يسقط منها حرف واحد، واحتجاب وجه الله عنه وقت التجربة، وهروب التلاميذ وتركهم إياه وحده، وخيانة يهوذا تلميذه وإنكار بطرس له.. كل هذه وتلك اختلطت وامتزجت معاً فى كأس آلام المسيح، وتحوّلت إلى علقم مر وسم مميت، وعلى الرغم من ذلك شربها.
شرب المسيح كأس الألم ليملأها بالبركات لشعبه!!
نتائجها
لا شك أن كل ما مُزج فى الكأس، كان مقدّراً لنا من العدل الإلهيّ بسبب خطايانا، فكأس الألم التي شربها المسيـح كان يجب أن نشربها، وكل الآلام التى وقعت عليه كانت ستقع على طبيعتنا الفاسدة، وما لقيه من عذاب كنا سنناله كجزاء عادل لشرورنا، لكن المسيح حمل خطايا البشرية فى جسده المقدس وحرقها على مذبح الصليب بنار الغضب الإلهيّ، فأوفى العدل الإلهى حقه، وبهذا أكمل الفداء وأتم الصلح، وأصبح الآن " لا شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ " (رو1:8).
فالذى لم يفعل خطية صار خطية لأجلنا، لنصير بر الله فيه، والشجرة الوحيدة الخضراء المثمرة الثمر الجيد وضعت عليها الفأس وقٌطعت لتثمر شجرتنا التى جفت وأفسدتها الخطية، وهذا إنَّما يدل على محبة الله وحكمته، لأنَّه بكأس ألم شربها المسيح كانت نهاية آلام البشرية!
نعم فحُب المسيح هو الذي جذبه ليتألم من أجلنا، وأي إنسان لم يرتشف من كأس حُبّه فى إحدى كاساته؟! أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟! فأمام حُبِّه يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون على جبلٍٍ عالٍٍٍ مصغيين لصوت الحُب يقول لصالبيه "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَيَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو34:23).
إن قصة تكوين الجنس البشرى مكتوبة بأعظم لغة ألا وهى لغة الحب، فقد خلق الله الإنسان من تراب ونفخ فيه فصار نفساً حيّة، وما هذه النفخة إلاَّ أنفاس الحُب الإلهية، فالله محبة وكل ما يخرج منه هو حُب ويدعو إلى الحُب، ولهذا فإن الكون بكل حركاته يشير إلى الحُب، فرياح الصباح تهب لتوقظ الأوراق النائمة على أشجار الحُب! والليل يأتى بظلامه لا ليخيفنا بل ليدعو الناس إلى الصلاة فى أعظم مخدع ألا وهو مخدع الحُب!
قالت " قطعة الجليد " وقد مسّها أول شعاع من أشعة الشمس فى مستهل الربيع:
أنا أُحب وأنا أذوب وليس فى الإمكان أن أحب وأوجد معاً!! فلابد من الاختيار بين أمرين: وجود بدون حُب وهذا هو الشتاء القارس، وحُب بدون وجود وهذا هو الموت فى مطلع الربيع، وها رب المجد ذاب فى ربيع حياته، حُبّاً فينا ورغبة فى خلاصنا، مات الحياة لتحيا الخليقة المائتة بموته! فهل لنا أن نحمل قارورة حُبّه عالياً لنقطرها بلسماً على جراح البشرية؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق