مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 26 ديسمبر 2009

شهود ميلاد المسيح (2)

حنـّة النبية

رمز للإخلاص فى العبادة والالتصاق بالله عن حُب، لازمت الهيكل لا تفارقه قط، عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً، وفى الهيكل كم أحنت ركبتيها تمجيداً لخالقها! وكم سكبت ذبيحة صلواتها على مذبح الحب الإلهيّ عاشت بين جدران تسيل من حجارتها أصوات التسابيح والمزامير، وقد تعبّقت برائحة البخور، أرواح البشر تذوب فيها حباً لخالقها، فيها يشرب الإنسان من خمر السكينة والطمأنينة، لقد تجلى الهيكل متشامخاً في قلب أورشليم، وتجلى الله بحبه في قلب حنّة بنت فنوئيل، وهكذا يظل القلب الطاهر عرشاً لملك الملوك فالحوار بين السماء والأرضبين الله والإنسان لم ولن .

وأغلب الظن أن ضجيج الحياة، وصراع الغرائز، وتسلّط المادة، أشياء تشغل الإنسان عن سماع دقات الله في أعماقه! هل ندمت حنّة على سنين قضتها في الهيكل؟ لا! لا! لم يفشل القديسون ولم تخب آمال الأنبياء، ففي الهيكل عاشت مع الله، والله إيمان ورجاء، والعالم كفر وإلحاد، الله نقاء وعفاف، والعالم فسق وفجور، الله حق ووفاء، والعالم كذب ونفاق، فماذا خسرت بحياتها في الهيكل؟ وماذا لو عاشت في قصر تئن تحت وقع أسواط اللذة ونار الشهوات التي لا ينطفئ لهيبها؟ حيث يخلع البشر أثواب الحياء ويُغنّون للزمن ويسكرون بأصوات الطبول؟

يذكر الكتاب المقدّس عن حنّة أنَّها عاشت (84) سنة مُلازمة الهيكل (لو37:2)، فحوّلها الزمن إلى هشيم، وعزلتها هوة الشيخوخة عن البشر، وهجرها الأقارب والأصحاب، لأنَّها صارت من دنيا الأموات، ورقة صفراء عافها الشجر وهى تنتظر الخريف لتسقط، ولكن قبل الخريف أتاها الربيع بنسيمه العليل لتتنسم رائحة الحُب، فتنتعش روحها قبل أن تلفظ نفسها الأخير، لقد كانت تسكب اشتياقات قلبها على مذبح الحُب، تطلب من الله أن يجعل ملائكته تقص عليها حكايات الأزمنة والدهور، وتشرح لها خطة الأنبياء في نبواتهم عن المسيح ضمن السطور، وتكشف لها أسراراً استودعها في أناشيده داود صاحب المزامير، فقد حان لليالي السوداء الطوال أن تتمخض لتلد النور الذي اشتهت يوماً أن تراه وتكحل به عينيها، وقد كان ورأت النور!المجــوس أمَّا المجوس فهم طغمة كهنوتية علماء في الفلك والتنجيم، قضوا حياتهم في دراسة الظواهر الفلكية والحوادث المستقبلية وورد ذكرهم في سفر (دانيال2:2)بعد ميلاد المسيح جاءوا من المشرق ومعهم أكياس مليئة بالهدايا لذلك المولود، فقدموا ليسوع الذهب الذي سيذدريه، والبخور ليعلنوا أن طقوسهم الجوفاء على وشك الانتهاء، و المر الذي يُستخدم في تحنيط الأموات، لأنهم أدركوا موت ابن الإنسان! حوالي ألف سنة قبلهم جاءت ملكة سبا إلى اليهودية، تحمل الهدايا من ذهب وعطور، وقد وجدت على عرش إسرائيل سليمان الذي تلقنت منه أعظم التعاليم (1مل10)।.

المجوس

أمَّا المجوس ولهم من العلم والحكمة والشهرة أكثر مما للملوك والرؤساء، لم يجدوا سوى طفل صغير عاجز عن الحوار، ومع ذلك سجدوا تحت قدميه، طارحين على الأرض تيجانهم، ومقدمين هداياهم من ذهب ولبان ومر، في بلاد فارس لم يكن المجوس هو الملوك، بل معلمي الملوك فهم الذين يقودون الحكام، ويقدمون الذبائح، ويفسرون الأحلام، ويتنبأون بالغيبولم يكن ملك يقرر إعلان حرب إلاَّ بعد استشارتهم، وبصفتهم العارفين أسرار السماء والأرض، كانوا يُسيطرون على أبناء جنسهم باسم الدين والعلم، وكانوا بين شعب لا يعرف سوى الجسد أو المادة يمثلون جانب .

ولذلك كان لابد أن يسجد هؤلاء أمام المسيح، فبعد البهائم ممثلة الطبيعة، والرعاة ممثلون عامة الشعب، كان على سلطة المعرفة أن تسجد أمام مغارة بيت لحم، وبذلك أعلنت طبقة الكهنوت العريقة خضوعها للكاهن والمُعلّم الأعظم، الذي كان على الأمم الوثنية أن تتقبّل رسالته الجديدة، إنَّ سجود المجوس للسيد المسيح يعني، اعتراف علماء
اللاهوت القدامى بالمسيح وإيمانهم بلاهوته، وجثو المعرفة أمام البراءة، وارتماء الثروة عند أقدام الفقر يرى البعض أنَّهم كانوا كثيرين، يتقدّمهم ثلاثة فقط وهم الذين يحملون الهدايا، ولهذا السبب اضطرب هيرودس وجميع أورشليم معه (مت3:2)، والكنيسة تعتقد أن عددهم (12) وقد قال القديس يعقوب الرهاوي أنَّهم كانوا (12) ومعهم أكثر من ألف آخرين।والكنيسة اللاتينية تعد مجوساً ثلاثة أسماءهم هى:كسبار وملكيور وبلتازاروقال أنَّهم كانوا (8)، مستندين في ذلك إلى ما جاء في سفر ميخا النبيّ: " وَإِذَا دَاسَ فِي قُصُورِنَا نُقِيمُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ رُعَاةٍ وَثَمَانِيَةً مِنْ أُمَرَاءِ النَّاسِ (مي5:5)।

الأربعاء، 23 ديسمبر 2009

شهود مبلاد المسيح (1)


إنَّ شهود الميلاد كثيرين.. فها العذراء التي حملتْ جمر اللاهوت في أحشائها ولم تحترق! ويوحنَّا المعمدان الذي ارتكض فرحاً بالمسيح، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه! وهناك سمعان الشيخ الذي حمله على ذراعيه! وحنّة النبية التي عاشت مترملة 84 سنة، ملازمة الهيكل لا تفارقه قط بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً! هؤلاء غير الرعاة أول من زُفتْ إليهم بشرى الميلاد! والملاك الذي حمل إليهم البشرى! والملائكة الذين سبَّحوه يوم ميلاده! والمجوس الذين قدَّموا له هدايا من ذهب ولبان ومر.

يقول القديس كيرلس الأورشليميّ:
" ولادة ابن الله الوحيد بالجسد من عذراء ولادة بلا دنس، ولو عارض الهراطقة فإنَّ الروح القدس يلومهم.. وسيثور عليهم غبريال الملاك يوم الدين، ومكان المذود سيفحمهم، والرعاة الذين بُشّروا بالفرح العظيم سيشهدون، وجيش الملائكة الذين سبحوا الله.. والهيكل الذي حُمل إليه في اليوم الأربعين، وزوجا الحمام اللذان قُربا، وسمعان الذي حمله على ذراعيه، وحنّة النبية التي حضرت تلك الساعة ".

يوحنَّا المعمدان

لست أعلم إن كان هناك قصصاً كثيرة، تُثير الإنسان وتهز مشاعره وتلهب ضميره، مثل قصص المتوحدين الذين شقّوا طريقهم في أماكن خطرة، في البراري حيث سكنوا المغائر والكهوف، وقد كان المعمدان واحد من قلة نادرة عاشت حياة الشظف والجوع والعطش॥ شهد له السيد المسيح بأنَّه أعظم مواليد النساء (مت11:11)، وكيف لا يكون عظيماً وقد اكتشف الحبل الإلهيّ وهو جنيناً في بطن أمه! فقد فسَّر الآباء ارتكاض يوحنَّا وهو جنين في بطن أُمه (لو41:1) على أنَّه سجوداً للمخلص، وهذا ليس بغريب إذ قيل أنَّه " مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ " ( لو15:1)। لقد أحس بالروح أنَّ ما تحمله العذراء في بطنها، هو المسيح الرب الذي ينبغي له السجود والإكرام، وفي هذا تبكيت لقلوبنا الصخرية وأفكارنا المشوشة، التي تطلب المزيد من الأدلة على تجسّد ابن الله! ومع هذا نقول: إنَّ سماء الكتاب المقدس مرصّعة بالنجوم، وهى تتلألأ لترشد التائه في القفر إلى الله!

والحق إنَّ سجود المعمدان كان بمثابة عظة صامتة، تُلقّن الإنسان درساً في قدرة الله العجيبة، على تحويل الحياة إلى صلاة وسجود! فإن كان أروع ما في الطبيعة صمتها الساحر وجلالها الخاشع: صمت الغيوم في القبة الزرقاء، صمت الثلوج على الجبال، صمت الينابيع داخل الصخور، صمت الندى على الزهور، فإنَّ أروع ما في دنيا الروح: صمت الحياة الخاشعة، والركب الراكعة، والأياديَّ الضارعة، والدموع الصامتة، والقلوب الهائمة التي تُصعد حبَّها بخوراً لله في زفرات متقطعة॥

لقد كان المعمدان أمير النساك، ونبي الأطهار، ولكن هذا العظيم وقف أمام المسيح مكشوف النفس، عارياً يطلب غطاءً يستتر به، يلح على الاعتراف والتوبة لنفسه " أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (مت14:3)، فنظرات يسوع قد نفذت إلى أعماقه برهبة وحلاوة، فانخفضت عيناه الناريتان، وانعقد لسانه الذي طالما وبّخ ملوكاً وعظماءً।

الرعــاة

على مقربة من بين لحم، وبينما كان الرعاة الأتقياء يعيشون في البادية بعيداً عن العالم وملذاته، ساهرين على قطعانهم لحراستها من الذئاب واللصوص، ظهر ملاك الرب بغتة ليزف لهم بشرى الميلاد المفرحة، فاضطرب الرعاة وكان لابد أن يضطربوا، لأنَّهم لم يروا من قبل منظراً مهيباً كهذا، زاده جلالاً حدوثه فى الليل والقفر واقترانه ببهاء الملاك وهيبته، ولهذا قال لهم الملاك: " لا تخافوا "، هكذا فعل مع زكريا الكاهن ومريم العذراء (لو1: 13،30)، ثم بدأ يُعلن لهم البشرى المفرحة، بهذا يكون الرعاة هم أول من بُشروا بميلاد المسيح، الذي قال: " أنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ " (يو11:10)، ولأنَّ الراعيّ أول من يعرف بميلاد الحمل، هكذا أيضاً الرعاة هم أول من بُشّروا بميلاد حمل الله، الذي جاء ليرفع يرفع خطايا العالم كله (يو29:1)। لكنَّ المسيح إن كان حملاً قدّم ذاته ذبيحة عنا، إلاَّ أنَّه كان أيضاً لا يزال راعياً يرعى البشرية بتعاليمه المقدَّسة في مراعى حبّه، ولابد أنَّ الرعاة كانوا أتقياء مثل: إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود॥ وإلاَّ ما نالوا هذا الشرف العظيم! كما أنَّهم شابهوا الرسل الذين تعبوا في رعاية المؤمنين، وهكذا يبقى الراعي صالحاً إن قاد خرافه إلى المراعي الخضراء، ولم يدعها تهيم فوق الأراضي الجرداء!

ومما يُلفت النظر أنَّ الملائكة لم يحملوا بُشرى الميلاد للعلماء أو الملوك أو الأغنياء.. بل لرعاة! ما يُميّزهم هو سهرهم على القطيع! فقد انتهى الوقت الذي يوضع فيه ميزان للبشر! ألم يقل داود النبيّ: " والمَسَاكينْ يُبشَّرونْ " (مز4:72)، في بساطة ذهب الرعاة ليروا المولود (لو15:1)، فرجعوا مؤمنين مع أنَّهم لم يروا سوى طفلاً مُقمّطاً وموضوعاً في مذود حقير! ولكنَّهم أمام صوت الملاك الذي بشرهم سكتت عقولهم وتركوا إيمانهم يتكلّم، وبهذا أعطوا اليهود أعظم درس في الإيمان البسيط، الذي لا يعوقه فلسفات البشر، ويُقدّم لنا مارِ أفرآم السريانيّ، صورة مبهجة للقاء الرعاة بالطفل الراعيّ فيقول: " جاء الرعاة حاملين أفضل الهدايا من قطعانهم: لبناً لذيذاً ولحماً طازجاً وتسبيحاً لائقاً.. أعطوا اللحم ليوسف واللبن لمريم والتسبيح للابن.. أحضروا حملاً رضيعاً وقدموه لخروف الفصح، قدموا بكر للابن البكر، وضحية للضحية، وحملاً زمنياً للحمل الحقيقيّ.. ".

سمعان الشـيخ

مشت مريم على الدرب الطويل الصاعد من بيت لحم إلى أورشليم ، تُطوّق بذراعيها دُرّتها الثمينة، ويدخل المسيح الهيكل طفلاً لا تحمله مركبات ولا تواكبه جيوش، لكن كان في استقباله على مدخل الهيكل حشد كبير، من أنبياء وأبرار يمثلهم رجل صديق يُدعى سمعان الشيخ.

لقد جالس سمعان الكهنة والعلماء مستفسراً معاني التوراة الخاصة بالملك المسيح॥ وكم كانت أحلامه تسيل على الذبائح والقرابين، فرؤية مشتهى الأجيال حلم راوده مدى الحياة، وفى يوم ليس له نظير ولن يتكرر ثانية في التاريخ، يصعد إلى الهيكل ليرفع صلاته ويقرب بخوراً لله॥ وإذ به يُلاقي أُمّاً يشعْ من وجهها بريق طهارة عجيب، وتضم إلى صدرها طفلاً رضيعاً كأنَّه قطعة من نور، وإذا بالروح القدس يكشف له سر الوليد الإلهيّ ويكشف له عمَّا سيلقاه، فأحس سمعان بقوى الشباب تعود إليه ومعها شعلة الإيمان والرجاء، فأخذ الصبي بين يديه وراح يدهن بنور بهائه عينيه الضعيفتين اللتين أذابتهما الأيام، وكأنَّ عيون الآباء والأنبياء التي أغمضت على ذلك الرجاء، تنضم إليه لتكتحل هى أيضاً بذلك السناء، فلا عجب إن هتف البار مترنحاً بنشوة الظفر والخلاص، مترنّماً بعظائم الله (لو29: 2)، فكان نشيده شكر لله الذي أنجز وعده متجسّداً من عذراء وأصبح في حوزة يديه! ونشيد إيمان لأنَّ عينيه تكتحلان الآن بنور الأبدية، وتجعلانه ينظر مسبقاً خلاص الأمم الذي سيتم على يد هذا الوليد السماويّ، ونشيد تعزية لأنَّه انتصر على الخطية وقوات الجحيم وآمن أن نصيبه سيكون مع المفديين! وهو الآن ليس بنادم على عمر طواه فى خدمة الله، لقد أراق عمره سكيباً على مذبح الحُب الإلهيّ، وقد كافئه الله بمعاينة ابنه في غروب حياته! يُخيّل إلىّ أنَّ سمعان بعدما سبّح الله تغيّر وجهه، وامتد بصره إلى الأُفق البعيد وأطال الإمعان، وكأنَّه يقرأ سفراً عتيقاً، ثم دفع الطفل إلى أُمه وقال والحزن يتموج بين كلماته: وأنتِ سيجوز في نفسك سيف، يوم أن يُرفع ابنك على العود ويُصلب الحب على الصليب، فبين الحب والكراهية حرب، والعالم ظلمة فيها يعبث الأشرار وابنك نور ساطع البهاء، يكشف الأسرار ويقلق الأفكار... ولِذا سيكون نصيبه الموت! فأحنت مريم رأسها، وقدمت تقدمة حبّها لله وقالت: ها أنذا أمتك يارب لتكن مشيئتك

السبت، 12 ديسمبر 2009

بيت لحم قرية ميلاد ملك الملوك



هى قرية صغيرة من تلك القرى الفلسطينية المتناثرة على التلال، تُحيط بها أرض مزدانة بكثير من الأشجار والنبات، أمَّا ينابيعها فيتدفق منها ماء عذب، اشتاق داود النبيّ أن يشرب منه مرّة، وهو على بعدٍ أثناء حربه مع الفلسطينيين، يقول الكتاب المقدّس " فَتَأَوَّهَ دَاوُدُ وَقَالَ: مَنْ يَسْقِينِي مَاءً مِنْ بِئْرِ بَيْتِ لَحْمِ؟ " (2صم15:23).

معناها " بيت الخبز "، وقد دُعيت هكذا لخصوبة أرضها، التي تفيض بالثمر وبخاصة الكروم والزيتون، وهكذا شاء الله أن يولد خبز الحياة النازل من السماء فى بيت الخبز، لكي يأكل منه كل جائع إلى البر فيحيا حياة أبدية (يو54:6).

في زمن يعقوب دُعيت " أفراتة " أو " أفراثة "، وفي هذا يقول مار يعقوب السروجيّ: " اسم أفراتة تعني بيت لحم لأنَّ الحياة نزل من السماء وحل بمكانها، ها في بيت لحم خبز جديد لجياع الأرض "، ولكن بعد غزو كنعان، دُعيت بيت لحم اليهودية لتمييزها عن بيت لحم زَبولونْ.


وتأتي أول إشارة إلى بيت لحم فى الكتاب المقدس، في مكان ذُرفت فيه الدموع، فهناك نلمح على الطريق المؤدي إليها قافلة تسير متباطئة قد أناخها الحزن، وفي القافلة شخصان: رجل وامرأة، والمرأة تعاني سكرات الموت، إنَّهما يعقوب وراحيل اللذين ارتحلا من بيت إيل إلى بيت لحم لتموت راحيل وتُدفن في هذا المكان المقدس (تك16:35-20).

فأول لمحة عن بيت كانت للدموع! ثم سرعان ما تغير المشهد، لنرى بيت لحم مكاناً للحُب البريء، فقصة الحُب الجميلة بين بوعز وراعوث، نُسجتْ خيوطها الذهبية في بيت لحم، فدخلت القرية الحقيرة التاريخ، بعد أن امتلأ جوها بعبير الحُب الساميّ أحد ينابيع الوجود!

ومن هذا الحُب الفريد الذي ترعرع تحت سماء بيت لحم وبين أزهارها، جاء داود النبيّ الملك العظيم، فقد كان مسقطه بيت لحم (صم12:17)، وفيها أيضاً مُسح ملكاً (1صم13:16).

وظلت الأجيال تتعاقب، والرجاء يقوى، وفى وسط هذا الشعور الغامر بقرب مجيء المُخلّص، يأتي ميخا النبيّ بنبوة واضحة عن ميلاد المسيح في بيت لحم فيقول: " أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (مى2:5).

هذا وقد ذكر لنا الكتاب المقدس أنَّ رحبعام ابن سليمان حصنها (2أى6:11 )، كما جاء في كتب التاريخ أنَّ يوستنياس قد رمم أسوارها. وفى سنة (330م) بنت الملكة هيلانة فوق المغارة، كنيسة تُدعى الآن باسم " كنيسة المهد "، وهكذا شاءت حكمة الله أن يولد المسيح في بيت لحم رغم أنَّ العذراء كانت تسكن الناصرة! فما هى قصة الميلاد العجيب؟

أصدر أُغسطس قيصر أمر بإحصاء رعاياه فى أنحاء المملكة الرومانية، فقد كان أباطرة روما عشّاقاً لفنون تعذيب البشر وإذلالهم، ومن صور هذه القسوة الأمر الذي كان يصدره الحاكم عندما يعتلي العرش، وهو إحصاء الشعوب التي تخضع له وتؤدي الجزية، وقد كانت الأمة اليهودية خاضعة للسلطة الرومانية في ذلك الوقت.

يصدر الأمر فتتحرّك الشعوب زاحفة إلى حيث مسقط رأسها، لتُسجل أسماءها في دفاترها وأيضاً مهنتها وثروتها، فتسهل جباية الضرائب، ومن ناحية أخرى يتعمّق في وجدان الشعوب الزاحفة الإحساس بالضعف والمذلة، ويتعمق في وجدان أباطرة روما كبرياء الأقوياء وغرور المستبدين!

وما أعظم الفرق بين موكب الأُسر الكادحة الزاحفة في خوف وقلق ومشقة، تحمل متاعاً قليلاً ومعه أحزاناً كثيرة، و بين موكب الحاكم الرومانيّ، وهو يتحرك في عربة فخمة مذهّبة ومُجهزة بكل وسائل الراحة، تُحيط بها جمهرة من الجند حاملي السلاح، لكي يشيعوا مزيداً من الخوف في قلوب البائسين.

صدر الأمر فانطلق الجميع، كل واحد إلى مدينته، فصعد يوسف من الجليل إلى اليهودية، من الناصرة إلى بيت لحم ليكتتب مع مريم امرأته (لو4:2)، وما هذا الصعود إلاَّ إعلان واضح أنَّ المسيح قد نزل من السماء ليرفعنا من الأرض إلى السماء.

ويتأمل القديس يعقوب السروجيّ في قصة الاكتتاب فيقول: " خرج الأمر أن يكتتب كل واحد اسمه في بلده، فكان يجب أن يكتب ابن الله اسمه في سما السموات، لكنَّه شاء أن يولد في بيت لحم لكي يكتب بميلاده أسماء الناس في سفر الحياة ".

انطلق موكب المكتتبين، النساء تلفّهم الأوشحة السوداء وكأنَّهم ليل يسير في بطء شديد، والرجال وقد أحنى الفقر أعوادهم الصلبة وغمر العرق جباههم المرهقة، وعلى مشارف بيت لحم تفرقت العائلات، فهناك من ذهبوا إلى الأقارب والأصحاب، ومن مَلَكَ بعض المال ذهب إلى الفنادق الرخيصة، أو إلى بعض المنازل التي حوّلها أصحابها إلى فنادق مؤقتة..أمَّا يوسف ومريم فمضيا إلى مغارة على أطراف المدينة فوق تلٍ لأنَّهما من الفقراء!! ولا تزال بيت لحم تُحيط بها المغائر والكهوف، يترك فيها الناس بهائمهم في أوقات الازدحام ومواسم التجارة والأعياد.

ويبقى السؤال الحائر بلا إجابة واضحة: أين ثروة الملك داود؟! أليست العذراء أعظم ثمرة في تلك الشجرة الملوكية؟! قد لا نعرف كيف فقدت الأسرة ثروتها، لكننا نعرف أنَّ حضارات الشعوب، صنعها هؤلاء المخلصون المجاهدون، العاملون بأمانة في صمت عظيم، وهكذا عاش المسيح الحياة بعد أن حررها من آلام الغنى، فكانت حياته بسيطة لا يشوبها الطمع أو تمزقها الأنانية أو يرهقها الجشع، وقد رضي بالقليل لأنَّه امتلك غنى النفس!

وفى لحظة هى أعظم لحظات الوجود، صرخ طفل ليس له قط نظير، معلناً عن مجيئه إلى عالمنا ليفصل بين زمنين، إنَّه يسوع! لقد أتت مريم بكائن فريد ليس كباقي الأطفال، فكل يوم يشق الفضاء صوت القادمين من الغيب إلى هذا العالم، ولكل كائن آتٍٍ إلى العالم دعوة ورسالة للحياة.. ولكن ما أعظم الفرق بين هذا وهؤلاء!!

الجمعة، 6 نوفمبر 2009

أهمية ميلاد المسيح


كان من نتائج السقوط أن فقد الإنسان طبيعة الصلاح وغرق في بحر الخطايا والآثام، فاظلمَّت روحه، وانحط فكره، وانقاد بفعل الخطية إلى عبادة الأوثان، وقد عجزت كل القوانين الأرضية والفلسفات البشرية.. عن إنقاذه من لجة الموت، والمضي به إلى شاطيء الخلاص! فعاش لا يعرف من الحياة سوى أشباحها.

في وسط هذه الظلمات تطلَّعت البشريَّة إلي مُخلَّص، وإذ كان متعذَّراً بين الخلق أن يوجد مثل هذا الجبار، تركَّزت الآمال في انتظار مجيئه من العالم الآخر! وهكذا كان الأنبياء يرفعون كل يوم صلواتهم إلي الله، متوسّلين أن تفتح السماء أبوابها لينزل البار مشتهى الأجيال، إلي أن جاء ملء الزمان والتقت السماء والأرض، وتعانقا في شخص المسيح يوم ميلاده.

وُلِدَ في كهف ووضع في مذود، مع أنَّ الملاك قال لأُمه أنَّه سيجلس على كرسي داود إلي الأبد (لو13:1)، فهل أخطأ الملاك؟ حاشا! لكنَّ المسيح قد نزل ضيفاً على مملكة الحيوان ليُضرم نيران ثورة لم تخمُد شعلتها بعد، نعم ثورة أبطلت شريعة الغاب، ورفعت الحق على الباطل، والمحبَّة على الكراهية، وساوت بين الأسياد والعبيد، والأغنياء والفقراء، فالفقر عند المزود قد صار غنىً، والرد دفئاً، والظلمة خيطاً من نور يُضيء الطريق أمام كل زورق تائه في الحياة.

تُرى كيف كان حال المجتمع قبل مجيء المسيح؟ كان مستقراً ماديّاً، مقلقاً اجتماعيّاً، مفلساً روحيّاً، بدليل أن الغالبية لم يكن لديهم وعي بمعنى الخطيّة ولم يهتموا بالفشل الروحيّ، فعبدوا البشر، وطلبوا الغفران من الشمس! وهكذا أفلست الديانات القديمة وعجزت عن حل مشكلة الإنسان، فازداد الاشتياق والتطلّع إلي المُخلّص، بعد أن ساد اقتناع تام بأنَّ الإنسان في حاجة إلي كائن آخر يفوقه في قدراته، ليُخلّصه من تلك القوى الجبَّارة التي عبدها كالكواكب والنجوم والقدر الأعمى..

أمَّا اليهود فقد عاشوا ينتظرون مجيّ المُخلَّص، ولم يكن فكرهم قائماً على الإيحاء النفسيّ أو التفكير العقليّ، بل كان واقعاً فعلياً، مرتكزاً على وعود ومواثيق خطّتها يد الله، بأحرف من ذهب وكلمات من نور على صفحات الكتاب المُقدّس، ولهذا ظهر مرات كثيرة بأشكال مختلفة، لتكون معالم على التجسّد الأعظم في ملء الزمان.

كما أعطاهم رموزاً كثيرة، تُشير في جوهرها لإمكانية ظهور الله في صور مختلفة لَعَلَّ أشهرها العُليَّقة وعمود السحاب وعصا هرون.. لكنَّهم كالوثنيين أحبّوا الظلمة أكثر من النور، ففي أورشليم كانت عيون كثيرة تُحدّق في الأشياء الصغيرة، إنَّهم رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيين، الذين إظلم فكرهم وقلبهم وقد أضلوا الشعب بتعاليمهم! فصاروا كحشرات المستنقعات التي تحيا بين القاذورات أو كأفاعي الكهوف التي تبث في الفضاء سمومها!

إنَّ ميلاد المسيح إعلان واضح أنَّ إلهنا ليس أنانياً لا يهمَّه البشر، ولا يفكر إلاَّ بسجود العبيد، ونحر الذبائح وحرق البخور.. فمثل هذا الإله المنزوي في سمائه بعيداً عن خلائقه لا وجود له، فالله محبّة، ومن طبع المحبّة أن تشقى لتُسعد الآخرين، تولد في القفر، وتحيا في الآلام، وتصعد كل يوم على الجُلجثة، وتُسمّر على صليب الإنسانية.. لتُكحّل عيونهم بأنوار الخلاص! فيُعاين كل إنسان في داخله مسيحاً جديداً، مدعواً لبذل حياته لأجل افتداء البشر! وهكذا مَنْ انسكبت محبّة الله في قلبه يصير كالبحر الواسع فيه تُصبْ ضعفات البشر فيُسر بتنقيتها، يتلقّى همومهم فيخفيها في لُججه العميقة، فهل لنا أن نحمل قارورة حُبّه عالياً ونقطرها بلسماً على جراح البشرية!

التجسّد هو الحلقة الأولى في سلسلة الفداء التي تشمل: الميلاد، الصلب، القيامة، الصعود، حلول الروح القدس، ففي الميلاد رأينا يسوع كشمس مُشرقة، ثم انتهت على الجُلجثة كشمس المغيب تذوب في صدر الحياة ولكن بين الشروق والغروب، ألهبت حرارة شمس البر قلوب كثيرين وأضاء شعاعها الذهبيّ الطريق ليرد ضالين..

فها المرأة الخاطئة التي تلاعبت بقلوب كثيرين، وكانت ترى اسمها مكتوباً على الشجر، منقوراً على الصخور، ها هي تستيقظ يوماً لتجد نفسها عنقوداً يابساً على كرمة الحياة، وردة ذابلة، قيثارة مُحطَّمة الأوتار، عشاً هجره النسور، لكنَّ يسوع يظهر في ليلتها المُظلمة، ويشد ثانية أوتار قيثارتها المُحطّمة، وهناك في بيت سمعان تتقابل مع يسوع، وفى يدها اليمنى قارورة طيب فيها عصير حياتها من جمال ومال، أمَّا اليد الأُخرى فقد كان فيها عذاب مرير ويأس مُخيف! وتطبع المرأة قُبلة ملؤها الندم على قدمي مُخلّصها، ومن قلب جريح بكت دم، فما أن أفرغت قارورتها حتى امتلأت من رحيق الغفران والرجاء، فغسلت نفسها ونفوس خطاة كثيرين كانوا يعيشون مثلها في الظلام.

الخميس، 15 أكتوبر 2009

علمتني سمكة - أهمية أن نحيا في هدوء

وقفت على شاطيء نهر الحياة أتأمّل، فرأيت أمواجاً تتلاطم ولا أعرف لماذا؟! وسفن تسير ولم أعرف إلى أي مكان هى تسير؟! أو على أي شاطيء سترسي؟! ولكن، لا الأمواج شغلتني كثيراً ولا السفن تملّكت فكري طويلاً، بل جذبني سمك البحر، وقادني من حيث لا أدري إلى تأملات عميقة، وتعاليم سامية قد أفادتنى كثيراً، وإليكم بعض ما تعلّمته:

أهمية أن نحيا في هدوء

نعلم أنَّ السمك يهرب من الضوضاء، فأيّ حركة تُعد مصدر خوف له، وهذا ليس ناتجاً عن حاسة السمع، فقد ثبت أنَّ هذه الحاسة معدومة لديّ الأسماك، ولكن حاسة اللمس قوية جداً فيه، فالذي يحدث هو أنَّ الحركة تُحدث تموُّجات هوائية، وهذه التموُّجات تتسبب في تحريك الماء، فيشعر السمك بالخطر المُحيط به، فيهرب إلى مكان آخر يكون أكثر هدوء!

هنا أتذكّر موقف رائع يَنُم عن ذكاء خارق، لصاحبة الإرادة القوية " هيلين كيلر ففي إحدي ندواتها عندما صفّق لها الحاضرون، رأوها وهى ترفع يدها، فتعجبوا! ليس لأنَّها بادلتهم التحية، بل لأنَّها عمياء وخرساء وصماء! فسألوها كيف عرفتي أنّهم يُصفّقون لكِِ؟ فقالت: عندما صفَّقوا تحرَّكت طبقات الهواء من حولي، فشعرت بحركة ذيل الفستان، فتوقّعت أنَّ الحاضرين يُحيونني ويجب علىّ أن أُبادلهم التحية!!

والحق إنَّ الإنسان الحكيم، وكل من يتمتع بمواهب روحية وثقافية.. لا يترك نفسه نهباً لصخب العالم وضوضائه، ولهذا ما أن يجذبه العالم بمادياته الفانية وتقاليده وعاداته البالية.. فسرعان ما ينسلخ ولو قليلاً ليرتد إلى ذاته، فيحيا فى عالمه الخاص الصغير، الذي يشعر فيه بالأمان والسلام.. هكذا عاش وأبدع قديسون وفلاسفة وعلماء.. بعد أن تحرروا من قيود المجتمع، وارتفعوا فوق مشاكله وهمومه، وتخلّصوا من صحبة أصدقاء السوء..

قصة

في الصباح الباكر انطلق الطفل مارك إلى أبيه، الذي كعادته حوّل وجهه إليه مبتسماً واحتضنه وقبَّله، لكنَّه لم يُداعبه كثيراً، لأنَّ مارك سأله عن سر تطلّعه كثيراً من النافذة؟ ففتح سؤال الابن قلب وعقل الأب للكلام والتأمل فقال: إنَّ منظر الطيور المُغرّدة يُبهرني، فهى تُغرد ثم تطير جماعاتً، وكأنَّها تبدأ يومها بالتسبيح لتنطلق بروح الفرح للعمل معاً، كما لو كان أسعد كائنات في الوجود، والعجيب أنَّها تقف على أسلاك التليفونات لتُثبِّت بمخالبها الصغيرة وقفتها وهى غير خائفة البتة، والأسلاك تحمل أحاديث كثيرة تَعبُر من بيت إلى آخر، وهى تحوي داخلها مشاكل وهموم وأسرار.. لكنَّ الأخبار تمر بسرعة تحت أقدام العصافير، وتظل محتفظة بهدوءها دون أن تفقد سلامها، أو تتوقّف عن تغريدها.. ونحن كمؤمنين أحبّوا الله نحيا وسط صخب العالم، وقد تلاطمنا أمواجه، ولكن بقلوب هادئة نحيا، مرتفعين كالعصافير فوق مشاكل ومضايقات البشر، هكذا تحيا السفينة في الماء دون أن يتسرّب الماء داخلها، لأنَّ دخول الماء إليها يعني غرقها! أتتذكَّرون قول معلَّمنا يعقوب الرسول: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُّو اًلِلَّهِ " (يع4:4).

قصة

في يوم ما انطلقت مجموعة من البط البريّ متَّجهة نحو الجنوب، وكان الكل يطير ويستريح معاً فى تناسق وانسجام عجيب، وحدث أن لاحظت بطة أثناء طيرها مجموعة من الطيور تأكلفى حقل، ففكّرت أن تهبط وتأكل معهم ثم تلحق بالسرب، وقد كان! إذ نزلت وملأت بطنها واشتهت أن تأكل أكثر فنالت شهوتها! والآن جاءت لحظة الانطلاق فوجدت نفسها عاجزة عن التحليق في السماء، لقد أثقلها الطعام ويجب أن تعيش في وحل الأرض، تعانى من الأصوات المزعجة، وتختبيء من الحيوانات المفترسة، لقد كانت تحيا حياة هادئة فماذا جنت من شهوة عابرة؟ لم تجنِ سوى الندم على حياة جميلة اختبرت أفراحها، وهكذا عاشت البطة غريبة بين طيور وحيوانات ليسوا من فصيلتها، تنتظر قدوم الشتاء لَعلَّها تجد من يرفعها وتطير مع رفيقاتها، لكنها لم تصمت بل كانت ترتل مع داود النبيّ قائلة: " لَيْتَ لِي جَنَاحاً كَالْحَمَامَةِ فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! "(مز6:55).

الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

علمتني سمكة - الرغبة في الحياة

يحيا حيوان البر بالقرب من الإنسان ولكن ماذا جنى؟ الذبح والاستعباد! وهكذا طير السماء فى هروب دائم من أجل حريته! إذن فاعتزال الأسماك دليل على أنَّه يرغب الحياة كغيره من المخلوقات، ولأنَّه يعرف جيداً أنَّ هلاكه في قربه من الناس فهو لهذا يهرب منهم.ونحن كبشر، ألسنا نعرف أنَّ العالم الخارجيّ يعني المخاطرة؟ إنَّه ساحة حرب، إذن إمكانية الإصابة واردة، وهل يوجد إنسان لم يجرحه العالم بسهامه المسمومة؟ أعتقد أننا جميعاً اختبرنا جروح الغيرة والحقد والحسد والكراهية.. ولهذا فضّلنا الاحتماء وتحصين أنفسنا، وذلك بعدم الخروج من حصننا الذاتي ولو لفترة، إلى أن توقّفت أعاصير العالم المُدمّرة!وهكذا يتعلق الإنسان أكثر فأكثر بالداخل للحصول على وسائل الوقاية اللازمة، وهذا ليس إنسلاخاً أو تهرّباً أو انعزالاً عن كره.. لأنَّنا نعلم أنَّ حياة الإنسان مع الآخرين وبالآخرين، وسواء أراد أو لم يُرد، فإنَّ دائرته الخاصة التى يحيا فيها، حتماً ستدخل ضمن دوائر كثيرة، كالأب والزوجة والأولاد والرؤساء..

قصة
يُحكى أنَّ كلباً قوياً كان يفتخر بين أصدقائه بقدرته على الجري وذات يوم إذ كان يجري وراء أرنب ليقتنصه، فلمَّا هرب الأرنب ولم يستطع أن يلحق بهسخرت منه الكلاب وعيَّرته قائلة: أين هى بطولتك في الجري ومهارتك في السباق التي كنت تُحدّثنا عنها؟! كيف استطاع أرنب ضعيف أن يهرب منك ويسبقك؟!فصمت الكلب قليلاً وقد اعتراه الخجل ثم قال:>ليكن ما قلتم ولكن لا تنسوا أنَّ الأرنب كان يجري لأجل حياته، أمَّا أنا فكنت أجري من أجل عشائي! إنَّها قصة من نسج الخيال، ولكنَّها رسالة حقيقية من أرنب تقول: إنَّ في أعماقك قدرات هائلة، لو هربت لحياتك وأسرعت بعيداً عن الخطية لاختبرتها، والشيطان لن يستطيع أن يلحق بك، ألم يقل الملاك للوط: "
إهْرُبْ لِحَيَاتِكَ، لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدَّائِرَةِ، اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلَّا تَهْلَِكَ ".

قصة فى أوربا حيث يكسو الجليد في موسم الشتاء، كل شيء بطبقة ناصعة البياض، حدثت هذه القصة مع أرملة فقيرة، كانت ترتعش مع ابنها الصغير من شدة البرد، لقد ضلاَّ الطريق! ولكن سرعان ما تصادف مرور عربة يجرها زوج من الخيل فوقف السائق وأركبهما، وأثناء السير بدأت أطراف السيدة تتجمّد من البرودة وكادت أن تفقد الوعى!! بسرعة وبعد لحظات من التفكير أوقف الرجل الخيل، وألقى بالسيدة خارج العربة وانطلق ومعه الطفل! لا شك أنَّه تصرّفاً قاسياً! لكنَّ السيدة ترغب الحياة ولو من أجل ابنها، فماذا فعلت؟ لمَّا رأت ابنها يبعد عنها قامت ومشت، ثم بدأت تجري بسرعة فائقة، إلى أن بدأ عرقها يتصبّب، وهكذا بدأت تشعر بالدفء واستردت صحتها، فأوقف الرجل العربة وأركبها معه وأوصلها هى وابنها لقد رغبت المرأة الحياة فنجت من موت الجسد، والرغبة في الحياة مع الله تُنقذنا من موت الروح وإن كان السائق قد ظهر قاسياً، إلاَّ أنَّ هذا يذكّرنا بقول السيد المسيح لبطرس: " لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ " (يو7:13).

السبت، 3 أكتوبر 2009

الفكر لايموت(قصة)

إن الفكر لا يموت ، والثقافة لا تُمحى، فقد قرأت قصة تصوّر حالة مجتمع كان قادته يحرقون الكتب خوفاً من المثقفين، وما تتضمنه هذه الكتب من مبادئ وأفكار وقيم عن المساواة والعدل والحرية... ربما تؤثر على الناس وتقودهم إلى ثورة..
ولكي يجعلوا الناس في حالة سطحية، زودوا كل بيت بشاشة تليفزيونية كبيرة، لا تعرض إلا البرامج المسلية فقط، وتم إغلاق المكتبات، وأُحرقت الكتب.
ولكن هل تلاشى الفكر؟ هل اندثر المثقفون ؟ بالطبع لا، لأن المثقفين تداولوا الكتب سراً وفروا إلى الغابة، وهناك بدأوا يحفظون الكتب حتى إذا ضبطها حارقوا الثقافة ودمروها لا تضيع.
وقد كانت فكرة رائعة، لأن الكتب تحولت إلى كائنات بشرية، يحفظها عقل الإنسان ويرويها لغيره، والطريف في هذه القصة:
إن كل واحد منهم أصبح يسمي نفسه باسم القصة أوالكتاب الذي حفظه، فهذا اسمه الحرب والسلام لأنه يحفظ رواية تولستوي الشهيرة، وهذا اسمه البؤساء لأنه يحفظ رواية فيكتورهوجو.
وهكذا ظلت المعـرفة حية طالمـا أن الإنسان يحيا على الأرض.. وكل محاولة للقضاء على المعرفة وتنوير الفكر سيكون مصيرها الفشل

الخميس، 1 أكتوبر 2009

علمتني سمكة - الطاعة والخضوع


بينما كنت أتطلّع إلى سمك البحر تذكّرت قصة يونان النبيّ الذي كان يتهرّب من الله!! فالذهاب إلى نينوى لتبليغ رسالة إلهية، يعني رفض الله لليهود، ودخول الأُمم الإيمان.. فماذا فعل الله: أمر حوتاً فابتلع يونان،فحفظ الحوت يونان إلى أن ألقاه على الشاطيء سالماً!

لقد أطاع السمك أمر الله!! ونحن كبشر كثيراً ما نرفض وصاياه!! الإنسان يطلب هلاك أخيه، بينما السمك يسعى فى نجاته!! فهل لنا أن نقول: إنَّ هؤلاء أكثر صمماً من الأسماك؟! والسمك العديم العقل يوبَّخهم لطاعته واحترامه وخضوعه التام لأمر الله؟!يجب أن نعرف أنَّ وصايا الله لم تُعطَ للإنسان، إلاَّ لخلاصه ونموه وراحته وسلامه.. وكل الذين أقاموا لأنفسهم ناموساً بشريّاً، وفلسفات دنيوية ضلوا الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية، إنَّها قمة المآسيّ أن يسعى البشر ليُقيموا نظرية متكاملة عن السعادة خالية من النبض الإلهيّ!

إن كانت هذه تُسمّى حياة فما عسى أن يكون الموت؟! أعتقد أنَّ الاقتراب من اللا محدود، أعنى الله، يجعل الإنسان لا يبالى بكل ما هو محدود، والحياة مع الخالق لا تجعل الإنسان يتعبّد للمخلوق.

قصة

أحضر أب صندوقاً مملؤاً من المجوهرات الثمينة، ووضعه أمام أولاده الثلاثة وفتحه أمامهم وقال: الآن كل واحد يأخذ ما يستطيع، وكانت الفرصه كبيرة أمام الابن الأكبر فمليء يديه الكبيرتين، وبعده أخذ الابن الأوسط قدراً كبيراً، فلمَّا جاء دور الابن الاصغر، نظر الى يديه الصغيرتين فركض الى حضن أبيه وسأله: أبى هل تُحبني؟ فأجاب: نعم، فقال الابن: إذن هل من الممكن أن تُعطينى أنت نصيبى بيدك؟ فنظر الأب إلى الابن وأغلق الصندوق، وأعطاه كل ما فيه!!

لقد اعتمد الابن الأصغر في حياته على أبوه، فلمَّا جاءت لحظة التقسيم لم يتخل عن ذلك فجنى الكثير، أمَّا نحن الذين نعتمد على قوانا الضعيفه دون الرجوع الى الله، فكثيراً ما نسقط في فخاخ وشكوك.. أتعرفون ماذا اختار لوط عندما اختلف مع إبراهيم؟ لقد نظر إلى دائرة الأردن التى كانت كجنّة الرب كأرض مصر (تك10:13)، فاختار الأرض الخضراء وهو لا يعلم أنَّ في هذا المكان، ستنزل نار وكبريت من السماء لتحرق سدوم وعمورة!

قصة

يا ليتني أطعت! يا ليتني أطعت! تلك كانت صيحة أحد المجانين في مستشفى أميركي للأمراض العقلية! وقصة هذا المسكين أنَّه عمل موظفاً في شركة قطارات، وكان عمله محصوراً في رفع الجسر عند مرور البواخر وإعداد الخط لمرور القطار، وتسلّم، ذات يوم أمراً بإبقاء الجسر لمرور قطار سيّاح لم يكن موعد وصوله محدداً بالضبط، فأخذ إستعداداته وجلس ينتظر..في تلك الساعة وصلت سفينة طلب قبطانها وهو صديق له، أن يسمح له بالمرور، فأذعن ورفع الجسر! ويا لهول الرعب الذي أصاب الموظف عندما صرخ: يا ليتني أطعت! وهو يضع يديه على أُذنيه، لقد سمع صوت صفير القطار وهو يُقبل بسرعة فائقة، ورآه يندفع منحدراً الى النهر، والسياح يلقون حتفهم!!

إنَّها حقاً مأساة! ولكن لو تأمّلت حياتك، وغصت في أعماق ضميرك، لوجدت أنك تلقّيت أمراً أسمى جاءك من السماء، وكان يجب عليك أن تُطيعه، فصوت الله يأمرنا قائلاً: " توبوا "، فهل أطعت؟ أم لازلت حبيس أفكارك؟!

الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

فتاة اشتهت المال

يُحكى عن شابة جامعية أنَّها أحبت المال بصورة مَرَضية، حتى صار الثراء هدفها الوحيد فى الحياة، فماذا فَعَلتْ لكي تصير واحدة من الأثرياء؟
بدأت تجلس مع الشباب حتى تعرّفت على واحد، كان يملك عربة فاخرة فاعتقدت من مظهره أنَّه فتى الأحلام، الذي سيحقق لها كل طموحاتها، وتمر الأيام وتتوطّد العلاقة بينهما، لكنَّها لاحظت أن زميلها كثير الرسوب، كما لو كان لا يرغب فى التخرج من الكلية، فلمَّا سألته عن سبب رسوبه ذُهلت! إذ علمت أنَّه يتعمَّد الرسوب، لأنَّه يوزّع المواد المُخدّرة على الطلبة! وهذا هو مصدر غناه..
وبكل جرأة يعرض عليها أن تُشاركه هذه التجارة المُربحة، إن كانت تريد أن تصبح من الأثرياء! كل ما ستفعله أنَّها ستقف فى مكان ما على كورنيش النيل، فيأتي إليها شخص ويسلّمها المواد المُخدّرة، فتأخذها منه وتعطيها لبعض التجّار الذين يتعامل معهم..
فى البداية رفضت بشدة إلاَّ أنَّها تحت تأثير إغراءات المال قبلت، وبالفعل فى فترة قصيرة جداً قد صارت مليونيرة، فلمَّا اغتنت أصابها الكبرياء في مقتل، فاحتقرت زميلها، لأنَّه لم يعد يملك من المال مثلها، كما أصبح في نظرها بلا فائدة، فالنفعيون لا يعرفون من الزهور سوى رحيقها!

فلمّا رأى الشاب أنَّه قد جُرح، سعى إلى الانتقام منها رداً لكرامته، فأرسل للبوليس كل بياناتها، فتم القبض عليها وانتهت قصتها المأساوية بأن أودعتْ فى السجن!
فماذا انتفعت من حُب المال؟ المال الذي اشتهته ألقى بها في السجن، ولوّث سمعتها ، وقضى على شبابها...

هذا وقد حكى قداسة البابا شنوده، عن إنسان كان فى حياته يجمع مالاً ويكنزه، دون أن يعرف أحداً أين يخبئه، ثم مرض ولازم الفراش وفى أثناء مرضه لاحظوا عليه، أنه كان يمسك فى حرص بالوسادة التى يضع عليها رأسه، وفى ساعة موته كان يحتضن الوسادة، يحتضنها فى عنف كأنه يخشى أن يأخذها أحد منه، فتعجبوا ! وبعد موته فحصوا الوسادة وفتحوها، فوجدوا داخلها رُزمة من الأوراق المالية، هى إله ذلك المسكين، الإله الذى ظل يعبده حتى الموت!!

الاثنين، 14 سبتمبر 2009

مفهوم اللذة


لا نُنكر أنَّ اللذة شيء عظيم، والسعادة أعظم ما في الوجود، واللذة يسعى إليها الأبرار والأشرار على السواء، ولا عجب أن يتحلّى الأبرار بفضيلة تؤهّلهم إلى سعادتهم، إنَّما العجب أن يواظب الأشرار على خطاياهم بحثاً عن لذاتهم!!

أنت تبحث عن اللذة التي تقود إلى السعادة، وأنا أيضاً بل الجميع يُريدون أن يحيوا سعداء، فما من إنسان يبحث عن الألم إلاَّ المريض! ولكن أين نجد السعادة التي سعى ولازال حتى الآن يسعى إليها الكثيرون؟

الكتب السماوية تُعلن بوضوح أنَّ السعادة في الإيمان بالله والعمل بوصاياه... فنحن خرجنا من الله وستظل أرواحنا هائمة إلى أن نجد راحتنا فيه.

وعلماء النفس يقولون: إنَّها فى اتزان الشخصية، والتوازن بين قدرات الناس ومواهبهم.. ورغباتهم وطموحاتهم..

والمادّيون يقولون: إنَّ السعادة تتولّد عندما يتم إشباع حاجات الإنسان المادية وغرائزه الطبيعية كالطعام والجنس..

والفلسفة البوذية تُعلن أننا لن نجد السعادة في الحياة مصدر الآلام والأحزان، ولا سبيل إليها إلا بدخول (النيرفانا) أو النعيم، الذي لا يدخله إلاَّ من حارب أهواءه المادية، وترك المتع الدنياوية واللذات الجسدية..

والصوفية تقول: إنَّها في الاتصال الروحيّ المستمر بالله، والزهد في الماديات، والترفّع عن أغراض الدنيا الفانية.. فما هى اللذة وما هو مفهوم السعادة التي يسعى إليها الإنسان منذ أن دب بقدمية على هذه الأرض؟!

ربما يقول المرضى أنَّها في الصحة الجيدة، فيرد الأصحاء: لو كانت السعادة في الصحة لكانت الوحوش أسعد المخلوقات!


والفقراء يتوهّمون أنَّها في الغنى، لكن معظم الأغنياء عاشوا وماتوا تعساء، وقد كانت أموالهم سبب تعاستهم..

والفاشلون يقولون أنَّها في النجاح والتفوق، فيُجيبهم الناجحون: ما أبهظ الثمن الذي دفعناه من سعادتنا ثمناً لنجاحنا، لقد نجحنا ماديّاً ولكننا فشلنا روحياً!

والعُزَّاب يعتقدون أنَّها في الزواج والأولاد والدفء العائليّ، فيرد عليهم المتزوجون: إنَّ مشاكلنا أكبر من احتمالنا..

وما أكثر الذين بحثوا عن السعادة في الشهرة والسلطة والنفوذ.. وبعد أن حققوا هدفهم وذاع صيتهم كانت خيبة الأمل، فليس أشق على الإنسان في هذه الحياة من تكبير اسمه!!

إنَّ تعريفات السعادة كثيرة، وكل إنسان يستطيع أن يفهمها بحسب نشأته وتديّنه وثقافته وفكره.. ولكن أقرب تعريف لعقلي هو:

إنَّها ذلك الشعور المتصل بالمحبة والفرح والسلام.. الذي يرافق الإنسان عندما يحيا مع الله، برغم كل ما يعترض مجرى حياته من مشاكل أو أحزان أو آلام..

فنحن جُبلة الله ولن نجد راحتنا إلاَّ فيه، وبدون الله لا حياة، ولا أمل فى حياة ولا نمـو أو اخضرار.. إنَّما يعُم القحط كل حياتنا، وتظل أرض قلوبنا جرداء لا ثمار تنمو فيها، وإن أنبتت لا تنبت سوى الأشواك.

وقد يسعى البشر لتوطيد أواصر المحبّة، فيتقابلون ويتبادلون الهدايا...

ولكن مهما كانت أهمية المحبّة البشرية، فإنَّها لا تهب الناس سعادة كاملة إن لم تكن ثمرة من ثمار المحبة الإلهية، فالإنسان كثيراً ما يجد نفسه وهو مستغرق برمَّته في المحبة البشرية النفسانية، أنَّه لا يزال يعاني من آلام الوحدة، وأنَّه لم ينجح في التغلّب على القلق الناجم عنها، ومن هنا ينصرف عن هذا الحُب البشريّ بضعفه ونقصه لكي ينشد صورة أكمل وأنقى وأفضل ألا وهى: حُب الله ,

إنَّ اللذة في مفهومها في مفهومها البسيط هى حالة فرح، فكل ما تشتهيه وتحصل عليه يُولّد في قلبك لذة.

أمَّا اللذات فهي أنواع كثيرة، فهناك ما يُعرف باللذة الروحية، التي تقود إلى السعادة الحقيقية، ولا يستطيع أن يحصل عليها إنسان، إلاَّ إذا عاش مع الله حياة روحية صادقة وهناك اللذة الجنسية التي تتولّد نتيجة المؤثرات الشهوانية التي تُصادف الإنسان أو يتسبب فيها، سواء عن طريق حواسه أو أفكاره.. هذه اللذة وضعها الله في الإنسان لأجل الإنجاب وإنماء الجنس البشريّ، فإذا انحرف بها تحوّلت من وسيلة فرح إلى سبب خوف وقلق وعذاب ضمير.. فما أعطاه الله للإنسان كأداة للفرح تحوّل إلى أداة للتدمير، وذلك بسبب استخدام عطية الله الحسنة استخداماً سيئاً!

فى بداية القرن الماضي ظهر فرويد العالِم النفسيّ الكبير، فنسب كثير من الأمراض النفسية والعصبيّة والعاطفيّة إلى الكبت الجنسيّ متغاضياً عن العوامل الاجتماعية والثقافية وأساليب التربية الخاطئة.. ولهذا دعا إلى مُمارسة الجنس بحرية، كوسيلة علاجيّة للتخلّص من الأمراض التي تُصيب الإنسان!ولكن لو عاد (فرويد) هذه الأيام - وهو بالطبع لن يعود - لغيّر نظريته مرغماً وبالتالي منهجه الخاطيء في العلاج، ونسب الخوف والقلق والأنانية ومعظم المشاكل التي تعيشها البشرية اليوم ليس إلى الكبت الجنسيّ بل الفجور الجنسيّ!

وإنْ اعترض البعض وقالوا هناك الجنس المأمون الذي لا يضر ولا يؤذي فهم كاذبون ومتوهّمون! أو يُخدّرون ضمائرهم السقيمة! لأنَّ الجنس قد يكون مأموناً طبياً- معقّماً من الجراثيم وخالياً من الوباء ولكنَّه غير مأمون روحيّاً ونفسيّاً بالنسبة لوجع القلب الذي يتسبب فيه، والمشاكل الروحيّة والعقد النفسيّة التي تنتج عنه..وكما قيليغفر لنا خطايانا عندما نقدّم توبة صادقة من أعماق قلوبنا، ولكنَّ الجهاز العصبيّ لا يغفرها قط !! لماذا؟ لِِما سببته الخطية من أمراض كثيرة، قد طبعت بصمتها على أعصابنا وأجسادنا.. جعلت الخاطيء منَّا يُعاني من آلامها مدى الحياة.

يقول القديس أُغسطينوس: لا شك في أنَّك تريد أن تحيا أيامك سعيداً لكنَّك لن تكون سعيداً إن لم تحصل على ما تُحِب، ولن تكون سعيداً إذا نِلتَ ما تحب، وكان هذا المحبوب مُضراً ها نحن نتساءل: هل هناك أشر وأخطر وأضر من لذة الخطية؟

فالخطية كما يراها ذهبي الفم هي الكارثة الوحيدة في العالم ولهذا يقول: ليس في العالم إلاَّ كارثة واحدة ألا وهى: الخطية، فهي المصدر الأوحد لجميـع النكبات، وهى الأُم الولود لجميع الكوارث التي تحل بالبشرية ".

ليقل لنا محبو الخطية وعشاق اللذة الوهمية، الذين يقضون لياليهم بين الجدران المُغلقة المظلمة! متناسين أنَّ عيون السماء تُحدّق إليهم، ونجوم القبة الزرقاء تفضح أعمالهم القذرة: ما هي اللذة التي يتمتّعون بها وهم دائماً في حزن وقلق...؟!

أيَّة لذة تلك التي ثمارها الخوف من الفضيحة والعار والخجل من مواجهة الناس؟! قولوا لنا لماذا تُغلقون عليكم الأبواب وتبتعدون عن أعين الناس إن كنتم بحق على صواب؟!

لقد ارتضى الخطاة أن يعيشوا في الأوكار المُظلمة، يلهون ويعبثون، ويسكرون ويُدخّنون، ويرقصون ويُغنّون، بطريقة هستيرية كالمجانين بحثاً عن لذة جسدية فانية!!

ولكن لا تتعجبوا فالطير يبدو أنَّه يرقص عندما يُذبح!! أتعرفون السبب؟ لأنَّه يتألم!! لقد ش الأعمى الذي يحيا في الكون المُضيء ولكنّه لا يرى ضوءاً ولا شمس الظهيرة، والحق إنَّ الخطية تعمي الخاطيء عن رؤية نور الحياة، لأنَّ الله نور وكل من يحيا بعيـداً عن الله حتماً سيعيش في ظلام حالك، وأيضاً سيموت موتاً روحياً، فموت الجسد هو انفصال الروح عن الجسد وموت الروح هو انفصال الروح عن الله، ألم يقل المسيح: " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ، مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا (يو25:11).

فكيف يجرؤ إنسان يحيا فيالخطية أن يقول: إنّه حيلهؤلاء مجتمعهم الخاص الذي قد خلقوه لأنفسهم، وارتضوا أن يعيشوا فيه منبوذين ومحتقرين من الآخرين فأي مجتمع هذا الذي يقود إلى الذل والاحتقار.. وأهم سماته الإشباع الجنسيّ والفوضى الأخلاقية...؟!!نَّه كهف ضيق من كهوف الأودية الخالية من الفضيلة، فيه يُرددون صدى أصوات لا يفهمون معناها لتُصبح حياتهم بين شتاء قارص غطَّاهم بأوحاله! وصيف ألهب بحرارته عظامهم!أمَّا وصايا الله فلا يعرفون عنها شيئاً، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئاً!! فيعيشون بالجهل ويستوي أمامهم المُجرم والبريء، والبار والشرير،وهذا ليس بغريب لأنَّهم ينظرون بعين الشهوة، فمن على السطوح وفى الأروقة وبين الأزقة لا يرون سوى أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط!

انظروا إليهم فلا تجدوا سوى أُناس عديمي الإرادة، لا كلام إيجابيّ في أفواههم إنَّما كلامهم عن الجنس والمتع الجسدية! ولا نية تعمير أو إصلاح في عقولهم مع أنَّ فيهم من يملك الملايين! حتى الشعور الإنسانيّ والعطف على الفقراء لا تجد في قلوبهم! وهذا ليس بغريب لأنَّ:الشهوة عمياء لا ترى دموع المحتاجين وصماء لا تسمع أنين الفقراء والمعوزين إنَّها لا ترى ولا تسمع إلاَّ ما يُثيرها فقط!!

كل العبارات التي ابتدعها الخطاة مثل: سعادة، متعة، لذة، نشوة نّي لا أظن أنَّ من يتحدى قانون الطهارة الإلهيّ يمكن أن يحيا سعيداً، يكفي أنَّ الخطية تفقد الإنسان سلامه لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارَِ (إش21:57)، فهل يمكن لإنسان أن يحيا سعيداً بدون سلام؟!

حقاً إنَّ النشاط الجنسيّ هو غريزة قد وضعها الله في الإنسان لا يمكن إغفالها أو القضاء عليها، ولكن في العلاقة الجسدية الطبيعية بين الزوج وزوجته تنطلق الطاقة الجنسية لكي تربط بينهما بقوة مغناطيسية فيغمرهما إحساس عميق بالاستقرار والرضى والشبع والراحة.

أمَّا في حالة الزنى فإنَّ العلاقة الجنسية يصاحبها أيضاً متعة حسّيّة، كما قال سليمان الحكيم اَلشَّهْـوَةُ الْحَاصِلَةُ تَلُذُّ النَّفْسَ (أم19:13) إلاَّ أنَّها تكون ممزوجة بالقلق والتوتر والإحساس المرير بالذنب... مما يجعلها تفتقر إلي عمق الاستقرار والشبع الحقيقيّ! وأفضل ما يمكن أن يفعله البشر تجاهليس هو إشباعها بطريقة غير شرعية، وإنَّما بتحويلها إلي أنشطة مفيدةللإنسان وبنَّاءة للمجتمع، وهذا هو ما يُعرَفْ في علم النفس بالتساميّ.

والحق إنَّ فقراء ومرضى ومعوَّقين كثيرين، ضبطوا شهواتهم وهذَّبوا غرائزهم.. فعاشوا سعداء وأفادوا البشرية بعد أن صاروا قدوة.. والعظمة من كل ناحية، ولكنهم لم يُقدّموا للبشرية سوى صورة مُقززة للفساد والمتع الجسدية، ولذلك عاشوا في القصور كالأفاعي السوداء المتقلبة في كهوف الجحيم.

لقد صارت القصور أشبه بصحراء الموت، يُدفنون أحياء بين رمالها، أعني أموالهم وذهبهم وفضتهم وكل كنوزهم الفانية.. ومن هنا جاءت العبارة القائلةلا راحة لرأس تحت تاج ملوث بالخطيةفإذا اتّخذتَ اللذة هدفاً تسع إلى تحقيقه بكافة الوسائل وشتى الطرق... فتأكد أن حياتك على الأرض ستظل مثقّلة بالآلام، مليئة بالمخاوف، الشهوات تفسدها والشكوك تستعبدها، فالخطية هى نبع الأحزان بما تتركه في الضمير من توبيخ، وما تتركه في النفس من أثرها الدنس، وها نحن نتساءل:

ما قيمة لحياة تظل صفحة ملوثة في كتاب الوجود، لم يُكتَبْ فيها كلمة فرح أو عزاء أو سلام..؟‍‍‍! وماذا ينتفع الإنسان لو أتى من الذنوب ما يجلب عليه سخط إلى آخر الدهور؟‍!

يقول مارَ أفرام السريانيّ: اهرب من اللذة فإنَّ أثمارها الخزي، فقبل اللذة شهوة وبعد اللذة حزن، كرر الافتكار في أنَّ اللذة يعقبها حزن وخزي .

إن أردتَ أن تعرف هل فى الخطية لذة أم لا؟ فاعمل بمشورتي، واسأل الذين لبسوا الزنى كرداء، أو أدمنوا المسكرات، أو احترفوا السرقات.. سلهم وهم على سرير المرض مطروحون، أو في سجون الحبس مُقيَّدون، أو فى الشوارع على الأرصفة مُلْقَوْنَولماذا تسأل الآخرين بل إسألْ نفسك وخاطبْ كل عضو من أعضائك قد تدنس بوحل الخطية وقل له: لقد تلذذت وتمتعتَ كثيراً.. فما هو الربح الذي ربحتَهُ من الخطية؟

أعتقد أنَّ الإجابة على مثل هذا السؤال واضحة ألا وهى: لا سعادة نلتُها ولا لذة قد ربحتُها وأنا أحيا فى الخطية إن كان لها أفراح!صدقوني لو فُتحتْ قلوب الخطاة، أو كُشفتْ أفكارهم على الملأ॥ ورأينا ما قد ترسّب في أعماقها من نتائج الخطية لصرخنا قائلين: مجنون من أضاع حياته فى أوهام الخطية।

السبت، 5 سبتمبر 2009

قصص لقديسين فضلوا الموت عن أن يتدنسوا بالخطية


يحكي لنا تاريخ الكنيسة عن أمثلة رائعة، لأبطال قديسين فضلوا الموت وتقطيع الأعضاء، عن أن يُدنسوا أجسادهم بالخطية. حتي إن الحكام الوثنيين الذين ملكت عليهم الشهوة الدنسة، كانوا يندهشون لطهارة المسيحيين والمسيحيات.


يقول القديس القيصري

" لم يكن النساء أقل من الرجال بسالة، في الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلهية، إذ اشتركن في النضال مع الرجال ونلن معهن نصيباً متساوياً من الأكاليل من أجل الفضيلة، وعندما كانوا يُجرّوهن لأغراض دنسة، كن يفضلن تسليم حياتهن للموت عن تسليم أجسادهن".


ومن بين هؤلاء الألوف الأطهار نذكر الآتي:


++ شاب عفيف

في الاضطهاد الذي أثاره الإمبراطور ديسيوس، إذ فشل أحد الولاة الوثنيين في أن يثني شاباً قبطياً عن إيمانه، سلّمه إلي إحدي الشريرات لتُسقطه في الخطية، أمّا هي فطلبت أن يُرسل الشاب إلي بستان، وينصب له سريراً مفروشاً بالحرير بين الورود والرياحين وتحيط به جداول المياة، ثم أمرت أن يُربط يدي الشاب ورجليه ووسطه بمنديل من حرير، واندفعت إليه بغير حياء لتُسقطه في الخطية، فكان يُظهر لها بكل جفاء، ولكنها استمرت في محاولتها بقوة، فلمّا ضاقت به المسالك، و لم يجد وسيلة للهرب من هذا الشر، وخاف علي طهارته، ضغط علي لسانه بأسنانه وبصقه في وجه تلك المرأة الشريرة بدماء كثيرة، وإذ تملكها الرعب هربت، وهكذا حفظ طهارته، مفضلاً أن يهلك عضواً واحداً من جسده ولايترك جسمه ونفسه للهلاك الأبديّ.

++ فيرونيا

في أثناء الاضطرابات التي عمَّت مصر سنة ( 749 م )، دخل جنود مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، دير للعذارى نواحي أخميم، وبعد أن نهبوه أرادوا اغتصاب راهبة صغيرة تُدعي فيرونيا، فتنوا بجمالها! أمّا هي فاستمهلتهم قليلاً ودخلت قلايتها، وألقت بذاتها بين يدي الله باكية، طالبة الخلاص من الدنس.. وسرعان ما خرجت إليهم بحيلة ألا وهي:


أن يتركوها لعبادتها مقابل جميلاً تُعطيه إليهم تعلّمته من أسلافها، وكان هذا الجميل زيتاً تقتنيه إذا دُهن به أيّ جزء من الجسم لا تعمل فيه السيوف، ولكي تُبرهن لهم صدق كلامها دهنت عنقها بالزيت، وطلبت أن يضرب أحدهم بسيفه علي عنقها، وما أن فعل ذلك، حتي انفصلت رأس العذراء العفيفة عن جسدها، فلمّا رأي القائد والجنود هذا المنظر المرعب اعتراهم خوف شديد، وندموا علي ما فعلوا، وأسرعوا بمغادرة الدير، بعد أن تركوا ما كانوا قد نهبوه!

++ ثيئودوره

وُلِدت هذه القديسة بالإسكندرية، وعندما بلغت سن السابعة عشر من عمرها، صدرت أوامر دقلديانوس باضطهاد المسيحيين، فشكاها البعض أمام والي الإسكندرية بأنَّها مسيحية، فأحضرها الوالي وأمرها أن تبخر للأوثان وإلا فإن عقوبتها ستكون إيداعها في أحد بيوت الدعارة، لكنها رفضت كلامه وقالت له: إنّها واثقة أنَّ الرب يسوع سيخلصها، وهذا هو ما حدث بالفعل، فقد أتاها الخلاص علي يد شاب مسيحي يدعي ديديموس، لمَّا عرف بقصتها أراد إنقاذها.. فتنكّر في زي جندي، وذهب إلي ذلك المنزل الذي أودعت فيه وطلب الدخول إلي غرفة ثيئودورة، فسمحت له صاحبة البيت بالدخول، فلما شاهدته ثيئودورة ارتاعت وأخذت تبكي خوفاً من تدنيس عفتها، أمَّا هو فهدأ من روعها، وناداها وهو يبكي قائلاً: لا تخافي يا أختي المباركة، يا عروس المسيح، لقد أرسلني خطيبك لنجاتك، ثم نزع عنه الذي العسكريّ، وقال لها: خذي هذا الثوب وارتديه وأعطني ثوبك لألبسه، وأخرجي أنت وأنا أظل مكانك، ففرحت لأنّ الرب استجاب لصلواتها، وخرجت متخفية في زي الجندية وبقي ديديموس في الحجرة حتي انكشف أمره، فسيق إلي الوالي وحُكم عليه بالموت..


فلمّا عرفت ثيئودورة ذهبت إلي مكان الإعدام وأمسكت به، وقالت: إنني وافقت أن تحفظ عفتي فقط، ولكني لم أقبل أن تأخذ إكليلي ومكاني في الشهادة، فأجابها ديديموس: يا أختي لا تقابلي إحساني بالإساءة، لقد حافظت علي عفتك، دعيني الآن أنال عوض ذلك إكليل الشهادة، فنال كلاهما إكليل الشهادة بقطع رأسيهما معاً!!

++ أربسيما

اشتهي دقلديانوس الملك أن يتزوج بفتاة حسناء، فأمر أن ينطلق المصورون في البلاد، لاختيار أجمل فتاة، فلما ذهبوا كأمره وجدوا راهبة في أحد أديرة العذاري بروما اسمها أربسيما، وكانت أروع من قابلوا في جمالها، ففرح الملك جداً لمّا رأي صورتها، فلما علمت بقية العذاري اللاتي كن معها في الدير بهذه التجربة القاسية، اتفقن جميعاً علي الهروب من الدير إلي بلاد أرمينيا.


أما الملك فلمّا أرسل في طلب أربسيما ولم يجدها تضايق جداً وأرسل يبحث عنها، حتي علم مكانها فأحضروها إليه، ففرح بها جداً وأراد أن يتزوجها، لكنها رفضت بإصرار، فأحضر أمها أغاثي لتثنيها عن عزمها، ولكن أمها المسيحية التقية شجعتها علي حفظ بتوليتها، وأعطي الرب قوة للقديسة أربسيما، فطرحت الوالي علي الأرض رغم قوته فاغتاظ جداً، وأمر بقطع لسانها وقلع عينيها ثم رأسها.. وأخيراً قتل الأم أغاثي وبقية العذاري أيضاً.

++ إجنس

ولدت هذه القديسة في أواخر ( ق3) في روما من أبويين تقيين، وإذ كانت جميلة جداً أراد ابن حاكم المدينة أن يتزوجها أما هي فرفضت، فمرض الشاب فدعا أبوه إجنس وخيّرها بين أمرين إمّا أن تعبد الآلهة الوثنية وتتزوج ابنه، وإمّا أن تموت! أمّا هي فأصرّت علي إيمانها فعذّبها الوالي، ولمّا لم يفلح في إرهابها، أرسلها إلي بيت فساد، فشرع الجند يجردونها من ثيابها.


ولكن فجأة غطي شعرها كل جسدها حتي تعجب الجميع.. كما أن البيت أضاءه نور من السماء، حتي إنَّ بعض الأشرار ممن أتوا لفعل الشر مع هذه العذراء، لما رأوا المنزل مُضيئاً لم يجسروا أن يلمسوها، غير أنّ ابن الحاكم الذي كان يرغب أن يتزوجها، عندما دخل البيت ليفسدها سقط ميتاً.


فلما تذلل أبوه إليها صلت القديسة فقام ابنه الميت، فانتشر خبر المعجزة!! فادّعي كهنة الأوثان أنّ إجنس ساحرة!! وطلبوا قتلها، أما الوالي أمام صخب الناس ترك الأمر لوكيله، الذي استحضر إجنس وعذبها، وأخيراً أمر بقطع رأسها فنالت إكليل الشهادة، من أجل حفظ طهارتها وعفتها.

الجمعة، 7 أغسطس 2009

سـمات الديانة المسيحية


ظهرت المسيحية وهى تحمل سمات لم تعهدها ديانة من قبل، فخيّمت بسموها على معاهد العلم والفلسفات وقصور العظماء والأغنياء، وأكواخ الصغار والفقراء.. فبهرت الجميع ببريق تعاليمها، وأثّرت عليهم بعظم مبادئها.. وأصبح لها سمات فريدة ميّزتها وساعدت على انتشارها، لعل أهمها الآتى:

العمومية

إن الديانة المسيحية تستطيع أن تنمو فى كل مكان وزمان، فترقى بجميع الأفراد والطبقات، متمشية معهم فى تطورهم وتجديدهم.

قد تنتشر ديانة لأن شعوباً كثيرة، ترى فيها منهلاًُ عذباً لارتشاف الإثم واستباحة الشر، بل وقد ينتشر دين ما على إثر ثورة قام بها أتباع هذا الدين، فأرغموا أعدائهم بعد تعذيبهم على قبول مبادئ دينهم الجديد، إلا أن مثل هذه الأديان سرعان ما تعجز بعد إنحسار موجة ثوراتها، عن الوقوف أمام عظمة الحق وجلال العدل، فلابد من أن يأتى الوقت الذى فيه تنكمش إلى حيث كانت قبل أن تنتشر.

أما المسيحية فسارت إلى الأمام ولازالت تسير، وها نحن نتساءل: أين الديانة المسيحية من ديانات العصور القديمة؟ كان الإله " زفس " لا يُعرف خارج حدود بلاد الإغريق، ولم يكن " جوبتر" له قيمة خارج أسوار روما، ومن العبث أن يعبد الهندى " براهما " بعيداً عن الهند، لأن هذا ينجس جسمه.. فإذا عاد إلى وطنه يجب أن يتطهر من نجاسته!! أما المسيحية فهى تعلّم بوجود إله محب هو أب لجميع البشر، وتبشر بإنسانية عامة، ووحدة مقدسة، ومحبة سامية.

الروحانية

لم تعرف الديانة القديمة إلا بمعابدها، وطغمات كهنتها، وتعقّد مراسيمها وطقوسها، أما الديانة المسيحية فيهمها الجوهر لا الشكل، وتهتم بالروح لا المادة، بالسمائى لا الأرضى، ولذلك فصلت المسيحية الدولة عن الكنيسة، فأعطت " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " . فى العصور القديمة انتشر السحر والتنجيم والخداع والتدليس فى الهياكل الوثنية، فكان من يرغب دراسة الأدب القديم.. ذهب إلى أماكن أُخرى غير المعابد، فهناك فى أروقة أثينا وروما، وعلى مسافة بعيدة من الهياكل والمعابد، كانت حكمة سقراط وأفلاطون وأرسطو.. وهذا ما دعا أحد أفاضل اليونان أن يقول: تهبنى الآلهة الحياة والجاه، أما الروح الهادىء القنوع فهذا من شأن نفسى، أما المسيحية فهى ديانة روح وحق وحياة... والكنائس مقدسة، والتعاليم سامية لأنها إلهية..

التجديد
بظهور المسيحية ظهرت حياة جديدة وتعاليم جديدة، فامتزجت التعاليم الدينية بالمبادئ الأخلاقية والأدبية.. وأخذت من المزيج رحيقاً حلواً استعذبته شعوب الأرض.

ونحن لا ننكر مكانة الفلسفات القديمة ودور رجال الفلسفة فى الأدب والفضيلة، ولكن لم يرضَ المثقف يوماً الاقتراب من الجاهل، ولا الكبير من الصغير، ولا الغنى من الفقير، فالقانون الأدبى اليونانى كان يفرق بين الطبقات، فلا تتعجب إن قرأت عن كلسس Celsus - وهو أحد كبار رجال الأدب القديم - يطعن فى الآداب المسيحية بقسوة، لأنه وجد جماعة المسيحيين تتكون من رجال أُميين وعبيد وعمّال.. ليسوا أهلاً فى نظره للجلوس فى معهد علمى والتكلم باللغة اليونانية.

ولكن شكراً لله الذى جعل من الأُمى الجاهل، والعبد الذليل، والعامل الحقير.. عالماً حراً ماهراً.. فقد زوّد الجميع بقانون أدبى عملى، عجزت عن تطبيقه مجامع العلوم القديمة ومعاهد الفلسفة اليونانية!

ويبدو التجديد واضحاً فى مفهوم الحب! فعند قدماء اليونان والرومان، كان الحب يعنى التمرغ فى حمأة الإثم والتفرغ للشهوات الدنيئة. أما المسيحية فجعلت المحبة جوهر حياتنا، وأساس علاقتنا بالله، ودعامة الحياة الأُسرية.. بعد أن توجتها بالرحمة والتضحية..

التسامح

لم تنتشر المسيحية بقوة السيف والنار، ولم تجبر أحداً على اعتناق مبادئها وتعاليمها، بل انتشرت على أيدى رسل بسطاء، معظمهم صيادين.. ولكنهم قد اشتهروا بالرأفة والرحمة..

قديماً نصح ميسيناس- رجل روما الفذ- الإمبراطور أُغسطس، أن يتسامح فى كل أمر ماعدا الدين، فلا يصرّح لدينانة أجنبية بالدخول فى مدينة روما العظيمة، وفى نبذة تاريخية يقول شيشرون: " يجب ألا يُسمح لأحد أن يتعبد لآلهة لم يعترف بها القانون الرومانى "، ولكن مصالح أولئك وغيرهم قد باءت بالفشل، فظهرت المسيحية دون أن يعترف بها القانون، ولم تكن هناك سلطة بشرية تحميها، فقوة إلهنا الحى، وسمو تعاليمه هى التى جعلت المسيحية تكتسح بتعاليمها معاهد العلم، والمعابد..

وإن كانت الديانات القديمة استرضت الآلهة بالقرابين الحيوانية، فالديانة المسيحية كانت ولازالت قرابينها الثمار القلبية، والأعمال الروحية، فقام المسيحيون يكرسون قلوبهم وأجسادهم وأرواحهم " ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ " (رو1:12).

الأربعاء، 5 أغسطس 2009

قصة انتشار المسيحية


لما بدأ المسيح يكرز بالإنجيل، اختار من بين أتباعه إثني عشر رجلاً، ودعاهم رسلاً (لو6 :13) لأنه أراد أن يرسلهم إلى العالم، ولما أكمل عمله وقام من بين الأموات وكان على وشك الصعود، سلّم إليهم مأمورية الكرازة, ووكل إليهم أن يتلمذوا جميع الأمم (مت28 :19) ويشهدوا له إلى أقصاء الأرض (أع1 :8).

ولأن الإنسان ضعيف ومعرّض للزلل، أمرهم أن يمكثوا في أورشليم حتى يُرسل إليهم الروح القدس ليقوّيهم ويذكّرهم بالحق، ويعصمهم من الخطأ في تبليغ الرسالة, ويعدّ لهم القلوب, وامتثالاً لأمره (لو24 :49) (أع1 :5) مكثوا في أورشليم منتظرين إتمام الوعد.

ففي ختام خمسين يوماً من قيامته، كان الرسل مع جماعة من المؤمنين يبلغ عددهم (120) يصلّون ويسبّحون الله, وإذا بصوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت حيث كانوا جالسين, وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أُخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع2 :1-13) كما ملأهم الروح القدس بالمحبة والإيمان والشجاعة ومعرفة الحق.. (يو14 :26).

ومن ذلك الوقت لم نسمع أنهم بشروا في بلاد أجنبية بعد درس لغاتها, لأن الله قد أعطاهم قوة التكلم بالألسنة (أع2 :3،4)، كعلامة على أن روح الله يعينهم على الكرازة بأية لغة أينما ذهبوا, وأن بعضاً من الرسل إن لم نقُل كلهم أيدهم الله بالمعجزات الباهرة (أع3 :1-11) إلا أنهم عملوا هذه المعجزات باسم المسيح، وليس بقوتهم ولا تقواهم (أع3 :12).

وبعد ذلك ببضعة سنوات، اهتدى بولس إلى الإيمان بالمسيح بمعجزة عجيبة (أع 8) وأرسله المسيح رسولاً، وأيده بالمعجزات كباقي الرسل (أع14 :8-10).

وساعد الروح القدس الرسل في مناداتهم بالإنجيل وكتاباتهم, وعصمهم من الخطأ, وأرشدهم إلى الحق الذي أراد الله إعلانه للناس, فما كرزوا به، وما كتبوه، ليس كلامهم بل كلام السيد المسيح (مر13 :11) (يو14 :26) وعليه فجماعة الرسل صادقون في دعواهم بالرسالة من الله (1كو1 :1) (غل1 :1).

ثم إن قوة الله وفاعلية الحياة المقدسة، التي عاشها المسيح على الأرض، ظهرت تمام الظهور بكرازة الرسل لأنه لم يمضِِ وقت طويل حتى إن أُلوفاً كثيرة من اليهود (أع2 :41 و4 :4)، بل من نفس الكهنة اعتنقوا المسيحية (أع6 :7 و21 :20)، كما آمن من الأمم جماهير كثيرة انتقلوا من الظلمة إلى النور.

ومن المعلوم أن المسيح نهى عن استخدام الأسلحة لنشر الدين, ولذلك قال لبطرس عندما جرد سيفه ليدافع عنه " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ لأَنَّ كُلَّ الذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (مت 26 :52).

وليس بفصاحة الكلمة جذب الرسل الناس إلى الإيمان بل كانت كرازتهم بسيطة معنىً ولفظاً (1كو2 :1-5) ولما كتبوا البشائر والرسائل, لم يستعملوا لغة عالية لا يفهمها إلا العلماء, بل كتبوا ما كتبوه بأبسط العبارات، مما يستطيع أن يفهمه الناس بغير عناء، لكى يحصلوا من أقرب طريق على رحمة الله فتُستأثر قلوبهم إلى الخلاص.

ثم إن الإنجيل لا يشجّع أحداً على إشباع شهواته الجسدية " أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الجَسَدِيَّةِ التِي تُحَارِبُ النَّفْسَ" (1بط2 :11), ولا يوهمه أنه بمجرد اعترافه بالمسيحية ينجو من عقاب الدنيا والآخرة مع إصراره على خطاياه (مت2 :21) (يو8 :34).

ولم يشتغل الرسل بين المتمدّنين فقط, بل اشتغلوا في كل البلاد.. وظهرت نعمة الله للعيان في تحويل الأشرار إلى صالحين، فكان المهتدون منهم يبثون بشرى الخلاص وأما اليهود الذين لم يؤمنوا فكانوا أول المقاومين للذين آمنوا, ثم نسج على منوالهم بعد ذلك الوثنيون, وأخذوا يضطهدون المسيحيين بقساوة بربرية.

ولكن رغم الاضطهاد العنيف، تقدمت المسيحية بالصبر والمحبة واللطف.. فخشَ أباطرة الرومان من سطوة الإنجيل على الوثنية التي يدينون بها, فأثاروا على المسيحيين اضطهادات عنيفة وابتدأت هذه النكبات في زمن الملك نيرون, الذي أعدم الرسولين بطرس وبولس, وأحرق كثيرين أحياء وجعل من أجسادهم مصابيح ومشاعل لإنارة بساتين قصره ليلاً!!

وكان الرومان في ذلك الوقت يتعبدون للأوثان ولملوكهم الأشرار!! وقد سعوا أن يستميلوا مواطنيهم المسيحيين إلى تلك العبادات المحرّمة، ولكنهم لم يفلحوا, فهجموا عليهم وساقوهم إلى قبورهم بميتات شنيعة، واستولوا على أملاكهم.

ويرجع الصدام بين المسيحية وروما، إلى أن الرومان لم يفهموا معنى قيام مملكة الله على الأرض، وظنوا أن المسيحيين يطمعون في إقامة ملكوت سياسي.

كما يبدو أن المسيحية استفزت كبرياء الرومان بدعاواها الغريبة فى ذلك الوقت، فقد نادت أن العالم سيحترق بنار ليفسح الطريق لسموات جديدة وأرض جديدة، وأن مدينة روما لا بد أن تسقط، وأن ملكاً سيأتي من السماء له يخضع المسيحيون، وأنه في وسط الخراب القادم سينعم المسيحيون بالسلام.

وبطريقة ما كان المسيحيون لا يتساهلون مع الديانات الأُخري، فالمسيحية لا تتساوي مع أي ديانة، بل هي تسمو فوق كل الديانات، وبدت هذه الروح كأنها عدائية، أضف إلى ذلك انعزال المجتمع المسيحي، فلم يكن مسموحاً لأي وثني مهما بلغ من الورع، ومارس تطهير النفس، عن طريق التصوف وطقوس ديانته القديمة، أن يكون عضواً في الكنيسة المسيحية ما لم ينبذ تلك الأشياء العزيزة عليه.

وكان المسيحيون يجتمعون ليلاً في اجتماعات سرية، وقد اتهمهم أعداؤهم بأنهم يرتكبون أبشع الجرائم في تلك الاجتماعات مثل إقامة ولائم للفسق وغير ذلك من الرذائل وكان كل ذلك لانعزالهم.

أضف إلى ذلك العناد الذي قابل به المسيحيون مطالب الإمبراطورية، وكان ذلك مثيراً جداً للحكام الرومان، وقد بدت شجاعة الشهداء أمام أعدائهم كنوع من التعصب العنيد وقد أشار الامبراطور أوريليوس إلى المسيحية مرة واحدة بتلك العبارة: عناد محض!!

ولم يقنع المسيحيون بالانسحاب من الممارسات الوثنية بل هاجموا الديانات الوثنية بشدة، لأنها تعاليم شياطين، وعبادة الإمبراطور نجاسة، ومن ثم وقعوا تحت طائلة الاتهام بعـدم الولاء للإمبراطور، والإجـرام في حقه، وهزأوا من القول بأن عظمة روما ترجع إلى احترامها للآلهة!!

وهكذا ظهـر المسيحيون ملحـدين من وجهة نظر الوثنيين، وحيث أن الديانة كانت مسألة ترتبط بسلامة الدولة وخيرها، فإن الإلحاد يمكن أن يستجلب غضب الآلهة على الدولة، فإذا مابدأت المصائب والكوارث تنهال على الامبراطورية، حتى ألقوا باللوم على المسيحيين، فقد أصبح المسيحيون هم كبش الفداء، عندما تقع الكوارث، فإذا حدثت مجاعة أو قام زلزال أو انتشر وباء، أو أي كارثة قومية، ترتفع الصرخات مطالبة بالقاء المسيحين إلى الأسود.

إلا أن هذه الاضطهادات المروّعة، لم تستطع أن تزعزع أساس المسيحية الصلد، الذي ثبت بقوة أمام هجمات الإمبراطورية الرهيبة كالجبل الراسخ, لأن ذراع القدير كان يحميها، وعنايته تشملها، وحقَّت عليها نبوة المسيح: " عَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا" (مت16 :18).

وفضلاً عن كونها لم تتزعزع، امتدت وأزدهرت في وسط هذه البلايا, إلى أن تحوّلت معابد الأوثان في كثير من البلاد إلى كنائس مسيحية.

ومع أن المسيحيين قد غلبوا بصبرهم ولطفهم حتى عظمت طائفتهم, إلا أنهم لم يقاوموا مضطهديهم، ولم يرفعوا في وجوههم سلاحاً لا هجوماً ولا دفاعاً, سوى سلاح الصبر والإيمان !!