نشهد فى هذا العصر محاولات فاشلة، تحاول أن تُقيم نظرية متكاملة عن السعادة، خالية من النبض الإلهى! وقد نسوا أو تناسوا أن الإنسان خرج من الله وستظل روحه هائمة إلى أن يلتقى بالله، كما قال القديس أُغسطينوس.
ولكن يبدو أن العلم وما فجّره من اكتشافات مذهلة.. جعلهم يبحثون عن ماديات، متجاهلين قدرة خالقها! ولو أنهم تعمقوا قليلاً لوجدوا أن الله داخل فى كل شئ وخارج عن كل شئ، ومن يهاجمه يؤكد حقيقة وجوده، ومن يتشكك بوجوده كمثل سمكة تشكك بوجود الماء من حولها، غير مدركة أن عدم وجود الماء يعنى موتها! وها نحن نتساءل:
إن كان الله غير موجود فلماذا يهاجمونه؟! هل يوجد غير المجنون يصارع كائنات وهمية؟ أيستطيع إنسان أن يُسمّى إبنه الله؟ فإن كان اسم الله يرهب البشر، أفليس هذا دليل لا على وجوده فقط، بل وعلى جبروته أيضاً! ولكن الإنسان لقساوة قلبه وكبرياءه لا يرى الله، فصار كالأعمى الجاهل الذي يرفض وجود الشمس لأنه لا يرى، فى حين أن حرارتها هى أعظم دليل على وجودها، فإن كان لايرى الضوء أفلا يشعر بالحرارة!!
إن كل ما فى العالم وسائل يخاطبك بها الله، لكي يؤكد لك حقيقة وجوده، ولكنك لا تسمعه بسبب ضجيج أفكارك، وهيجان رغباتك، وثورة شهواتك، ولو كان لديك حواس روحية مدرّبة، لكنت تراه فى لمعان النجوم، وتسمعه فى إيقاعات نبضات قلبك، وتشعر بوجوده فى كل نسمة هواء من حولك..
لقد حاول كثيرون على مر العصور، أن يلغوا فكرة الله من الوجود، وبالتالي العبادة الدينية من حياتهم، لكنهم فى النهاية وجدوا أنفسهم مضطرين، إلى الاستعاضة عن تلك الديانات القديمة بأُخرى جديدة من صنع البشر! فأعلنوا بهذا أن الإنسان مخلوق غير كامل، وهو فى حاجة دائمة إلي قوة أُخرى ليسد ما فى عالمه من نقص وضعف وقصور..
نعترف بأن العالم واسع، لكن رغم اتساع العالم وكثرة خيراته، إلا أنه لا يمكن أن يُشبع جوع الإنسان! هل فكرت لماذا ؟ لنرجع إلى قصة الخلق ونتساءل: لماذا خلق الله الإنسان؟ أليس لكي يحيا معه ويتلذذ بحبه، إذن فالإنسان قد خُلق لله ولن يُشبعه إلا خالقه، ولو أنه امتلك العالم فلن يشبع! والسبب: إن العالم محدود، فإذا حصل على شئ فسرعان ما يمله فيبحث عن غيره !! لأنه فى الحقيقة يبحث عن غير المحدود وإن كان لا يدركه! وكأن الإنسان اختار لنفسه أن يعيش أسيراً فى حلقة مفرغة، حُكم عليه فيها بالجوع والعطش إلى الأبد!
وإليك بعض الأمثلة:
نعلم جميعاً أن الإنسان مائت، ولكن هناك من لا يقبل الموت كحقيقة مؤكدة، وإلى الآن يحلم بظهور مادة تجدد شبابه وتُطيل عمره، وتحقق له أعظم أحلامه ألا وهو: " حلم الخلود "، ولأنه عاجز عن تحقيق هذا الوهم، فهو لذلك يسعى إلى التخليد بوسائل أُخرى قد تكون: عائلة يكوّنها، أو مملكة يحكمها.. ومن هذه الوسائل وغيرها.. يُعلن الإنسان أنه يرغب الخلود، لأن ما يريده هو الوجود الدائم وليس المحدود!
ولو تأملنا سعى البشر وراء شهوات الجسد لوجدنا أنه سعى وراء غير المحدود، ولنأخذ " حب المال " على سبيل المثال فنقول: في البداية يحاول الإنسان تأمين مستقبله وهو في هذا لم يخطئ، ولكن ما أن يزداد غناه فسرعان ما يزداد الطمع بالمال، إلا أن سُلم الطمع لا نهاية له، فماذا يفعل الإنسان؟ يظل يرتقى درجاته إلى أن ينتهى وجوده التافه، الذى لم يكن سوى فراغ محض!
قصــة
يُحكى عن " شابة جامعية " إنها أحبت المال بصورة مرضية، حتى صار الثراء كل هدفها فى الحياة، فماذا فعلت لتصير واحدة من الأثرياء؟ بدأت تجلس مع الشباب، حتى تعرفت على شاب مميز، كان يملك عربة، فاعتقدت من مظهره أنه فتى الأحلام، الذي سيحقق لها طموحاتها..
وتمر الأيام وتتوطد العلاقة بينهما، لكنها لاحظت أن زميلها كثير الرسوب، كما لو كان لا يرغب فى التخرج! فلما سألته عن سبب رسوبه ذُهلت، إذ علمت أنه يتعمد الرسوب لأنه يوزع المخدرات على الطلبة! وهذا هو مصدر غناه..!! وبكل جرأة يعرض عليها أن تشاركه هذه التجارة المربحة، إن كانت تريد أن تصبح من الأثرياء! كل ما ستفعله إنها ستقف فى مكان ما على الكورنيش، فيأتي إليها شخص ويسلمها المواد المخدرة، فتأخذها منه وتعطيها لبعض التجار...
فى البداية رفضت، إلا أنها تحت إغراء المال قبلت، وبالفعل بعد فترة قليلة جداً، صارت من أصحاب الملايين، فلما اغتنت احتقرت زميلها، لأنه لم يعد يملك من المال مثلما تملك، كما أصبح بالنسبة لها بلا منفعة، فلم يكن أمام الشاب سوى التبليغ عنها انتقاماً لكرامته، فتم القبض عليها وأودعت فى السجن.. فماذا انتفعت من المال؟ المال الذي اشتهته هو الذي ألقي بها فى السجن، ولوث اسمها وقضى على شبابها!
إنها مأساة شـابة، تذكّرنا بمأساة يهوذا الإسخريوطى، الذى لما أحب المال أسلم سيده وفى النهاية ماذا جنى؟! لم يجنِ سوى حبل المشنقة الذى خنق به نفسه!! وهكذا كل من يسعى وراء المركز، أو الشهرة، أو السلطة.. سيظل يجرى هنا وهناك، دون أن يكتب الحرف الأول من اسمه فى سجل الحياة!!
تعجبني تلك العبارة القائلة " لو أن الغزاة استطاعوا أن يصعدوا إلى السماء بعد إخضاعهم الأرض لما تراجعوا لحظة " !! وصدقوني لو أنهم امتلكوا السماء فلن يشبعوا !! ولو عقلوا لبحثوا لا عن السماء ولا الأرض بل خالقهما.
ويتساءل البعض عن " الحب ": هل يخضع هو الآخر لهذا المفهوم، أعنى البحث عن غير المحدود ؟ أقول: نعم، فالحب ليس مجرد ارتباط عاطفي، أو إشباع شهوات جسدية.. بل هناك ما هو أعمق من الروابط النفسية.. فالإنسان من خلال حبه، يبحث عن كائن يملك صفات غير محدودة، يأمل من خلاله أن يعالج سلبياته، ويقوّى ضعفاته، ويعوّض نقائصه... ألسنا نسمع كثيرين يقولون بغير تدقيق: إننا نعبد فلانة!! ألا يدل هذا على أن الحب في جوهره بحث عن كائن غير متناهٍ!
لا ننكر أن الإنسان عندما يُحِب يعتقد أن الآخر يمثل له العالم كله! ولكنه سرعان ما يكتشف حدوده ممثلة فى نقائصه وعيوبه.. فيسوده شعور مرير بالإحباط، لقد أحب شخصية اعتقد أنها مثالية، والآن يراها واقعية، وهذا هو عذاب الحب! وعامل قوى من العوامل التى تقضى عليه أو تحد من نموه!!
حتى وإن كانت هناك أمثلة، عاشت حياة الحب بكل صدق فهذه قلة، فكمال الحب يتطلب كمال الإنسان، والكمال يتطلب مقومات روحية ونفسية وجسدية.. قلما توجد فى إنسان! فالأفضل لنا أن نحيا واقع الحياة لا وهمها، أما الواقع فيُعلن فى كل وقت حقيقة الإنسان: إنه مخلوق يحمل فى أعماقه بذور الخير والشر، وفى داخله يتعانق النور والظلام..
ويتجلى العطش إلى غير المحدود فى " العلم "، ولهذا نجد العالم أو الباحث.. ما أن يقدم للبشرية اختراعاً، فسرعان ما يبحث عن غيره، وهكذا الفنان والكاتب والشاعر... يسعى كل منهم باستمرار إلى إبداع ما هو أسمى، فالإنسانية كلها لا ترضى بتراثها سواء العلمي أو الفكري... بل تسعى بمداومة إلى حقيقة أفضل وجمال أروع! ولذلك نرى تاريخ الشعوب حافل بالثورات، ملئ بالانقلابات، وهذه تدل: ليس فقط على مطامع الإنسان، وسد حاجاته الاقتصادية، وإشباع شهواته الجسدية، بل تؤكد أيضاً حنين الإنسان الدائم، إلى ما هو أفضل، واشمئزازه المستمر من واقعه الذى بمداومة يرفضه.
ولهذا لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، لأنه دائم التفكير فى عالم جديد، وباستمرار يتصورأشكال مثالية للحياة، معيداً الكرة بعد كل فشل، هنا تظهر فكرة التقدم، التي هي دليل على أن الإنسان يميل فى كل لحظة لتجاوز نفسه باستمرار واندفاعه للأمام بحركة لا تتوقف والسبب: إن غير المحدود يجتذبه باستمرار وهو لا يرتاح إلا إليه.
ولو تأملنا في طبيعة البشر، لوجدنا أن معظم الناس لا ينجحون في جذب الجانبين: المحدود وغير المحدود معاً، ولهذا فإن اليأس كثيراُ ما يتملك على البشر كنتيجة طبيعية للفشل المتكرر في حياتهم، وما اليأس إلا علامة تؤكد ضعف الإنسان، واحتياجه إلى قوة أعظم منه، تستطيع أن تعالج ما فشل فيه، وما عجز عن تحقيقه.
أما النفوس اليائسة، الحائرة، فلن تحقق استقرارها إلا من خلال علاقة إيمان بالله، هنا يظهر الجانب الإيجابي لليـأس، إذ يجعل الابن المتمرد على الله، يعود إلى ذراع أبيه السماوي مرة أُخرى.
وهكذا فإن العنصر الأبدي الذى زرعه الله فينا يجعلنا ولو في بعض الأوقات نشعر باليأس، ويتملكنا القلق، إلى أن ندخل أخيراً بيتنا الحقيقي، ونحيا مع الله الذى أحبنا وبذل ذاته لأجلنا، ألم تسأل نفسك مرة: لماذا عندما يقترب الإنسان من الله، يبتعد تلقائياً عن العالم بكل مادياته وشهواته ولذاته...؟
أعتقد أن الاقتراب من اللا محدود، أعنى الله، يجعل الإنسان لا يبالى بكل ما هو محدود، كما أن الحياة الصادقة مع الخالق، تجعل الإنسان لا يمكن أن يتعبد للمخلوق الضعيف، ألم يقل معلمنا داود النبي: " وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ " ( مز25:73 ) !!
إن ألطف وأسهل طريقة يستطيع بها الفكر أن يخدعك هي إقناعك بأن الحصول على السعادة الأبدية، ممكن من خلال أشياء محدودة! أليس هذا الخداع هو الذى يدفع بكثيرين إلى الانحراف والتشتت..!
ولكننا نعترف بأن الإنسان لو عاش لشهواته لشابه الحيوان، وأعتقد أن الله فى اليوم الأخير سوف يسأله: لقد خلقتك إنساناً فلماذا لم تصبح إنساناً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق