مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 26 فبراير 2011

الإنسان المجروح 1



لاشك أن الإنسان يطرق باب الحياة، ويرحل منها فى غير موعد أو استئذان، ولكن بين الميلاد والرحيل هناك رحلة عابرة، لها جاذبيتها وجمالها، ولا زالت رحلة الحياة هى قمة القضايا الإنسانية التى تسعى كل الجماعات أن تجعلها أكثر جمالاً، فكل القوانين التى وضعها الإنسان، هدفها أن تصون الحياة وتوفر لها الأمن والسلام، والأنبياء عندما جاءوا أرادوا أن يزرعوا زرعاً إلهياً، ترتبط جذوره فى الأرض بجذور روحية تمتد إلى السماء.

ولكن على الرغم من هذا، إلا أن الألم لا يزال موجوداً، لقد زرعوا جذوراً روحية، ولكنهم لم ينزعوا جذور الألم، التى تأصلت فى كيان الإنسان، وأصبحت من المستحيل أن تُُنتزع منه.. وإن كان لكل إنسان ميزات تميزه عن الآخر، إلا أن الجميع عند الدموع يلتقون وفى البكاء من الألم يتساوون " فكل الخليقة تئن وتتمخض معاً " كقول معلمنا بولس الرسول (رو8: 22).

اُنظروا لتاريخ البشر، لتروا أنهم بدأوا جماعة صغيرة ثم ازدادوا، عاشوا موزعون على الأرض، عزلتهم الجغرافيا بجبالها وصحاريها وبحورها، ولكن بقى عنصر الإنسانية يربط البشرية المتفرقة، والألم الذى يئن تحت جبروته كل البشر।

في كل مكان في العالم صراخ يمزق القلب من كثرة مظالم لا تحصى، منها التشرد والجوع والحرمان॥ ومنها الإدمان والفساد॥ والحروب والقتل والسرقة॥ وهذا إعلان على أن العالم يتأوه والإنسان مجروح॥ البشرية كلها صارت خاضعة لنير الألم الثقيل!!


الإنسان مجروح جرحاً عميقا، جرح الفقر المُميت الذى صار يذبح الناس ذبحاً، فمعظم البشر يحصدهم الموت حصداً، بسبب القحط الذى عم كثيراً من بلاد العالم.. فأصبحت الغالبية العظمى تئن صباحاً ومساءً من قسوة وألم الجوع، وأقلية يتنعمون ويتلذذون، إلا أنهم هم أيضاً يئنون، ولكن بسبب الثراء الفاحش وما ينتج عنه من شر وفساد، وبين الأثرياء والمعدمين قلة لا قيمة لها، أو قل لا ذكر لهم فى التاريخ، الذى لا يشغل صفحاته بهؤلاء وغيرهم من المعذبين المهملين... يكفيه أخبار العظماء والأثرياء والمشهورين.

يقولون: إن ملايين من البشر يموتون كل عام جوعاً، والبشرية فى مناطق كثيرة تئن ثراءً وشبعاً وتخمة، ففى إحدى الجرائد قرأت خبراً يكاد لا يُصدق تحت عنوان ( زفاف أُسطورى ) يصف لنا احتفال ملك بروناى بزفاف إبنته، يقول الخبر:

كان بريق الذهب والماس، أشد من سطوع أشعة الشمس فى سماء السلطنة، فمن الذهب صُنعت المقاعد والأطباق وأدوات المائدة، وبالمجوهرات الثمينة زُينت الملابس والأحزمة والساعات وحضر الحفل (6 آلاف) مدعو، أقاموا فى قصر يبلغ عدد حجراته (1778) حجرة، أما عن الهدايا فأثمنها عربة رولزرويس، تم تحويلها بمعرفة صنّاع بروناى، وبكميات من الذهب، وأمتار من الحرير.. إلى ما يُشبه عربة الزفاف الملكية، وخلف زجاج العربة جلست الأميرة تحمل باقة الورود: الأفرع من الذهب والأوراق من الماس .

لقد صُنعت كراسى (6 آلاف) مدعو من الذهب ! فى الوقت الذى ينام ملايين البشر على الأرصفة فى الشوارع! وعلى الأرض فى المنازل! فأى عالم هذا الذى نعيش فيه وأية أرض تلك التى تحملنا !! إنسان يموت جوعاً وإنسان يموت شبعاً !! ملايين الدولارات تُنفق على دعايات مشاهير العظماء! وملايين البشر يعانون من التشرد والجوع!

لقد خان أغنياء كثيرون عهد الله، فأغمدوا السيوف التى وضعها الله فى أيديهم لإقامة عمل الرحمة، وتقلدوا سيوفاً غيرها، لاهى إلى الشريعة ولا إلى الطبيعة، ومشوا بها يفتتحون لأنفسهم طريق شهواتهم ولذاتهم، حتى ينالوا منها ما يريدون، فأصبحنا نرى الفقراء يموتون جوعاً فلا يجدون من يُحسن إليهم، وما أسهل أن يخوض الإنسان بحراً من الدماء، إذا رأى على شاطئه الآخر جنيه، ولكن ما أصعب أن ينفق ولو مليماً منه، على مريض فى حاجة إلى أدوية، أو جائع فى حاجة إلى أطعمة!!

نعترف بأن الله لم يخلق الإنسان ليقتر عليه رزقه، ولم يقذف به فى المجتمع ليموت جوعاً، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض، وتحت ظلال السماء، ما يكفيه من مؤونته ويسد حاجته، ولكن قام القوى على الضعيف وغدر به وسلب رزقه، فصارت لحوم الفقراء تنحدر فى بطون الأغنياء انحداراً، فتغير نظام القسمة العادلة، وتشوه وجهها الجميل.

قال روكفلر الملياردير الأمريكى: " ما أعجب هذه الحياة، إن كل ممتع فيها مضر" ! ثم شرح وجهة نظره فقال: الطعام الدسم مضر بصحة الإنسان، والمال الكثير مثير للأعصاب، مقلق للراحة، باعث على الخوف من ضياعه، وحب إمرأة جميلة يمكن أن يدمر الإنسان، وذلك إذا تفرغ لها واستعبده جمالها، والحرص على الاستجابة لكل مطالبها.

هذه خبرة إنسان، لم يكن ينقصه المال ولا القوة ولا النجاح بمفهوم البشر، إنما كان ينقصه شئ واحد ألا وهو: حب الناس له، ولهذا عندما أراد أن يعرف شعور الناس نحوه، عمل استفتاء فى إحدى المجلات، التى كان يملكها عن أكثر الرجال المكروهين فى أمريكا، فكانت النتيجة: إن روكفلر أكثر رجل مكروه فى أمريكا كلها وبلا منافس!

وعندما أراد أن يكسب حب الناس وعطفهم بنى كنيسة، وكان يلقى فيها عظة الأحد بنفسه، ومع ذلك ما كان أحد يحضر إلا أتباعه! ولا تتعجبوا إن قلت لكم: إن الناس كانوا لا يمرون من أمام الكنيسة، بل عندما كانوا يقتربون منها، كانوا يمرون من طريق آخر، وقد وصلت كراهية الناس، أن أحد أقربائه طلب منه أن يأخذ جثة ابنه الميت ليدفنها فى مكان آخر، لأنه لا يقبل أن يدفن إبنه فى المدافن التى بناها روكفلر، الذى تلوثت يده بالقتل والنهب.. فما المنفعة أن يصرف إنسان عمره ، راكعاً أمام صنم مخيف، أقامته الأجيال المظلمة، ودعوا الخطاة إلى عبادته ؟!

فيا ليت يد الأغنياء تمتد لتمنع انحدار دموع المساكين، فاليد التى تمنع دموع الفقراء أفضل من اليد التى تُريق الدماء، والتى تفرّح القلوب أشرف من التى تُبقر البطون، فالمحسن هـو أفضل من القائد وأشرف من المجاهد، وكم هناك فرقاً: بين من يحيى الأموات ومن يميت الأحياء!

هذا هو عالمنا اليوم! وهذه هى الثمار التي نجنيها!

ليست هناك تعليقات: