مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الأحد، 25 يناير 2009

سلطان وقيود وسلسلة الخطية



للخطية سلطان، وسلطانها قوي، فأمام سلطان الخطية يخر الأبطال لأجل سيجارة يدخنونها، أو لأجل كأس خمر يرتشفونه، أو لأجل لذة يطفئون بها نار شهواتهم!!

فالخطية هي التي جرحت وأذلت كثيرين، ولهذا لم يفلت منها أحد، وكم من العشاق سكبوا أنفاسهم بين طيات أثواب الخطاة، وعلى أقدمهم هرق جبابرة قطرات دموعهم، وبين أيديها المُعطّرة بكل ما هو فاسد وضع رجال تنهدات أشواقهم، وهكذا صـاروا يتنقلون من شـهوة إلى شهوة حتى انتهت حياتهم بالفناء!!

كما أنَّ الخطية تغري محبيها، وتعدهم بآمال كثيرة.. حتى إذا سقطوا تُقيدهم بقيودها الآثيمة، أمَّا قيودها فكثيرة ومتنوعة، فهناك من تقيَّده بحبال الزني كالمرأة السامرية، وآخر تقيَّده بحبال البخل ومحبة المال كالشاب الغنيّ، وثالث تقيّده بقيود العظمة والكبرياء كهيرودس الملك، هؤلاء غير الذين تُقيّدهم بقيود السرقة أو القتل أو إدمان المسكرات.. وهى قيود تبدوه أنّها ضعيفة في نظر كثيرين، ولكن ما أصعب فك قيود الخطية!!

وغالباً ما تقود الخطية الخاطيء إلي خطايا أُخري، لأنَّ الخطايا سلسلة متماسكة، فكل خطية تسلّم الخاطيء إلي الأُخري، فمثلاً: السكر يقود إلي الزنى.. والزنى يقود إلي الخيانة والغدر الذي يقود إلي القتل أحيانا، وهكذا...


سـلطان الخطية
" من يعمل الخطية هو عبد للخطية "
(يو 34:8)


إنَّ سلطان الخطية حقيقة لا يُنكرها أحد.. وكل من ينظر إلي سيرة بني جنسه، ويفحص بدقة قلبه.. يقر أنَّ الخطية تملّكت علي جميع بني البشر، لأنَّها تغلغلت وتسلسلت في ذرية آدم.

لقد صار الجميع عبيداً لها، وأسري يخضعون لأوامرها، لأنَّهم قد زاغوا وفسدوا، ولم يعد أحد منهم يفعل الصلاح( رو12:3)، وقد برهن السيد المسيح علي ذلك بقوله: " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ " ( يو34:8).

يقول القديس مكاريوس
" إنَّ العالم مستعبد لشهوة الخطية وهو لا يدري بها، وهناك نار نجسة تشعل القلب وتنتشر إلي كل الأعضاء، وتحث الناس علي فعل الشهوات وعلي أُلوف خطايا أُخري "، يحق لنا أن نقول:

إنَّ شوكة الخطية قوية جداً، ولم تقدر أي قوي علي ردعها، ولهذا قال البعض:
غمر الطوفان العالم الأول ولم يغرقها!
ونزلت النار علي سدوم وعمورة وأحرقتها ولم تحرقها!
فتحت الأرض فاها وابتلعت القوم الأشرار ولم تبتلعها!
انفجرت البراكين وأخرجت مقذوفاتها ولم تقذفها!

وبالإجمال

فإنَّ كل الطرق والمحاربات معها لم تغلبها.
لأنَّها تملّكت علي قلب الإنسان وتحصّنت فيه.
وصيرته منبعاً لكل إثم حتى إنّه صرخ متأوّهاً بألم شديد قائلاً:
" وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟ " (رو24:7).

ويُعلن لنا سليمان الحكيم سلطان الخطية في آية شهيرة له إذ قال: " طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ " ( أم26:7)، ولهذا لم يفلت منها أحد، فالملوك كفرعون، والجبابرة كجليات، والمشيرين كأخيتوفل، والأنبياء كداود، والحكماء كسليمان، والرسل كيهوذا... كلهم سقطوا تحت نيرها.

وليس البشر هم فقط الذين سقطوا في الخطية، بل الملائكة الروحانيين، منهم من غلبتهم وأسقطتهم من رتبتهم، وصاروا يحملون اسم الشياطين أيّ المقاومين أو المعاندين، وقد كان سقوط الملائكة هو ميلاد الشر في العالم!!
ومن شدة تسلّطها علي الإنسان، جعلته يكره القداسة، ويحب حياة النجاسة، يستثقل الوصايا، ويستخف الأفعال الشهوانية، كما أنّه يستصعب السير في طريق البر، في الوقت الذي يستسهل فيه الجري في طريق الإثم.

قد يُستعبَد إنسان لسيد ما، ولكن قد يأتي يوم ويُعطيه هذا السيد حريته.. أمَّا الخطية فهي السيد الوحيد الذي لا يقبل أن يُحرر عبيده لأنَّه سيد شرير وظالم، مهما خدمته وأوفيته مطالبه لن يتركك! وإن هربت منه سيلاحقك أينما ذهبت!

يقول القديس أُغسطينوس
" يا له من استعباد مُذل هو استعباد الخطية، إنَّ معظم الذين يتألّمون من استبداد أسياد ظالمين، يتمنّون لو يباعون لكي يُغيّروا علي الأقل مواليهم، ولكن ماذا يستطيع أن يعمل عبد الخطية؟! وبمن يستجير؟! ومِنْ مَنْ يباع؟! وأخيراً نري العبد وقد مل مطلب سيده، وهو يرغب أن يتخلّص منه، ولكن إلي أين يهرب عبد الخطية؟! إن هرب جر وراءه خطيته.. "

إعلم أنَّ الخطية في بدايتها سهلة، وفي نفس الوقت تبدو لذيذة، هذا ما يقوله سليمان الحكيم: " الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ " (أم17:9).

كما يظن البعض، ويتوهّم كثيرون، أنَّ التخلص منها أمر سهل يمكن تحقيقه في أي وقت يرغبون، لكنَّ الحقيقة إنَّ كثيرين عاشوا في الخطية سنينَ بهذا الفكر من أجل تحقيق لذة جسدية توهّموا فيها سعادة!! ولكن علي الرغم من أنَّ اللذة أنقضت إلاَّ أنَّ الأسر مازال كما هو، لقد انتهت اللذة وبقيت الخطية تطل بوجهها القبيح علينا، وكنير قاس يحني ظهورنا، أليس هذا قمة العبودية؟!

لا تظن أنك ستجني سعادة من الخطية، لأنَّ آلامها تفوق أفراحها، فبقدر ما تشعر بسعادة تجد أنَّك مشدود ومُقيّد برباطات كثيرة، تجعلك عبداً للخطية، ذليلاً لتلك العادات الرديئة التي تملّكت عليك، فالخطية إذا تملّكت علي إنسان أضعفته بدنياً وروحياً وعاطفياً..

وكلَّما زادت الخطية جعلت صاحبها عاجزاً عن مقاومة الضغط المُصاحب لها، فتراه بالنتيجة ينهار تحت ثقلها، وكثيراً ما ينتهي به الأمر إلي أن يُصبح مُصاباً عصبياً أو عقلياً أو ينتحر.. وتستطيع أن تتحقق من هذا لو تفحصت حياة المجرمين والسكّيرين..

يقول القديس مكاريوس
إنَّ الخطية هي كجبال ثقيلة لا تُحتَمل، وفي وسطها توجد تنانين ووحوش سامة، وكما يبتلع الحوت إنساناً في بطنه هكذا تبتلع الخطية النفوس، إنَّها لهيب نار حارقة وسهام ملتهبة من الشرور.

ولا تنظر إلي الخطاة ولا إلي طريقهم.. لأنَّ طريق الخطاة رحب والسائرون عليه كثيرون، وإن أردت أن تنظر فلا تنظر إلي بدايته بل إلي نهايته تطلع، لأنَّ في نهايته هوة عميقة سيقع فيها كل السائرين عليه.

قصــة

يُحكي عن شاب تعلق قلبه بفتاة تعلُّقاً شديداً، حتى أخذها لتعيش معه في قصره دون أن يتزوجها، وحدث بعد مدة لمَّا اشتد عليه المرض، وازدادت ديونه أن زاره أحد أصدقائه، وقد كان خادماً تقياً، فسأله: ماذا أعمل لأنجو بحياتي وأخرج من هذه التجارب التي حاصرتني، ففرح الخادم بسؤاله وطلب منه أن يسدد ديونه، ويطرد هذه المرأة الزانية التي كانت السبب في فقره ومرضه..

فلمَّا سمع الشاب المطلب الأخير تنهد ثم قال: كل ما طلبت مني أستطيع أن أعمله، أمَّا طرد حبيبتي فلا أستطيع! فأخذ الخادم يشرح له أن طرد المرأة أفضل له، فخير للرجل أن يخسر امرأة من أن يخسر حياته وأبديته.. فأجابه: لا أستطيع!! فأخذ تارة يُهدده بعذاب جهنم وتارة أُخري يُشوّقه إلي أمجاد السماء، وهكذا أخذ يعده ويتوعده، أمَّا هو فكان يجاوبه في كل مرّة: لا أستطيع!! إلي أن قال بلهجة الإصرار: قلت ولا زلت أقول: لا أستطيع!! ثم جمع قواه الضعيفة الباقية وقبض علي ذراعي تلك الشقية وقال لها بصوت مرتفع كما لو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة: كنت عزي في حياتي وستكونين كذلك في مماتي: ثم اجتذبها بعنف وضمها إلي صدره واحتضنها، وفي الحال اشتد عليه المرض، واضطربت حركة قلبه وأسلم روحه الهالكة إلي الجحيم، لقد مات الرجل وهو يحتضن الخطية بين ذراعيه!!

ولكن إن كان للخطية سلطان إلاَّ أنَّ الله قد أعطانا قوة، يمكن بها أن نتحرر منها، ونتخلّص من سلطانها، فقد ظهر المُحَرر الأعظم، خرج الأسد الغالب من سبط يهوذا، جاء نسل المرأة ليسحق رأس الحية.. يسوع الذي داس الموت بموته وأبطل سلطانه.

فإن آمنت به " آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (أع31:16)، وأعطيته قلبك " يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ " (أم26:23)، وصرت في نور وصاياه المقدسة " احْفَظْ وَصَايَايَ فَتَحْيَا " (أم2:7).. تستطيع أن تفك كل قيود الإثم، وتتحرر من سلطان الخطية..

لأنَّ ابن الله هو الوحيد الذي يستطيع أن يُحرر، كما قال: " فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً " ( يو36:8)، وعندما أراد توما أن يعرف الطريق " يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟ " (يو5:14)، أعلن له المسيح أنَّه هو الطريق المؤدي إلى السماء: " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ، لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي " {(يو6:14).

فاقترب منه واعلم أنَّ كل من يُقبل إليه لا يلقي به خارجاً ( يو37:6)، لأنَّ مشيئة الله: " أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ " (يو40:6).


قيـود الخطية
" الشرير تأخذه آثامه وبحبال خطيته يُمسك "
( أم5: 22)


لا شك أنَّ عدونا الأول والأشد هو الخطية، لأنَّ أي عدو مهما كانت قوته يمكنك أن تصالحه في يوم ما، وقد تصيرا أصدقاء فيما بعد، وتنقلب العداوة التي كانت بينكما إلي محبة!!

أمَّا الخطية فهي العدو الوحيد الذي لا يقبل أن يصطلح معك أو يصير لك صديقاً، وإن ظهر هكذا فهذا هو ثوب الرياء الذي يرتديه، فمن الخارج يبدو حسناً، أما الداخل فيحمل خبثاً وانتقاماً.. فهو بمداومة يخطط لهلاكك ويسعي لفنائك.

ولهذا كثيراً ما أُشبه الخطية بعدو قاسٍ لا يشفق ولا يرحم، إذا انتصر عليك ووقعت تحت أسره، يُقيّدك بأغلال، وإذا أردت أن تهرب منه سيلاحقك في كل مكان أينما ذهبت.

يقول إشعياء النبيّ: " وَيْلٌ لِلْجَاذِبِينَ الإِثْمَ بِحِبَالِ الْبُطْلِ وَالْخَطِيَّةَ كَأَنَّهُ بِرُبُطِ الْعَجَلَةِ " (إش18:5)، وهذا يعني: إنَّ الذين يسعون إلي الخطية بإرادتهم أو يسحبونها بقوة نحوهم، يصنعون لأنفسهم حبالاً وربطاً تسحبهم أو تجرهم كالعجلة نحو الشر، وتقيدهم بقيود الإثم.

وكثيراً ما يدّعي الخاطيء أنَّه حر، ولكن هذا في الواقع رياء، لأنه لا شيء أقرب منه إلي الأسر والعبودية والمهانة.. ومن الذي يزله ويستعبده؟ إنها الخطية، العدو القاسي الذي لا يشفق ولا يرحم، وإذا حاول أن يُناقض نفسه أو يبرر ذاته، فصوت رب المجد يسوع سيظل يطارده قائلاً: " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ " ( يو34:8).

يقول القديس أغسطينوس
" لكي تصنع لك حبلاً لابد أن تجمع خيوطه خيطاً خيطاً، ثم تشدها شداً قوياً، هكذا الحال في الخطايا التي تتجمّع وترتبط الواحدة بالأُخرى، لتؤلّف حبلاً قوياً طويلاً، وما الغاية من هذا الحبل إن لم يكن لربط رجلي الخاطيء ويديه وطرحه في الظلمة الخارجية ".

حقاً إنَّها مُرّة وقاسية هي عبودية الخطية، وويل للذين يقعون تحت نيرها، فكثيرون ظنوا في البداية أنهم مهما فعلوا الخطية يستطيعون في أي وقت أن يتخلّصوا منها، حسبما يريدون، ولكن سرعان ما وجدوا أنفسهم مقيدين بأغلال يصعُب فكها!!

في البداية تملّكهم الوهم واقتنعوا أنَّ بإمكانهم أن يقذفوا بذلك الصنم ويحطموه وقت ما شاءوا، ولكن بعد أن تذوقوا خمر اللذة وجدوا أنفسهم عبيداً لصنم الخطية، يُلّبون رغباته ويعملون كل ما يأمرهم به، أين إرادتهم؟ سلبتها الخطية!

ويجب أن نعلم أنَّ قيود الخطية كثيرة ومتنوعة.. فهناك من يتقيّد بحبال الزنا والنجاسة، كما تقيّدت السامرية والمرأة الخاطئة وأهل سدوم وعمورة.. وآخر تُقيّده حبال البخل ومحبة المال، كالشاب الغني والغني الغبي.. وثالث يتقيّد بقيود العظمة والكبرياء مثل هيرودس الملك، الذي عندما رقصت ابنة هيروديا في يوم مولده وأعجبته، وعدها بقسم أنَّها مهما طلبت يُعطيها، وعندما طلبت رأس يوحنا المعمدان كرغبة أمّها. يقول الكتاب: " فَاغْتَمَّ الْمَلِكُ وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ " (مت9:14)، وهناك من تقيده بقيود المسكرات.. أو القتل.. أو السرقة..

وكلّما تعمّقت في الخطية تأصلت فيك جذورها وبالتالي ازدادت قيودها، ولهذا قيل: إنَّ ما يحدُث مع الخاطيء تجاه شهواته المسيطرة عليه، كالذي يحدّث مع البرابرة تجاه أسراهم، فلكي لا يهرب الأسري يفقئون أعينهم ويقطعون أيديهم وأرجلهم.. وهكذا الخطية تفقأ عيني الخاطيء، فلا يري سوي الدنس والنجاسة، وتقطع رجليه فتعوق سيره في طريق الأبدية.

جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح قائلاً: " مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟ "، فأجابه رب المجد: " نْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ، لاَ تَقْتُلْ، لاَ تَسْرِقْ، لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ، لاَ تَسْلِبْ، أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ "، فلمَّا أجاب الشاب وقال: ­" هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي "، يقول الكتاب المقدس: " فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ " (مر10: 17-22).

وكأنَّ السيد المسيح أراد أن يقول له: إن أردت أن تتبعني فلابد أولا أن تحل قيودك التي أنت مقيد بها، لأنّك لا تستطيع أن تتقيّد بقيودي إن لم تحل قيود الشيطان أولاً، ولا تستطيع أن تتقيّد بقيود البر إن لم تنحل من قيود الإثم.. وها أنت مُقيّد بحبال الغني ومحبة المال،فحلها لتتقيد بقيود الجوهرة الثمينة.

وفي حديثه مع المرأة السامرية أراد أن يُلفت نظرها إلي قيد قيّدها سنينَ، ألا وهو: الزني، فقال لها: " اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ، قَالَ لَهَا يَسُوعُ: حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ " (يو4: 16-18)، ولكي تدخلي معي في زيجة روحية، وتصيري عروس للعريس السماويّ، لابد أن تتخلصي من قيود الزنى التي استعبدتك وأذلتك.. لابد أن تحليها وتقطعي حبالها وتلقيها بعيداً عنك، حتى لا تتقيدي بها ولا يستطيع أحد أن يُقيدك بها مرَّة أُخرى، حينئذ أربطك بحبال لا تنقطع وأقيدك بقيود حُبي التي لا تنفك.

وهكذا استحوذ يسوع على قلب السامرية، فاعترفت بخطيتها وأنّه نبي، فشعاع الحب قد اخترق قلبها، فتحول ماضيها الخريفيّ إلى ربيع دائم تفتحت زهوره وفاحت رائحة عبيره.. فتركت عند البئر جرتها وهى في الحقيقة فقد تركت خطيتها لتبشر بعريسها السماوي، الذي معه تذوّقت طعم الحُب الروحانيّ، بعد أن رأت الطهارة تتكيء في عينيه كطفل بريء.

عندما حاد صدقيا الملك عن طريق الرب، ولم يصغ هو ولا شعبه إلي كلمة الرب التي تكلم بها علي فم إرميا النبيّ (إر37: 2،1)، ونجس الهيكل بالعبادة الوثنية (2أخ36: 14)، ولم يقضِ بالعدل (إر21: 12،11). قيّدته شروره هذه بسلاسل من نحاس وقادته إلي بابل مسبياً: " فَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ بَنِي صِدْقِيَّا فِي رَبْلَةَ أَمَامَ عَيْنَيْهِ وَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ كُلَّ أَشْرَافِ يَهُوذَا، وَأَعْمَى عَيْنَيْ صِدْقِيَّا وَقَيَّدَهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ لِيَأْتِيَ بِهِ إِلَى بَابِلَ " (إر39: 7،6).

وفي قصة الإنسان الذي كان به شياطين كثيرة في كورة الجدريين: نري أن الخطية إذا قيّدت إنساناً، لا تقبل أن يُقيّد بقيود أُخري سواها. ولهذا قيل: " كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ " (مر5: 3-5).

ولكن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله، الذي أمامه تخضع وتسجد كل الأرواح، وتنحل وتذوب كل القيود. فذلك الإنسان الذي كان به شياطين كثيرة، نراه أمام رب المجد يسوع يخر ويسجد، ويتوسل إليه ألاَّ يُعّذبه، يقول الكتاب: " فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ الْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي! ( مز5: 7،6).

فاصرخ إليه أيها الخاطيء..
واطلب منه أن يحل قيودك..
لتذبح له ذبيحة التسبيخ..
وأن يربطك برباط حُبّه المقدس..
حتى لا تتقيد بقيود الخطية..
وتأكد أن الله إذا ربطك بقيوده..
سيقودك لا إلي العبودية أو المذلة..
بل إلي الحرية الحقيقية..
حرية مجد أولاد الله.

سلسلة الخطية
" فرأي إمرأة تستحم.. فأرسل رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معهـا..
وفي الصـباح كتب داود يقـول اجعـلوا أوريا في وجه الحرب.. فيُضرب ويمـوت "
(2 صم 11)


ذكرنا أنَّ الخطية مرض قد يتضخم وينمو في الإنسان، فأكثر المجرمين بدأوا حياتهم الإجرامية بجرائم تافهة، وكما قيل: معظم النار من مستصغر الشرر. وهذه القصة تُؤكد قولي:

قصة

يُحكي أنَّ لصاً سطا في نصف الليل علي منزل رجل ثري ليسرقه، ولكن علي غير المتوقع استيقظ الرجل ففاجأ اللص وهو يسرق، فوقع عليه وأخذ يصرخ بشدة عسي أن يسمع أحد من الناس صوته فيأتي ليساعده في القبض علي المجرم، فلمَّا رأي اللص أنَّ جريمته فشلت حاول أن يهرب ولكن دون جدوى.. وإذ لم يستطع الفرار أطلق عياراً نارياً علي صاحب البيت فوقع الرجل قتيلاً، فأتى الناس وقبضوا علي اللص، الذي أُلقي في السجن إلي أن صدر الحكم ضده.. أمَّا الحكم فكان الإعدام شنقاً، وكعادة المحكومين عليهم بالإعدام.. سُئل المجرم قبل تنفيذ الحكم: أتريد شيئاً؟ فقال نعم، أريد أن تُحضروا إليّ أمي لأراها قبل أن أموت، فأحضروها بناءً علي طلبه.. فلمَّا رآها طلب أن تقترب منه ليقول لها كلاماً سراً، فلمَّا اقتربت ضغط علي أُذنها بأسنانه فقطعها، أمَّا هي فأخذت تصرخ من شدة الألم.. عندئذ نظر إليها وقال لها: هذا أقل جزاء لكي مني، فأنت التي أتيتِ بي إلي هذا المكان، لأنَّك لو لم تشجعيني علي سرقة البيض من جارتك وأنا بعد صغير، لَمَا صرت لصاً وأنا كبير!!

لكن في أحيان كثيرة لا يتضخم المرض بهذه الصورة، إنَّما يمتد ويتسع، فكثيراً ما يسقط الإنسان في خطية واحدة ولكنه بعد قليل يجد نفسه مُصاباً بعدة خطايا أُخري، لأنَّ الخطايا سلسلة كل منها تُسلّم الخاطئ إلي غيرها.. مثلما يسقط إنسان علي سُلم فكل درجة تُسلمه إلي أخري حتى يصل إلي القاع.
فمثلاً: كأس الخمر التي يرتشفها إنسان دون أن يُدرك عواقبها.. قد يجر وراءه السقوط في الزني.. الذي يجر وراءه الخيانة والغدر.. وأحياناً القتل والسرقة...

وخطية النهم قد تقود أحياناً إلي الزني.. والزني إلي الطمع.. والطمع يقود إلي السرقة.. التي تقود إلي القتل والغضب.. الذي يؤدي إلي الحزن والكآبة.

وهذا ما أكده الأب سيرابيون عندما قال: ف الذيادة في النهم يتبعه الزني، والزني يتبعه الطمع، والطمع يُثير الغضب، والغضب يوّلد الكآبة (الغم)، والغم يُنشيء الفتور.. فإن أردت الغلبة علي الفتور، يلزمك النصرة علي الكآبة، ولكي تتخلص من الكآبة، يلزمك طرد الغضب، ولتهدئة روح الغضب يلزم أن نطيء بأقدامنا علي الطمع، ولأجل اقتلاع الطمع يلزم الامتناع عن الزني، ولكي ما نهلك الزنا، فلننتهر خطية النهم...

وقد يقع إنسان في خطية الغضب، فيتولد حقد في قلبه.. وهذا الحقد يجعله يسب ويشتم في الآخرين الذين غضب عليهم، وأحياناً يثور ويريد الانتقام منهم، وهذه الثورة تقوده إلي الضرب، الذي يقود أحياناً إلي القتل، وغالباً ما يحاول القاتل تبرير نفسه أمام القضاء فيقع في خطية الكذب والإدانة...

أيضاً خطية محبة المال تقود إلي السرقة، التي يتفرع منها الغش والتزوير، وهذه تقود إلي الظلم إذ يسلب حقوق الآخرين، وأحياناً إلي القتل، الذي كثيراً ما يحدث عندما يُضبط السارق وهو يسرق.. وبالطبع إذا قُبض عليه سيكذب حتى لا يُحكم عليه..

يقول القديس مرقس الناسك
" يستحيل علي الإنسان أن يسقط في الزنا، ما لم يسقط أولاً في شراهة الأكل، أو أن يُثأر بالغضب ما لم يكن طمَّاعاً يُقاتل من أجل الطعام أو المال أو الشهرة، ومن المستحيل عليه أن يتجنب قتال التذمر، ما لم يكن قد سبق له أن احتمل الحرمان من هذا كله.. ويستحيل عليه أن يهرب من الكبرياء، ما لم يكن قد أستأصل من قلبه محبة المال ".

أمثـلة

لقد ذكر الكتاب المقدس، وكذلك كتب الآباء القديسين أمثلة كثيرة، وكلها تؤكد أنَّ الخطايا سلسلة متماسكة، كل حلقة منها مرتبطة بما قبلها وما بعدها، ومن أبرز تلك الأمثلة:


آدم وحواء

جلست أُمنا حواء
مع الحية، التي بدأت تكلّمها كلاماً مناقضاً لكلام الله، لكنّه مُغري، فالله أوصاه أن يأكل من جميع شجر الجنة إلاَّ شجرة معرفة الخير والشر: " لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتا ًتَمُوتُ " ( تك17:2)، والحية قالت: " يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ " (تك5:3).

فتطلعت حواء أن تصير كالله!! فسقطت في الكبرياء، وأيضاً في الشك وفقدان الثقة في كلام الله، وهنا دخلت الشهوة قلبها، يقول الكتاب المقدس: " فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ " ( تك6:3).

وبعد شهوة الأكل كانت شهوة الجنس، فقبل الأكل كانا كلاهما عريانين، وهما لا يخجلان (تك25:2)، أمَّا بعد السقوط " فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ، فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ " ( تك 7:3).

قايين

بدأت سلسلة خطايا قايين بالحسد والغيرة، حدث ذلك بعد أن قبل الرب قربان هابيل ولم يقبل قربانه، ثم تطوّر الحسد إلي غضب: " فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدّاً وَسَقَطَ وَجْهُهُ " (تك5:4). وقاده الغضب إلي القتل، وبعد القتل نراه يكذب، فعندما سأله الله عن هابيل قال: لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟ " (تك9:4).

العالم القديم

إنَّ قصة السقوط المريعة التي تسببت في فناء العالم كله بالطوفان بدأت بنظرة: " أَبْنَاءَ اللهِ رَأُوا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ " (تك2:6)، فهم إذ رأوا اشتهوا، " ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً " (يع15:1)، فلما اشتهوا مالت أجسادهم وأرادوا إشباع شهواتهم، " فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا " (تك2:6)، ولكن كما يقول معلمنا بولس الرسول: " لاَ تَضِلُّوا! فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ " (1كو33:15)، وهذا ما قد حدث، إذ عمّ الفساد وانتشر الشر علي الأرض، حتى إنّ الرب حزن أنَّه عمل الإنسان، فكان لابد من عملية تطهير للفساد، فأتى الله علي العالم بماء الطوفان...

فالبداية كانت نظرة شريرة من قوم فاسدين، وهذه النظرة الشريرة قادت إلي خطايا أُخري، انتهت بالهلاك والفناء.. ولهذا يقول القديس أغسطينوس: " إنَّ حلقات السقوط أربعة: نظرة، فتصور، فهُيام، فسقوط ".


داود النبيَّ

بدأت سلسلة خطايا داود، بقليل من الكسل والفراغ، فكان يجلس في البيت ولا يخرج للحرب كما كان يفعل من قبل، وهذا الفراغ قاده إلي النظر لخصوصيات الناس، فتطلّع وهو يتمشي علي السطح وقت المساء إلى إمرأة وهي تستحم، وإذ كانت المرأة جميلة أرسل إليها فاضطجع معها، وسقط رجل المزامير العظيم في خطية الزنا!! ولكي يخفي خطيته التي تورط فيها، أمر بقتل زوجة أوريّا وهو في الحرب حتي يستطيع أن يتزوجها.. (2صم11).

يهوذا الإسخريوطيّ

كان خطية حُب المال هو الخطية الأولي التي دخلت إلي قلب يهوزا، تلك التي قال عنها معلمنا بولس الرسول إنَّها " أصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ " (1تي10:6).

وهذه الخطية هى التي قادته إلي سرقة الصندوق الذي عهد به إليه الرب (يو6:12)، ومحبة المال قادته أيضاً إلي إدانة مريم، عندما دهنت قدمي يسوع بالطيب في بيت عنيا ( يو12: 1-8)، ثم الخيانة إذ سلم الرب بثلاثين من الفضة، وهذه الخطية الشنعاء قادته إلي اليأس وفقدان الرجاء، الذي قاده إلي الانتحار، إذ " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " ( مت27: 3-5).

يعقوب المجاهد

كان لملك إبنة صرعها روح نجس، ولم يستطع أحد إخراجه.. فذهبوا إلي القديس يعقوب المجاهد، فلمَّا صلي عليها خرج الروح النجس، ولكن ما أن عادت إلي بلدها حتى عاد إليها مرّة أُخري.. فعادوا بها للقديس فصلي عليها فخرج الروح النجس، ولكنه عاد إليها مرّة أُخري، فسافروا مرَّة ثالثة.. فقرر الملك أن تبقي ابنته بجوار القديس فبنوا لها حجرة.. وكان الشيطان كلَّما يصرعها يدخلونها إليه، وتطوّر الأمر إلي أن أبقوها معه ثم تركوها ومضوا!! ولكن بمرور الوقت تكوّنت دالة بين الفتاة والقديس، وهذه الدالة تطورت إلي خطية، إذ سقطا في الزني، وحبلت الفتاة.. فلما رأي أن الخطية ستنكشف وتضيع سمعته، وربّما يقتله الملك، وسوس له الشيطان أن يقتلها، فقتلها ودفنها في مكان بعيد! وحدث أن جاء رسل الملك يسألوا عنها، فكذب وقال: إنَّ الشيطان صرعها مرَّة، فانطلقت بسرعة هاربة في الجبل، ولم أستطع اللحاق بها واختفت، فصدقوه لأنَّه لم يكن موضع شك!!

وبهذا سقط القديس في ثلاثة خطايا ألا وهى: الزنا الذي قاده إلي القتل، الذي قاده إلي الكذب لكي يخفي جريمته.

ليست هناك تعليقات: