" ضعُفت بشقاوتي قوتي وبليت عظامي "
(مز 10:31)
قد يخطيء إنسان فيظن أنَّه حقق نصراً! وأنَّه قوي! لماذا؟ لأنَّه استطاع أنَّ يُحقق رغبته وينال شهوته التي سعي إليها.. وهو بهذا يُعبّر عن ضعفه وهزيمته.. لأن القوي هو من يسيطر علي رغباته ويتحكم في شهواته الفاسدة.
وها نحن نتساءل: كيف يقول خاطيء أنَّه قوي، وهو لم يستطع أن يصمد أمام منظر مثير يكون قد مر أمامه عابراً؟! أو ما أن يُجرح بكلمة حتي يثور ويغضب؟! ألم يقل سليمان الحكيم: " اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً " (أم 32:16).
ونظراً لأنَّ كثيرين يفهمون معني القوة فهماً خاطئاً، ويخلطون بين القوة الحقيقية والقوة الزائفة، رأيت من واجبي أن أُصحح هذا الفهم الخاطيء، وذلك بالحديث عن نوعين من القوة ألا وهما: القوة الزائفة والقوة الحقيقية.
أولاً: القوة الزائفة
وهي القوة التي لها المظهر الخارجي، فمن الخارج يبدو صاحبها أنه قوياً، لكنه من الداخل ضعيف.. وضعيف جداً.. وغالباً ما تطلب الفخر، والمباهاة، وتُحب الشهرة.. ومن أمثلتها:
قوة الجسد
ليست القوة الحقيقية هي القوة الجسدانية، لماذا؟ لأنَّ قوة الجسد ليست بدائمة للإنسان، فهي معرّضة للزوال، سواء شاخ الإنسان أو مرض أو مات.. كما أنَّ كثيرين من أقوياء الأجسام مغلوبون من الخطية ومكسورون أمام الشهوات.. فهل أناساً مثل هؤلاء يُعدّوا أقوياء؟ بالطبع لا!
فالقوي ليس هو ذلك الإنسان الذي له القدرة علي الضر أو القتل أو سفك الدماء والانتصار علي الآخرين، بل هو الذي ينتصر علي الشر والفساد، ويغلب نفسه ويسيطر علي شهواته، ولدينا علي هذا مثلاً واضحاً ألا وهو: شمشون الجبار، أقوي رجل عرفته البشرية، وأقوي مثال للقوة الجسمانية.
هذا الجبَّار كان في يوماً ما قوياً، وكان سر قوته هو الله الذي كان معه، لكن عندما استجاب لنداء الخطية، واستسلم لنباح الشهوة فارقه روح الله، واستطاعت دليلة أن تُخّدره بجمالها، وتجعله كطفل رضيع ينام علي ركبتيها، وبعد أن لفّت بذيل الشهوة رقبته، أجبرته أن يكشف سره، وحلقت شعر رأسه..!!
لقد صار القوي ضعيفاً، عديم الإرادة.. وما هو سر ضعفه؟ إنَّها الخطية، تلك اللذة الممنوعة التي أوقدت المرأة الزانية نارها في قلبه! أين ذهبت قوته عندما حل محل الثور وصار يطحن في بيت السجن؟! أو عندما أوثقوه بسلاسل؟!
قال أحد الآباء
لم يكن من منقذي إسرائيل قوياً كشمشون، وما كان أحد منهم ضعيفاً مثله.
إنَّ قصة شمشون أقوي مثال لكل خاطيء، يدَّعي أنه قوي وهو يحيا في الخطية، لأنَّ الخطية لا تُعطي ولن تُعطي بل هى تأخذ كل ما لنا.. وهذا هو قمة الضعف أننا عندما نسقط لا نملك شيئاً ندافع به عن أنفسنا.
وأيضاً قايين ربَّما ظن في باديء الأمر أنَّه أقوي، لأنَّه استطاع أن يضرب أخيه ويلقيه علي الأرض.. ويقتله (تك8:4)، لكنَّه في الحقيقة كان ضعيفاً أمام الحسد والحقد والغضب.. هزمه شيطان الغيرة وهزمته خطية القتل.
وهذا الذي ظن نفسه قوياً عندما وقف أمام الله ارتجف وارتعب، حتى إنَّه قال للرب: " ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهاً وَهَارِباً فِي الأَرْضِ فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي " (تك4: 13، 14)، وبهذا قد عبّر عن ضعفه الذي لم يستطع أن يخفيه أمام الله.
قوة الغنى
وليست القوة الحقيقية هي قوة المال أو سلطان الثروة.. لأنَّ كثيرين من الأثرياء ضعفاء أمام تجارب الحياة.. وكثيراً ما يسقطون، والقديس بولس الرسول يقول عن محبي الغني العالمي إنهم:
" َيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا انْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ " (اتي 6: 9، 10).
لقد كان سليمان الحكيم أغني الأغنياء، له قنية: بقر وغنم أكثر من جميع الذين كانوا في أورشليم، وجمع لنفسه فضة وذهباً.. (جا7:2-8) وها هو الغني العظيم أحب نساء غريبة كثيرة.. أملن قلبه وراء آلهة أخري.. فسقط في عبادة الأوثان!! فهل إنسان غني كسليمان يُعد قوياً؟ بالطبع لا، لأنَّه لو كان قوياً ما كان قد إستجاب لنداء زوجاته الغريبات عن جنس شعبه، ولا ترك عبادة الإله الواحد ليعبد أوثان ويبخّر لهن.
لكن علي النقيض الآخر نجد بطرس الرسول، الذي لم يكن يملك شيئاً سوي القوة الحقيقية يقول للأعرج: " لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ وَلَكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَهُ فَفِي الْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ " (أع3: 6،7).
والرسول بولس يذهب إلي أبعد من ذلك، فيوضح لنا أنَّ الفقراء أحياناً يكونوا سبب غني الكثيرين فيقول: " كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ، كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ " (2كو10:6)، أعتقد أنَّ التعاليم الروحية ودعوة الناس إلى التوبة والحياة مع الله.. هى كنوز روحية لا تضاهيها كل كنوز العالم المادية.
قوة السلطة
وهذه أيضاً ليست القوة الحقيقية لأنَّ المركز زائل والسلطة لا تدوم، فقد يكون رجل ملكاً اليوم قوياً بسلطته، ولكنَّ الزمان المتقلب الرديء، يحكم عليه بالذل والهوان، فيصير عبداً فقيراً وحقيراً ويزدرى به الناس.
كان صدقيا ملكاً علي يهوذا وقد كانت مدة اعتلائه العرش إحدي عشرة سنة (2مل18:24)، لكنّه لم يصغِ هو وشعبه إلي كلمة الرب (2أخ12:36)، فنجّس الهيكل بالعبادات الوثنية (2أخ14:36)، ولم يقض بالعدل (إر21: 11، 12)، لكن هذا الملك العظيم، لم تدم عظمته ولا مُلكه، فقد أسره نبوخذ نصر وقتل أولاده أمامه، واقتلعت عيناه، ورُبط بسلاسل من نحاس، وسيق إلي بابل وحُبس هناك حتي موته.. (إر11:52).
وكان هيرودس أيضاً ملكاً وله سلطان ونفوذ، وقد استطاع أن يقبض علي يوحنا المعمدان ويُلقيه في السجن، وإذ أراد أن يُسكت هذا الصوت الصارخ ولم يفلح، أمر بقطع رأسه!!
فهل كان هيرودس قوياً عندما قتل يوحنا المعمدان؟ أم بالحري ضعيفاً أمام شهوته وكبريائه وانقياده للنساء؟ إنَّ أكبر دليل علي ضعفه، أنَّه ظل يخاف من يوحنا حتى بعد موته، فلمَّا ظهر السيد المسيح ظن هيرودس أنَّه يوحنا قد قام من الأموات (مت2:14).
وأغلب الظن أنَّ يوسف الصديق، كان وهو في السجن وتحت الاغلال وفي ذل القيود والتهمة الكاذبة، أكثر قوة وحرية من داوود وهو يئن علي عرش المُلك من ثقل الخطية، ومن فظاعة الجريمة الشنعاء، التي تسببت في تدنيس امرأة وقتل رجل بريء.
قوة المعرفة
لقد وصل كثير من البشر علي مر العصور، إلي درجة عالية من المعرفة والثقافة، ولكنهم وصلوا معها إلي الضلال والفساد.. وكثيراً ما استخدموا علومهم في تعذيب الإنسانية!!
من جهة المادة العلمية كانوا أقوياء، لكنهم كانوا ضعفاء من حيث إستخدامها، وها أنتم قرأتم وسمعتم عن الذين يبذلون قصارى جهدم، من أجل استنساخ البشر، وكم كنَّا نتمني أن يكونوا كبطرس ويوحنا عديما العلم وعاميان(أع13:4)، ولهم قوة روحية يمجدان بها اسم القدوس الذي وهبهم إيَّاها.
ثانياً: القوة الحقيقية
أمَّا القوة الحقيقية فهي قوة الروح، تلك القوة المستمدة من الله، والتي بها يستطيع الإنسان أن يمتنع عن الخطية، ويضبط نفسه أمام كل شر، ويقول مع معلمنا داود النبيّ: " إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي " (مز4:23) ومن أمثلتها:
قوة الفضيلة
الإنسان القوي هو ذاك الذي يحيا في البر والتقوي، ولا يوجد للشر مكان في قلبه.. مثل يوسف الصديق الذي كان يحيا في الفضيلة، وقد استطاعت فضيلة العفة أن تسنده وتنقذه من التجربة، ولحُبّه في حياة الطهارة فضّل أن يُطرح في السجن، علي أن يسقط في الشر ويُغضب الله.
وبهذا علمنا أنَّ القوة الحقيقية هي قوة النصرة علي الرغبات الفاسدة، وكبح الشهوات الجامحة، ولَعَلَّ هذا ما كان يقصده معلمنا القديس بولس الرسول عندما قال: " لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ " (2كو 10:12)، فقد تكون ضعيفاً في نظر الناس الذين لا يفهمونك، أو ضعيفاً من الناحية الجسدية، ولكنك من الداخل قوي، لأنك لا تفعل الشر ولا تتدنس بالخطية، ألم يكن يوسف ضعيفاً أمام إخوته لكنه قوياً أمام الخطية؟!
قوة الإيمان
خرج داود لملاقاة جُليات الجبَّار، وهو يحمل في داخله قوة خفية، هي قوة الإيمان باسم رب الجنود.. وبهذه القوة استطاع وهو بعد فتي صغير أن ينتصر علي الجبَّار المُدجج بالسلاح، وقد وصل إيمان داود إلى قمته عندما دخل على جليات وهو يقول: " هَذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ هَذَا الْيَوْمَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ الأَرْضِ, فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ لإِسْرَائِيلَ " (1صم46:17).
وبنفس القوة تسلّح دانيال النبيّ، والثلاثة فتية القديسون وهم بعد صغار السن، وقد استطاعوا بقوة إيمانهم أن يمتنعوا عن أكل أطايب الملك والتلذذ بخمر مشروبه.
قوة الشهادة
علمنا الشهداء أنَّ القوة الحقيقية، هي قوة الصمود أمام التجارب، والاعتراف باسم المسيح وقت الاضطهادات، والشهادة للحق أمام الجميع بكل شجاعة.. بهذه القوة وقف يوحنَّا المعمدان أمام هيرودس موبخآ إياه قائلآ: ” لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ! " (مر18:6)، وبها أيضاً وبّخ بطرس الرسول اليهود قائلاً: " وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذَلِكَ " (أع15:3).
المحبة قوية لماذا؟ لأنها تعطي، وقد يصل عطاء المحبة إلي بذل الذات نفسها، كما بذل السيد المسيح نفسه من أجل خلاص العالم: " لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " (يو16:3)، والمحبة قوية لأنها تحتمل، كما احتملت محبة المسيح إنكار بطرس وشك توما واضطهادات اليهود.. وها نحن نتساءل:
هناك تعليق واحد:
شكرا يابونا للمقال الرائع ده
إرسال تعليق