مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

أسباب التردد



يولد الإنسان صفحة بيضاء في كتاب الحياة، وفي أعماقه قلب يشعر بالحُب ويرتاح للجمال وينفر من القُبح، يُسعده النور ويُخيفه الظلام.. وبمرور الوقت يبدأ يتأثّر بما يتلقَّاه من أساليب التربية، وأفكار ومفاهيم من الأقارب والأصحاب.. التي قد تقوده إلى الإستقرار النفسيّ، أو تُصيبه بأمراض نفسيّة قد يصعُب علاجها..

الخوف

ويُعد الخوف من أهم أسباب التردد، ولهذا لا يمكن للإنسان الخائف أن ينمو في حياته الروحيّة أو العمليّة.. فالخوف سم قاتل للحياة والتقدم، والإنسان الخائف لا يمكن أن يُبدع، أو يُطلق ما فى وجدانه من أحاسيس، والعقل المتردد حتماً سيُصيبه الشلل، وينطفئ فيه نور الحكمة والمعرفة..

والحق إنَّ للخوف تاريخاً، فقبل السقوط كان آدم وحواء يعيشان مع الله في فرح وسلام، ولكن ما أن سقطا فسرعان ما تحول السلام إلي خوف واضطراب ولهذا عندما " سَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلَهِ مَاشِياً فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ "  (تك8:3)، وعندما نادي الرب آدم متسائلاً: " أيْنَ أَنْتَ؟ " قال آدم: " سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ " (تك10:3).

وقد زاد كهنة الأُمم من خوف الإنسان، عندما صوّروا الله جبَّاراً قاسياً ومنتقماً، إذ كانت فكرتهم عن الله أنه أعظم مخيف، والإنسان ما هو إلا عبد ذليل، مخلوق ضعيف، ولهذا سـجن الكهنة القدماء الإنسان فى دائرة محرمات، وأرعبوه بفكرة جهنم والنار الآكلة، فتحول الله فى نظر الأقدمين إلى أُسطورة، كما لو كانت خياليّة ولكنَّها تبث الرعب فى النفوس.

المشاكل النفسية

لقد أصبح من ثوابت علم النفس أنَّ مرحلة الطفولة هى الأهم في حياتنا، لأنَّ فيها يتشكّل الجهاز النفسيّ وينمو الفكر نتيجة الخبرات والمعرفة التي يكتسبها.. ولكن نظراً لجهل الوالدين بوسائل التربية يتسببون في أضرار بالغة قد تصل بالأبناء إلى العقد النفسيّة، عندما يُعاملون أولادهم بقسوة زائدة، تدفعهم إلى الخوف من اتَّخاذ أيّ قرار في حياتهم، خوفاً من العقاب الذي ينتظرهم إذا أخطأوا!

وهناك آباء يجعلون أنفسهم محور كل شيء في حياة أولادهم، فيأمروهم ألاَّ يعملوا شيئاً دون استشارتهم، وهم بذلك يسلبون إرادتهم، ويُقيّدون فكرهم، ويقتلون إبداعم! وعندما يتزوَّجون يعيشون في عجز وسلبيّة ولا يقوون على اتِّخاذ قراراً هاماً بشأنهم وشأن أولادهم!

وفي بعض الحالات- وإن كانت قليلة- يتردد الإنسان في اتِّخاذ قرار، دون أن يعرف سبب التردد! لأنَّ التردد قد ينتج عن صراع يتطور فى اللا وعي أو ما يُعرف بالعقل الباطن أو اللا شعور، إذ ينتج عن تطور هدفين متناقضين داخل الإنسان، أحدهما معروف والآخر غير واضح وهو الذي يسيطر على سلوك الإنسان!

وربَّما يكون هذا المفهوم هو التفسير الذي يحل رموز كثيرة تواجهنا ولا نجد لها تفسيرات مشبعة أو مقنعة، فقد ينام إنسان وقد قرر شيئاً ما في حياته واتَّخذ قراراً مصيريَّاً يؤثِّر على مستقبله، وفجأة ما أن يستيقظ حتَّى يجد نفسه متردداً في ما اتَّخده من قرارات! لماذا؟ قد لا نجد تفسيرات ملموسة، ونادراً إن تحدّث العلماء في مثل هذه الحالات الغامضة، ولكن كما يقول عالم النفس الشهير " فرويد " عندما ينام الإنسان يحدُث صراع بين الغرائر والأفكار.. فيستيقظ الإنسان على فكر جديد ربَّما لم يكن يتوقعه!

وأعتقد أنَّ هذا التفسير يساعدنا في إيجاد معنى لحالتنا المزاجيّة أو الروحيّة، فقد اختبرنا جميعا لحظات ملؤها الفرح والعزاء وكانت هى الأروع فى حياتنا وذلك قبل أن نخلد إلى النوم، ولكن ما أن استيقظنا وبدون أيّ سبب وجدنا أنفسنا مضطربين وخائفين.. أو فاترين وغير قادرين على الصلاة باكراً، مع أننا صلَّينا ونمنا على صوت الترانيم الملائكيّة..!!

الشعور بالنقص

سواء بسبب الفقر والحرمان الذي يجعل الإنسان يشعر بالمذلّة، أو العاهات الجسديّة التي تقف حجر عثرة في علاقات المُصاب بها وتجعله متردداً فى قراراته خاصة الزواج، يكفي شعوره بأنَّه لا يتساوى مع الآخرين في هذا العضو أو ذاك.. وهل نُنكر ما يُعانيه ذوو العاهات من سخريّة أثناء الطفولة تؤثر على قراراتهم في الكبر، فقد يهزأ الأطفال بطفل لبشرته السمراء أو لسانه الثقيل أو شعره الأجعد.. فينشأ عن ذلك شعوراً بالنقص، يجعل الإنسان متردداً.

يُحكى عن طفل مات والداه، فأخذه عمَّه وربَّاه إلى أن تخرّج من الجامعة، وبعد أن وجد له وظيفة طلب منه أن يتزوّج ابنته! في البداية تردد الشاب ولكن تحت الإلحاح خضع وتزوج ابنة عمّه، الذي إعتقد أنَّه بهذا أكمل رسالته نحوه ابن أخيه، ولكن حدث يوم الزفاف أن وجد الشاب نفسه غير قادر على الاقتراب من زوجته، وبعد عِدَّة جلسات نفسيّة، اكتشف الطبيب أنَّه يعاني من شعور بالنقص تِجاه زوجته،  وأنَّ خجول ويُعاني من التردد في قراراته.. والغريب أنَّه ارتبط بعلاقة آثمة مع الخادمة التي كانت أقل جمالاً من زوجته!!

فقدان الثقة بالنفس

إن أداة النفي " لا " من أشهر الأدوات التي نستخدمها في علاقتنا! وعندما نضيفها إلى كلمة قد تُعطينا قوّة وتغيّر حياتنا ألا وهى: " أستطيع "، تُصبح من أشهر الكلمات السلبية الهدَّامة! والتي تُعبِّر بوضوح عن عدم الثقة بالنفس، وتقود الإنسان إلى التردد والفشل في الحياة.

والحق إنَّ عدم الثقة بالنفس له جذور منذ الصِغر، عندما كان الأهل يعنِّفون الطفل لأتفه الأسباب ويُحاسبونه على أقل الأخطاء، كما أنَّهم بلا وعي يقذفونه بأشر الألفاظ، وهم لا يدرون أنَّ وصف الطفل بالغباء يجعله يكبر ولديه شعور أنَّه غبيّ، وهذا الشعور قد يتسبب في فشله، فمن المعروف أن الإنسان يكوّن نظرته لذاته من خلال آراء الآخرين فيه.

 كان جوستين طفلاً ذكيّاً ولكن لم يحالفه الحظ أثناء تغليمه، لعدم وجود مدرِّسين أكفَّاء يفهمون سيكولوجيّة الطفل ووسائل التربية الحديثة، فكانوا ينعتونه بأنَّه غبيّ ومتخلّف حتى صدقهم، وترسّب بداخله في اللاوعى أنَّه غبيّ! وعندما كبُر جوستين كان الخوف يلازمه وأصبح إنساناً متردداً وقاده التردد إلى الفشل، وكان يشعر بأنَّه تائه وليس لديه فكره عمَّا يجب أن يعمله، وكان التردد يمنعه من الاستمرار بأيِّ عمل يلتحق به خوفاً من أن يكتشف الناس أنَّه غبيّ ومتخلِّف!!

عدم وضوح الرؤيا

ليس أصعب على الإنسان من أن ينظر ولا يتبين ماذا ينظر!! وتبدو هذه الحالة أكثر إنتشاراً بين كثيرين ممن يرغبون الرهبنة، لقد تحمَّسوا لحياة تمنّوها وأخذوا يتحدَّثون عن آمالهم وفجأة سمعنا خبر زواجهم! لماذا؟ لأنَّ الرؤية كانت غير واضحة، وهم يتذبذبون بين البتولية والزواج، فما أن تحرَّكت عواطفهم حتَّى تزوَّجوا، وربَّما كانوا يبحثون عن حياة مثالية تمنَّوها، ولكنَّهم لا يملكون مقوماتها، الطفل يتمنَّى أن يصير طبيباً أو ضابطاً.. وربَّما بسبب قدراته الذهنية المحدودة لا يُكمل تعليمه.

ولهذا لا أنسى مطلقاً ما قاله لي أحد شيوخ ديرنا العامر: لا تجري وراء الفكرة بل دع الفكرة هى التي تجري وراءك! إنَّها حكمة أب يتكلّم عن خبرة، ولو أضفنا إليها تحديد الهدف في أيِّ حياة تبحث عنه، أو أيّ عمل نُقدم عليه، نكون قد وضعنا الأساس الذي يمكن لأيّ إنسان أن يتَّخذه منهجاً قبل الإقدام على أيِّ عمل.

الخوف من شبح الماضي

حقاً إنَّ الماضي قد مضى ولكنَّه لا يموت، وليس الحاضر سوى حصيلة الماضي ومن هذا الحاضر  يتشكّل فكرنا عن المستقبل، فآثار الماضي تظل ترافقنا في الحاضر، وقد تتسبب في فقدان الثقة بالنفس والتردد، خوفاً من النتائج التي قد تفضح جرائم ارتكبها الشخص، أو أنَّ ما حدث فى الماضى قد يتكرر فى المستقبل .

كان " ديفيد " طفلاً عندما كان يلهو مع أسرته على شاطيء البحر، وفجأة صرخ ديفيد عندما نظر والده يبتعد عنهم، إنَّه يسبح هكذا قالت الأُم، ولكن ديفيد لم يشعر بارتياح خاصة عندما رأى ورأسه تختفي تحت الماء، وقد كان! ومات والده غرقاً! ومنذ تلك اللحظة ولم بذهب ديفيد إلى البحر أو يركب السفينة، لأنَّ البحر كان يتردد فمرّة يسمح لأولاده بالذهاب إلى البحر ومرّة يرفض.

المثالية المطلقة

إنِّي إنسان في داخلي يتعانق الخير والشر، النور والظلمة، هذه عبارة كثيراً ما أُرددها وهى في الحقيقة تُعبّر عن طبيعتي البشرية، وكما قال القدِّيس يوحنَّا الحبيب " إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا " (1يو8:1).

حقاً إنَّ السيِّد المسيح قال: " كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ " (مت8:5)، ولكنَّه لم يطلب منَّا كمالاً مطلقاً، كما أنَّ الكمال لا يعني العصمة، ولهذا يجب أن تحيا الواقع ونتحدد أهدافاً تتناسب مع إمكاناتك وقدراتك! لأنَّ الواقعية تتطلب ألاَّ يجلس الفرد في أبراج عالية من الوهم أو الخيال!

كان توم طفلاً وحيداً وقد كبر وترعرع على أن يكون محط اهتمام الجميع، وطالما نجح توم فى فعل ذلك كان يشعر بالارتياح، ولكن في يومٍ ما تعرّض لأزمة ماليّة كبيرة، فاختفى عن الأنظار وعاش فى عزلة تامة عن الناس، وأصبح يعانى من إكتئاب حاد! لقد عاش في مثالية خيالية فما أن نزل إلى واقع الحياة، حتّى شعر بخيبة أمل، فسقط من برجه الوهميّ ولم يعد إليه مرَّة ثانية!

هذا هو الشخص الواقعيّ: إنسان يريد ما يستطيع ويستطيع ما يريد، وهو بذلك يشعر بلذة النجاح وفرح تحقيق الذات، فالواقعية هنا تعنى: عدم المبالغة في تقدير الذات! ولهذا يجب على كل إنسان أن: " لا يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَاراً مِنَ الإِيمَانِ " (رو3:12).

كما أنَّ الإنسان الواقعيّ يعرض مشاكله دون مبالغة أو تهويل، حتى لا يكون كالطفل يُبالغ في كل شيء، محاولاً بذلك استعطاف الآخرين وجذب انتباههم، وإقناع ذاته بما هو عليه.


ليست هناك تعليقات: