مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الاثنين، 26 يناير 2009

أسباب الخطية



قد يُخطيء الإنسان مدفوعاً بأسباب كثيرة.. وهذه الأسباب إمَّا أن تكون داخلية أي مصدرها الإنسان نفسه.. وإمَّا أن تكون خارجية..


ويعد الجهل من الأسباب الداخلية التي تتسبب في سقوط الإنسان في الخطية، وهناك الجهل المقصود الذي صاحبه يعرف الحق، ولكنّه يتجاهله لأسباب في نفسه، وهناك الجهل الذي يأتي عفواً.


كذلك الغضب الممقوت يُعد سبباً آخر لسقوط الإنسان، وهو غالباً ما يقود الإنسان إلي عدة خطايا أُخري قد تنتهي في مواقف بالقتل أحياناً..


هذا بالإضافة إلي لذة الخطية، وهى كثيراً ما تجعل الإنسان ينس أشياء كثيرة أهمها محبة الله ووصاياه..


أمَّا الأسباب الخارجية فمنها الناس الأشرار الذين معاشرتهم تفسد الأخلاق الجيدة، وأيضاً إبليس الذي منذ البدء قتَّالاً للناس، وهو يسعى أن يُسقط جميع الناس.


كما أنَّ البعد عن الوسائط الروحية يُضعف من قوة الإنسان الروحية، ويجعله عرضة للسقوط في أي وقت.


ولا نُنكر وسائل العصر الحديثة من تليفزيونات وفيديوهات ودشات وشرائط كاسيت ومجلات.. نقلت لنا تطورات المجتمع الغربي العابثة بالقيم والمباديء الأخلاقية، وهي بلا شك ساعدت كثيراً في انتشار الإباحية والجنس بصورة لم تكن موجودة من قبل، وأدخلت لنا بعض المفاهيم الخاطئة التي أضرت بالكثيرين.


الجهـل

" هلك شعبي من عدم المعرفة "

( هوشع 6:4)

الجهل هو عدم المعرفة التي يجب علي الإنسان الإلمام بها في دائرة اختصاصه. إلاَّ أنَّ هناك معارف هامة يجب علي كل إنسان الإلمام بها مثل العلوم الدينية... وهي بالتأكيد لها دور هام في حياتنا الروحية، وتُعد كحصن يحمي الإنسان من سهام الخطية، وتقوده إلى الطريق الصحيح للحياة مع الله..


فسبب الجهل كاد أهل نينوي أن يهلكوا، أولئك الذين ما كانوا يعرفون يمينهم من شمالهم ( يون11:4)، وقد قال الله: " قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلَهِكَ أَنْسَى أَنَا أَيْضاً بَنِيكَ " ( هو6:4).


يقول القديس إبيفانيوس

" النظر في الكتب حرز عظيم، وهو يمنع الإنسان من الوقوع في الخطية ويستميله إلي عمل البر، والجهالة بالكتب جرف سريع السقوط، وهوة عظيمة، إنَّ الذي لا يعرف النواميس الإلهية قد أضاع رجاء خلاصه ".


وهناك ما يعرف بالجهل المقصود، أو الجهل الاختياريَّ، والذي أصحابه يعرفون الحق، ولكنهم يتجاهلونه باختيارهم لسبب في نفوسهم مثل الذين يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم، ويقولون الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ ( مز 94: 7،6)، وكما قال معلمنا داود النبي: " قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَهٌ " ( مز1:14).


ويُعد قيافا من أصحاب الجهل المقصود، فهو اختار أن يكون جاهلاً برغبته! لأنَّه كان يعلم أن المسيح هو ابن الله وقد نطق بنبوته المشهورة: " خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا " ( يو11 : 50-52)، إلاَّ أنَّه عندما سأل المسيح: " أأنت هو المسيح ابن الله؟ " وأجاب المسيح بالإيجاب، تظاهر قيافا بالاشمئزاز من جوابه وحسبه تجديفاً، وقال أنه غير محتاج إلي شهود بعد، فحكموا عليه بصوت واحد بالموت ( مت26: 65-68).


وهناك جهل يأتي عفواً أيّ بدون قصد، وهو ما يعرف بالجهل غير الإختياريّ، كما حدث مع معلمنا بولس الرسول عندما كان يحتج أمام المجمع اليهودي، فلمَّا أمر رئيس الكهنة بضرب بولس قال له: " سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ! أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ النَّامُوسِ وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ؟ "، ولما قال الواقفون: " أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللهِ؟ "، قال بولس: " لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءاً " (أع 23: 2-5).


وينطبق هذا الجهل علي الذين صلبوا المسيح، ولهذا قال وهو علي الصليب: " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو34:23)، وقال عنهم معلمنا بولس الرسول: " لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْد " (1كو8:2).


وقد اعترف القديس بولس أنَّه بجهل غير مقصود اضطهد الكنيسة، فيقول لتلميذه تيموثاوس: " نَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إيمان " (1تي13:1).


هذا وقد اعتبر القديس مرقس الناسك الجهل أحد الثلاثة الجبابرة الغرباء الأشداء، وهو أصل كل الشرور، فيقول: " وها أنا أُحدثك عن ثلاثة جبابرة غرباء أشداء، يعتمد العدو عليهم في تشكيل وعمل قواته العقلية المضادة لنا، فإذا أفلحت في طرحهم وقتلتهم ينتهي مصير كل قوات الشر حتماً بالهزيمة، هؤلاء الجبابرة الثلاثة الذين من صنع الشرير هم:


1- الجهل: وهو أصل (أم) كل الشرور.

2- النسيان: أخ الجهل المساعد والمعضد له.

3- الكسل: وهو يحيك من الظلمة رداء وغطاء يطمس به النفس.


والبابا أثناسيوس الرسوليّ يعتبر الجهل والموت والخطية مرتبطين معاً فيقول: " هذه الثلاثة: الجهل والموت والخطية مرتبطة معاً بعضها ببعض وكل واحدة تعزز وتقوي الأُخريين ".


أمَّا الوحي الإلهي: فقد حدثنا عن العقاب الشديد الذي سيُصيب الجهال، فيقول سليمان الحكيم: " اَلْقِصَاصُ مُعَدٌّ لِلْمُسْتَهْزِئِينَ وَالضَّرْبُ لِظَهْرِ الْجُهَّالِ " (أم29:19).


ومعلمنا داود النبيّ يقول: " وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ " ( مز107: 17،18). ومعروف أن العقاب جزاء لكل خطية،وهذا الجهل له عقابه فهو إذن خطية.


يقول مار إسحق

" ثمّة خطية ينجذب إليها الإنسان مكروهاً نتيجة ضغط ما، والثانية يفعلها بإرادته عن جهل، والثالثة تحصل لسبب عابر، وأُخري تتم بالاعتياد علي الشر وإلقاءه فيها، ورغم أنّها تستحق الذم مجتمعة، إلاَّ أنَّ عقوبة كل منها تختلف عن الأُخرى.


لكن إن كان الجهل أحد مسببات الخطية، فالمعرفة والثقافة الروحية تعد من أقدر الوسائل للسيطرة علي الخطية، وفي هذا يقول مار غريغوريوس المُلقب بابن العبريّ:


" الشغف بمحبة العلم من أقدر الوسائل لاستئصال العادات الرديئة من النفس، وطالب العلم الديني ليبدأ بدراسة سفر المزامير، ثم يتدرج فيدرس أسفار العهد القديم، فالعهد الجديد، ثم يتثقّف بكتب العلماء ".


أمَّا القديس إكليمنضس السكندري فيقول: " إذا كانت الظلمة هل الجهل الذي من خلاله نسقط في الخطية غير مبصرين للحقيقة، فالمعرفة إذاً هي النور الذي نحصل عليه والذي يجعل الجهل يختفي ".


الغضـب

" الرجل الغضوب يُهيـّج الخصام،

والرجل السخوط كثير المعاصي "

(أم22:29)

الغضب هو: شهوة أو انفعال كامن في القلب ومهيج علي ارتكاب الخطية، وإن كان هناك ما يعرف بالغضب المقدس، إلاَّ أننا نتحدث عن الغضب الممقوت الذي تسبب في أول جريمة قتل في العالم.


غضب قايين لأنَّ الله قبل ذبيحة أخيه ولم يقبل تقدمته، وفي هذا يقول الكتاب المقدس: " فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدّاً وَسَقَطَ وَجْهُهُ " ( تك5:4)، وظلت مشاعر الغضب تلتهب في قلب قايين إلي أن " قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ " (تك8:4).


والغضب هو الذي جعل عيسو يحاول قتل أخيه يعقوب، الذي هرب إلي خاله لابان بناءً علي نصيحة أمه، التي لمَّا رأت أنَّ غضب عيسو اشتد علي يعقوب قالت له: " فَالآنَ يَا ابْنِي اسْمَعْ لِقَوْلِي وَقُمِ اهْرُبْ إِلَى أَخِي لاَبَانَ إِلَى حَارَانَ وَأَقِمْ عِنْدَهُ أَيَّاماً قَلِيلَةً حَتَّى يَرْتَدَّ غَضَبُ أَخِيكَ عَنْكَ " ( تك 27: 41-45).


وبسبب الغضب صار شاول الملك عدواً لداود كل الأيام حتى موته (1صم 29:18)، وقد حاول قتله أكثر من مرّة، وطارده من برية إلي برية، بل حمي غضبه علي ابنه يوناثان لما دافع عن داود، وسبه قائلاً: " يَا ابْنَ الْمُتَعَوِّجَةِ الْمُتَمَرِّدَةِ " (1صم30:20).


يقول القديس يوحنا الدرجي

" شنيع هو تعكّر القلب بالغضب، وأشنع منه ظهور الغضب بالشفتين، وأشنع من هذا مد اليد للأخ (الضرب).


ألم يقل سليمان الحكيم: " اَلرَّجُلُ الْغَضُوبُ يُهَيِّجُ الْخِصَامَ وَالرَّجُلُ السَّخُوطُ كَثِيرُ الْمَعَاصِي " ( أم 22:29)، فالغضب إذن يتسبب في كثير من المعاصي.. فالغضوب هو إنسان قاسي القلب، فقد جاء في سفر الأمثال: " اَلْغَضَبُ قَسَاوَةٌ " ( أم4:27).


والغضوب هو إنسان لا يغفر، لأنّه لو غفر لأخيه ما كان قد غضب عليه، وحينما لا يغفر الإنسان يُعرّض نفسه لعدم غفران الله " وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ " (مت15:6).


كما أنَّ الغضوب يحمل لوناً من البُغضة، لأنَّه لا يحتمل في حين أنَّ المحبة " َلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ " (1كو7:13).. وكثيراً ما يقع الإنسان الغضوب في كثير من خطايا اللسان العديدة، مثل الشتيمة وغيرها.


هذا بالإضافة إلي فقدان السلام والعزاء الداخلي، والحرمان من الراحة والهدوء، وغليان الدم وثورة الأعصاب، وكل هذا له تأثير علي العقل وطريقة تفكيره، وفي هذا يقول مار إسحق السريانيّ: " القلب المتوقد بالغضب هو فارغ من العزاء الجوانيّ، وعادم من المعزيين الذين من خارج ".


كما أنَّ صلوات وتقدمات الغضوب غير مقبولة عند الله، وقد أكد هذا مار أوغريس بقوله: " صلاة الغضوب هي بخور نجس مرذول، وقربان الغضوب هو ذبيحة غير مقبولة "، والقديس أنبا أغاثون يقول: " ولو أقام الغضوب أمواتاً فما هو مقبول عند الله ".

هذا وقد أثبتت بحوث علم النفس ومشاهدات كبار الأطباء والجرّاحين، أنَّ الغضب سُم للجسد قبل أن يكون سُمّاً أخلاقياً، فقد قال أحد الأطباء: " إنَّ والدة كانت ترضع طفلها، في الوقت الذي تحمل فيه غضباً وحقداً دفيناً لجارتها، وكان غضبها قد وصل لقمته، فسقط طفلها الرضيع صريع السُم الذي تسرّب لجسمه من لبن رضاعها ".


وقد أثبت أحد الأطباء بعد تجارب عديدة أجراها علي عدد كبير من المرضي: إنَّ الغضب والحقد من الأسباب الرئيسية لأمراض الربو والتهاب المفاصل والمغص وتصلّب الشرايين وارتفاع الضغط.. فالغضوب هو إنسان يحمل خنجراً يطعن به قلبه، قبل أن يطعن قلوب من يحقد ويغضب عليهم، فليس أقسي علي الغضوب إلاَّ الغضب، لأنّه يطعنه في صميم قلبه ونفسه!!


يكفي في ذم الغضب ما قاله يعقوب الرسول: " غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ " (يع20:1)، أيّ لا يتفق مع البر الذي يريده الله.


لـذة الخطية

" الشهوة الحاصلة تلُذ النفس "

( أم 19:13)

إذا ما ذاق الإنسان الخطية ووجدها حلوة، وشعر فيها بلذة، فما أسهل عليه أن يبتعد عن الله وينسي محبة، ولا يعود يعمل بوصاياه، فلذة الخطية تُغطي علي كل شيء، وتبسط غشاوة علي العقل والقلب..


لذة الخطية هي التي خدّرت شمشون، وأنسته كل شيء بل أنسته أنَّ دليلة لم تكن مخلصة له، وسلّمته لأعدائه أكثر من مرّة..

وهي التي قسّت قلب فرعون، فقد كان يمكن أن يترك اليهود يمضون، لكن لذة خطية السيادة والتسخير، قسّت قلبه فلم يستفد من كل الضربات التي حلّت عليه وعلي مصر كلها، وكلَّما كان القلب يستجيب ليتركهم كانت لذة الخطية تثنيه فيرجع!


ولذة خطية الامتلاك هي التي جعلت آخاب الملك، يشتهي حقل نابوت اليزرَعيليّ، ويُلفق له تهمة ويقتله! لقد كانت حلاوة الحقل تغشي علي ضميره تماماً، وتقسي قلبه الذي قَبِلَ الظلم والقتل!


يقول ابن العبريّ

" إنَّ تمتع الإنسان باللذات في الحياة الفانية يصدّه عن الاستعداد للحياة الأبدية، وكما أنَّ الإنسان لا يتمكن من رؤية صورته في الماء العكر، هكذا أيضاً لا يتمكن من أن يرى ذاته متّحدة بربّها، إن لم تتطهر مِرآة نفسه من اللذات ".


فلا تغرنكم حلاوة الخطية خاصة في بدايتها لأنَّ آخرتها مرَّة كالأفسنتين، فهي التي ظهرت ليهوذا كأنّها حلوة فارتكبها وسلم سيده، ولكن آخرته كانت الانتحار إذ مضي وشنق نفسه (مت5:27). فكأنَّ الخطية سلَّمت له سلاحاً حاداً، علي أمل أن يقتل به غيره فقتل به نفسه!


يقول مار أفرآم السرياني

" إهرب من اللذة فإنّ ثمارها أثمار الخزي، فقبل اللذة شهوة وبعد اللذة حزن، كرر الافتكار في أن اللذة يعقبها حزن وخزي ".

ولا تخدعك الخطية لأنها تبدو كالوردة في البستان، لا يمل أحد من التطلع إلي جمالها أو تنسم عبير رائحتها.. ولكن إلي حين، لأنّها سرعان ما تتحوّل حلاوتها إلي مرارة لا يحتملها الخاطيء.


وقد تقطف الوردة لتتمتع برائحتها، ولكن سرعان ما تجف وتذبل، ولا يبقي منها سوي الأشواك التي تُدمي اليدين، والشيء العجيب أنَّ الأشواك تكون في بدايتها خفيفة الآلام، ومع مرور الزمن تزداد حِدة، وبالتالي تزداد معها آلامها.


يقول القديس أغسطينوس

" لا تثق بسعادة تجنيها من الخطية لأنَّ آلامها تفوق أفراحها، فبقدر ما تشعر بسعادة تجد أنَّك مشدود ومقيد برباطات صيرتك عبداً للخطية.. لتلك العادات الرديئة التي تملَّكت عليك ".


وفي أحيان كثيرة كان يناجي الله قائلاً: " لقد أبعدت عني اللذة الشنيعة وجلست مكانها أيها اللذة الحقيقية، لذتك تفوق كل لذة مهما كانت طيبة، إلاَّ أنَّها غير معروفة عند الناس الجسدانيين ".


قصة


وإليك قصة توضح أنّ الذين ينغمسون في اللذات الجسدية، يشبهون رجلاً فر من أمام حيوان مفترس وهو في حالة غضب، ونجا من قبل أن يفترسه، وبينما هو يجري مسرعاً سقط في بئر عميقة. فبسط يديه وتعلق بغصنين كانا قد غُرسا بجانبها، وأمسك بهما شديداً، فظن أنَّه نجا من الخطر، لكنه نظر فأبصر( فأرين) أحدهما أبيض والآخر أسود، وهما مربوطان لا ينفكان، يأكلان هذين الغصنين الذي كان ممسكاً بهما، ثم نظر إلي أسفل البئر، فرأي تنيناً جسيماً ينفث ناراً وعيناه تتقدان، وقد فتح فاه ليلتقطه، ثم حوّل نظره إلي الموطيء الذي كان واقفاً عليه، فإذا بأربع أفاع قد أطلعت رؤوسها، من أوكارها في الحائط الذي كان متوكئاً عليه، وأخيراً رفع عينيه فرأى نحلاً قد كوّن عسلاً يقطر من الشجرة فذافه وتلاهي به عن التفكير في عاقبة أمره والاهتمام بالأخطار المحيطة به.. أمّا العسل فهو لذة الخطية الذي يخدع الإنسان، ولا يسمح له أن يهتم بخلاص نفسه!! فهل بعد هذا تتجرأ وتفعل الخطية وتقول إن فيها لذة؟!


الناس الأشرار

" المعاشرات الردية تُفسد الأخلاق الجيدة "

( 1كو 33:15)

المقصود بالناس هم الأقارب والأصحاب والأصدقاء.. كل ما يحيط بنا من بشر، الذين بلا شك لهم تأثير علي حياة الإنسان الروحية. فإن عاشرت أناس قديسين، تعلمت منهم حياة الفضيلة.. وإن عاشرت أناس خطاة قد تضعف وتسير معهم في طريق الرزيلة.


إنَّ معاشرتك للأتقياء تكسبك فضيلة وتجعلك واحداً منهم، فشاول لما اجتمع مع الأنبياء تنبأ مثلهم، ولكنه لما كان بين الجهال صار جاهلاً.


وبطرس الرسول حينما كان في وسط التلاميذ أقرَّ واعترف بأن المسيح ابن الله، ولكن لما كان في دار قيافا أنكره ثلاث مرات، فالمعاشرة تؤثر في الأخلاق بل تجعل الإنسان كعشيره.


يقول مار إسحق السريانيّ

" معاشرة المجاهدين تغنينا وتغنيهم بأسرار الله، أما معاشر المتهاونين والكسالى فإنه يتخم بطنه ولا يشبع من التسلية مع الآخرين".


وكما أنَّ الصديق الصالح يجذبك معه إلي فوق، كذلك الصَديق الخاطيء يجذبك معه إلي أسفل.. وفبهذا قال أحد الشيوخ: " إذا مشيت مع رفيق صالح من قلايتك إلي الكنيسة فإنه يقدمك ستة أشهر، وإذا مشيت مع رفيق رديء من قلايتك إلي الكنيسة فهو يؤخرك سنة ".


ونفس هذا السبب هو الذي دفع أحد الآباء أن يقول: " الذي لا يشابهك تجنبه ولا تعاشره، لأنَّ الماء الذي من أعلي ينزل بسهولة إلي أسفل، وأما الذي من أسفل يصعد بعد جهد، لأنك عندما ترفعه إلي فوق ينحدر إلي أسفل ".


والمثل الشعبي يقول: " اختار الرفيق قبل الطريق "، فبولس الرسول عندما كان مسافراً في البحر وحصل نوء عنيف وانكسرت السفينة، نجا جميع الذين كانوا فيها إكراماً لبولس (أع 24:27).


والرب بارك لابان لنزول يعقوب عنده ( تك34:24)، وبارك بيت فرعون بل ومصر كلها لأجل يوسف (تك5:39).

ولوط لما كان مرافقاً لإبراهيم حصل علي ثروة طائلة، ولكن لما سكن بين الأمم خسر أمواله حتي استرجعها له إبراهيم (تك14:13).


أيضاً الزوج البعيد عن الوسائط الروحية قد يضعف من روحيات زوجته, وعندما تضعف الروحيات ليس هناك أسهل من الخطية.. وهكذا تفعل الزوجة غير الروحية مع زوجها، فلولا عشرة إيزابل ما كان آخاب الملك قد تقسّي قلبه ليقتل نابوت اليزرعيلي لكي يأخذ حقله. فهي التي قدمت له الفكرة الخاطئة وساعدته علي تنفيذها ودبّرت له كل شيء (1مل21).


وهكذا فعل الشباب مع رحبعام إذ نصحوه أن يقول للناس: " إنَّ خِنْصَرِي أَغْلَظُ مِنْ وَسْطِ أَبِي وَالآنَ أَبِي حَمَّلَكُمْ نِيراً ثَقِيلاً وَأَنَا أَزِيدُ عَلَى نِيرِكُمْ أَبِي أَدَّبَكُمْ بِالسِّيَاطِ وَأَنَا أُؤَدِّبُكمْ بِالْعَقَارِبِ " (1مل12: 11،10).


وسليمان الحكيم أيضاً انحرف وسقط بسبب نسائه الغريبات اللاتي أملن قلبه وراء آلهة أخري.. وأقام المرتفعات ” لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ " (1مل11 : 1-8).


هذا وقد وضع لنا القديس بولس الرسول مبدأ روحياً هاماً، في تعاملنا مع الناس قال فيه " لاَ تَضِلُّوا! فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ " ( 1كو 33:15). كما قال أيضاً: " لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاةَ " ( 1كو 9:5)، " َاعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ " (1كو 13:5).


ووردت نفس النصيحة في المزمور الأول: " طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ " ( مز 1:1).


إنَّ استنشاق الهواء النقيّ، والسكني في الأماكن المعتدلة تفيد الجسد، كذلك صحبة الأتقياء نافعة ومفيدة للأخلاق والروحيات.

فلا تضلوا وتصادقوا الخطاة علي أمل إصلاحهم إن كانت روحياتك ضعيفة، لأنَّ من لمس القار لصق به، ومن عاشر الأردياء اكتسب من صفاتهم، لأنَّه لا يوجد مرض يُعدي الأخلاق الردية أصحاب الأخلاق الجيدة.. فاهرب وابعد عن كل شرير خبيث واعتبره أشر من اللصوص والخونة، لأن السارق إنما يسرق مالك، وأما هذا يسلبك شرفك وأخلاقك، إنه يسرق غني النفس والفضائل الثمينة.


الاختراعات الحديثة

" الله صنع الإنسان مستقيماً أما

هم فطلبوا اختراعـات كثيرة "

( جا 29:7)

يقصد بالاختراعات الحديثة: أجهزة التلفزيون، والفيديو، والأفلام السينمائية، وشرائط الكاسيت، والدش، والنت.. وهذه كلها لو استُخدمت بطريقة إيجابية لكانت وسائل بنّاءة، لها دورها الفعّال في نمو الإنسان روحياً، فعن طريق هذه الأجهزة يمكن مشاهدة الأفلام الدينية، وسماع العظات والتراتيل الروحية، وكثير من البرامج الثقافية التي تنمي العقل، وتوسع مدارك الفكر...


إمَّا إذا استُخدمت بطريقة خاطئة، فإنّها تقود الإنسان إلي السقوط في الخطية، وتُعلّمه أشياء تضره، كما أنَّها تغرس فيه أفكاراً قد تُغيّر نظرته الروحية، أو تقدم له مفاهيم جديدة عن السعادة والحرية والقوة.. ربَّما تشوش علي مبادئه وتُسقطه.


فيجب أن نعترف بأنَّ الاختراعات المكرسة لحل مشاكلنا، كثيراً ما تصبح في ذاتها مشكلة، فالاختراعات الحديثة أعطتنا الطائرة والكمبيوتر.. لكنَّها أعطتنا أيضاً القنبلة الذرية، التي أنزلت الموت والألم علي هيروشيما، والسيارة التي تستخدمها في التنقل والتنزّه، هي عينها التي تنقلب بأُلوف الناس وتدوس تحت عجلتها مئات البشر، ولهذا قال البعض: إن بركة العلم تتحوّل إلي لعنة عندما تنحرف بها.


ماذا يحدث لو رأيت فيلماً سينمائياً، يُبيح العلاقات غير المشروعة التي تُحرّمها المسيحية؟ أو مسلسلاً تليفزيونياً يُحلل الطلاق غير المباح أو المصرح به في ديانتنا؟ أو بعض المفاهيم الأُخري التي تتنافي مع عقيدتنا المسيحية أو تقاليدنا القومية؟ أليس في هذا تشويشاً علي ما استلمناه وما تعلمناه من آبائنا علي مر عصور؟


ومثل الوسائل الحديثة أيضاً مصادر الفكر من كتب ومجلات ومطبوعات.. وهذه أيضاً لها تأثيرها علي الناس خاصة البسطاء والضعفاء من جهة الإيمان.. ولهذا يجب علي الإنسان أن يكون حريصاً فيما يقرأ ويسمع ويري، فعقل الإنسان لا يسكت أبداً بل هو كرحي دائمة الحركة، وكلّما ألقي فيها من الحبوب طحنته، وهو علي الدوام يطلب غذاء، وبحسب الغذاء الذي يقتات به يفكر، فمن لا يفكر في الخير يفكر في الشر، ومن لا ينظر إلي فوق ينظر إلي أسفل، ومن لا يتقدم للأمام يرجع للوراء.


يحق لنا أن نقول: إن الاختراعات الحديثة وإن كان دور هام في حياتنا، إلاَّ أنها تفشل في تلبية احتياجتنا الروحية، إنّها تصنع عجلات ومعدات تحت أقدامنا، لكنّها تصنع مخاوف وفزع في قلوبنا، قد تساعدنا أن نعيش أطول لكنها تعجز أن تجعلنا نعيش أفضل، وربّما تجعلنا ننعم بقسط أكبر من الراحة، لكن ليس بقسط أكبر من السعادة، فالسعادة مع الله وحده الذي خلقنا ولن نجد راحتنا إلاَّ فيه.


الشيطان

" اصحوا واسهروا لأنَّ إبليس خصمكم

كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه "

(1 بط 8:5)

منذ أن سقط الشيطان وهو قائم يحارب بكل جهده، عسي أن يلقي البشرية كلها تحت حكم الموت.. فهو الذي أسقط أمنا حواء وأبينا آدم وتسبب في طردهما من الفردوس.. وجلب الشقاء علي جنس البشرية.. إذ الجميع بلا استثناء يولدون محكوماً عليهم بالموت.. وبعرق جبينهم يأكلون خبزهم..


كما أنَّه قد أسقط أنبياءً ورسلاً وأشخاصاًَ حل عليهم روح الرب مثل: داود النبي، وشمشون الجبار، وشاول الملك... فهو لا يقف ساكتاً، إن وجد إنساناً يحيا مع الله يقف ضده.. ويسمي هذا أحياناً حسد الشيطان.


وقد وصفه معلمنا بطرس الرسول بعبارة قال فيها: " اُصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ" (1بط 8:5)، وقد قال السيد المسيح لبطرس مرّة: " هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ " ( لو22 : 32،31).


ومعروف أنَّ الشيطان يملك قوة هائلة تفوق إمكانات البشر، لأنَّه كان قبل أن يسقط أحد الملائكة " الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً " ( مز20:103)، وقد استطاع بقوته أن يضل العالم كله أيام الطوفان، ولم تنجو من ضلالته سوي أُسرة واحدة هي أُسرة نوح البار، ونفس الشيء بالنسبة لسدوم التي لم ينجو منها سوي لوط البار وابنتيه.


وتظهر قوة الشيطان في إسقاطه لسليمان في عبادة الأصنام (1مل 11: 4-8)، وصرعه لأُناس كثيرين، فقد كان علي واحد فرقة من الشياطين( مر5).


أمّا أساليبه فكثيرة ومتنوعة وتختلف من واحد لآخر، فهو كما يقول مار إسحق السرياني: له عادة قديمة وهي تقسيم المعارك بمكر، ضد الذين يُحاربونه فيُغير أسلحته ويستبدل أساليبه الحربية وفقاً لإمكانات الأشخاص، فكما أن الصيادين يُغيّرون الطُعمْ للطيور والأسماك والوحوش حسب طعام كل واحد، هكذا الشياطين يغيرون الحروب حسب ما تميل الإرادة للصلاح أو للشر.

يقول القديس مقاريوس

" إن الشيطان عديم الرحمة في كراهيته للبشر، لذلك لا يتوقّف عن المحاربة ضد كل إنسان، ولكن الظاهر أنّه لا يهاجم الجميع بنفس الدرجة ".


ويُعتبر الخِداع هو المبدأ الذي تنطوي عليه كل حيل الشيطان، فهو محتال في تزييف الحقائق، فالكتاب المقدس يُعلّمنا أنّ الشيطان يستطيع أن يُغيّر شكله إلي شبه " ملاك نور " (2كو24:11)، فهو دائماً يكيف نفسه حسبما تقتضي الأمور، ولا ننسى خبرته في حروبه مع البشر.


وكما أن مزوري العملات يحاولون دائماً أن يجعلوا نقودهم المزيفة تبدو تماماً مثل العملة الحقيقية، هكذا يعمل الشيطان أيضاً حتي يسقط المؤمنين ويستعبدهم، أما خداعه فقد بدأ في جنة عدن، ومنذ ذلك الحين إلي وقتنا الحاضر يخدع الناس ويضللهم.


البعد عن الوسائط الروحية

" من أجلهذا فيكم كثيرون ضعفاء

ومرضي وكثيرون يرقدون... "

(1كو 30:11)

كل الوسائط الروحية أعطاها الله لخير الإنسان، ولفائدته الروحية، فإن أهملها، لا يكون قد عصي الله فقط، لكنه أضر بنفسه!!

فالوسائط الروحية أو وسائط النعمة، هي بمثابة الأسلاك التي توصل إلينا تيار الروح القدس.. أو المجاري التي عن طريقها يصل إلينا ماء الحياة، فإذا قطعت الأسلاك توقف التيار، وإذا انسدت المجاري سوف لا يصلنا الماء.


لقد أعطانا الله الوسائط الروحية لتقوينا في الحياة الروحية، فهي المجرى الحي الذي منه نشرب حليب النعمة الإلهية، وبه يتقوي إيماننا، ويثبت رجاؤنا، وتشتعل محبتنا لله، وننمو في كل شيء.


ومهما وصل الإنسان إلي أعلى درجات الحياة الروحية، فلن يمكنه الاستغناء عنها.. لأنَّها طعامه الروحي، فهي التي تُعطي الإنسان قوة ومعونة حتي يستطيع أن يصمد ضد التجارب، ويُقاوم الحروب التي تأتي عليه.


كما أنَّها تجعل الإنسان دائماً في حضرة الله، وبهذا الحضور لا يجرؤ الشيطان أن يقترب إليه، وإن اقترب فسرعان ما يتركه، لأنَّه لا يجد في قلبه مكاناً له.. ويري طرقه لا توافق طرقه، وإذا حاربه بشيء تكون حربه ضعيفة لأنَّه مشغول دائماً بالله.


وأي إنسان يحاول أن يسلك في طريق الروح بدونها، يكون كمن يتكل علي ذراعه البشريّ!! وقد قال إرميا النبيّ: " مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ الْبَشَرَ ذِرَاعَهُ وَعَنِ الرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ " (إر5:17).


أمَّا إذا أهمل ممارستها فإنَّ حرارته الروحية تفتر، ويُعرّض نفسه لمحاربات خطيرة وسقطات كثيرة.. ولهذا فإن أول حرب يشنها العدو علي القديسين هي محاولة إبعادهم عن الوسائط الروحية، لأنّه بهذا يُبعدهم عن الله بطريقة غير مباشرة، فإذا ابتعدوا يستطيع أن يسقطهم في الخطية بطريقة سهلة.


من أهم هذه الوسائط: التناول، الاعتراف، الصوم، الصلاة، الكتاب المقدس، القراءات الروحية..


ولكي تكمُل فائدة الوسائط الروحية لابد أن تُمارس بطريقة سليمة، لا بطريقة حرفية أو بطريقة جافة، فلو أخذنا الصلاة كمثل توضيحي نقول:


إنَّ الصلاة ليست مجرد ألفاظ تخرج من أفواهنا، لأننا لم نقف أمام الله لنُعد ألفاظاً كما قال مار إسحق السريانيّ، فهذا هو المظهر الخارجي للصلاة.


أمَّا الصلاة الحقيقية فهي شركة دائمة مع الله، مخاطبة ومحادثة لذيذة مع القدير، تملأ النفس بالأشواق المقدسة، وتُعطي العزاء الحي للروح، وتزيد النعمة في القلب، وتقلع الزوان وتستأصله من النفس.


الصلاة هي سياج لكل فضيلة، بل هي السياج الذي فوقه تُبني كل فضيلة، ولا نجد مجري أوسع من هذه القناة التي تفتح لنا بسهولة باقي مجاري النعمة.

لقد عرّف القديس يوحنا الدرجي الصلاة بأنها الاتصال بالله، وحدد شروطها، إذ قال: " ينبغي لمن يريد أن يخاطب الله، أن يقف أمامه بعقل يقظ، وحرارة وفهم، ونفس نقية من الحقد، وفكر واحد متضع وكلام قليل ".


والصوم ليس هو الامتناع عن الطعام الحيوانيّ والاكتفاء بما هو نباتي، لأن هذا لا يقدّم الإنسان إلي الله، لأنه لا يعطي الإنسان نقاوة تليق بالله كما قال القديس صفرونيوس.


إنَّما الصوم في مفهومه الروحي السليم هو منع النفس عن كل شهوة كما منع الجسد عن كل الأطعمة الشهية، وكذلك اتّخاذ الصوم فترة مقدسة للصلاة، والجلوس مع النفس، في خلوة روحية، وتعميق الشركة الروحية مع الله.


ماذا ينتفع الإنسان لو صوّم فمه عن الطعام ولم يصوم قلبه عن الحقد ولسانه عن الأباطيل؟! بالطبع مثل هذا الإنسان صومه باطل، لأنَّ الصوم اللسان أفضل من صوم الفم، وصوم القلب والأفكار أفضل من الاثنين، وهذا ما أكده البابا أثناسيوس الرسولي عندما قال: " إننا مطالبون أن نصوم لا بالجسد فقط بل بالروح أيضاً ".


أيضاً القراءة في الكتاب المقدس وكتب الآباء.. ليست مجرد وسيلة لجمع المعلومات.. إنما الهدف هو تحويل المعلومات إلي حياة وكذلك التأثر والعمل بما نقرأ، والقراءة الصحيحة هي التي تشغل الفكر بالله وتقدم للقاريء مادة للتأمل والصلاة، وتهييء له جواً روحياً.. يزكّره بالله، وبالقديسين، كما أنها تُعطي استنارة للفكر..


قال أحد الآباء:

" القراءة تجلي صدأ القلوب ".

ليست هناك تعليقات: