مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الثلاثاء، 3 فبراير 2009

أساس مشاكلنا العاطفية



يُولد الطفل ويدخل العالم وكأنه سؤال يبحث عن جواب! من أنا؟ كيف ولماذا ولدت؟ ما هى قيمتي؟ لماذا الحياة وماذا بعد الحياة؟ أسئلة كثيرة تتصارع في ذهنه.. وأجوبة متنوعة تتلاحق عليه.. إمَّا بالإيجاب وإمَّا بالسلب، فإذا ما أتت الأجوبة مُقنعة ومُشبّعة بالحُب، فإنَّ الطفل يشعر بالفرح والاطمئنان، وهذه بداية تكوين الشخصية السوية: أن يشعر الطفل بأنَّه محبوب ومرغوب فيه، وأنَّ هناك من يسمعه ويقنعه بكل ما يدور في ذهنه من أسئلة!


أمَّا إذا انشغل الأهل بأنفسهم، وإذا هجر الحُب قلوبهم وأخذوا يعنّفون الطفل كلَّما ارتكب سهواً، ورفضوا تلبية طلباته، وانزعجوا كلَّما استيقظ ليلاً.. فإنَّ الطفل يتلقى مثل هذه الوقائع بألم شديد. ولأنَّ الطفل عاجز عن المقاومة أو الاحتجاج، ولا يملك ألفاظاً يُعبّر بها عن رفضه لِِمِا يحدث تجاهه، فإنه يكبتها في نفسه فغضب الأهل واحتجاجهم ورفضهم.. وسائل قاسية يتسلّمها الطفل بألم شديد، وتترسّخ جذورها في كيانه إلى الأبد.


ألم ترَ أُمَّهات كثيرات يُعنفن أولادهن عندما يعضوا ثديهن أثناء الرضاعة؟! هل تعرف أن مثل هذا الفعل قد يُوّلد في نفسية الطفل شعوراً مريراً بالقسوة والجفاف العاطفيّ، فلا يتفاعل مع أحد، ولا يتأثر بأي شيء يحدُث حوله، حتى لو كان هذا الشيء موت أحد أقاربه أو صديقاً له..!


وفى أحيان تُنظف الأم ابنها ولكنها لا تداعبه، وهى لا تدري أنَّ مثل هذا التصرف وإن كان بسيطاً من وجهة نظرها، إلاَّ أنَّه يُشعر الطفل الصغير بأنّه غير مرغوب فيه، أو أنَّه عبء على أُمّه، وربَّما يقوده هذا الشعور إلى الإصابة بعقدة نقص، فيظل مدى الحياة يتوهّم أنَّ أُمّه لا تُحبّه دون أن يعرف سبب هذا الشعور‍‍!


لقد سمع كل منا رسالة خاصة في يوم ما، قدَّمت له إحساساً دافئاً بالحُب، ولكنَّ المشكلة أنَّ ذاك الحُب غالباً ما يكون مشروطاً، فالطفل يشعر وهو يصغي إلى أهله أنَّ حُبّهم له متطلبات وشروط‍: إذا تناولت طعامك كله.. إذا حافظت على نظافة ثيابك.. إذا ذاكرت دروسك جيداً.. إذا حافظت على لعبك.. فسوف نُعطيك كذا أو نشترى لك كذا أو كذا.. وهذا يوّلد لدى الطفل شعوراً مريراًُ بأنَّ للحُب ثمن، ولكي يناله يجب عليه أن يدفع أولاً، فيتولد في أعماقه إحساساً بأنَّ قيمته تنحصر فقط في مظهره الخارجيّ أو سلوكه أو نجاحه.. فكأنَّ لا قيمة له في ذاته!


إنَّها مأساة!أن يشعر الطفل بأنَّ قيمته الخاصة، هى رهن بتلبية حاجات وأوامر الآخرين، وأنَّه يعيش دائماً للآخرين، أمَّا الثمن الذي يدفعه الطفل نتيجة هذا التعامل غير التربويّ يكون باهظاً، إذ قد يأتي على حساب نظرته إلى نفسه وحُبّه لذاته.. فقد يكذب كوسيلة هروبية للخروج من دائرة أوامرهم، أو يتقمص شخصيات أُخرى لكي يُرضيهم..


هنا تظهر حكمة الأهل عندما لا يضعوا شروطاً تعجيزية أمام الطفل، بحيث أنَّ تنفيذها يكون الوسيلة الوحيدة لإرضائهم! لأنَّ هذا يدفع بالطفل إلى الفشل وازدراء النفس، ومعروف أنَّ احتقار الذات هو بداية مسيرة تؤول إلى نهاية مُحزنة! إلى حياة تُحطّم ذاتها!


من هذه الوسائل وغيرها.. يتولّد لدى الإنسان ما يُعرف بالكبت، الذي يوّلّد صراعاً من نتائجه يكون: القلق، العدوان، الانطواء، الخيال.. أو غير ذلك من أوبئة نفسية، فالذي يحدّث هو أنَّ رغبات وعواطف كثيرة، تُحبس في أعماق الإنسان، ولكنّها لا تموت، بل تعمل من خلف الستار، منتهزة الفرصة لتخرج من كبتها، وتصير شيئاً في عالم الواقع.


والحق إنَّ كل إنسان، يحمل في أعماق بحر حياته، جبل عظيم من جليد العواطف، وإن كانت بعض رؤوس هذا الجبل تظهر على سطح الماء، أي على الواقع، إلاَّ أنَّ الخفيّ أعظم، فنحن لا نُظهر كل عواطفنا للآخرين، بل جزء ضئيل، حتى على أنفسنا كثيراً ما نخفى أشياء لكي لا نواجهها، وننسى أن ما نخفيه اليوم سيأتي يوماً وينبش في لحمنا كالكلب المسعور! أمَّا لماذا لا يفصح الإنسان عن كل عواطفه؟ فهذا إنَّما يرجع إلى عدة أسباب:


فالشك في قدرة الآخرين على تفهّم عواطفي، يُعد سبب رئيسيّ يدفعني إلى كبتها.


والثاني هو الخوف من أن يستغل أحداً أسراري لينتقم منى أو يتباعد عني أو يُسيء إلىّ.


وهناك سبب آخر يدفع بالإنسان إلى كبت عواطفه ألا وهو: طريقة التربية التي نشأ عليها، فالطفل الذي نشأ في بيئة صارمة، لا تُفضّل التعبير عن مشاعر الحُب، سيكون عرضة لكبت عواطف الدفء والحنان، حتى مشاكله الجنسية لا يُعبّر عنها بسهولة..


أمَّا الطفل الذي ينشأ في عائلة مشاغبة لا يتردد في الإقرار بغضبه والتعبير عنه بوضوح، ولكنّه يكبت الشعور بالندم أو الأسف، أتتذكرون المثل الشعبيّ القائل: من شب على شئ شاب عليه!


وهناك أيضاً تقاليد المجتمع، فنحن ننظر إلى بعض العواطف على أنَّها حسنة وإلى أُخرى وكأنّها سيئة، فهناك مجتمعات تنظر إلى الكذب على أنّه نوع من خفة الدم، والسرقة شطارة، ولكن مجتمعات أُخرى تعد مثل هذه الأفعال ذميمة‍! والجنس الذي يُعد في الغرب من ضرورات الحياة ، يُنظر إليه في الشرق على أنّه عار ويستحق صاحبه القتل ‍‍‍‍!


لا نُنكر أنَّ هناك عوامل كثيرة تدفع بالإنسان إلى كبت عواطفه، ولكننا نعترف بأنَّ العواطف المكبوتة أشبه بالشخص المرفوض، فهو يفرض علينا ثمناً باهظاً لرفضه، ويحاول جاهداً أن ينتقم لنفسه! ولكننا نتساءل: ماذا نفعل في عصر فقدت فيه كلمة سر كل معنى سامٍ لها؟! كما أنَّ الصداقة تحولت تحت سلطان المادة الطاغي إلى نفعية؟‍‍‍‍! في مثل هذه الظروف نشعر بألم ولكننا لا نلغى سبب الألم، إننا حبسنا سبب ذلك الألم في زنزانة اللاشعور المُظلمة!!


ولأنَّ العواطف المكبوتة لا تهدأ ولا تصمت، فهى لذلك تظل تؤثّر على سلوك الإنسان بمجمله، فعندما تكبت شعوراً بالذنب، تعاقب نفسك دون أن تدرك السبب! فكل نجاح تحرزه، أو كل فرح تشعر به، يُصاحبك نوعاً من العقاب - ولو ضئيلاً- لنفسك، وكبت الغضب أو الخوف أو الغيرة.. قد يظهر بشكل آلام في الرأس أو أرق أو بشكل قرحة في المعدة..


يقول " فرويد " عالم النفس الشهير:

إن كل العواطف تحاول اختراق جدار الوعي وتظهر إلى العلن، فإن سمحت لها ظهرت لك على حقيقتها، وإن لم تسمح لها ظهرت مستترة، وبدأت تعمل من خلف الستار. ولهذا نجد أنفسنا مضطريين إلى اللجوء لبعض الحيل الاصطناعية، كرد فعل معاكس نظهر به على غير حقيقتنا، فإذا كانت العاطفة المكبوتة مثلاً شعوراً بالخوف تجدني أعمل على إبقاء تلك العاطفة مكبوتة، من خلال سلوك علني يتّصف بالشجاعة والهدوء‍‍‍‍‍!


وتُعد فلتات اللسان، والأحلام، والتبرير، والإسقاط الذي يجعلني أنسب ضعفاتي للآخرين لأني غير قادر أن أعلنها... وسائل تحاول العاطفة المكبوتة أن تُعبّر بها عن نفسها‍‍‍! ويجب أن نشير إلى أن هذه الرغبات المكبوتة هى التى يتكون منها العقد النفسية، فالعقدة هى مجموعة من الميول والرغبات غير المُشبّعة، لم تجد لها مكان في الواقع، أو حوادث أليمة في حياة الفرد المُبكّرة، قد عُزلت من مجال الشعور، إلى اللاشعور أو ما يُعرف بالعقل الباطن. غير أنَّ هذه الأخطار وما كان يُصاحبها من انفعالات غير سارة لا تموت، بل هى تبقى في معزلها أو مرقدها الجديد حيّة، وهى التي تتحكّم في سلوك الإنسان وحركاته وألفاظه.. فمن المعروف أن الإنسان إذا صمت بفمه ثرثر بيده أو رجله أو عينه.. ومعنى هذا:


إنَّ عواطفنا المكبوتة لا بد من أن تظهر للعيان، من خلال حركات أو إشارات أو التفاتات هنا وهناك، فالجسد هو الكمبيوتر الذي يدون كل ما يحدُث في داخلنا ثم يعود فيُظهره على الشاشة للجميع.


تُعجبني تلك العبارة القائلة: " إن العواطف المكبوته أشبه بالغبار الذي تقذف به المكنسة تحت السجادة، إنَّه يختفي عن الأنظار ولكنّه يتخمّر حيث هو ويدب فيه العفن " ! هنا تظهر حكمة الإنسان في تحليل سلوكياته وأقواله وحركاته.. لكي يجد العواطف التي دفنها في العقل الباطن، لكي يُعالجها ويُسيّرها في طريقها الصحيح، فالعلاج هنا لا غنى عنه للنمو، في حين أنَّ الكبت يفقدها الاتصال الحقيقيّ لا بالآخرين فقط، بل وبذواتنا أيضاً، ويجعلنا نتستر وراء أقنعة مزيفة تخفى حقيقتنا، ونحتمي خلف حواجز وهمية نحمى بها ذواتنا، نستطيع أن نقول: إن غضب العواطف المكبوتة لغضب جَهَنَّميّ!


في ضوء ما سبق نستطيع أن نفرق بين الكبت والقمع (ضبط النفس)، فالقمع هو ضبط الإنسان لعواطفه والتحكّم فيها بكامل إرادته، أمَّا الكبت فهو عملية ناتجة عن خوف أعمى، يجعل الإنسان يُنكر حقيقة معينة ويتصرّف كأنّها غير موجودة، في حين أنّها جزء من كيانه، وعلى حين أنَّ الكبت لا يتضمن وعى الإنسان بما يكبت من دوافع، فإن القمع ينتج عن وعى الإنسان لحقيقة ما، فيكون تصرّفه تجاه هذه الحقيقة بكامل وعيه وإرادته..


فلا تُحاول أن تعيش كأنّك روح بلا جسد، ولا تحاول أن تلعب دور الملاك، فربّما تنقلب إلى شيطان، ولهذا يقول " باسكال " الفيلسوف الفرنسيّ: " إن الإنسان ليس ملاكاً ولا غبياً، ولكن إن حاول أن يكون ملاكاً انتهى به الأمر أن يصير غبياً " .


والسؤال الآن: هل لديك استعداداً أن تعرف عمق مشاعرك لتوجيهها؟ هل لديك رغبه لتعيد النظر في رؤيتك لنفسك؟ هل تملك شجاعة لتُقر بأنَّ بعض سلوكك مزيفاً؟ إلى أي حد تبحث عن الحقيقة بصدق وتُريد أن تعرف نفسك على حقيقتها؟


جوابي: هو أنني أريد الحقيقة ولكن ليس دفعة واحدة، أريد أن أعرف قصتي كاملة، ولكنى أريد أن أتعرف عليها فصلاً فصلاً، وقد يكون الدافع أننا لا نملك القدرة الكافية لنواجه حقيقة أنفسنا بكاملها.


لكننا نعترف بأنَّ الحرص على معرفة الذات، هو نقطة الانطلاق لتكوين شخصية سويّة، والقبول الكامل للحقيقة، يمكنه أن يقودنا إلى الحياة المثلى!

هناك تعليق واحد:

Nano... يقول...

بجد موضوع أكثر من رائع
ربنا يعوض يعبكم