مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 21 فبراير 2009

لماذا التــوبــة ؟


التوبة هى عودة إلى صباح أول يوم،عندما انبثق النور من الظلمة (تك3:1)، هى رجوع إلى الأحضان الأبوية مرة ثانية، لكى يحيا الإنسان مع الله هادئاً، مطمئناً كطفل رضيع لا يجد راحته إلا بين ذراعى أُمه! أو قل هى ثورة الإنسان ضد الشر داخل النفس..

التوبة هى أن ننظر لا إلى الوراء بأسف شديد، بل إلى الأمام فى رجاء عظيم، لا إلى أسفل فنرى تقصيرنا، بل إلى أعلى لنرى محبة الله، هى أن ترى لا فشل اليوم، بل نجاح المستقبل بفضل النعمة الإلهية، وبهذا المفهوم تكون التوبة: ليست مؤقتة بل حياة مستمرة.


ولو أننا تأملنا فى كلمة توبة " ميطانيا Metanoia " لوجدنا أنها تعنى " التغيير" فأنا آخذ حياتي الملوثة، وأقلبها رأساً على عقب، كما تقلب كيساً لكى تفرغ كل ما فيه من قاذورات، ومن الأشياء القديمة أصنع ما هو جديد!


والحق إن التغير الذى يشمل الفكر والقلب والإتجاه... يؤدى بالضرورة إلى تغير أسلوب الحياة، وهل يتوب إنسان دون أن يصنع أثماراً تليق بالتوبة ؟! فالتوبة إذن تُعيد تشكيل الإنسان من جديد، لأن أعمال الإنسان يمكن تركها كما هى، ويمكن وضعها فى فرن عالى الحرارة، وتحويلها إلى سبائك فولاذية ملتهبة!


إذن فالماضى البالى، الذى يشبه صفيح قد أصابه الصدأ، يستطيع الإنسان بإرادته إعادة صنعه وصهره وسبكه فى عمل جديد مفيد، وهذا هو الرجاء الذى فتح لنا المسيح بابه إلى نهاية الدهور.


فى التوبة سر طفولة رائعة، لأن الإنسان بالتوبة يغوص إلى عمق قلبه، ويلمس قاع بؤسه، ويشعر بالندم تجاه ما ارتكبه من ذنوب، وهو بهذا يولد من جديد!


والحق إن اعترافات كثيرين لا تجدد فيهم شئ، لأنها بلا توبة صادقة، فيخرجون من الاعتراف كما دخلوا، وينزلق تحليل الكاهن على رؤوسهم كما ينزلق الماء على ريش البط! ولهذا يجب على الإنسان أن ينزل إلى أعماقه ويحاسب نفسه بدقة، وذلك لكى يعود إلى الله عودة كاملة لا نصف عودة!


إن مشكلتنا أننا نجرى ونلعب فى المناطق الوسطى، فلسنا أمواتاً ولا أحياء، ولا حارين أو باردين، بل فاترين، ولهذا فإن الله مزمع أن يتقيأنا من فمه (رؤ16:3)!! أقول هذا لأن هناك صوراً كثيرة من صورالتعبد لشهوات الماضى، فقد يتوب الإنسان، ولكنه بالفكر يُشبع نفسه من لذات مر عليها الزمان وانقضت، وهو لا يدرى أن هذه الذكريات، التى يرتد إليها ليست سـوى ذخيرة حية تقتله! أو حبلاً قوياً يربطه، ويحد من حركته فى كل من الحاضر والمستقبل.


فليس من الحكمة أن ننفخ فى مثل هذا الرماد من جديد، وقد يكون من علامات الرجولة والنضج أن يدير الإنسان ظهره لماضيه، وذلك لكى يتجه ببصره فى ثقة وأمل نحو المستقبل، أما إذا ظل أسير ماضيه، فإنه سيحيا إلى الأبد كعصفور داخل قفص، لا هو قادر أن ينعم بالسعادة لأنه محبوس، ولا قادر أن ينال حريته لأنه أيضاً محبوس!


ولكن الماضى لا يموت فهو يتتبعنا ويلاحقنا باستمرار فليس فى وسعنا أن نشهد آثامنا، وكأنها لا تمت إلينا بصلة، فيجب أن نعترف بأن وجه الماضى القبيح هو وجهنا! هنا تظهر أهمية التوبة، لا فى أنها تمحو الخطايا من الوجود، بل فى أنها تغفرها، وهى بهذا تعطينا فرحاً وعزاءً وسلاماً.. يجعلنا نتخطى حزن الخطية المرير، ولا نخجل من ماضينا الأثيم.


ألم يضع القديس العظيم أُغسطينوس سيرته، بكل ما تحمل من ضعفات وعثرات... على صفحات كتاب أسماه: " اعترافات.." فالضعيف قد صار قوياً! وما هو سر قوته؟ إنها التوبة التى بها نستطيع أن نحوّل ماضينا المظلم إلى سطور من نور ونور!


فإذا افتقدك الماضى، فلا تدعه يعمى عيني نفسك بدخانه الكثيف، بل فتش عن سبب اشتعال النار، وكيف كانت بدايتها، ومن أين كانت تتغذى، ولا تتركها تتسلط بحرارتها عليك، ثم إشعل أمامها نار الروح، هنا تظهر حكمة الإنسان، فمن المعروف أن كل توبة يقدمها الإنسان تسبب له قفزة وارتفاعاً كالكرة، التى ما أن تسقط على الأرض فسرعان ما تصطدم بها لتقفز إلى أعلى.


ولكن الإنسان كثيراً ما يعجز عن القفز، لأنه يرفض أن يسقط إلى عمق ذاته ليعرف حقيقة نفسه، وهو بذلك لا يمكنه أن يتجدد أو يسمو! وها نحن نتساءل: كيف استطاع اللص اليمين أن يمحو آثامه؟ لقد تمكن من ذلك بواسطة ديناميت التوبة، الذى به فتت جبل ثقيل من على كتفه!


وأمام هذا الصفح العجيب الذى منحه المسيح للص مجاناً وفجأة قد يعترض بعض السطحيين أو غير المؤمنين قائلين " هذا ظلم "!! فيجيب السيد المسيح لا، بل " هذا عدل "، لأنه وإن عجز الإنسان عن محو أفعاله وجرائمه.. فهو على مستوى النية الحسنة يستطيع أن يحول طريقه، وأن يضفى على حياته بُعداً جديداً، حتى لو كان فى آخر نسمة من حياته، وأعتقد أن اللص اليمين لو كان قد عاش لصار من أعظم القديسين، هذه هى التوبة: أن يختار الإنسان لنفسه صورة جديدة.


ولكن لماذا التوبة؟ ألا يوجد طريق آخر نتقابل فيه مع الله سوى هذا الطريق؟ يجب أن نعترف بأن الله نور ونار والخطية ظلام وبرد.. فهل يمكن أن تقوم شركة بين النور والظلمة ؟! كيف يمكن للحياة والموت أن يلتقيان؟!


والحق إن الخطية هى موت بكل ما تشمله كلمة موت من معنى، وما التوبة إلا سفينة من ذهب بمجاديف من فضة وأشرعة من حرير.. تنقلنا من موت الخطية إلى الحياة مع الله، ألم يقل معلمنا بطرس الرسول: " ًأَعْطَى اللهُ الأُمَمَ أَيْضاً التَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ! " (أع11: 18).


بدون توبة لا حياة، ولا أمل فى حياة، ولا نمو أو إخضرار، فقد قال رب المجد يسوع: " إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ " (لو13: 3).


كما أن التوبة تسبق الأسرار المقدسة، فبعدما وعظ بطرس الرسول الشعب يوم الخمسين، " نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ الرُّسُـلِ مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ ؟فقال لهم بطرس الرسول : " تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْـرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (أع 2: 38) ألم يشترط الله التوبة كأساس لمغفرة الخطايا " فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ " (أع3: 19).


وقديماً قال صموئيل النبى للشعب: " تَقَدَّسُوا وَتَعَالُوا مَعِي إِلَى الذَّبِيحَةِ " (ا صم 16: 5).


وفى العهد الجديد يقول بولس الرسول"لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَـهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِـدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَة ًلِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَد الرب مِنْ أَجْلِ هَذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ" (اكو11: 27- 31).


يُحكى عن الإمبراطور ثيئودوسيوس: إنه سفك دماء كثيرة عندما أجرى مذبحة على شعب تسالونيكى، فلما تقدم للمناولة بعدها، رفض القديس أُمبروسيوس أسقف ميلان أن يناوله، فاعترض الإمبراطور على هذا الحرم قائلاً: لماذا أًرفض بينما داود زنى وقتل والرب لم يرفضه؟! فالتفت القديس نحوه وقال: لقد شابهت داود فى جريمته ولكنك لم تشبهه فى توبته!


يقول أحد الآباء

" إن نفوسنا شبيهة ببئر عميقـة، مليئة من المياه الموحلة التى كلما نزحناها ظهرت الميـاه الباطنية الصافيـة فى القـاع.. "


وهكذا نحن أيضاً، كلما جاهدنا، من أجل تنقية قلوبنا بالتوبة، ظهر الله داخل نفوسنا، ولا ننكر أن الله لا يقوى على احتمال النفس الدنسة، بل يتقيأها ويدفعها إلى الخارج مثل البحر الذى لا يطيق بقاء الأقذار فى جوفه، بل يدفعها إلى البر بعيداً عنه.


ولعل أهم بركات التوبة، إنها تُخرج الإنسان من قوقعته الذاتية الصلدة، وتجعله لا يدنس الآخرين، بل يهتم بهم، ويقدسهم ككائنات سامية، قد خُلقت على صورة الله كما خُلق هو، وهى بذلك تكون عكس الخطية، التى تجعل الإنسان كما لو كان يحيا فى جزيرة عدد سكانها شخص واحد، وينظر للآخرين كآلات، تحقق له رغباته المادية والشهوانية.


ولكن هذا ليس بغريب، لأن الشهوة عمياء لا ترى، صماء لا تسمع، خرساء لا تتكلم، الشهوة تريد شيئاً واحداً: أن تتحقق! وهى بهذا تجعل الشهوانى يحيا فى وحدة باردة، مملة، وتجعل من قلبه صحراء قفراء، وإن أنبتت لا تنبت سوى الأشواك، وعلى حين أن المحبة تعنى البذل والعطاء إلى أبعد الحدود نجد أن الشهوة تعنى السلب لآخر قطرة من الدماء.


ويؤكد الفيلسوف أفلاطون، إن الإنسان لايدرك الحقيقة الكاملة، إلا بتمزيق القيود والسلاسل.. التى تربطه بالعالم الأرضى الفانى، وفك حصار الشهوات التى تحجب عنه عنه طريق كشف الحقيقة، ولكى يُقرّب هذه الحقيقة لتلاميذه، أعطاهم تشبيه الكهف، فقال لهم:


إننا أشبه بأُناس قُيدوا بالسلاسل فى جدار كهف مظلم، فعاشوا لم يروا من الحياة سوى الظلال التى ترتسم على الجدار، وذلك من خلال فتحة الكهف المواجهة له، فهم يرون ظلالاً لأشخاص وأشياء.. يعتقدون أنها هى الحقيقة لأنهم لايرون سواها، ولكن ماذا لو استطاع أحد هؤلاء أن يفك قيده ويتسلل من الكهف؟ أعتقد أنه سوف يرى الناس على حقيقتهم، وليس من خلال الظلال، التى يظن عن غير وعى إنها هى الحقيقة!!


وعلى المستوى النفسى يحتاج كل إنسان إلى آخر، يصغى إليه بلطف ويرشده، ولعل السبب فى أن كثيرين يشعرون بالانعزالية هو: إنهم لا يجدون أُذن عطوف، ولو وجدوا من يتفهم مشاعرهم ويقرأ أفكارهم.. لاستطاعوا أن يتخلصوا من كبت شديد تراكم على مر السنين.


ولو تأملنا المراحل المختلفة التى مر بها عالم النفس الشهير" فرويد Freud " لوجدنا أنها انتهت إلى الإنصات للمرضى، فبعد أن استخدم العلاج بالكهرباء والمنومات ووسائل أُخرى.. لجأ إلى التفاعل العاطفى، وببساطة بدأ ينصت لمرضاه وهم يحكون له مشاكلهم.


فإن كان الله يعرف احتياجتنا النفسية، ورتب لنا سر عظيم هو " سر التوبة والاعتراف " فلماذا لا نستفيد منه؟! لماذا نذهب إلى الأطباء، وندفع أموالاً قد تفوق طاقتنا؟! أليس أفضل أن نذهب للطبيب بعدما يفشل الكهنة!


أما التوبة الصادقة فهى التى تكون مصحوبة بالندم، فما هو الندم وما الفرق بينه وبين عذاب الضمير؟ إن الندم هو إقرار بالخطأ وفى نفس الوقت تخطيه، فالندم محاولة لتجاوز الماضى، وذلك بالنظر إلى الأمام والتطلع نحو المستقبل..


أما عذاب الضمير، فهو أسف على ماضٍٍ سئ، ولكنه أسف لافائدة منه ولا فاعلية له، هو تألم يجعل الإنسان يقول بمرارة: " آه لو لم يحدث هذا ولكن يا للأسف لقد حدث!! " ولهذا فإن عذاب الضمير هو أسف على خطأ بدون رجاء.


أتذكرون يهوذا الإسخريوطى! لقد اعترف علناً أمام رؤساء الكهنة والشيوخ بجرمه قائلاً: " أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً "، كما أنه طرح الفضة فى الهيكل وانصرف، ولكنه فى النهاية " مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ " (مت27 :3-5).


- إن عذاب الضمير يوجهنا نحو الماضى الأليم،
أما الندم فيوجهنا نحو المستقبل المشرق المنير.

- عذاب الضمير يجعلنا ننظر إلى فشل اليوم،
أما الندم فيجعلنا ننظر إلى نجـاح المستقبل.


نستطيع أن نقول:إن التوبة تؤكد لنا أن كل شئ قابل للإصلاح، فأنا لست مسمراً فى ماضٍ إلى الأبد، بل يمكنني أن أصلحه وأتجاوزه، وفى هذا تكمن البشرى العظيمة، وقد أعلن المسيح أُن الفداء أمر غير مستحيل، والمستقبل مفتوح، والإنسان ليس حبيس خطئه أو ماضيه.

ليست هناك تعليقات: