ما هي العاطفة ؟
العاطفة هى شعور وجدانيّ، يدفع الإنسان إلى الميل نحو شئ ما، قد يكون شخصاً أو جماعة، وقد يكون مادياً أو نفسياً.. ولهذا يُقال عَطِفَ إليه أي مال إليه.
ولأنَّ العاطفة نزعة مكتسبة تكونت بالتدريج، فهى إذن تتأثّر بالوسط العائليّ والاجتماعيّ، وكل ما يُحيط بالفرد ويرتبط بهم. كما أنَّ التدين المستقيم والحياة الروحية السليمة، والثقافة، وأساليب التربية.. لها الدور الأعظم في استقرار واضطراب عواطفنا.
أمَّا طريقة التفكير فلها دور هام في نمو وتقوية العاطفة، فالإنسان الناضج يستطيع بفكره السويّ، أن يُقوّى عواطفه الإيجابية، ويتخلص من عواطفه السلبية، هنا يأتي دور الإيمان والإرادة.
وتأتى كلمة عاطفة في اللغة الإنجليزية بمعنى شعور عقليّ، هو محصلة ما يُفكّر فيه الإنسان ويشعر به بخصوص موضوع معين.
إلاَّ أنَّ العاطفة لا تعنى الشعور فقط، إنَّما العاطفة حالة شعورية يصحُبها نشاط متواصل، فالأُم تشعر بحُب شديد نَحو أولادها، وهذا الحُب الفريد هو الذي يدفعها إلى مداومة العمل من أجلهم، ولهذا لا يمكن أن نفصل العاطفة عن العطاء الذي يُحدد مستوى العاطفة.
وتُعد " النفس " هى مركز العاطفة وكل الغرائز البشرية، فالإنسان يتكون من: نفس وروح وجسد، فالجسد معروف، والروح تختص بعلاقة الإنسان الروحية بالله، أمَّا النفس فهى عنصر الغرائز، فأنا أُحِب بنفسي وأكره أيضاً بنفسي..
ولو تعمَّقنا في دراسة النفس البشرية، لوجدنا أنّها تتكون من ثلاثة مراكز ألا وهى:
- مركز العقل: وهو المسئول عن التفكير والتحليل والاستنتاج.
- مركز الإرادة: وهو المسئول عن إتّخاذ القرارات والاختيارات.
- مركز العاطفة: وهو المسئول عن المشاعر والانفعالات والرغبات.
وهذه المكونات الثلاثة لها شقين: شق إيجابيّ وآخر سلبيّ، ويبدو هذا واضحاً عندما يتَّجه الإنسان بعاطفته، نحو أشياء مُدمّرة تقوده إلى الهلاك.
العاطفة والانفعال
وربَّما يخلط البعض من السطحيين وغير المتعمّقين، بين: العاطفة والانفعال رغم الفرق الواضح بينهما! فالعاطفة هي شعور مكتسب تكوّن بالتدريج، ولهذا فهو يحتاج إلى جهد كبير، إذا كان لدى الإنسان رغبة أن يتخلّص منه.
أمَّا الانفعال فهو مجرد شعور عابر، يزول أثره بزوال المؤثّر، فقد يقع بصر شخص ما على منظر مفزع فينزعج لرؤيته، ثم سرعان ما يهدأ ويزول انفعاله ما أن يبتعد عن هذا المنظر.. أو قد تتأثر لرائحة طعام شمّتها عندما كنت سائراً في الطريق، فما أن تعبر هذا المكان، ويتلاشى أثر الرائحة فسرعان ما يهدأ الانفعال..
وغالباً ما يكون الانفعال مصحوباً بعلامات فسيولوجية مثل: سرعة ضربات القلب، نشاط زائد في الغدد التي تفرز العرق، تغييرات الكيميائية في الدم... إلاَّ أنَّ هناك حالات كثيرة تنفجر فيها العواطف انفجاراً بركانياً، وتسيطر على الشعور من دون إنذار سابق، ولهذا تأتى كلمة عاطفة - احياناص - بمعنى: انفجار لشعور قوى، قد يكون حُب أو كراهية أو غضب..
فهل مثل هذه التجربة تعد انفعال أم عاطفة؟ قد تكون مجرد انفعالاً عابراً، وقد تكون عاطفة قد مرت بمراحل الكمون الباطني الخفيّ، وإن كان ظهورها فجائياً إلاَّ أنَّ جذورها قديمة، إنَّها شبيهة بالقلق الغامض، الذي لا يُعرف له سبب واضح! ولو تأملنا كلمة انفعال في اللغة اللاتينية، لوجدنا أنَّها مشتقة من فعل لاتينيّ يترجم في لغتنا " موتور " ومعناه: " يتحرك "، وفى هذا إشارة إلى أن كل انفعال يتضمن رغبة في القيام بعمل ما، وهل يتحرك الإنسان إلا لعمل شئ ما؟
ففي حالة " الغضب " مثلاً: يتدفق بقوة الدم إلى اليدين، لكي يجعلهما قادرتين بصورة أسهل، للقبض على سلاح أو ضرب عدو، كما تندفع كمية كبيرة من هرمون الأدرينالين، فيتولّد كم هائل من الطاقة يكفى للقيام بعمل عنيف.
وفى حالة " الخوف " يندفع الدم إلى عضلات الساقين فيسهل الهرب، والوجه يصبح أبيض اللون شاحباً لأنَّ الدم هرب منه. أمَّا في حالة " الدهشة " فالحواجب تُرفع لتسمح بنظرة شاملة أوسع، ودخول مزيد من المعلومات حول ما يحدث بما يساعد على اختيار أفضل فعل مناسب للموقف.
تكوين العاطفة
لو سؤلنا: ما هو الإنسان؟ لكان جوابنا: الإنسان هو مجموعة من الميول والرغبات تريد أن تخرج من سجنها لتصير شيئاً في عالم الواقع، وفى تربة هذه الميول وتلك الرغبات تنبت العاطفة، التي تنمو وتقوى تحت تأثير الألفة والعادة.
فمن المهم أن نعرف أننا بشر تتحكّم العادة فينا وتوجه سلوكنا، والعادة لها ارتباط وثيق بالعاطفة فعندما نفكر بطريقة ما، أو نقرأ بطريقة ما.. فنحن نرسّخ في أنفسنا عادة تجاه شئ ما، ذلك كمن يحرث حقلاً فكل حِراثه تُحدث في الأرض عمقاً جديداً..هذا وقد صور لنا عميد الأدب العربي الدكتور " طه حسين " في قصة " الحب الضائع "، السُبل المختلفة التي يسلكها الحب في بداية تكوينه وتطوره:
فها مادلين فتاة في العشرين من عمرها، يُهيّأ لها والدها ظروف زواجها بدون أن تعلم، غير أنّها تشعر شعوراً غامضاً بأنَّ هناك أمراً جديداً يُدبَّر، وهذا الأمر يخصّها، وسوف يُحوّل مجرى حياتها، إلاَّ أنَّ غموض الموقف يُوّلد فيها شيئاً من القلق، لكن ضباب القلق ينقشع عندما استشفّت أنَّ أبويها يُدبّرا لها احتياجات الخِِطبة، فما كان عليها إلاَّ أن تنصرف كُليّة، عن التفكير في الشاب المجهول، ولمَّا تضايقت بهذا الجهل أطلقت العنان لخيالها فاستمرت تُفكّر في الشبان الذين تعرفهم، فتتحدث إليهم وتمتحن سيرهم..
ولكن مثل هذا الهُيام الخياليّ لا يلبث طويلاً حتى يُثقّل نفسها، فكرهت التفكير في الزواج، وتمنّت أن ينكشف هذا الغموض، ويتاح لنفسها الهائمة غاية تقف عندها، وبعد هذا الانتظار الطويل، تنكشف العاطفة وتظفر مادلين بموضوعها، وها هى تصف ما شعرت به عندما رأت حبيبها لأول مرة، تقول مادلين: نظرت إلى شخصه فامتلأ قلبي وسمعت صوته ففتنت به نفسي.
ولكن الميل لا يعمل منفرداً، فالميول أو الانفعالات أو العواطف ترتبط معاً، والسؤال هنا: كيف تنمو العواطف وتتطور من مرحلة بسيطة إلى مرحلة مركبة؟ نُجيب بأنَّ العاطفة تتكون عندما تُثار عدة غرائز معاً، فأكثر من غريزة تستثار فى موقف معين، وبتكرار هذا الموقف تتكون العواطف لدى الطفل والكبير، ولنأخذ على سبيل المثال كيفية تكوين عاطفة الحُب لدى الأم نحو ابنها:
في البداية تكون هذه العاطفة عبارة عن تركيز شديد، من الأم نحو العناية بطفلها الصغير والضعيف الذي أقل إهمال أو تقصير قد يقضي على حياته، وهذا التركيز يسبب لها انفعال راقي ألا وهو: " الحنان " نحو طفلها، فمن المعروف أنَّ كثرة التفكير في شئ يجعل الإنسان يُحِبَّه، وإذا أحبَّ إنسان شيئاً فكَّر فيه وقتاً أكثر! كما يُسبب لها أيضاً " غضباً " إذا أخطأ، أو " عتاباً " إذا تشاقي، أو " سروراً " إذا فرح، أو " أملاً " أو " قلقاً " أو " ألماً " إذا مرض.. وهذه كلها انفعالات سامية لولاها ما اهتمت الأُم بابنها!
وهكذا يتبين لنا إلى أي حد تكون العاطفة في شكلها المعقد، ليست مصحوبة بانفعال عطف فقط، بل يدخل في تركيبها عدة انفعالات أُخرى، تزداد حِدتها كلّما اشتدت عاطفة الأم نحو ابنها! وهكذا نستطيع أن نصف كيفية تكوين عاطفة الحب بين الجنسين: فهذه العاطفة التي تبدو لنا بسيطة، هى في الحقيقة عاطفة مركبة، ويدخل في تكوينها عدة انفعالات مختلفة. ففي البداية، وبمجرد أن يجلس شاب مع شابة يتولّد لديه شعور دافيء بـ " الحنان "، وهذا الشعور اللذيذ يتولّد نتيجة التجاذب الغريزيّ بينهما، فإذا تكررت اللقاءات وكثُرت الاتّصالات.. ظهر انفعال جديد ألا وهو " الخوف " الشديد عليهما، خاصة إذا تعرّضت لخطر ما، أو أصابها ألم، أو مَرَضتْ... وإذا تعمَّقت العلاقة بينهما أكثر، يتولد انفعال ثالث وهو " الغيرة "، إذا وجد منافس له في قلب الفتاة، ويظهر إثر هذه الانفعالات جميعاً انفعال رابع وهو " حب التملك "، وهذا يدفع الشخص إلى التقدم لكي يتزوجها!
وعكس الحب نجد الكراهية ، وهى أيضا وليدة عدة انفعالات، ولنفترض أنَّ هذه العاطفة تكوَّنت لدى تلميذ تجاه مدرسه، فما هى المراحل التي مرت بالتلميذ، حتى كره المعلم الذي كان يجب أن يُحِبه؟! عادة ما تبدأ هذه العاطفة بانفعال الخوف ، حينما يجد الطفل نفسه أمام مدرّس صارم، ثم ينضم إلى هذا الانفعال انفعالات أُخرى مثل: الغضب الذي يُثيره عقوبات المدرّس المتكررة، و الضرب لأتفه الأسباب وأقلها، والفرح الذي يُثيره إصابة المدرّس بمكروه، والنفور عند رؤيته وسماع صوته ..
ومن المعروف أنَّ أية عاطفة تكون مُحاطة بمجوعة من العواطف الأُخرى، بعضها مؤيد لها وبعضها الآخر مناهض لها، وتُصطدم العواطف بشتى العقبات التي يختلقها الذهن حيناً، والتي تُثيرها الأوضاع الاجتماعية حيناً آخر. إلاَّ أنَّ للعاطفة منطقا يخالف منطق العقل، فالعقل يُقرر أنَّ الضدين لا يجتمعان معاً، ولكن قانون العاطفة هو اجتماع الضدين، ويؤكد هذا حوادث القتل وحالات الطلاق التي يرفضها العقل بكافة أشكالها! ومن الواضح أنَّ هناك صراعاً لا ينتهي بين العواطف المختلفة.
وهذا ليس بغريب، إنَّما الغريب وجود صراع في طيات العاطفة الواحدة نفسها! فكل عاطفة تحمل في ثناياها بذور العاطفة المناقضة لها!! فالشفقة في بعض الأحيان تكون ممزوجة بشيء من القسوة، والتعذيب يتخلله قليل من العطف، والحب لا يخلو نسيجه من خيط رفيع هو الكراهية، وعناصر الكراهية تظهر حيناً وتختفي حيناً آخر، وهى تعمل أحياناً عملاً دفيناً دون أن يشعر به الشخص. فلا أظن أنَّه توجد لذات خالصة على الإطلاق، فالثنائية أو التناقض أصبحت سمة الإنسان بعد السقوط.
ويمكننا أن نلمس هذه الحقيقة في قصة " دعاء الكروان " للدكتور " طه حسين " عندما قال: أصبح من أعسر الأشياء وأشقّها أن تُفكّر الفتاة في هذه الحالة تفكيراً هادئاً مجرداً، لا يتأثر بهذه العواطف العنيفة الحادة، التي تتصـور مرَّة كأنَّها النفـور الذي لا نفور بعده، وأُخرى كأنَّها الإقبال الذي لا إقبال بعده، وهى في الحالتين شئ واحد تختلف عليه الصور والأشكال دون أن يتغيّر جوهره الذي هو الحُب!
ولأنَّ هناك صراعاً بين العواطف، فكل عاطفة تُريد أن تكون هى المُسيطرة، التي توّجّه شخصية الفرد وسلوكه، فمن الملاحظ أنَّ أفراداً كثرين تكون لديهم عاطفة سائدة أو مسيطرة، تتحكّم في بقية عواطفهم الأُخرى وتُوّجه سلوكهم. فقد تُسيطر عاطفة " حُب المال " على إنسان، فتجعله يتكالب بصورة وحشية على جمعه، وقد تكون العاطفة السائدة لشخص آخر هى " حُب الذات " المرضى، أو " حُب الشهرة ".. وهناك من يسمو بعواطفه، فتسيطر عليه أسمى عاطفة ألا وهى: حُب الله .
هذا وقد استطاع الكاتب الفرنسي " بلزاك "، أن يُجسّد لنا في إحدى رواياته، صورة حية لإنسان تُسيطر عليه عاطفة الأُبوة، بصورة فريدة، فقد كانت أُبوته لا تعرف غير الحُب والبذل، حتى إنَّه لم يعرف في الدنيا شيئاً اسمه حُب النفس! وفى ذلك يقول بلزاك على لسان الأب جوريو:
إنَّ حياتي قد اخُتزلت في هاتين البنتين، فإذا نعمتا بالحياة فإني ناعم البال، وإذا كانت لهما بساط من حرير فما الضرر أن تكون أرضى عارية، وإذا كانت ملابسهما من حرير، فما الضرر لو لم أكتسِِ، فإني لا أشعر بالبرد إذا هما نعمتا بالدفء.. ولكنّك لا تدرك معنى ما أقوله لك الآن إلا حين تصبح أباً، فحينئذ ستحس أن دمك يتحرك في عروقهم، والدم الذي في عروقك يضطرب بانفعالهم، وأن أعصابك تتحرك بحركات جوارحهم وخطوات أقدامهم، فنظرة حزن في إحدى هاتين البنتين تكفى لتجميد دمى، إنني لا أتمنى شيئاً سوى سعادة بنتيَّ!
عوامل تؤثر في تكوين العاطفة
قلنا: إنَّ العاطفة تتكوّن نتيجة عدة انفعالات، اجتمعت معا حول موضوع ما، إلاَّ أنَّ هذه الانفعالات لابد أن تقترن بعوامل أُخرى، من شأنها أن تُنظم هذه الانفعالات في تركيبات تُكوّنْ العواطف، ولَعَلَّ أهم هذه العوامل هى: التكرار، التقليد، الاقتران.
فلا يكفى لتحويل الانفعال إلى عاطفة أن يحدث مرة واحدة، فلابد من " تكرار " حدوثه حول نفس الموضوع، الذي تعلق به الشخص. فتكرار انفعال الحنان في مواقف متنوعة، يُعتبر هو النواة التي تجمعت حولها الانفعالات الأخرى المكونة لها. وهكذا حُب الفتى لأي فتاة، لا يتكون من مجرد لقاء، فلابد من عده لقاءات حتى تتكشف الشخصية، وتتجمّع باقي الانفعالات الأُخرى الخاصة بالحب.
وهنا قد يعترض البعض قائلين: وماذا عن الحب من أول نظرة؟ أي لقاءات تكررت حتى تعمق الحُب؟ الواقع أنَّ الحُب من أول نظرة، الذي يظهر فجأة كالبركان الذي ينفجر دون إنذار سابق، ليس حُبّاً بل هو انفعال طاريء، يظهر كالفوار عندما يوضع في الماء ثم سرعان ما تهدأ فورته! إنه أشبه بالخدعة السينمائية، التي تري فيها الفتاة المُمثّل علي غير حقيقته، وقد تُحِبه، لا لشخصه وإنَّما لدور قد مثله! وبالإضافة إلي التكرار.
هناك " التقليد " الذي يظهر أثرة في تكوين العواطف الاجتماعية كالتدين والوطنية.. حينما يشب الفرد فيجد قومه وقد سيطرت عليهم عاطفة دينية، فينساق في تيارهم ويُقلّدهم في طقوسهم ومظاهر تدينهم، فتتكون لديه عاطفة حُب نحو الله لا تقل صدقاً عن عواطفهم.
بالإضافة إلى ما سبق، يلعب " الاقتران " أو التشابه، دوراً هاماً في تكوين عاطفة حول موضوع ذي صلة بآخر، سبق أن تكوّنت لدى هذا الشخص عاطفة مماثلة نحوه، فمثلاً: قد يفقد إنسان والده.. فإذا رأى رجلاً يشترك مع والده في صفات معينه، تُثار لديه عاطفة الحُب والاحترام نحو ذلك الرجل، رغم أنَّه لا يعرفه ولم يسمع عنه شيئاً من قبل..
وبسبب هذا التشابه قد يضل البعض، فهناك شابات فقدن آبائهن فما أن وجدن من يشبههم ارتبطن بهم عاطفياً! إنّها عاطفة أبويه وإن استترت تحت الزواج! ولهذا بعد فتره قليلة سيُرفع الستر وتنكشف الحقيقة وينتهي الزواج الوهميّ بالانفصال!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق