لقد ضل كثيرون بسبب عدم فهم هدف النسك أو كيفية الوصول لحياة نسكية متزنة، يستطيع الإنسان من خلالها أن يحيا مع الله، وفى نفس الوقت يحافظ على جسده الذى هو عطية صالحة من خالقه.
يجب أن نعرف أن كلمة نسك " قبطية " اللفظ، وتكتب هكذا " NICWK نى سوك " وهى تعنى: قطع كل ما يعوق مسيرتنا الروحية عن طريق قمع شهوات النفس والجسد، وبالمقابل ممارسة كل ما يقربنا من الله... ويُعد الجانب الأول وسيلة للوصول إلى الثانى الذى هو الهدف.
ولهذا يختلف النسك فى المسيحية، عنه فى الديانات الأُخرى، ففى البوذية توجد ممارسات كثيرة، تُميت شهوات الجسد وتسيطر على غرائزه، ولكنها لا تقربهم إلى الله، والسبب ببساطة: إنهم لا يعبدون الله، بل آلهة أخرى، فماذا انتفعوا من ممارستهم...؟!
نؤكد أن النسك شئ غريزى فى الإنسان، ولكنه غريزة متقطعة، فقد آكل لحوماً ثم سرعان ما أملها فألفظها.. ومن ثم فإن النسك لا يمثل غاية فى ذاتها، فهو يحتاج لتقويته إلى بعض الغايات الأُخرى الجذّابة.
ولهذا فإن النسك الذى لا يقرب الإنسان إلى الله هو وثنية لا مسيحية، وكل الذين أُصيبوا بمسة عقلية بسبب نسكهم، هم مرضى نفسانيين وإن ارتدوا زى العقلاء، فما أكثر الذين يرتدون ثياب الملائكة وهم ذئاب خاطفة!
ويميز الأدب الرهبانى بين النسك الإلهى والنسك الشيطانى، فالأول يتصف بالتعقل والاعتدال، بينما الثانى نسك بلا تفكير ولا تعقل ومغالى فيه.. وهو لذلك لا يقود إلى نقاوة القلب، بل إلى الذاتية الشيطانية هنا يظهر دور المرشد والإفراز الذى يسميه القديس نيلوس السينائى " ملكة الفضائل" ألم يقل الأنبا بيمن مرة لأنبا إسحق: " لقد تعلمنا ألا نكون قتلة للجسد بل قتلة للشهوات ".
قديماً كان الرهبان يُدعون " نساك "، وقد كانت هذه الكلمة تُستخدم فى الأدب اليوناني - عادة - للإشارة إلى الإنسان الذى يتدرب أو يمارس إحدى الفنون.
ولهذا تأتى كلمة نسك " أسكسيس Askesis " فى اللغة اليونانية بمعنى: تلين الشئ بالتمرين، وكذلك العمل فى مادة خام لاستخراج أفضل ما فيها.
فالنسك إذن فن، بل فن الفنون، وذلك عندما يكون وسيلة لا غاية، من خلالها يصل الإنسان إلى قلب الله، وليس إلى المجد الباطل أو حب الظهور.
يجب أن نعرف أن جهادنا النسكى، هو ضد شهوات الجسد، وليس ضد الجسد نفسه كما يظن البعض، ولهذا يقول بولس الرسول: " فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ كَمَا الرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ " (أف29:5).
إذن فالنسك جهاد ليس ضد الجسد بل لأجله، فقد قال أحد الآباء: " أُقتل الشهوة الجسدانية لكى تقتنى جسدا ً" فإن فهمنا النسك كجهاد ضد الوجه القبيح للنفس، فإنه فى هذه الحالة لا يكون استعباداً للذات، بل الطريق المؤدى إلى الحرية الحقيقية.
وهو بهذا يكون مطلوباً من كل المسيحيين، فالراهب كالمتزوج من جهة وسائل الخلاص، فكلاهما يكره الخطية ويبتعد عنها بنفس القدر، إذن جوهر الحياة النسكية: كالعفة وممارسة الفضائل، والطاعة، والمحبة، لا يخص الراهب وحده بل كل المسيحيين!
لكننا نعترف بأن متطلبات الحياة النسكية المستمرة والحياة الاجتماعية، أمران يصعُب على كل إنسان أن يجمع بينهما، ولهذا عندما انتشرت المسيحية كان النسك مجرد قاعدة يتبعها الفرد، وهو يعيش بين رفقائه، ثم بدأ الناسك يفرز نفسه جزئياً عن مجتمعه وسكن فى قريته أو مدينته منفرداً، ثم فى مكان بعيد فى البرية، ليتفرغ للصلاة الدائمة، التى لا تكتمل إلا من خلال السكون.. وأخيراً عندما جذبت شهرة الناسك عدداً من الناس الذين يريدون الاحتذاء به، وجد نفسه رأساً روحياً لمجموعة من النساك، وكان هذا نواة الحياة الرهبانية، التى أسسها أنبا أنطونيوس.
يمكن تشبيه النسك بعمل دودة القز، التى تنسج خيوط كفنها وقبرها بفمها، ثم تدفن ذاتها فى ذلك القبر، إلا أنها سرعان ما تصبح فراشة تخترق قبرها وتفلت من قيودها وتحلق فى الفضاء، والعجيب أنها بعد أن أصبحت فراشة اكتسبت جمالاً فريداً، لم تستطع أن تتمتع به وهى دودة داخل الشرنقة.
وهكذا أيضاً الإنسان، بنسكه المتزن يزداد جمالاً روحانياً، ويتحرر من قيود ورباطات شهواته، ويستطيع من خلال ممارساته الروحية أن يتأمل فى السمائيات.. ويتعامل مع الناس ببساطة الأطفال..
أيضاً الحطب الطرى عندما يوضع فى النار، فإنه فى البداية يصبح أسوداً، ثم يبدأ بالبكاء حيث يفرغ كل ما فيه من ماء دمعة دمعة، ولكنه لا يلبث أن يصبح شبيهاً بالنار المحيطة به،ولكننا نخطئ كثيراً عندما يقتصر نسكنا على قمع شهوات الجسد فقط، تاركين شهوات النفس ترمح فى أرضنا وتفعل بنا ما تشاء، فماذا ينتفع الإنسان المتكبر من صومه؟!
ولهذا نجد لدى الفلاسفة القدامى ما يُعرف بالتصوف الأخلاقى، إذ كانوا يعتقدون أن كمال الإنسان لا يتحقق إلا عندما يصل إلى الحرية الباطنية، التى تقوم على اللامبالاه إزاء أى متعة - فردية كانت أم جماعية - لأن هذا يتيح للنفس ألا تتأثر بظروف العالم الخارجى المتقلبة، ولا يجعل الإنسان عبداً، سواء لغيره، أو لعادة ذميمة تتسلط عليه.
وقد مارس الفلاسفة القدامى هذا النوع من التقشف الأخلاقى، ومعلموا الآداب جعلوه محور تعليمهم!
وفى القرن الثانى الميلادى أوجزت جماعة مسيحية عُرفت باسم الغنوسيون - أو العارفين كما يترجم اسمهم- مجمل تعاليم التصوف فى ما قد دعوه بالأختام الثلاثة ألا وهى:
" ختم الفم " ضد الطعام والشراب و" ختم الجسد " ضد الرفاهية، و" ختم الحشا " ضد العلاقات
الجنسية.
إلا أن النسك لكى يستمر، لابد أن تصاحبه حالة فكرية، يكون فيها الإنسان لديه رغبة حقيقية لممارسة النسك، لأن التعلق يكون بالفكر، والزهد فى المتعلقات يرجع أيضاً إلى طبيعة الفكر، فمن المعروف أن ما يرفضه الفكر لا يُحب الإنسان عمله أو اقتناءه..
كما أن الفكر هو الذى يقوى الإرادة، التي تساعد الإنسان أن يبتعد شيئاً فشيئاً عن الأمور الزائلة، إلى أن يصل إلى حالة يكون فيها الفكر خالياً من كل طمع، فى الأشياء التي شاهدها وسمع عنها.
هناك ثلاثة أشياء تجذب الفكر وتأسره وهى: المال، الشهرة، المرأة، وكلها تعوق النسك !!
ويُعد العمل والصلاة هما جناحى الحياة النسكية، فعلى الأول نُقشت الآية " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فى13:4) وعلى الثانى " وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئا ًفِي الأَرْضِ " (مز25:73).
وإن كانت الصلاة تمثل أو تُشبع جانب الروح، فإن العمل يمثل جانب الجسد، وكلاهما يتمان فى وقت واحد وانسجام تام.
فالجسد يشارك الروح فى خبرتها الروحية، وفى تذوقها للأمورالإلهية، فتصير حركاته تعبيراً عن السمو والرفعة، فتراه هادئاً ، وديعاً ، مسالماً...
وكأن الإنسان عندما يحيا مع الله، يصعد على أجنحة نسكه المتزن من الأرض إلى السماء، ليُمسح على جبينه مسحة روحية، ثم يعود إلى الأرض مرة ثانية ليحيا، لا كإنسان بل كملاك يرتدى زى إنسان!
قد نكون على صواب لو قلنا: إن الجسد هو أداة للروح، فكل طاقات الجسد تساهم فى انطلاق الروح، وأى إهمال له يحد من حركتها وقوة انطلاقها.
فإذا تثقل الجسد بالطعام والشراب، عجزت الروح عن القيام بواجباتها! فتضعف الصلاة وتفتر، وتنحجب التأملات.. ولهذا يقول القديس بولس الرسول: " لَكِنَّ الَّذِينَ هُـمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَـدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ " (غل 24:5).
إلا أن صلب الجسد لا يعنى قتل أنفسنا بقتل كل نشاط الجسد، بل رفض كل شهوة خسيسة، وكل فعل وضيع يحط من شأننا كأولاد لله، فالجسد ليس شراً ولهذا نذله ونعاقبه على جرم ارتكبه، فالله خلقه حسناً كسائر المخلوقات الأُخرى.
إنما استعمالنا الخاطئ له، هو الذى يدنس الجسد، ويجعله وسيطاً للشر، فقد أبسط يدي للإحسان وأُقدم كل ما هو صالح للآخرين، وقد أصفع بها وجه أخي صفعة قاتلة، فالاستعمال الأول يقدسها بينما الثانى يدنسها.
ولكن من أين جاءت تلك النظرة الخاطئة للجسد ؟! لنرجع إلى عصور ما قبل المسيحية، لنعرف أن الفلسفات القديمة كانت ترى فى الجسد شراً!
وقد تبعتهم جماعة الأسينيين اليهودية، التى عاشت فى عزلة عن العام وكره شديد له، معتبرين العالم شراً يجب اجتنابه والابتعاد عنه!
وقد نادى الغنوسيون بأن الجسد شرير لأنه مادة !! ولذلك يجب أن يُقمع ويُرذل ويُحتقر.. فمنعوا الناس من الزواج وذلك من أجل كبت غرائز الجسد، وحرّموا أكل أطعمة كثيرة.. وهذا واضح من قول معلمنا القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: " مَانِعِينَ عَنِ الزِّوَاجِ، وَآمِرِينَ أنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أطْعِمَةٍ، قَدْ خَلَقَهَا اللهُ لِتُتَنَاوَلَ بِالشُّكْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَارِفِي الْحَقِّ " (1تيمو3:4)! ولكنهم سرعان ما خرجوا بمعتقد أخلاقى آخر يتعارض مع هذا المعتقد تماماً فقالوا: بما أن الجسد شرير فلا يهم ما يفعله به الإنسان، إذن ليُشبع كل إنسان شهواته وبشراهة!
وفى أيام الرسل كانت هناك جماعات من أتباع هذه الفلسفات، يجولون فى مختلف الإمبراطورية الرومانية، مرتدين ثياباً خشنة، وحاملين
أكياس متسولين وعصى من شوك، مرددين على مسامع الناس أخلاقياتهم الهزيلة، وللأسف الشديد التهب بعض المسيحيين غيرة واندفاعاً لهذا النوع من السلوكيات!
ونحن لا ننكر أن الرسل عندما انطلقوا للكرازة، كانوا يتجولون بشكل مماثل، متحررين من كل الأمور الدنيوية، وكانوا يكرزون بنكران الذات، إلا أن البعض لم يميزوا بين جوهر كرازة الرسل وهو (التجرد فى سبيل الملكوت) وتعاليم أولئك الفلاسفة وهو (رذل العالم عن كره)!
أما فى ما يخص الزواج، ففى الفلسفة الرواقية نجد تركيزاً على أهمية العقل والوعى لدى الإنسان، فى حين أن العلاقات الجنسية كانت تُدعىالشلل العقلى، ولهذا يجب الامتناع عنها لأنها تحرم الإنسان من وعية الكامل.
ولكن المسيحية نادت بأهمية وقدسية الزواج، وقد اعتبرته سر من أسرار الكنيسة المقدسة، يحصل من خلاله المؤمن على نعمة روحية.. ألم يقل معلمنا بولس الرسول: " هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ " (أف 32:5)!!
أما كون المسيحيون فى بداية نشأة المسيحية، قد قبلوا العزوبة، وكرسوا البتولية نمط حياة، أو حبذوها، على مثال سيدهم ومعلمهم المسيح، فهذا فى الحقيقة إنما يرجع لسببين:
الأول: التحرر فى سبيل الكرازة بالملكوت.
الثاني: اعتقادهم قرب نهاية العالم.
هذه بعض تعاليم الفلاسفة فماذا عن تعاليم المسيح ؟
إن من يتأمل حياة المسيح، يرى أنه عاش الحياة بعد أن حررها من آلامها، فكانت حياته بسيطة لا يشوبها الطمع، أو يرهقها الجشع، أو تمزقها الأنانية، عاش على الكفاف شبعاناً قنوعاً، وقد رضي بالقليل، لأنه امتلك غنى النفس، ولهذا تمتع بالحياة كأنه يملكها كلها.
فاستنشق الهواء الصافي بين الحقول، وقضى وقتاً فى البساتين يتأمل جمال منظرها، ويتمتع بعبير رائحتها، وكم جلس تحت كروم العنب يتأمل فى ذاته الكرمة الحقيقية.
وطالما جلس على شواطئ صور وصيدا.. كانت عيناه تلتقى بنجوم السماء وهى تسبح فى المياه..
وما كان أحب إليه من الجلوس على قمم الجبال، كأنه حلقة الوصل بين السماء والأرض...
ولهذا أوصي تلاميذه بالتحرر من كل قيود الحياة، إن كانوا يريدون أن يدخلوا الملكوت، فكل ما يبعدنا عن الله، وكل ما يستعبدنا، وكل ما يلهي قلوبنا عن حب الله.. يجب بحسب تعاليم السيد المسيح يجب رفضه ونبذه.
ولكي نكون أقوياءً وأسياداً وأحراراً، يوصينا السيد المسيح بأن نبغض، أي نرفض أي شئ، أو شخص.. يحاول أن يستعبدنا أويقف حجر عثرة فى طريق خلاصنا (لو7: 26،27).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق