إنَّ العاطفة هى الرباط الذي يجمع البشر في وحدة منسجمة ولولاها لتحولوا إلي صخور بشرية، لكنَّ العاطفة مُعرَّضة للسقوط والانحدار والتشويه بفعل الخطية الساكنة فينا، هنا يأتي دور النعمة الإلهية التي تُغيّر طبيعتنا وتوّجّه عواطفنا.
إنَّ العاطفة كثيراً ما تطمس بصيرة الإنسان، وتتحايل علي عقله، وتتفنن في خديعته، وكأنَّها ساحرة ماكرة كدليلة التي خدعت شمشون! أتتذكّرون الابن الضال؟ أتعرفون كم قاسي من استبداد عواطفه؟!
في أحيان كثيرة تبدو العاطفة كالرجل النصّاب، الذي يختلق الشائعات، ويُموه الحقائق، ويُلفّق الأنباء ويمزج الحق بالباطل لكي يؤثّر على الناس ويقنعهم بآراءه التي هى عين الضلال، فإذا استجاب الإنسان استطاعت هذه القوة أن تسحقه، أو تُقيّده بحبالها القوية، فما من إنسان تسلّطت عليه العاطفة إلاَّ وأصاب مُحرّكه الخلل، وأصبح منقسماً علي ذاته، ضعيف الإرادة، لأنَّ العواطف السلبية مرض إذا تفشي في قلب إنسان أصاب إرادته بالعجز، وإن كان له قدرة على الاختيار، إلاَّ أنَّه عملياً: " لَستُ أَفعَلُ مَا أُريدُ بلْ ما أُبْغِضَه فَإيَّاه أَفْعَلُ! " (رو15:1).
إنَّها قمة المأساة أن يحيا الإنسان في تناقض وجدانيّ، خاصة عندما يعجز عن الاستغناء عمَّا يكرهه، ويتمنى لو استطاع أن يتخلّص منه!
ولكن سواء أردنا أو لم نرد فنحن مضطرون أن نحيا هذا التناقض، فإن وجودنا ما هو إلاَّ توتر بين حياتنا على الأرض والحياة الأبدية، بين الروح العاقلة والجسد الترابيّ، بين الوحدة الفردية والتعددية الجماعية، وإن كنَّا نسعى جاهدين لحل ما في حياتنا من تلك المتعارضات الأليمة، إلاَّ أننا نشعر بأنَّ الثنائية ضريبة باهظة يجب علينا أن ندفعها!
ويتساءل الإنسان عندما تُخدّره العاطفة: أتقدر هذه المرأة الساحرة أن تكون شريرة؟! هل بإمكان هذا الوجه الملائكي الشفاف أن يستر نفساً شنيعة وقلباً مجرماً قاسياً؟! هل يمكن لثعبان مُخيف أن يختبئ في جسم طائر جميل الشكل؟!
ويذهب الطائر الضعيف بنفسه إلى العنكبوت ليأسره بين خيوطه، وهو قابع في مكانه لا يتحرك! وقد يستيقظ النائم الغفلان أو لا يستيقظ على تلك الحقيقة المرّة ألاَّ وهى: إنَّ القصر البديع الذي يحيا فيه بين جدرانه تسكن الثعابين، وفى حجراته تستقر الأشباح! والأيام التي توهّم أنَّها بيضاء لياليها مُبطَّنة بالسواد!
ويُعد الحب من أول نظرة خدعة عاطفية خطيرة ومُدمّرة، وقد ضل بسببها الكثيرون والكثيرات، لأنهم لم يفطنوا إليها، فالإنسان قد يتأثر بصفة أحبَّها في آخرين، أو جمال جسديّ، أو موهبة، أو لطف في التعامل.. وهذا لا يمكن أن نطلق عليه لفظة حُب، لأنَّ الحُب الحقيقيّ يري في الآخر كل نواحي إنسانيته لا صفات فقط، فما هو الحُب من أول نظرة وما هي خطورته؟!
هناك عبارة تقول: نحن نُحب أشباه الأشخاص الذين أحببناهم من قبل، ونكره أشباه الذين كرهناهم من قبل، فالذي يحدث هو الآتي:
عندما تولد طفلة تبدأ في اللعب عادة مع الإخوة والأقارب، الذين يتميّز كل منهم بصفات وأشكال مختلفة، ونظراً لتعلّقها بطفل صغير مثلها، فهي تُحب لون الشعر الأصفر، إحدى سمات هذا الطفل نتيجة حُبَّها البريء له، ثم تكبر الطفلة فتنفتح على الجيران، وإذا بطفل يعطف عليها ويقاسمها لعبه وطعامه، فتُحبّه، وتُحب لون عينيه، وعندما تدخل المدرسة تعجب بزميلها المتفوق ذي البشرة البيضاء، ويستمر هذا الإعجاب سواء كان الإعجاب بالملامح أو الصفات.. إلى أن تصل الفتاة إلى سن المراهقة، وتدخل الكلية، وهناك تتقابل مع شخص يحمل نفس صفات الأشخاص الذين أحبتهم الفتاة من قبل: البشرة البيضاء، العينين الخضراوين، الشعر الأصفر.. فتُحب هذا الشخص، لا لشخصه، بل للصفات التي أحبَّتها في الآخرين من قبله، ثم بعد قليل تكتشف أنَّه ليس فتى الأحلام الذي تبحث عنه، فالحبيب يحمل نفس الصفات التي أحبَّتها في غيره، لكنه لا يحمل نفس شخصياتهم، ولا أخلاقهم، ولا تفوّقهم، ولا شيء مما كانت تتمناه..!
إنَّ هذا الحُب أشبه بالخدعة السينمائية، التي تُظهر لنا الأبطال على غير حقيقتهم، فقد تُحِب فتاة ممثلاً، لا لشخصه وإنَّما لدور كان قد مثله، فإن تسرَّعت وتزوجته وجدته شخصاً آخر، وهو هكذا حقاً لأنَّ الممثل شئ والدور الذي يمثله شيء آخر! ولهذا فإن الحُب الحقيقي يستلزم ثلاث مراحل ألا وهى:
+ النظرة التي من خلالها يُدرك الإنسان أبعاد الصورة التي أمامه بكل ملامحها.
+ التطابق ما بين هذه الصورة التي يراها أمامه، والصورة التي يرغبها أو يبحث عنها في وجدانه، وهذا التطابق يتم في مراكز المخ العصبية، ويحتاج إلى وقت، فربَّما تُعجب بفتاة لأنَّها تُشبه والدتك، وهنا تكون الكارثة لو أنَّك تزوجتها، لأنَّ هذا ما يُعرف في علم النفس بالعقدة الأوديبية!
+ ظهور علامات الحُب على الإنسان، حيث تزداد دقات القلب، وتحمر العينان، ويتلعثم اللسان.. عند رؤية الطرف الآخر.
إذن فالحُب الحقيقيّ يبدأ في مراكز المخ العصبية، وهو يحتاج لعدة مراحل، وهذه المراحل تحتاج إلى فترة زمنية، ولا يمكن أن تتم من النظرة الأولى كما يتوهم البعض.
ومن المعروف أنَّ الخيال يلعب دوراً هاماً في نشوء الحُب، والحُب الناضج هو الذي يتخطى شيئاً فشيئاً هذه الخيالات الدافئة، التي تكونت في الطفولة، ليقبل الآخر بواقعه وإمكاناته، ويُحبّه من أجل شخصه لا من أجل الأحلام التي نُسجت حوله.
وفى أحيان كثيرة يمر الإنسان بضيقة نفسية، أو مشكلة اجتماعية، ففي مثل هذه اللحظات الحرجة من حياته، يكون على أتم الاستعداد للتقبل المرضيّ، أو الاستقبال الشاذ، فالجهاز اختلت موجاته، وأصبح غير قادر على الاستقبال الصحيح، ولهذا فإنَّ أية شخصية يُصادفها في الطريق، تستطيع أن تؤثّر على عقله المضطرب، وتتملّك على قلبه الخالي من العزاء، إنَّه وهم الحُب لا حقيقته، أو قل: خِدعة عاطفية!
وهناك حالة يقع فيها المراهق يصح أن نُطلق عليها حُب الحب! إذ أنَّ طاقة عاطفية هائلة تكون قد تكونت لديه، وهى التي تتحكّم في كل أنشطته وتصرفاته، فما أن تُصادفه فتاة فسرعان ما يُعجب بها لمجرد أنَّها كلَّمته أو نظرت إليه.. وهو في الحقيقة لا يُحبَّها كشخصية متميّزة، وإنَّما يُحِب الحُب الكائن في أعماقه، ويريد أن يعيشه ولو للحظات!
كما أنَّ المراهق بحكم إمكاناته وخبراته المحدودة، لا يستطيع مواجهة الحياة بكل مشاكلها، فيهرب منها تحت ستار الحُب الوهميّ، الذي يشعر من خلاله أنَّه قد وجد المُعين الذي سيحل مشاكله، فما أن تنتهي أزماته النفسية حتى يشعر بأنَّ العاطفة التي كانت مسيطرة عليه تبددت، وهذا ليس بغريب لأنَّ عواطف الإنسان مُعرَّضة للانخداع وهى متذبذبة وغير جديرة بالثقة وتتأثر بالهرمونات فى فترة البلوغ، كما أنَّها تتأرجح بصورة مُرعبة بين الصباح والمساء وفقاً لراحتنا أو إرهاقنا..
إنَّ مثل هذه الحيل العاطفية الخبيثة، لا يمكن لنا أن نطلق عليها حُبّاً بالمعنى السامي لكلمة حُب، إنَّما هى حالة سلبية من التقبّل المرضيّ، يخضع لها الكثيرون دون أدنى مقاومة، كمثل جسدنا عندما نمرض فنقع تحت رحمة أول جُرثومة تُهاجمنا من الخارج!
ألسنا نرى كثيرين من الطلبة الراسبين والفاشلين، أو فئة المُطلَّقين، أو المتألّمين.. ما أن يجيء المؤثّر العاطفيّ حتى يقعوا في حُب ذلك الكائن الذي يتصادف وجوده معهم؟ إنَّه احتياج طاغٍ إلى المعزى أو المشجع أو حللال المشاكل، ولهذا لا يدوم، لأنَّه انفعال مؤقّت مرتبط بضيقة ما أن تنتهي فسرعان ما يتلاشى! شأنه شأن الميكروب عندما يتسلل إلى الجسم وهو في حالة ضعفه، فما أن نتغذى فسرعان ما يموت الميكروب!
والحق إنَّ مثل هذه الارتباطات العاطفية الوهمية، هى تعبير عن عجز الإنسان عن التخلّص من أفكاره القَلِقَة، ومشاكله الخاصة..نعترف بأنَّ العواطف هى التي تتحكّم في سلوك الإنسان، وهى التي تُحركه، إلاَّ أنَّه يجب أن يكون هناك تناغم بين: العاطفة والعقل والإرادة، فالعاطفة مهمة بالنسبة لعملية التواصل بين البشر، إنَّها النسيم الذي يُحرّك الأغصان البشرية بخفة متناغمة، لكنَّ الحكيم هو من يجعل عواطفه لا تتحكّم في كل قراراته، الطفل وحده يدع عواطفه تتحكّم بقراراته وتصرفاته!
وقد يوجد إنسان يُعاني من عقدة ذنب، فتصدر عنه أفعال يجعل الآخرين يضطهدونه، فمثل هذا يرتبط بإنسانة تُشبع ميوله المنحرفة، فيتشاجر معها لكي تُهينه، وفى مثل آلامه هذه يجد راحته!
ولعل سبباً أنَّ بعض النساء القاسيات، ينجحن في توليد عاطفة الحُب في نفوس أولئك المرضى، ولو سألتهم عن سر ارتباطهم بإنسانة غير سوية لعجزوا عن الإجابة، لأنَّهم لا يعرفون سر مشكلتهم النفسية! فلا تتعجب إذا رأيت رجلاً ارتبط بإمرأة تجلب له الشقاء لا الراحة، ومع ذلك يقول إنه يحبها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق