مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

إكليريكية الدير المحرق - الفصل الثانى عشر - الأرشيدياكون نجيب جرجس مدرّس العهد القديم - الراهب كاراس المحرقي



تتسارع الكلمات في مدحه، فقد عاش كشمعة مضيئة أنارت لكل من حولها، قلب خاشع ملتحف بالنور وممتليء بالحب، عاش على الكفاف راضياً قنوعاً فامتلأ بغنى الروح، ألهب القلوب حماساً للفضيلة بكتاباته الرصينة وتفسيراته الدقيقة وأشعاره الرقيقة، كانت الآيات المقدسة تنساب من شفتيه وتسقط على قلوب سامعيها، مثلما تتساقط قطرات الندى على تيجان الزهور فتملأها حيوية وتزيدها نضارة، إنّه الأرشيدياكون نجيب جرجس مدرّس العهد القديم بالكلية الإكليريكية بالدير المحرق.
طفولة مقدسة 
ميت دمسيس بلدة عريقة في محافظة الدقهلية، لا يزال الناس يتوافدون إليها لحضور احتفالات الشهيد مارجرجس، ولا يزال العلماء يذكرون أنها مسقط رأس العالم الجليل ومفسر العهد القديم القدير، الأرشيدياكون نجيب جرجس مرقس المولود في (13/10/ 1915م)، فصار يوم ميلاده ليلة مضيئة في أسرة أنارت قلبه بالإيمان، فوالده جرجس مرقس كان باراً، ووالدته هيلانة سيدة فاضلة وأم عطوف، وكان نجيب هو الرابع بين تسعة إخوة: فهمي، تامر، أمين، نجيب، عبده، سامي، فريدة، مفيدة، فيفي، وقد نال أخوه الأكبر فهمي نعمة الكهنوت باسم: القس يوحنا جرجس بكنيسة مارمرقس بشبرا، وصار رفيق القمص ميخائيل إبراهيم والقمص مرقس داود في الخدمة، وعندما انتقل والده ليعمل في ميت غمر، التحق نجيب بمدرسة الأقباط، وحصل على الشهادة الإبتدائية عام (1928م).
بين الرهبنة والإكليريكية
امتلأ نجيب بفضائل الروح فتمنى أن يبسط جناحيه ويطير ويرنم في سماء الروح، فترك العالم وذهب إلى دير الأنبا أنطونيوس في سن الخامسة عشرة! لكنَّ أخاه الأكبر فهمي ذهب إليه وأقنعه بالعودة إلى البيت فاطاع، وفي مذكراته كتب نجيب: في عام (1930م) لمَّا عزمت على الذهاب إلى الدير مع صديقي عزيز أمين، كنت أنفرد مرات وأُصلي بلجاجة ودموع لكي يرشدني الرب للصالح، وفي يوم بعد أن انتهيت من الصلاة فوق سطح المنزل وإذ باخي فهمي جالس إلى مكتبه وبيده ظرف به آيات مطبوعة ولم أنظره من قبل، فطلب مني أن آخذ ورقةن فأخذت واحدة وإذ بي أقرأ بها: " انْتَظِرِ الرَّبَّ لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ " (مز14:27)، وقد نفذنا الفكرة وذهبنا إلى الدير ولكن أهلنا أتوا وأخذونا.
انتهت فكرة الرهبنة بعد أن تمسكت أٍُرته بوجوده معهم، فقرر نجيب أن يُكمل دراسته، فحصل على البكالوريا بتفوق عام (1933م)، لكنه رفض أن يحقق أمنية أسرته ويلتحق بالجامعة، وأصر أن يلتحق بالإكليريكية عام (1934م)، ليسكب ذاته ذبيحة مرْضية أمام الله، فبدأت ملامح القداسة ترتسم على وجهه في سن مبكرة، وتتلمذ على يد الأرشيدياكون حبيب جرجس، الذي لمس سمو روحه، ونبل أخلاقه، ونبوغه وجديته، ومحبته، وهدوءه، فرشحه للكهنوت بعد أن حصل على دبلوم المدرسة الإكليريكية في عامين وكان ترتيبه الأول عام (1936م)، وقد مدحه بأرق الكلمات في خطاب تزكية، أرسله لنيافة الأنبا ساويرس مطران المنيا جاء فيه: " لو وجدت من عينة نجيب عشرة لعادت الكنيسة إلى عصر أثناسيوس "!
الحيـاة الأسـرية
التحف نجيب بالطهارة منذ صغره فلم يدع شياطين النجاسة تلتهم فضائله، فعاش كوردة جميلة تضم أوراقها في الظلام، حتى لا يرمقها الخطاة بنظراتهم النجسة، وقد جاء الوقت ليكون زوجاً وأباً عطوفاً، فتزوّج في عام (1964م) بالآنسة للي توفيق  خرّيجة مدرسة المعلمات، وأنجب ميشيل ومريم فانفتحت أعينهما على كلام الله، وعلمهما اللغتين: الإنجليزية والعربية فتفوقا فيهما، فجعل من قلبه إسفنجة يمتصان منها ماء السعادة ومن ضلوعه قفصاً لحمايتهما، فكان يخرج مع ابنته لتوصيلها إلى محطة القطار، حتى صارت طبيبة وتزوّجت بالقس أغسطينوس إيليا، كاهن كنيسة الشهيد مارجرجس بالمِلْكيّة البحرية بملوي، وقد وصفت والدها الذي كافح لتعليمها قائلة: دمث الخُلق، يحترق كالشمعة، نحت في الصخر لتظهر كتبه، اشتهر بالدقة في تفسيراته، كرّس حياته للخدمة والتعليم، كان في جمع المعلومات كالنحل كأنَّ الكتب أزهار، وأفكاره تتدفق في الخدمة كالأنهار، وقصائده تصرخ في المناسبات كالأوتار.
ورغم كتبه الكثيرة وخدماته في كنائس عديدة مات  في بيت بسيط بالإيجار بشارع الديري بملوي، وقد قال مرّة للأستاذ تامر أمين مدرّس اللغتين: اليونانية والقبطية بإكليريكية المحرق: أقوم بكتابة الكتاب.. وبعد البحث والتنقيب والجهد المضني في إعداده، تقوم دار النشر بطباعته والتربح منه، ولا يعطوني سوى بعض الكتب التي لا يكفي ثمنها قطرة للعين التي سهرت!!
الخـدمة في الزقازيق وملـوي
في سن الرابعة عشرة انتقلت أُسرة نجيب إلى الزقازيق، فظهرت موهبته في الكتابة والشعر والمسرح، وأصبح واضح أنَّ نوراً ساطعاً انبثق من إنسان بار يشع من وجهه بريق طهارة عجيب، سيكون له في الكنيسة مستقبل عظيم، وبعد أن تخرّج خدم في الزقازيق فوعظ وأسس جمعية الإيمان القبطية، واهتم بالنشاط المسرحي وعندما انتقل مع أسرته إلى ملوي عام (1936م) أضاف لمنبرها شهرة، واقترح إنشاء مدرسة للبنات في تندة، فوجدت الفكرة ترحيباً فبُنيت وتولى إدارتها، كما أسس ملجأ للأيتام، وبعد سنوات قضاها في الخدمة تمت سيامته بيد الأنبا ساويرس مطران المنيا أرشيدياكون عام (1945م) في سن الثلاثين ودُعي للكهنوت في كنائس كثيرة فاعتذر!
التدريس في الإكليريكية
كانت الإكليريكية جزءاً هاماً من حياة الأرشيدياكون نجيب جرجس، فكان يقضي معظم وقته في السفر للتدريس والاعتكاف للتحضير، وشهد تلاميذه انَّه كان متميزاً في شرحه وغزيراً في عِلمه، ولهذا استحق أن يقوم بالتدريس في الكليات الإكليريكية الثلاث: المنيا، البلينا، المحرق.
وقد بدأ التدريس بالكلية الإكليريكية الدير المحرق في الفترة ما بين (1976- 1982م)، وفي إكليريكية المنيا التي قام بالتدريس فيها منذ إنشائها عام (1976م)ن درّس عِلم الوعظ واللاهوت الرعوي، لكنَّ اسمه ارتبط بالعهد القديم الذي برع في تدريسه وتفسيره..
وهكذا أعطاه الله عقلاً رصيناً، وفكراً نقياً، وقلباً طاهراً، فصار موضع حب وتقدير الجميع، وأصبح له تلاميذ كثيرون في كل مكان، يستشهدون بكتاباته الرصينة وتفسيراته الدقيقة.
تأسيس الجمعيات
نجح الأرشيدياكون نجيب جرجس في تأسيس الجمعيات المسيحية وإدارتها ووضع لوائح دقيقة للعمل بها، فقد كان يؤمن بأنّ الجمعيات قوة دافعة لنهضة الكنيسة، ففي الجمعيات يمكن أن يجتمع المؤمنون للصلاة والترتيل وسماع كلمة الله، ولذلك أسس جمعية أبناء الكنيسة في الزقازيق، وعندما انتقل إلى ملوي أسس جمعية السلام الأرثوذكسية، وكان الناس يتوافدون إليها لسماع عظاته المؤثرة، وتفسيراته الرائعة للكتاب المقدّس.
كـتاباته
امتَلَكَ العالم الجليل كل إمكانات البحث العِلمي، فلديه مكتبة كبيرة تذخر بالمراجع العِلمية، ويجيد عدة لغات: القبطية، العبرية، اليونانية، الإنجليزية، الفرنسية، والعربية، فاستطاع أن يجد حلولاً للمعضلات التي كانت تواجهه في تفسير الكتاب المقدّس، وقد ظهرت موهبته في الكتابة عندما كان طالباً بالمرحلة الثانوية، حيث بدأ في تأليف كتابه الأول الجسد! وصدرت الطبعة الأولى علم (1940م) والثانية عام (1970م).
وقد احتلت كتبه مكانة مرموقة في المكتبة القبطية، نظراً لدقتها وأهمية موضوعاتها: وهذه كتبه: تفسير سفر التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية، يشوع، القضاة، راعوث، صموئيل الأول، صموئيل الثاني، الملوك الأول، الملوك الثاني، الصوت الصارخ، الجسد، حقائق إلهية في سر المعمودية، كنيسة الأمجاد.
هذا بلإضافة إلى أبحاث أُخرى لم تُطبع هي: أسرار الكنيسة السبعة، عظات متنوعة (ثلاثة أجزاء)، مذكرات في العهد القديم (أربعة أجزاء)، مذكرات في عِلم الوعظ واللاهوت الرعوي، ومقالات كثيرة كتبها في مجلة ثمار الروح عام (1938م) ومجلة الجهاد عام (1939م)، فقد كان في اختيار موضوعاته جسوراً وعلى كنيسته غيوراً.   
الشاعر وكاتب المسرحيات والترانيم
كان الأرشيدياكون كاتباً مسرحياً ملهماً، يؤمن بدور المسرح في بناء الوعي القبطي ودمج الشباب في خدمات مفيدة، واستثمار مواهبهم في عمل ثقافي بنَّاء يعرفون من خلاله تاريخ كنيستنا وقديسيها وشهداءها الأبرار، وقد بدأ نشاطه المسرحي في سن السادسة عشرة في جمعية أبناء الكنيسة بالزقازيق! وأسس فرقة مسرحية عام (1936م) وكان يكتب الرواية ويصيغ السيناريو ويتولى الإخراج، وترك في مذكراته سجلاً لرواياته وأماكن وتاريخ عرضها، وقد نالت الكثير من روائعه المسرحية المراكز الأولى في مهرجانات الكرازة، وعندما زار قداسة البابا تواضروس ملوي في (2/3/ 2015م) شاهد مسرحية إريانوس للأرشيدياكون نجيب جرجس بمسرح مطرانية ملوي.
وكان عالمنا الجليل شاعراً موهوباً، فقد درس بحور الشعر، واستطاع أن يختار ألفاظه ويصيغها بإتقان بديع مع روعة التعبير وعذوبة الكلمة وعمق المعنى، فذاع صيته وتهافت الناس لسماع أشعاره في المناسبات، وكتبَ ترانيم على أنغام ألحان الكنيسة، وترك في مذكراته الخاصة قصائد وترانيم روحية كثيرة 

عمل الله في حياته

في مذكراته الخاصة كتب الأرشيدياكون نجيب جرجس الآتي: في إحدى السنوات بينما كنت طالباً بالقسم الثانوي بالزقازيق، صُمت أحد الأصوام من أوله بينما كان أشقائي الذين معي في المدرسة لم يصوموا بعد، ففي يوم حضرت ظهراً من المدرسة لتناول الغذاء فتناول أشقائي طعامهم فتأثرت والدتي لأنَّها لم تعد لي طعاماً، وبينما هي تبدي تأثرها وإذ بالقطة تُحضر سمكة منظّفة كبيرة ومعدّة وتضعها على المائدة، فمجّدت والدتي الله وعملتها لغذائي.
فضائل تحلى بها الأرشيدياكون نجيب جرجس
لا أظن أنّ واعظاً يمكن أن يؤثر في النفوس، إن لم يتحل بالفضائل، التي تلألأت كتاج على راس الأرشيدياكون، فكان أميناً في خدمته، وتعب كثيراً فقضى ليلة في برد الشتاء على محطة القطار عند عودته من محاضرة بإكليريكية بالمنيا فلم يتذمر قائلاً مع بولس الرسول: " لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ " (أع24:20).
وقد مدحه نيافة الأنبا غريغوريوس بأرق الكلمات قائلاً:    " إكليريكي لا غش فيه، من خيرة من تخرّجوا في الكلية الإكليريكية، تقي وعَلَماً، ومن أكفأ من خدموا الكنيسة والمنبر، أمانة وفضيلة ومعرفة.. " ووصفه من تعاملوا معه بأنه بسيط القلب، نقي الفكر، رقيق في أُسلوبه، هاديء في طباعه فعاش كمعلمه الذي قال: " اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأنّي وَدِيع ومتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ " (مت29:11).
ورغم ما مر به من ضيقات إلاَّ أنَّه سَبَح بروحه الطاهرة في فضاء الحرية وأحب العطاء، فلم يبخل على أحد بوقته أو علمه أو ماله القليل.. واهتم بالعشور جداً فكان يراقب نفسه، لدرجة أنه كان يمتلك مفكرة أطلق عليها: مفكرة العشور، يكتب فيها ما دفعه وما يتبقى عليه من العشور حتى لا ينسى حق الله!! فقد وضع أمامه قول الرب: " مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ " (أع35:20).
وقد شبه الكنيسة ببرج الحمام، الذي يحب السلام ويتحاشى الصراع، فعاش كصخرة في صمت، وفضّل أن يكون مظلوماً مثل سيده المسيح الذي: " ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ " (إش7:53)، وهكذا سار في وادي الألمن وعلى نهر الدموع وقف، وأمام أشباح الخوف صمد، فتراجعت أمواج الشر ولم تُغرق سفينة حياته أم تمحُ آثار أقدامه.
كما تحلى بفضيلة التواضع التي وصفها الآباء بأنَّها زينة الفضائل، فرغم مواهبه الكثيرة، إلاَّ انَّه كان متضعاً جداً، فصار كنخلة شامخة تحنيها الثمار، وقد شهد تلاميذه بانَّهم استفادوا منه كثيراً سواء في الكتاب المقدس أو في السلوكيات، فرغم كِبر سنه كان يحمل المذكرات والكتب ويُحضرها للطلبة، وقد رأته طالبة بإكليريكية المنيا فحاولت أن أُساعده في حمل الكتب فرفض حتي لا يتعبها!
محبته للكتاب المقدّس والصلاة
أحبَّ الأرشيدياكون نجيب جرجس الكتاب المقدّس منذ صغره، فتخصص في دراسته وقام بتدريسه بالإكليريكية، وأصدر تفسيراته الشهيرة لتكون مرجعاً لنا، وقد قرأ الكتاب المقدّس عشرات المرات، سواء للبحث أو الوعظ أو التأمل.. فانطبق علية قول داود النبي: " وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَارًا وَلَيْلاً " (مز2:1)، وعندما كان يشرح للطلبة كانوا يتذوقون النص الكتابي فيشعرون بالآية مع الواقع العملي، وقد حفظ أجزاء كاملة من الكتاب المقدّس، وعندما فحصوا كتبه التي لم تُنشر وجدوا الآيات بدون شواهد، لأنَّه كان يكتب من ذاكرته ويؤجل الشواهد إلى المراجعة النهائية قبل الطباعة.
ولم يأخذه الوعظ والتدريس بعيداً عن الصلاة، فكان يصلي في الكنيسة والبيت ويرنم ترانيم كثيرة كتبها بنفسه، وفي السنوات الأخيرة، كان يختلى في حجرته الخاصة، وأمامه أيقونة الشهيد مارجرجس، ليصلي ويرنم بصوت خافت، فليس أعظم من أن يقدم افنسان حياته ذبيحة حية على مذبح الصلاة حباً لخالقه، وتتقدس شفتاه بأنغام التسابيح وتراتيل المزامير.
النياحــة
جاء الشتاء باكياً منتحباً على نجم لمع ثم اختفى فامتزجت امطاره بدموع الألم! فقد تنيح الأرشيدياكون نجيب جرجس بسلام في (18/11/1991م)، فراحة الأبرار بين أجنحة الموت! حيث تنطلق الروح لتنعم بالأبدية والجسد يخطو نحو الفناء في تربة الأرض الفانية، فاحتشد الناس لتوديعه متأثرين لفراقه، وانهمرت الدموع بغزارة على وفاته، وبينما الناس تتألم كانت الملائكة تتهلل، فقد ربحت السماء خادماً عظيماً، شاعراً ملهماً وكاتباً موهوباً.. انضم إلى صفوف الأطهار ليتم القول: رُبَّ جنازة بين البشر هي عُرس بين الملائكة!
انتقلت روح عالمنا الجليل بعد رحلة عطاء دامت أكثر من ستين عاماً، لكنَّ الموت لم يبتلع نغمة العصفور ولم ينثر أوراق الورود! فقد ترك بصمات لا تُمحى في مجال: الوعظ، التدريس، المسرح، الشعر، التأليف والكتابة، ليربح الخمس وزنات ويتم قول الرب: " طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ». «نَعَمْ» يَقُولُ الرُّوحُ: «لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ " (رؤ14:13).
كتب فأبدع، وعظ فهدى، حاور فأقنع، وتنيح البار بعد أن أخذ من أبينا إبراهيم إيمانه، ومن يعقوب جهاده، ومن يوسف طهارته، ومن موسى حلمه، ومن إيليا غيرته، ومن صموئيل صلاته، ومن داود تسابيحه، ومن سليمان حكمته وأشعاره، ومن بولس الرسول ونشاطه وغيرته.. والآن نحن نمدحه ونفخر بأنّ عالماً جليلاً مثله قام بالتدريس في كليتنا الإكليريكية، وقد علّمنا بسيرته الطاهرة أنّ المدرّس بالإكليريكية ومُعلّم كهنة المستقبل، يجب أن يكون خادماً روحياً محباً للكنيسة والخدمة، فربما سلوكه وخدماته تفيد الناس أكثر من محاضراته! والحكيم هو من ينظر إلى هذا المُعلّم البسيط ويتعلّم منه، ويعرف أننا مهما امتلكنا واغتنينا وربحنا وتنعمنا.. فسوف يأتي الموت ويجعل من حياتنا صفحة بيضاء ولا يتبقى لنا سوى العمال الصالحة.


ليست هناك تعليقات: