مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 8 ديسمبر 2018

علماء عاشوا في الدير المحرق - القمص تاوضروس المحرقي

كثيرون هم الذين يأتون إلى الأرض وإلى التراب عودتهم، وقليلون هم الذين يرحلون من الأرض إلى السماء، فكانوا بيننا بشراً سمائيين أو ملائكة أرضيين، هم من أهل السماء ويعرفون لغة السماء، ويحملون في أيديهم خريطة السماء، وهم لا يخفون عنا هذه الخريطة وإنما يكشفونها لنا في رسم دقيق، لأنّهم يرغبون أن يدخل معهم آخرون.. بهذه الكلمات الروحانية العميقة نعى الأب الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج كاهن كنيسة الشهيدين مارمرقس ومارجرجس القمص تاوضروس المحرقي في كتاب " أقباط السودان ج 2 ".
سوهاج تشهد ميلاد راهب عظيم
تاريخ عريق للكنيسة القبطية في سوهاج، تلك المدينة التي يحدها شرقاً أخميم مدينة الشهداء، وفيها عاش القديس العظيم الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، مؤسس ديره الشهير المعروف بالدير الأبيض، وفي هذه المحافظة التي تعد من أغنى محافظات مصر بشهدائها الأبرار وتراثها القبطي، وُلِدَ خليل إبراهيم في يوم (5/8/١٩٠٧م)، بنجع القرد الذي أصبح الآن شارعاً يُطلق عليه اسم: شارع بخيتة.
الذهاب إلى الدير المحرق
نما خليل في أسرة بسيطة وكان يتمنى أن يُكرّس حياته لله  راهباً، يلتهب قلبه بالحب الإلهي، ويسبح فكره في سير الشهداء، الذين تخضبت أرض أخميم بدمائهم، فهرب من أهله إلى الدير، لكنهم أعادوه إلى البيت لا بكلام الحكماء أو بوسائل الإقناع، إنما بالضرب والتهديد.. وأخذوا يوبخونه ويتهمونه بالتكاسل والهروب من مسئولياته تجاه أسرته! فعاش خليل وقد ملأ الحزن قلبه، لقد كان يحيا في عالم بلا معالم واضحة عالم مغلف بالضباب، إلى أن جاء عام (١٩٢٦م) يحمل معه بشرى الفرح، فقد ترك أسرته بدون ضجيج ذاهباً إلى الدير المحرق لينضم إلى رهبانه الأبرار، وفي الدير حفظ المزامير والتسبحة والألحان والقدّاس.. وقام بأعمال كثيرة...
الرهبنة والكهنوت
قضى خليل في الدير عامين تحت الاختبار، وقد شهد الرهبان لجهاده وحبه للمعرفة.. فتمت تزكيته، وقام الأنبا باخوميوس الأول رئيس الدير، بسيامته في برمون عيد الميلاد (6/1/1928م)، باسم تاوضروس (Qeodwroc) ومعناه: عطية الله، وكان ذلك في قصر الرئاسة بالدير كما كان متبعاً قديماً، وبحضور مجموعة من الكهنة والرهبان، وبعد أربع سنوات نال نعمة الكهنوت بيد الأنبا أغابيوس الكبير أسقف صنبو وديروط وقسقام (1929- 1964م)، مع أخيه في الرهبنة الراهب منقريوس المحرقي، وفي عام (1933م) تمت ترقيتهما إلى رتبة القمصية.
الخدمة في سوهاج
امتلأ القمص تاوضروس من النعمة والفضيلة، وتعددت مواهبه وأحب الوعظ والتعليم  فخدم عشر سنوات في إيبارشية سوهاج:
- سنتان فــي كنيســـة الشـــهـيد أبـي ســيفــين بــأخـميــم.
- سنة ونصف في كنيسة السيّدة العذراء بالجلاويّة.
- خمس سنوات في كنيسة السيّدة العذراء بالطوايل.
- سنة ونصف في كنيسة أبي سيفين التي خدم فيها من قبل.
وقد شهد له أحد المعاصرين له بأنه كان بسيطاً، جريئاً، ذكياً، قليلاً في كلامه، ضليعاً في اللغة العربية، مجيداً للغة القبطية، موهباً في الألحان الكنسية، وكانت عظاته قصيرة وهادفة، ومن إنجازاته طبع الخولاجي والأجبية..
الخروج من المحرق والذهاب إلى دير السريان
أراد قداسة البابا كيرلس السادس عام (1962م) تعيين القمص قزمان بشاي المحرقي رئيساً للدير المحرق، فاعترض بعض الرهبان لأنّه كان قد خرج للخدمة منذ عدة سنوات، ويوجد بالدير من هم أكفأ منه في إدارة الدير وتدبير شئونه، ولما أصر البابا على قراره أصروا هم أيضاً على رفضهم، فقرر البابا نقل خمسة قمامصة إلى أديرة أخرى: بطرس البلنصوري (نسبة إلى بلدته بأبوقرقاص)، عبد المسيح، دوماديوس، سوريال، تاوضروس الذي استقر في دير السريان، وقد مدحه القمص متاؤس السرياني أمام القمص دانيال المحرقي قائلاً: كل تدبير رهبان دير السريان الذي نحيا به إلى الآن، بفضل ما سلمنا إياه القمص تاوضروس المحرقي.
الخدمة في السودان
سنوات مضت.. والقمص تاوضروس صورة مشرفة في دير السريان لكنّ حياته في الدير لم تدُم كثيراً، ففي عام (١٩٦5) اختاره نيافة الأنبا دانيال مطران الخرطوم (1968- 2000م) ليخدم معه فأطاع، وظل يخدم فى كنيسة الأنبا أنطونيوس بكادوقلي جنوب كردفان من (1965- 1971م)، وعندما مرض انتدبه الأنبا دانيال إلى الخرطوم ليخدم في كنيسة الشهيدين (مارمرقس ومارجرجس) عام (1973م)، لكنّ المرض أقعده فظل يقاوم ويكرز بملكوت الله حاملاً رسالة السيّد المسيح للجميع.
وقد ركز القمص تاوضروس المحرقي في خدمته على التعليم وحل المشاكل والافتقاد، واهتم بسر الاعتراف فاعترف عليه كثيرون منهم الأنبا دانيال مطران الخرطوم، والأنبا إيليا أسقف الخرطوم الحالي، والأنبا دانييل أسقف سيدني، وكان يفتح أبواب الأمل  للكل، ورغم آلامه كان يحمل مع الآخرين آلامهم ويجفف دموعهم حاملاً لهم أجمل الذكريات حتى صار هو أحلى الذكريات في حياتهم، والذين يلتفون حوله كانوا يستريحون من آلامهم، وهو يحكي عن خبراته وآلامه وعمل الله في حياته.
وفي السودان يعتبرونه عالِماً لاهوتياً، وشبّهوه بالجامعة الفكرية والروحية، يأتي إليه العَالِمْ فيزداد عِلماً، والبسطاء فيزدادون بساطة، وكانت قلايته صالوناً أدبياً يتحدث فيه عن طه حسين والعقاد ويحكي قصصاً من الشرق والغرب..
حبه للعلم والتعليم
تعلم القمص تاوضروس القراءة والكتابة في الدير، فأتقن اللغة القبطية، وصار عالِماً في اللغة العربية، فدخل الدير أمياً وخرج منه للخدمة أديباً وشاعراً! وأسس عام (1947م) مدرستي الدير المحرق (الإبتدائية والإعدادية داخل سور واحد) برزقة الدير لتعليم أطفال القرى المجاورة، وذلك أثناء رئاسة نيافة الأنبا باخوميوس الثاني (1947- 1962م)، وقام بتدريس اللغة العربية فيهما وأشرف على إدارتهما، وأثناء وجوده بدير السريان علّم رهباناً اللغة العربية، منهم الأنبا ميصائيل أسقف برمنجهام بإنجلترا عندما كان راهباً باسم: الراهب ميصائيل السرياني، وفي الخرطوم بنى مدارس وعلّم كثيرين اللغة العربية..
أساليبه في تعزية الناس
كان إذا شكا له مريض من مرضه، يحكي له عن أمراضه الكثيرة، ويذكر أنّه أجرى أكثر من عشرين عملية جراحية، وتُصبح عملياته مصدر تعزية.
وإذا شكت امرأة من زوجها، يطلب منها ألاَّ تتكبر عليه، وأن تحبه وتخضع له، فيصير أسيراً لها ويحيا في أسرها، وعندما تأتي الشكوى من الزوج يؤكد له أنّه لا يقدر أن يعيش بدونها وعليه أن يحافظ عليها ويرفعها ويكرمها أمام الناس، فالمرأة مكرّمة في شخص القدّيسة مريم، وعندما تكون الشكوى من مشكلة في البيت، يُلقي بيت شعر يهدأ به الشاكي ويستريح!
 حياته في خمس كلمات
يمكن تلخيص حياته في خمس كلمات مثل: خمسة جراحات المسيح، الخمس خبزات، مصابيح العذراى الخمس، والخمس وزنات، والخمس كلمات الخاصة بأبينا هي:
1- الكـاهن المثـابر: فقـد كـان مواظبـاً عـلى خدمتـه وصلواتـه ووعظه وتعليمه ورعايته لشعبه بكل أمانة وحب..
2- المتألم الصابر: لأنّه عاش حياة الصبر، وذاق كأس الألم في مرضه وتجاربه الرهبانية وخروجه من الدير.
3- الراهب الثائر: فعاش في رهبة الله وكان يثور كنهر النيل في الفيضان، ثم ينساب في وداعة وهدوء، فيروي الأرض..
4- القدّيس الشاكر: كان شاكراً لله في تجاربه ومرضه، ولم يتذمر عليه أو يبتعد عنه.
5- الأديب الشاعر: عندما يتكلم تشعر أنك أمام أديب مرهف الحس، نابض الشعور. 
صلاة مستجابة
أرسل لي الصيدلي عياد فكري قائلاً: أسكن في حي بري بالخرطوم، وكان الأستاذ إبراهيم من أبناء كنيسة الشهيدين مارمرقس ومارجرجس، يشرفني في الصيدلية بصحبة القمص تاوضروس، وفي يوم جاء أبونا إلى الصيدلية وكنت أُدخن فخجلت منه واعتذرت له وطلبت الصلاة لأقلع عن التدخين، وفي الليل حلمت أني أحضر فرح داخل الكنيسة وانتبهت أنني أُدخــن سيجارة، فاتجهت مسرعاً إلى الخلف لأخرج من الكنيسة لحظة دخول أبونا، فاعتذرت له لأنّه شــاهدني وأنـــا أُدخن وعندما استيقظت لم أُدخن، وعندما حضر أبونا حكيت له الحلم فقال للأستاذ إبراهيم مداعباً: سامع يا إبراهيم!
نياحـته
حمل القمص تاوضروس صليب المرض، وأجرى عدة عمليات جراحية في الخرطوم ولندن، وظل مشلولاً في آخر عشر سنوات من حياته دون تذمر فكان يقول: إجعلها يارب للتأديب وليس للتعذيب، إلى أن جاء فصل الربيع ليفوح عطر الزهور، وأيضاً لكي يسكب الناس دموع الحزن على كؤوس الورود، فتنيح فجر الأربعاء (22/4/ 1998م)  الساعة (3:56 AM) بعد أن عاش (91) سنة، منها (74) ســنة راهبــاً، والعجيب أنّه ارتدى ملابس الكهنوت البيضاء ليلة النياح، فقد شعر برحيله من هذا العالم الفاني إلى مجد السماء، فاستعد بأجمل ما يملك من ثياب، وفي صباح (23 أبريل) أُقيمت صلوات التجنيز في كنيسة الشهيدين برئاسة المندوب البابوي الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، والأنبا دانيال والأنبا صرابامون أسقف أمدرمان، والكهنة والرهبان، ولفيف من رجال الدولة ووفود الكنائس، وبعد كلمات التأبين.. حمل فريق كشافة جورجيوس النعش على أنغام الموسيقى الجنائزية ومن خلفهم سار رجال الدين والشعب.. ثم حملته عربة دفن الموتى إلى المدافن حيث رقد بسلام. 

ليست هناك تعليقات: