عاش
بين نسمات الربيع وخريف الألم! فيوم رهبنته ماتت أمه! وأثناء عودته من الخدمة قرأ
في الجريدة خبر موت أخيه غرقاً! وفي الدير سالت دماؤه برصاص الإرهاب! فأين سطور
الفرح في كتاب حياته؟! لكنّه استحق أن نطوبه شهيداً، وأن نطوب المكان الذي تأهل أن
يرتوي بدمه، ومات الأشرار سافوا الدماء، ساكنوا الوعر، الراكضون وراء التعاسة، المتكلمون
بالحماقة، فحملت الشياطين أرواحهم إلى الجحيم، بينما استقرت روح أبينا مع القديسين
في فردوس النعيم، إنّه الشهيد القمص " بنيامين المحرقي " وكيل
الكلية الإكليريكية والمدرّس بها.
النشـأة
وُلِدَ
عازر ثابت قلدس في روضة البلد بمركز ملوي في (17/7/1952م) ونما في أسرة
تتكون من والدين: الأب ثابت والأم أنيسة، وسبعة إخوة هو الثالث بينهم:
إسحق، يعقوب، عازر، يونان، يوسف، سعاد، عواطف، وتشهد طفولته أنّه كان
مواظباً على حضور مدارس الأحد، وعندما كبُر خدم الأطفال في كنيسة العذراء بالروضة،
فارتبط بالكنيسة شماساً وخادماً، وتميّز بصدقه ومرحه ولباقته منذ الصِغر..
المؤهلات
الدراسية
سعى
عازر للمعرفة منذ صغره، وتدرّج في المراحل التعليمية حتى حصل على الثانوية العامة
في يوليو (1970م)، فالتحق بالكلية الإكليريكية بالقاهرة وتخرّج في مايو (1975م)
وكان زميله في الدراسة صليب عازر صليب (الأنبا أبرآم أسقف الفيوم)، وفي تلك الفترة
تتلمذ على أيدي أعظم علماء الكنيسة وقرأ كتباً كثيرة وتعرّف على كهنة وأساقفة، وكان
للأنبا بيمن أسقف ملوي والأنبا ثاؤفيلس رئيس دير السريان أبلغ الأثر في حياته فكان
يردد أقوالهما، فقبل الصوم الكبير يردد قول الأنبا ثاؤفيلس: صوم التجارب دخل
استعدوا، وكان شديد الإعجاب بشخصية البابا شنودة الثالث.
الرهبنة في
الدير المحرق
بعد
أن تخرّج عازر خدم في الفترة ما بين (1975-1978) شماساً مكرّساً مع نيافة الأنبا
ويصا مطران البلينا وكان الطريق إلى الكهنوت ممهداً، فقد أحبه الناس في البلينا،
وأراد الأنبا ويصا سيامته لكنه اختار الرهبنة وهذه قصة دخوله الدير:
في يوم (10/2/ 1978م) كان الأنبا ساويرس
رئيس الدير المحرق يزور أسرة عازر في بيتهم بملوي، وقبل أن يستأذن تكلم مع عازر
على انفراد، فوجده مستعداً للرهبنة بصورة أدهشته فسأله: هل تريد أن تتزوج؟ فأجاب:
لا، فعاد الأنبا ساويرس إلى الدير ومعه في السيارة الأخ عازر ثابت، ولم يمضِ شهران
على وجوده بالدير حتى ترهب باسم: الراهب بنيامين المحرقي في (24/3/ 1978م)،
وترهب معه أربعة آباء: الراهب هدرا، الراهب بنيامين، الراهب أمونيوس، الراهب
كيرلس، الراهب القس أغاثونن لكنَّ والدته توفيت يوم رهبنته! فبدأ
حياته الرهبانية بالدموع!
ويتساءل
البعض عن سبب هذه السرعة في الرهبنة؟ فنجيب بأنّ القس أغاثون كان قد نال نعمة
الكهنوت التبتلي بيد الأنبا أمونيوس أسقف الأقصر، والبابا شنودة لم تكن لديه رغبة
أن ينتشر الكهنوت التبتلي، فتقابل مع القس أغاثون وطلب منه أن يختار ديراً لينال
الشكل الرهباني، فاختار المحرق، فقام الأنبا ساويرس برهبنته مع طلبة الرهبنة الأقدم
منه في الدير.
وبعد
الرهبنة عمل الراهب بنيامين في القربان، وتولى دق الجرس وتوزيع أدوار الصلاة على
الكهنة في الكنيسة الأثرية.
الإشراف على
الكلية الإكليريكية
عندما
افتُتحت الكلية الإكليريكية بالدير المحرق عام (1973م) قام بالإشراف عليها الأستاذ
كامل فرج خرّيج إكليريكية القاهرة، وقد سافر إلى أمريكا وهناك تمت سيامته
باسم: القس أثناسيوس، وتولى بعده الأستاذ ميخائيل بولس، الإشراف على الإكليريكية وهو
أيضاً من خرّيجي إكليريكية القاهرة، وسيم على مذبح كنيسة السيدة العذراء مريم
بطنان- القليوبية باسم: القس ميخائيل، فكلف الأنبا ساويرس رئيس الدير أبانا
بنيامين المحرقي عام (1978م)، بالإشراف على الإكليريكية.
وخلال
عام نال نعمة الكهنوت في (26/7/ 1979م)، وأصبح القس بنيامين مشرفاً روحياً
ومدرّساً بالكلية الإكليريكية، وقام بتدريس هذه المواد: لاهوت أدبي، لاهوت طقسي
ووعظ، وأصدر مذكرات: أصول عِلم الوعظ، مسيحنا القدوس النور الأعظم، الرعاية رسالة
القدوس لخدمة النفوس، التفاعل مع طقس الأسرار، والمسيح مركز دائرة التاريخ.
أسلوبه في الشرح
وتحفيزه للطلبة
تميّز
القمص بنيامين بسلاسة الأسلوب والمهارة في توصيل المعلومة للطلبة، وكثيراً ما استخدم
أُسلوب الوعظ، فيشعر الطالب بروحانية وينجذب إليه وهو يستمع للمحاضرة، وقد قال
للطلبة أكثر من مرة: يجب أن يكون الطالب مطلعاً ومتعدد المصادر، ولا ينتمي إلى
مدرسة واحدة ويكتفي بها متجاهلاً المدارس الأُخرى، وكان يرفض أن يحفظ الطالب كلامه
المدوّن بالمذكرة، فقط يحفظ الآيات ويكتب بعد ذلك من خلال أبحاثه، حتى يكون شخصية
مبتكرة.
وكان
يحفز الطلبة على البحث بطرق متعددة وأساليب متنوعة، ففي يوم كان يعظ الطلبة عن
الألم في حياة يوسف الصديق وأثناء العظة قال: " ودخلت نفسه في الحديد
" وبعد العظة سألهم: هل لديكم أسئلة؟ هل ما ذكرته عن
يوسف موجود في قصته كما وردت في سفر التكوين؟ فحدث حِراك فكري بين الطلبة وبحثوا عن
العبارة فوجدوها آية في سفر المزامير: " أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلاً، بِيعَ يُوسُفُ
عَبْداً، آذُوا بِالْقَيْدِ رِجْلَيْهِ، فِي الْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُهُ " (مز17:105، 18).
وفي
يوم اجتمع بالطلبة لصلاة المزامير، وعندما بدأ صلاة " أبانا الذي في السموات..
" باللغة القبطية، صمت معظم الطلبة، فلم يطلب منهم أن يحفظوها، بل
عاتبهم بشدة على تقصيرهم! وفي اليوم التالي عندما بدأ الصلاة وجدهم يرددونها غيباً
بكل حماس!
أب اعتراف ومرشد
ناجح للطلبة
نجح
القمص بنيامين المحرقي أب اعتراف ناجحاً للطلبة، وقد استطاع أن يُعامل كل شخص في
الاعتراف حسب قامته الروحية وإمكاناته.. وإذا سمع أو شعر بأنّ راهباً أو طالباً في
الإكليريكية على خلاف معه، كان ينتهز الفرصة ويذهب إليه ويصالحه.
وكان
يملك قدرة عجيبة على احتواء الآخرين وامتصاص غضبهم، فقال لي د/ زكريا ابنه في
الاعتراف أنّه كان مستثنى من أداء امتحان اللغة العربية أثناء دراسته بالإكليريكية،
لأنه سوداني الجنسية ويجيد الإنجليزية أكثر من العربية، وأثناء امتحان مادة العهد
القديم طلب منه القمص ميخائيل متى الورقة ولم يعطه وقتاً إضافياً، فتأثر لأنّ
أبانا بنيامين ولم يسانده، وفي الغروب فوجيء به يطرق باب حجرته، فتحدث معه واحتواه
وامتص غضبه بطريقة لم يتوقعها!
خدمـات متنوعـة
أحب الراهب بنيامين حياة الخدمة، فهو إكليريكي
يجيد الوعظ وإعداد الخدام.. وعندما احتاجت الكنيسة رهباناً لمساعدة الأنبا
أنطونيوس مرقس في الكرازة، تم ترشيح القس أمونيوس والقس بنيامين من الدير المحرق،
فذهب أبونا بنيامين إلى كينيا عام (1986م) ولم يمكث هناك سوى عام فعاد سنة (1987م)
وأثناء عودته كانت الصدمة مدوية عندما قرا في الجريدة اليومية، خبر وفاة أخيه
الصيدلي يوسف ثابت غرقاً! ولهذا عندما طلب منه قداسة البابا شنودة أن يذهب
للخدمة في ألمانيا، اعتذر لقداسته حتى يرتاح من أثر الصدمة!
في
عام (1987م) طلب منه الأنبا برسوم أسقف ديروط وصنبو للخدمة، فرحب وخدم سنة وعاد
بعدها إلى الدير، على فترات كان يذهب إلى ديروط للوعظ في النهضات، وذهب أيضاً إلى طهطا
لتدريس لاهوت مقارن ووعظ وتاريخ كنسي في الدراسات اللاهوتية لإعداد الخدام.
الاستشهـاد
كان
القمص بنيامين يردد كثيراً عبارة: لا خلاص إلاَّ بالدم! وفي حديث مع بعض
الأساتذة عن الاستشهاد تمنى أن تُطلق عليه رصاصة تودي بحياته لينال غكليل
الشهادة!
وفي
الساعة السادسة يوم الجمعة (11/3/1994م)، حضر بعض الزوار يسألون عنه فخرج
لمقابلتهم أمام بوابة الدير الخارجية، لأنّ الدير لا يستقبل الزيارات في الصوم الكبير،
وفي ذلك الوقت كان الراهب أغابيوس المحرقي المسئول عن دق الجرس وتوزيع خدمة القداس
في ورشة النجارة بجوار البوابة، ليعد أساس قلايته الجديدة، فلمّا عرف أنّ القمص بنيامين
موجود عند البوابة، ذهب ليُعلمه بموعد خدمته، وفجأة حدث هجوم إرهابى وكأنَّ أشباحاً
انبثقت من شقوق الأرض أطلقت سهاماً شيطانية اتجهت نحو صدورهم! فاستشهد خمسة أشخاص هم:
الراهب القمص بنيامين المحرقي (45 سنة)، الراهب أغابيوس المحرقي (30 سنة)،
سيف شفيق يوسف من منفلوط (30 سنة)، لبيب سعيد يونان من المنوفية (30 سنة)، سنة، صفوت
فايز مشرقي من رزقة الدير المحرق (13 سنة)، وأُصيب ماجد محروس (35 سنة)، وحنا نصيف
بطرس (23 سنة).
وفي
الساعة الثانية عشرة ظهر السبت (12/3/1994م) أُقيمت صلاة الجِنَّاز ووضع جسد
الراهبين: بنيامين وأغابيوس المحرقي في مقبرة رؤساء الدير تكريماً لهما، ليصرخا
بصوت عظيم مع الشهداء: " حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ
وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى
الأَرْضِ؟
(رؤ10:6).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق