مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 8 ديسمبر 2018

قديسون عاشوا في الدير المحرق - الشهيد الراهب أغابيوس المحرقي


عاش كزنابق الحقل مبتسماً، وذاب كالشمع على مذبح الحب ليخدم الرهبان في الدير، وكان مواظباً على حضور الكنيسة، محبّاً للألحان، أحببناه من عمق قلوبنا لأنّه أحبنا وخدمنا، وعندما استُشهدَ برصاص الإرهابيين في ربيع شبابه ذرفنا الدمع حزناً على فراقه، إنّه الشهيد الراهب أغابيوس المحرقي، الذي فارقنا في سن الثلاثين، لكنَّ ابتسامته الرقيقة لازالت تملأ عيوننا.
النشـأة
وُلِدَ أسامة بمدينة طوخ بمحافظة القليوبية في (27/2/1964م) طفلاً جميلاً، محباً، بسيطاً، قلبه نقياً كالثلج، ونشأ في بيت عرف معنى الصلاة والخدمة وحضور القداسات..
عمل والده صبحي عزيز بمجلس مدينة طوخ، وأمه الفاضلة هيلانة ميخائيل ربّة منزل، وكان ترتيب أسامة الثالث بين أربعة إخوة: فيوليت طبيبة بيطرية، نجوى بكالوريوس زراعة وعملت مدرسة علوم، أسامة، وفيبى بكالوريوس تجارة وتعمل محاسبة، وقد شهدت طفولة أسامة أنّه كان ملتزماً بالحياة الكنسية مواظباً على حضور القدّاسات، فقام الأنبا مكسيموس مطران القليوبية بسيامته شماساً بكنيسة مارجرجس بطوخ فى سن الرابعة باسم: مكسيموس، فكان عندما يرتدي التونية ويقف على المذبح يظهر بثيابه البيضاء كملاكٍ جميل الطلعة وشَّحته السماء بملابس الطهارة.
وقد تميز أسامة بهدوئه وطاعته وابتسامته الرقيقة، وعندما انتقل والده ليعمل مديراً لإدارة المشتريات بمجلس مدينة شبرا الخيمة، انتقلت معه الأسرة إلى القاهرة عام (1968م) ليسكن فى شارع أسعد بشبرا مصر، وانضم إلى فصول مدارس الأحد وخدمة الشماسية بكنيسة الملاك بطوسون بشبرا، ورغم حداثة سنّه إلاّ أنّه كان مواظباً على حضور القدّاسات وخدمة الشماسية.
حبه للألحان الكنسية
لقد كان حب أسامة للكنيسة وممارسة أسرارها وطقوسها ظاهرة واضحة في حياته، وكان شغوفاً بحفظ الألحان فطلب والده من مرتل الكنيسة المعلم فخري أن يقوم بتسليمه الألحان، وبعد انتقال المعلم فخرى في الثمانينات، كان أسامة قد صار شاباً فكان يذهب للمعلم فهيم مرتل الكاتدرائية المرقسية بكلوت بك، وأيضاً للمعلم جاد مرتل كنيسة العذراء بمهمشة ليحفظ منهما الألحان، وعندما دخل الدير كان حافظاً لكثير من ألحان الكنيسة ومردات الشماس وألحان التسبحة...
رؤية في سن مبكر
فى سن الثامنة خرج أسامة من المنزل في تمام الساعة الخامسة صباحاً، وذلك لحضور القدّاس بكنيسة الملاك ميخائيل بطوسون، وفجأة رأى الملاك ميخائيل يقف أمامه مبتسماً على حائط السلم فخاف من هيبة المنظر! وعندما ذهب إلى الكنيسة حكى للمعلم فخري بكل ما رأى فنصحه قائلاً: لا تقل لأحد خوفاً عليه من المديح، وعندما عاد إلى البيت أخبر أمه الفاضلة ففرحت واعتبرتها علامة من الله بسبب جهاد الطفل ومواظبته على حضور القدّاسات، ولكنها لم تنصحه بشيء، بل طلبت منه بحكمتها وخبرتها أن يقوم برشم علامة الصليب عندما يرى مثل هذه الرؤى. 
المرحلة الجامعية
أحب أسامة الدراسة كما أحب الكنيسة والخدمة فانطبقت عليه الآية: " كَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ فَكَانَ رَجُلاً نَاجِحاً "ِ (تك2:39)، ففي عام (1983م) حصل على الثانوية العامة، فالتحق بكلية التربية جامعة عين شمس، وأثناء دراسته خدم بمدارس الأحد، فانبعث من عينيه نور الإيمان، ونطقت شفتاه بعظائم الله، فازداد أكثر في النعمة، وامتلأ طهراً، وأصبح قدوة للشباب في جيله، ولم يكتفِ بشهادته الجامعية، بل تعلم مهنة الكهرباء من ابن عمته المهندس أمين، وأتقنها.
وفي عام (1987م) تخرج في كلية التربية شعبة الرياضيات، وعمل مدرساً للرياضيات لمدة عام ونصف، وكان خلالها يعطي دروساً مجانية فى الرياضيات للطلبة كنوع من الخدمة والمساعدة، وكان يذهب إليهم بعربته الخاصة في المنزل.
عوائق في طريق الرهبنة
بعد التخرج بدأ أسامة يتردد على الدير المحرق ويقضي به خلوات طويلة، فأحب الرهبنة وارتبط بحياة الأديرة، وعندما تكلم مع أب اعترافه القمص مكاري عبد الله رفض، وقد كان حكيماً في قراره، فأسامة الابن الوحيد، ووجوده وسط أخواته البنات يعطيهن إطمئناناً، كما أنّ الأسرة في حاجة إلى خدماته. فذهب مع أخته نجوى إلى بنها لمقابلة نيافة الأنبا مكسيموس مطران القليوبية، وصارحه بحبه للرهبنة، فلم يمانع بل شجعه ونصحه بأن يأخذ موافقة والديه أولاً.
وفي النصف الثاني من عام (1987م) ذهب إلى الدير المحرق ليترهّب، فتأثرت الأم لفراق ابنها الوحيد وأُصيبت بأزمة صحية، فعاد إلى البيت بعد أسبوعين بأمر الأنبا ساويرس رئيس الدير. 
علامـة اطمئنان
عاش أسامة حائراً وأصبح المستقبل أمامه مغلفاً بالضباب، فهو يريد الرهبنة ولكن هناك عوائق تمنعه، وفي يوم ذهب مع المهندس أمين أثناسيوس ابن عمته إلى دير مارمينا العجايبى بمريوط، لقضاء خلوة روحية والصلاة حتى يختار له الرب الطريق، وهناك طلب إرشاد أبينا بطرس أفا مينا (الأنبا بطرس أسقف شبين القناطر) فقال له: نصلي والله سوف يرشدك، وفى تلك الليلة خرج من بيت الخلوة في الساعة الثانية عشرة ليلاً فرأى أمامه حمامة كبيرة بيضاء، فشعر بسلام واعتبرها علامة من السماء لرهبنته، فعاد إلى القاهرة ثم اتجه مباشرة إلى الدير المحرق طالباً للرهبنة.
الرهبنة في الدير المحرق
فى يوم (7/8/ 1988م) دخل أسامة الدير المحرق، وارتدى الزى الأبيض الخاص بطلبة الرهبنة وأصبح اسمه: الأخ بولا وعمل في القربان والمجمع (مطبخ الطعام) والمائدة (المخبز).
وفي (24/8/1989م) تمت رهبنة الآباء: روفائيل، أليشع، توماس، أندراوس، تكلا، سوريال، كيرلس، أغابيوس وهو اسم يوناني معناه: حبيب، وكان كذلك محباً ومحبوباً، وقد تولى بعد رهبنته مسئولية البوابة، وماكينة الإنارة والكهرباء بالدير ومستشفى سانت ماريا، ودق الجرس، وخدمة الشماسية وتوزيع أدوار الكهنة لخدمة القدّاس بالكنيسة الأثرية، وبدأ يتغذى بالحياة الروحية، وقرأ في الكتاب المقدّس وسير القدّيسين، وحفظ آياتٍ ومزامير وألحاناً وعرف معنى الصلاة في القلاية، وشهد الرهبان لمحبته ونشاطه ومواظبته على حضور الكنيسة وتفانيه في خدمتهم، حتى إنّه كان ينظف قلالي بعض الرهبان، وكان بسيطاً في تعامله وقلايته وثيابه ورفض أن يمتلك غسالة فظل يغسل ثيابه بنفسه، وكان بعد الاستحمام يقوم بغسل غياره الذي كان يلبسه وظل هكذا حتى استشهاده.
وكان من عادته إلاَّ يخرج من قلايته قبل أن يصلي قانونه من المزامير، ويدخل قلايته في حدود الساعة الثامنة ليلاً، وقبل النوم كان يقرأ في الكتاب المقدّس، أو يراجع لحناً أو يستمع إلى قداس.. ولهذا كان يردد: لا تدع الشغل يأخذك من قانونك.
عطاء بلا حدود
اختبرت محبته وحبه للعطاء بنفسي، ففي بداية رهبنتي كنت أملك آلة كاتبه أقوم بكتابة أبحاثي عليها قبل ظهور الكمبيوتر، وأحياناً كنت أحتاج ماكينة اللحام ليقوم أحد الآباء بإصلاح الحروف عندما تنكسر، فعندما كنت أطرق باب قلايته كان يُسرع إلى المخزن ليعطيني طلبي، حتى إنني كنت أخجل من تصرفه، وأصبحت في المرات القادمة أقول له: أنا أعرف مكان الماكينة جيداً من فضلك أعطني مفتاح مخزن الكهرباء لأذهب بنفسي ولا داعي لتعبك وتعطيلك! وعندما اشتغل في الكهرباء كان يعمل بيده كل شيء، ولم يخجل أن يقوم بالحفر والتكسير.. ووفّر للدير أموالاً طائلة.
رسول سلام
كان أبونا أغابيوس تربطه قرابة برئيس الدير، ورغم ذلك كان الرهبان يأتمنوه على أسرارهم، وذات مرة كان رئيس الدير على خلاف مع راهب تربطه صداقة بأبونا أغابيوس، وكان ينظف قلايته مرة كل شهر، ورغم الخلاف لم يقطع علاقته به تودداً للرئيس، بل كان في أوقات كثيرة يختلف مع رئيس الدير من أجله، وفي يوم زادت الشكاوى في هذا الراهب، فأحضر رئيس الدير أبونا أغابيوس وبعد أن حكى ما سمعه قال له: اتصرّف! فبكى أبونا ولم يسمح لرئيس الدير بعقابه، فتأثر لدموعه وخضع له، وفي يوم اختلف راهبان فأخذ الراهب المبتديء ليعتذر للراهب القديم في قلايته.
الاستشهاد
في الساعة السادسة يوم الجمعة (11/3/1994م) استشهد الراهب أغابيوس مع القمص بنيامين وآخرين في الساعة الثالثة فجر السبت (12/3/ 1994م) وكان عمره ثلاثين سنة قضى منها ست سنوات فى الرهبنة، ولما علمت الأسرة سافرت في الحال، وعند وصولهم إلى المستشفى بالقوصية كان قد تنيح، ورغم الألم الشديد والحزن المرير إلاَّ أنّ أمه الفاضلة قالت والحزن يعتصر قلبها:      " الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا " (أي21:1).
رؤية بعد الاستشهاد
روي لي أحـد الآبـاء بالديـر هـذه الرؤية التي توضح لنا مكانة الشهيد عند الله، فقال: تألمت جداً لفراق أبونا أغابيوس، وبعـد يومـين رأيته وهو يعاتبني قائلاً: لماذا أنت حزين رغم أنني سعيد؟ فقلت: كنت أتمنى أن تعرفني أنك سترحل! فرد قائلاً: هل تريد أن تأتي معي؟ فقلت: نعم، فأخذني في الصحراء وكنا نسير وحدنا، فقلت له: لماذا نسـير في الصحراء وأمـامنا شـارع جميـل ومبـاني شـاهقة...؟ فأصر أن نسير في الصحراء وكان كلٍ منا معه دوسيه فيه أوراقه الخاصة، وأثناء سيرنا قابلتنا نقطة تفتيش ففحصوا الأوراق فوجدوها سليمة فعبرنا بسلام، وحدث نفس الشيء في نقطة التفتيش الثانية ولكن في الثالثة فحصوا دوسيه أبونا أغابيوس فوجدوه كاملاً فسمحوا له بالعبور، وعندما فحصوا أوراقي وجدوا ورقة ناقصة، فطلبوا مني أن أُحضرها، فتأكدت أنني لم أصل بعد إلى قامة الشهيد، وأنّ أمامي سنين كثيرة تحتاج إلى جهاد روحي حتى أصل إلى قامته!

ليست هناك تعليقات: