مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

إكليريكية الدير المحرق - الفصل الثاني - اُذكروا مرشديكم الراهب كاراس المحرقي



إنَّ شعلة نورانية أوقدتها السماء في قلبي، وقد ألهبتني لكي أكتب عن علماء وأساتذة أجلّاء، يستحقون أن نكتب سيرهم بأحرف من نور، لنصف للناس عظم حبهم، وكثرة فضائلهم، وقوّة إيمانهم، وشدة تعبهم في نشر كلمة الله والدفاع عن الإيمان المستقيم، ولماذا نصمت وأنفاس الحياة لا زالت فينا؟! ألم يقـل الملاك لطوبيا: " أمَّا سرُّ المَلِكُ فَخيرَ أنْ يُكتَمْ وأمَّا أعمَالُ الله فإذَاعَتِهَا والاعتِرَافُ بها كَرَامة " (طوبيا7:12) وقال معلمنا بولس الرسول: " اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ الله، انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ " (عب7:13).

لقد كانوا شهوداً  للمسيح، نوراً للعالم، مِلحاً للأرض.. نهـراً روحياً يسير متدفّقاً، مترنّماً، حاملاً في أعماقه سر الإنجيل، وقد عجزت لُجّة التجارب أن تبتلع أعمالهم، ولم تقدر الرياح العاتية أن تُسقط فضائلهم، وفشلت العاصفة الهوجاء أن تبدد أقوالهم، فظلوا كسنديانة قوية في مهب الريح، حاملين شعلة الإيمان، لأنّ الشعاع الذي أنار قلوبهم لهو أقوى من كل التحديات التي واجهتهم! لأنهم ساروا على الدرب الصحيح وعاشوا تعاليم المسيح، وهكذا نتعلم من آبائنا أنّ الخادم مهما كان دارساً جيداً، أو واعظاً قديراً، أو كاتباً ماهراً.. لن يؤثّر في سامعيه إن لم يكن روح الله يعمل فيه، فقد قال السيد المسيح:  " اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ " (يو63:6).

لقد عاشوا بوحدانية " الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ " (يه3:1)، فلم يرصّعوا خواتم العقائد الزائفة بماسة العقيدة الأرثوذكسية السليمة، ولم يخلطوا الزوان بطهارة حبَّات الحنطة التي تستحيل في الإفخارستيا جسداً للمسيح، ولم يمزجوا كلام الوحي بعقائد بشرية تقوم على قوة المنطق وبهاء الفلسفة التي فشلت أن تجد حلاً لمشكلة سقوط الإنسان، بل قامت على قوة المعجزة، وحياة المسيح وأعماله وتعاليمه هي معجزة المعجزات، ونحن عندما نتمثّل بإيمان آبائنا نضم أنفسنا أغصاناً جديدة إلى شجرة الإيمان، ونستقل الكنيسة المبحرة نحو ملكوت الله.
وعندما وعظوا عرفوا نوع الخيوط الذي صنع الخالق منها ثوب حياتنا، فخاطبوا: البسطاء والمتعلمين، قاطني المدن والريف، فاخترقوا بتعاليمهم أعماق القلوب، وحمل كلامهم قوّة روحية غيّرت النفوس، وامتزجت كلماتهم بأقوال الله، فارتعب الأشرار وتعزّى الأبرار.

سكبوا دموعاً غزيرة في الصلاة، تحوّلت إلى نجوم لامعة تُنير طريق الخطاة! فتحوّلت آلام الخدمة إلى رحم يفيض بالحياة! وكم كانت فرحتهم عارمة بعودة الابن الضال إلى أحضان أبيه، وتركْ المبتدع ضلاله ليسير في الطريق الصحيح ويحلق في سماء الروح مع سرب المؤمنين.

عرفناهم كنوزاً سخية دائمة العطاء، وألحاناً شجية تعزف لحن الوفاء، ولهذا لا تستطيع الأعاصير أن تمحو بصماتهم ولا السنوات أن تطويها، لأنّ كتاباتهم محفورة في أذهاننا، وتعاليمهم نستشهد بها في حواراتنا، وأقوالهم نرددها في عظاتنا، ويكفينا فخراً أنّ أستاذاً عظيماً من إكليريكية المحرق أضاف مادة جديدة لم تكن تُدرّس بالإكليريكية من قبل هي: جغرافية الكتاب المقدّس وكتب مذكرات هامة في العهد القديم، واستاذاً آخر أصدر بحوثاً في العقيدة أثرت مكتبتنا القبطية، وثالثاً فسر أسفاراً من الكتاب المقدّس صارت لنا مراجع هامة،

- 27 -
 ومنهم من أتقن عدّة لغات كالعبرية والقبطية والأمهرية والإنجليزية والفرنسية.. وهناك من أقرض الشعر، وكتب المسرحيات، وألَّفَ الترانيم الأرثوذكسية الروحانية العميقة.. ولم يتوقفوا عند خدمة المذبح، بل أسسوا الجمعيات المسيحية ووعظوا وفسروا الكتاب المقدّس فيها، وقدموا من خلالها الخدمات للأرامل واليتام.

وعندما دخلوا في حوارات وعقائدية، تحوّلت الكلمات في أفواه المقاومين إلى ألفاظ متقطّعة، وتجمّدت أفكارهم تحاول أن ترد وفي النهاية صمتت عاجزة! ولهذا ننسب لآبائنا الفضل في مقاومة الذين " يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ " (2بط1:2)، وتنبأ عنهم بولس الرسول قائلاً: " بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ " (أع29:20-30)، ونحن عندما نتبع تعاليمهم نعمل بقول الرب لعروس النشيد: " إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ " (نش8:1).

وعندما نتحدث عن جهادهم، نذكر راهباً مات شهيداً على اسم المسيح، وأسقفاً سُجن ظلماً فتشبّه ببولس الرسول، وقمصاً ظل عدة سنوات يعاني من مرض الكانسر شاكراً الله فصار مصدر عزاء للمرضى والمتعبين، وعالماً جليلاً عاش على الكفاف فلم يتذمر بل ثابر في تربية وتعليم أولاده، ومرتلاً قديراً فقد بصره فجاهد وتعلّم وصار نوراً ساطعاً للمكفوفين والمبصرين، وقمصاً انتقلت زوجته في سن مبكرة فعاش بقية حياته أرملاً يخدم نفسه وشعبه بأمانة وإخلاص.. ألا تستحق هذه السير العطرة أن نتمثّل بها ونسير على خُطاها؟ ألا ينطبق على هؤلاء الأبرار قول الرب: " وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ" (دا3:12)، وكيف لا يُضيئون وملامح الرب يسوع انعكست على وجوههم مثلما تنعكس أشعة النجوم على وجه ماء صافٍ. 

والحق إنّ معلمنا بولس الرسول عندما قال: " اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ الله انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ " (عب7:13) وضعنا أمام ثلاثة أفعال بصيغة الأمر: اُذكروا، اُنظروا، تمثّلوا.. فاذكروا تشير إلى أنّ المرشدين حاضرون في وجداننا وصلواتنا ولهذا نذكرهم كل يوم في مجمع القداس قائلين: لأنّ هذا يارب هو أمر ابنك الوحيد أن نشترك في تذكار قديسيك، وانظروا تُعلّمنا أن ننظر إلى نهاية سيرتهم وليس بدايتها، لنرى عمل الله كاملاً في حياتهم فنمجده، وتمثّلوا  يقصد بها أن نتمثّل بإيمانهم وليس بسلوكهم المتغيّر، فالإيمان يوّلّد الفضائل، والنعمة الإلهية واحدة أما السلوك فمختلف، ولذلك نرى قديساً يصمت وآخر يتكلم، قديساً يبتعد عن الناس وآخر يخدمهم.. فيهبنا الله أن نتمثّل بهم، ونخرج على آثارهم من يرية العالم القفرة، لنصل بسلام إلى آفاق الأبدية المفرحة.

ليست هناك تعليقات: