مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

إكليريكية الدير المحرق - الفصل الحادى عشر - القمص أبرآم رشيد منسى مدرّس اللاهوت العقيدي - الراهب كاراس المحرقي



عاش كطيور السماء مسبّحاً، وكزنابق الحقل مبتسماً، وذاب كالشمع على مذبح الحب ليُضيء الطريق أمام كل من أخطأ وضل الطريق وتعثر في ظلام الحياة، وكان كلامه كناراً تلهب قلوب سامعيها، نجوماً ساطعة تبحث عن ظُلمة النفس لتنيرها إنّه القمص أبرآم رشيد ربيب إكليريكية الدير المحرق، ومدرّس  اللاهوت العقيدي فيها.
الميــلاد والنشأة
الحمام قرية بمركز أبنوب- محافظة أسيوط، ازدادت جمالاً عندما وُلِدَ بها الطفل هابيل في (1/2/1960م)، فطوقته أمه كما تطوق الصدفة درّتها الثمينة، ونما يستمتع بجمال الطبيعة في القرى، ورأى السواقي المترنّمة، والعصافير المغرّدة، وذاق طعم الاستقرار العائلي في أسرة بسيطة غنية بالإيمان، فوالده رشيد منسى كان مزارعاً، وأمه نعيمة ربّة منزل، وشقيقه نبيل مهندساً معمارياً، وكميل فني أشعة، وسامي محاسباً، وأخته دميانة حصلت على بكالوريوس التربية قسم أحياء وتزوّجت بالقس ساويرس فتحي، وتشهد حياة هابيل أنَّه كان مواظباً على القداسات، ومدققاً في الأصوام، ومحباً للألحان، مداوماً على حضور مدارس الأحد ، شغوفاً يالقراءة، فامتلأ روحاً وطهراً، وكل من يراه يشعر بأنَّ هناك لمسة روحية خطَّتها السماء على وجهه المنير، فتمت سيامته بيد الأنبا لوكاس الثاني أسقف منفلوط وأبنوب (1965- 1983م) شماساً بكنيسة أبي سيفين بالحمام، وفي سن الرابعة عشرة صار خادماً للأطفال بمدارس الأحد، فكان كالنحل يتنقل فوق الزهور ليمتص رحيق الحياة ويقدمه لتلاميذه، وطرح افكاره ومحبته بذوراً طاهرة في حقل الخدمة فاثمرت، وجذب نفوساً كثيرة كانت بعيدة عن الكنيسة، ظل يفتقدهم مرتدياً البساطة، متغذياً بالوداعة، ومرتوياً باللطف.
الالتحاق بالكلية الإكليريكية
ظل هابيل بين أحضان الكتب تلميذاً يستزيد معرفة، فحصل على الثانوية العامة عام (1979م)، ثم التحق بإكليريكية بالدير المحرق فتعمق في العلوم الكنسية، وفي مايو (1982م) حصل على بكالوريوس العلوم اللاهوتية وكان ترتيبه الأول على فرقته، فتم تعيينه مدرّساً للاهوت العقيدي بالكلية، وقد شهد الرهبان والكهنة الذين تتلمذوا على يديه أنّه كان متمكناً ومتمرساً في الشرح والتبسيط مستخدماً التشبيهات والأمثلة، ولذلك كانت محاضراته شيقة، وعندما تنيح ترك مذكرات لم تُنشر بعد هي: 1- الديانة ومراحل تطورها 2- مقدمة في الأسرار الإلهية   3- عقيدة التثليث والتوحيد 4- أُقنوم الاب وأُقنوم الابن وأُقنوم الروح القدس 5-  الإنسان صورة الله ورحلته إلى مقار الاخرة 6- مذكرات في القانون الكنسي 7- التجسد والفداء 8- ماران آثا (عِلم الإسخاتولوجي Eschatology).  
قصـة الزواج والكهنوت
تثقل ذهن هابيل من كثرة التفكير في المستقبل الذي تمناه أن يكون مشرقاً، فبعد التخرّج كانت طموحاته كبيرة وكان أمامه ثلاثة خيارات متاحة: الكهنوت لأنه كان محباً للخدمة، الرهبنة لأنه يميل للحياة الفردية، السفر إلى اليونان لتحضير الدكتوراه.
ولكن عندما يتوقف العقل يبدأ عمل الإيمان، فيقود الله حياتنا ويدبر أمورنا ويختار الصالح لنا، كما حدث مع هابيل في زواحه وسيانته التي روتها ابنته الدكتورة لوئيس قائلة:
كان الشماس هابيل أثناء الدراسة يذهب للخدمة في طهطا ثم يعود إلى الإكليريكية، وعندما عجز أن يتخذ قراراً بشأن مستقبله، صام وصلى ثلاثة أيام في الدير بمشورة أب اعترافه القمص إبراهيم المحرقي، وفي اليوم الثالث فوجيء بزيارة الأنبا إشعياء أسقف طهطا وجهينة للدير المحرق! فأرسل له يطلب مقابلته فما أن ذهب إليه حتى قال له: الله دعاك للخدمة في طهطا قل: أمين! وكرر العبارة ثلاث مرات! فطلب مشورة أب اعترافه فقال له: مادُمت كنت صائماً وتصلي وتطلب مشورة الله فثق أنّ هذه دعوة من الله، فاستراح من عناء التفكير وعرف أنّ سفينة حياته تتجه إلى شاطيء الكهنوت والخدمة..
وكان الزواج أيضاً بتدبير إلهي، ففي كنيسة الشهيد كيرياكوس بطهطا، فرأى الخادمة تهاني راجي بولس الحاصلة على  ليسانس آداب- تاريخ فشعر بارتياح نحوها، وعندما قابل الأنبا إشعياء اقترح عليه تهاني لتكون زوجته! ففرح واعتبرها علامة أنّ هذه الزيجة من الله، وقد كان! فتمت الخطوبة في (9/11/ 1986م)، وبعدها بأُسبوعين تمت سيامته باسم: القس أبرآم على مذبح كنيسة السيدة العذراء مريم بطهطا، وكان هذا الحدث البهيج في (23/11/ 1986م).
وقد أثمر زواجه: الدكتورة لوئيس، والصيدلي أنطونيوس.
وفي (10/6/ 1991م) نال رتبة القمصية بيد الأنبا إشعياء.
رؤيـا تحققت !
فرح القس أبرآم بأنّ كهنوته دعوة من الله، وقد زادت فرحته عندما تحققت رؤية والدته البسيطة، فقد روت أنّها حينما كانت حُبلى به، رأت فى حُلم القمص مرقس القمص جرجس كاهن كنيسة أبي سيفين بقرية الحمام يقول لها بعد أن ناولها من الأسرار المقدّسة: الطفل الموجود فى بطنك تبعنا! فلم تدرك وقتها أنّ هذه الرؤيا إشارة إلى دعوة ابنها لخدمة الكهنوت!
أهم خدماته في طهطا
سمع القمص ابرآم أنين الناس وامتلأت أُذناه بتنهداتهم، فالتفوا حوله لمحبته وأبوته وهذه أم خدماته: خدمة أحباء الرب لذوي الاحتياجات الخاصة، دار العائلة المقدّسة للمسنين والمسنات بطهطا، بيت الشهيد كيرياكوس للمغتربين وبيت الشهيدة يوليطة للطالبات المغتربات بأسيوط، خدمة مريم المجدلية للأرامل، بيت الأم يوليطة للأيتام، خدمة مركز الرجاء الطبي ومركز السامري الصالح للإعاقة الذهنية، خدمة المكرسات، مركز الراعي وأم النور للإعاقة، خدمة مرضى الأورام والفشل الكلوي والكبدي، مركز التأهيل والعلاج الطبيعي، اجتماع السيدات واجتماع فتيات إعدادي وثانوي بكنيسة الملاك والأنبا بيشوي، اجتماع المخطوبات والمتزوجات حديثاً، اجتماع رابطة مرتلي الايبارشية، دورات تعليم اللغة القبطية والتسبحة، تأسيس خورس الشمس المشرقة للشبان والشابات، كما قام بالتدريس في اجتماع الدراسات  اللاهوتية لإعداد الخدام بالإيبارشية، وتم تعيينه وكيلاً لمطرانية طهطا.
أب اعتراف ناجح
روي الأب كيرياكوس نجيب ابنه في الاعتراف قائلاً:
كان القمص أبرآم أب اعتراف ناجحاً، يستمع بدقة شديدة، وإذا كان مجهداً لا يُشعر المعترفين بذلك، وكان إرشاده من خلال آيات الكتاب المقدّس وسير القديسين، وكانت قوانينه روحية تقود المعترف إلى الصلاة وتجعله يرتبط أكثر بالكنيسة، فعندما كان المعترف يقصّر في قوانينه الروحية ويتكاسل في الصلاة.. يطلب منه أن يحضر قداس باكر من (5- 7) صباحاً لمدة أسبوع، وإذا كان غير مستعد أو هناك سبب يمنعه من المناولة، يطلب منه أن يحضر القداس كصلاة ولا يتناول حتى يتعود على حضور الكنيسة.
فضائل تحلى بها القمص أبرآم
كان القمص أبرآم دافيء المشاعر، حنوناً، هادئاً، مبتسماً، ومن يجلس معه يشعر بسلام، وكان وجهه يبعث فيك الراحة والهدوء، وقد تميز بأمانته فعندما تم تعيينه وكيلاً لمطرانية طهطا، سمع الكثير من المشاكل ولكنه لم يتحدث عنها أمام أحد، وكان يصلي لتنتهي المشكلة حتى لا يسقط في خطية الإدانة، وفي بيته لم يسمح لأفراد أسرته أن يدينوا إنساناً.
وأحب القمص أبرآم العطاء وتحدث الناس عن عطاياه بعد نياحته، وكان يشجع أولاده على العطاء قائلاً: كما تأخذ الناس بركة العطاء، أنتم أيضاً يجب أن تأخذوا بركته.
وكانت خدمة الخروف الضال أهم خدماته، فإذا سمع أنّ فتاة ضلت الطريق، يذهب إليها ويأتي بها ويرعاها روحياً ونفسياً ومادياً...
وقد تميز بالتواضع فذهب يوماً لصلاة القداس ووجد الكنيسة غير نظيفة فعاتب الفرَّاش كبير السن، وقبل أن يرفع الحمل ذهب إليه يطلب المسامحة قائلاً: لن أُصلي إن لم تسامحني!
وكان شجاعاً في الحق وذا هيبة ووقار يدركها كل من تعامل معه، وحكيماً وصاحب مشورة صالحة، وقد تميز ببراعته في الوعظ والبلاغة والفصاحة في إلقاء الكلمات في المحافل الرسمية، وكانت علاقته حسنة باحبائنا المسلمين.
بعض أقواله
+ العقل هو النور الإلهي الذي يضيء لك طريق الحياة، فلا تطفئه بسبب الخطية لئلا تنحدر إلى الهلاك الأبدي.
+ الموت في جهاد أفضل من الحياة في الخطية.
+ طوبي لمن تحول لسانه إلي قيثارة ويديه الي ذبيحة.
+ إن سقطت في الخطية فلا تيأس، بل تذكر أنّ الله رآك ولم يجرح مشاعرك، لكي تعود إلى أحضانه تائباً فهو يناديك.
+ نظرة واحدة من عينان تلمعان بدموع الحب، تهزم كل الشر الكامنة في الكراهية.
+ الألم هو الوقود الذي يزيد الصلاة اشتعالاً.
+ اكتشاف المسيح لا يحتاج إلى مشقة، فهو الذي يبحث عنا، وهو الذي يغرس في نفوسنا سر سعينا نحوه.
صليب المرض
فى مارس (2010م) أُصيب القمص أبرآم بكانسر في البنكرياس وامتد إلى الكبد، وقد ظهرت نتيجة الفحوصات فى (17/3) وكان يوافق عيد الصليب! وخضع لأولى جلسات العلاج الكيماوي فى عيد نياحة أبينا بيشوي كامل (21/3)، الذي عندما أُصيب بالسرطان أطلق عليه مرض الفردوس، لذلك كان القمص أبرآم يقول: أخذت بركة من عند أبينا بيشوي كامل! واعتبر مرضه نعمة تستحق الشكر فكان يقول: أشكر الله الذي لم يبخل علىَّ بهذه النعمة!! وكان قبل أن يقوم بعمل فحوصات شعر بألم فقال لبعض الخدام: أنا عندي مرض الفردوس! فتعجبوا ولم ينطق أحد بكلمه! ورغم أنَّ آلامه كانت تستدر الدمع من عيون محبيه! إلاَّ أنَّ المرض لم يستنزف دموعه أو يوقف نشاطه فبسط جناحيه فوق بحر الألم، حتى يعبر إليه المرضى فيعزيهم، فكان إذا سمع بمريض يتصل به فكان كلامه يحمل رسالة تعزية وتشجيع على الاحتمال خاصة عندما يخبره أنهما شريكان في حمل نفس الصليب!
وفى (17/8/2010م) خضع لعملية استئصال ورم في البنكرياس، أما ورم الكبد فكان علاجه بالكيماوي الذي استمر حتى نياحته! ورغم آلامه كان عندما يدخل الكنيسة ويقف أمام المذبح يمتليء قوة، وعندما صلى الجمعة العظيمة (2014م) تعب، فقام الطبيب بإعطائه مسكنات شديدة في غرفة ملحقة بالكنيسة وفجأة دخل ووقف على المنبر وألقي عظة جميلة عن الطيب المسكوب بعـد السـاعة السادسة! وبعـدها خــرج ليســتريح ثم عاد ووعظ عن الكنز الكثير الثمن بعد الساعة التاسعة!
النياحة
" يا إلهي إني أتأوه " هذا كان حال القمص أبرآم بعد أن ضعفت صحته وأنهك المرض جسده، لكنه كان يستقبل شعبه ويعزيهم بكلماته الروحية ويصلي من أجلهم عاملاً بقول بولس الرسول: " لَسْتُ أحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ " (أع20: 24)، وقد أتت الساعة ليستريح ففي الثانية فجر الأحد (21/9/2014م) فاضت روحه الطاهرة عن عمر يناهز الرابعة والخمسين عاماً قضى منها ثمانية وعشرين كاهناً، وكانت جنازته مهيبة حضرها جمع غفير تعبيراً عن محبتهم له، لقد رحل القمص أبرآم رشيد منسى عن عالمنا، ولكنه لم يرحل من قلوبنا، فلازالت خدماته المثمرة تشهد له.


ليست هناك تعليقات: