مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

إكليريكية الدير المحرق - الفصل التاسع - االقمص فيلبس إبراهيم مدرّس العهد الجديد - الراهب كاراس المحرقي


لم يحيا مسكيناً خائفاً، بل قوياً، ثائراً أمام الظُلم، عاصفة تكسر بهبوبها الأجنحة المعوجة، يسمع الشر متكلِّمــاً فيُخرســه، ويلتقي بالريــاء فيصـرعه إنّـه القمص فيلبس إبراهيم صاحب الشخصية القوية والمواهب المتعددة، الذي أحبَّ الكتاب المقدّس وتعمّق في العهد الجديد، فصار له مفسراً دقيقاً ومدرّساً في الكلية الإكليريكية بالدير المحرق.
أسرة كهنوتية وميلاد كاهن
في قرية صندفا الفار بمركـز بني مـزار بمحافظة المنيا، وُلِدَ  سمير في (20/4/ 1949م)، ونما في بيت كهنوتي نذر الابن البكر ليكون كاهناً، فوالده القمص إبراهيم كان ترتيبه السابع والعشرين في تسلسل العائلة الكهنوتي، وخدم في كنيسة الأمير تادرس الشطبي بدير السنقورية، وكان راعياً صالحاً سهر على قطيعه لحراسته من الذئاب الخاطفة، لم يهمل قطيعه الصغير في عدده والكبير في محبته للمسيح الذي كان يرعاه ويقوده إلى المراعي الخضراء: زوجته وابنه البكر سمير، وابنته مريم.
تجربـة قاسـية
مضت نسمات الربيع وجاء الشتاء باكياً، ليحيا سمير يتيماً، ففي (19/6/ 1957م)، تنيح والده وهو لا يزال طفلاً، وترملت أمه الفاضلة في سن الرابعة والعشرين، فتثقل ذهن سمير من كثرة التفكير في المستقبل لكنّ سهم الموت لم يمزق أحلامه بل دفعه إلى الكفاح وقاده إلى النجاح وعلّمه الاعتماد على النفس، وعندما رأى عمّه ميخائيل يبيع أملاك العائلة ويبدد أموالاً طائلة ليحصل على لقب أفندي من الملك فاروق! صار حريصاً على حقه في الحياة، مثل بولس الرسول الذي دافع عن نفسه قائلاً: " إلّى قَيْصَر رَفَعتَ دَعْوَاكَ " (أع12:25)، أما الأم فقاومته وصمدت كالصخر وحافظت على القليل المتبقى لتربي أولادها.
الا لتحاق بالإكليريكية
إنَّ من ترك باب الماضي مفتوحاً لن يدخل دائرة المستقبل، ومن يستسلم للحزن لن يتذوق طعم الفرح، ولهذا تخطى سمير الحزن على وفاة والده واهتم بدروسه، فتفوق وجاء ترتيبه الرابع على المحافظة في الإعدادية فبسط يديه محلقاً في سماء الروح والتحق بإكليريكية القاهرة، وتتلمذ على أيدي أعظم العلماء: الأنبا شنودة أسقف التعليم، الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العِلمي، الأنبا يوأنس أسقف الغربية الذي كان أب اعترافه.
الزواج
إنّ الزواج نفسان تتوكآن الواحدة على الأُخرى لكي تصعد إلى الله، والحب الزيجي يتجه نحو الآخر لكي يخدمه ويرعاه، ويسانده ويسهر على راحته، ويسهم في تحقيق سعادته، ويشترك معه في تثبيت دعائم ملكوت الله على الأرض، وقد كان سمير يؤمن بقدسية سر الزيجة وليس لديه ميول للرهبنة وحياة البتولية، ولذلك تزوّج بالآنسة إستر لطيف حبيب بقطر في (31/10/ 1968م)، ومن هذه الزيجة المباركة أعطاه الرب نسلاً صالحاً: ماركون (القس مرقس)، متى، مينا، صموئيل، مريم، مارتينا، مارلين.
موقف حازم لوالدته
عندما كان البابا شنودة أسقفاً للتعليم، لمس نبوغ الشماس الإكليريكي سمير، فقد كان متفوقاً ويأتي ترتيبه الأول على فرقته كل سنة، فقرر أن يعينه معيداً بعد التخرّج ليقوم بتدريس العهد الجديد بإكليريكية القاهرة، تمهيداً لإرساله في بعثة إلى الخارج للحصول على الدكتوراه، فأطاع سمير فَرِحَاً، فلما علمت الأم ذهبت لمقابلة الأنبا شنودة وأعلمته أنّ ابنها سيكون الكاهن الثامن والعشرين في كهنوت العائلة، وأنّه سيفتح البيت الذي أُغلق منذ وفاة والده، وأنّ أجداده خدموا الأمير تادرس، وهو ليس أفضل منهم حتى يترفع عن خدمة الأمير ويتركه ليعمل مدرّساً بالإكليريكية، أو يخدم في إحدى كنائس القاهرة، فلمّا سمع الأنبا شنودة كلام الأم تعجب من جراءتها وقوة شخصيتها.. فقال لها: خذي ابنك وليكن كاهناً! وقد مدحها بعد ذلك قائلاً: لقد تحاورت مع كثيرين وأقنعتهم بالحجة وقوة المنطق، لكن سيدة واحدة غلبتني هي والدة القس فيلبس!
نعمة الكهنوت
قرر سمير أن يستمر تقليد العائلة ويدرس بعيداً عن الدرجات العِلمية، فتمت سيامته بيد نيافة الأنبا أثناسيوس أسقف بني سويف والبهنسا باسم: فيلبس على مذبح الأمير تادرس الشطبي بدير السنقورية والآباء الرسل بأشروبة في (20/1/1969م) وكان لا يزال طالباً بالإكليريكية، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، متعزياً بخدمة المذبح التعليم.. وبعد الكهنوت وأثناء دراسته، كان البابا كيرلس السادس  يستدعيه ليصلي معه ليتعلم أنَّ الصلاة هي أساس الخدمة، وفي مايو (1970م) حصل على دبلوم المدرسة الإكليريكية وكان ترتيبه الأول، وفي مارس (1980م) نال رتبة القمصية بيد الأنبا أثناسيوس.
سـيف الألـم
أحب القمص فيلبس زوجته الوفية حباً صادقاً، فهي التي عاشت معه في بداية رسامته في حجرة بسيطة بالكنيسة وكانت دورة المياه مشتركة.. لكنّ ربيع الحنان ذهب عن عالمه وأتى الشتاء باكياً على وفاتها في (22/8/2001م) فشعر بفراغ كبير حياته، ولكنَّ الحكيم لا يحزن على الأمس فهو لن يعود، ولا يتأسف على اليوم فهو راحل، بل يحلم بشمس مضيئه في غد أكثر إشراقاً، ولا يتذمّر لأنّ للورد شوكاً، بل  يتفاءل لأنَّ فوق الشوك وردة! وهكذا انطلق القمص فيلبس يخدم ويعظ ويصلي ويقرض الشعر... فتخطّى حزنه وانتصر على آلامه.
الوعظ والتدريس في كليات اللاهوت
كان القمص فيلبس واعظاً قديراً، وأساقفة وكهنة كثيرون كانوا يدعونه في الاجتماعات للوعظ، وقد تميّز بأنّه لا يعظ نفس العظة مرتين، ولهذا كان يقرأ كثيراً حتى يكون متطوراً وجذاباً، وكانت عظاته مشبعة، فهو متعمق في الكتاب المقدّس، وقام بتدريس عِلم الوعظ بالإكليريكية، وقراءاته كثيرة ومتنوعة..
وفي تفسير العهد الجديد كان بارعاً، وغزير المعرفة، وإجابته حاضرة، وكان يشرح ويسأل الطلبة ليكونوا يقظين، وكان يقدم المعلومات بطريقة مبسطة يستوعبها الطلبة.
وأينما ذهب كان الكتاب المقدّس رفيقه وهذا هو سر عظمته، وفي الدير المحرق كان عند شعوره بالإرهاق بعد المحاضرات كان يطلب من الأستاذ تامر حكيم مدرّس اللغتين: القبطية واليونانية، أن يقرأ له في الكتاب المقدّس حتى ينام!
وفي البيت كان يشرح لأولاده قصصاً من الكتاب المقدّس، ويعرب لهم إنجيل العذارى لصعوبة قراءته وكثرة نون النسوة به، فتعلّموا النحو عن طريق الكتاب المقدّس!!
وكانت إكليريكية المنيا هي أول كلية لاهوتية يقوم بالتدريس فيها وذلك عام (1977م)، وبعدها قام بالتدريس في إكليريكية المحرق (1979م)، ثم إكليريكية القاهرة (1998م)، وإكليريكية النمسا (2011م).
هيبته وقوة شخصيته
كان القمص فيلبس يؤمن أنّ الإنسان المسيحي، يجب أن يكون شجاعاً مثل سيده المسيح، وعندما يسامح فهو يفعل ذلك عن قوة وليس عن ضعف، ففي يوم كان بمحكمة بني مزار، من أجل توثيق عقود الزواج، وفي مكتب وكيل النيابة كان يجلس بجانبه سبعة من شيوخ المسلمين، فلمّا دخل وكيل النيابة قام الشيوخ، ولكن القمص فيلبس لم يقف! فتعجب وكيل النيابة من موقفه فسأله: لماذا لم تقف مثل الشيوخ؟! فرد عليه قائلاً: أتيت لأنجز عملاً يجب عليك أن تؤديه فلماذا أقف لك؟! الواجب عليك أن تلقي السلام على الموجودين وأنت داخل إلى مكتبك، ونحن نرد عليك السلام فقط لا أن نقف لك، ففوجيء وكيل النيابة بالرد ولم ينطق بكلمة! وعندما ترك المكتب مدح الشيوخ القمص فيلبس قائلين: يسلم فمك!
وقديماً كانت السنقورية تُسمى دير الخادم، لأنّ الكاهن كان يخرج لخدمة الراهبات في الأديرة المنتشرة هناك، ثم بعد ذلك أطلقوا عليها السنقورية على اسم سنقر والي محافظة البهنسا الذي كان يسكن هناك، ولما أرادوا تسميتها دير السلطان محمد، رفض القمص فيلبس بشدة تغيير الاسم، وأصر على الاحتفاظ بهوية اسم المكان، فخضعوا له!
المراكز والأعمال والخدمات في دير الأمير تادرس
كان القمص فيلبس عضواً بلجنة الإيمان بمجلس كنائس الشرق الأوسط، وعضواً في بيت العائلة، واشترك في مؤتمرات كثيرة حول الكتاب المقدّس بلبنان، وله تسجيلات على قناة Ctv وقناة Agahaphy، وكتب مقالات بمجلة الكرمة ومجلة الأسرة والصحف العامة، وله مذكرات في العهد الجديد، وحصل على الماجستير عن موضوع التبرير والنعمة.
وفي السنقورية أسس نادٍ رياضي يجمع المسيحيين والمسلمين في ساحة المدرسة الابتدائية بالسنقورية، واهتم بالدورات الرياضية للشباب، وسعى لعمل جمعية استهلاكية بالقرية، وأسس جمعية التنوير رأسها ابنه الأستاذ مينا المحامي، وكلن يعظ ويفسر الكتاب المقدس فيها، وأنشأ حضانة للأطفال في الكنيسة، وطلب من هيئة النقل أن يمر أُتوبيس النقل العام، على صندفا والسنقورية وسيوه وبنى مزار فاستجابوا له.
لم تقتصر مواهب القمص فيلبس إبراهيم على الوعظ والتعليم، بل كان شاعراً موهوباً. 
رحلة المرض والنياحة
انهال المرض على القمص فيلبس إبراهيم فأُصيب بكانسر في المرارة، فمكث (25) يوماً بين المستشفيات والأطباء.. وفي الكنيسة صلوا وصاموا ثلاثة أيام ليشفي الله راعيهم، ولكن في الخامسة صباح الأربعاء (28/1/ 2015م) دقت الأجراس لتُعلن الخبر الأليم، فقد تنيح عميد عائلة القسيس، التي نزحت في القرن الثالث عشر من الواحات البحرية واستقرت في صندفا الفار تاركة (3000) فدان، وخدموا بكنيسة الأمير تادرس الشطبي بدير السنقورية، وتسلسل فيها الكهنوت حتى القمص فيلبس رقم (28)، ومن بعده ابنه القس مرقس رقم (29).

ليست هناك تعليقات: