في
الدير المحرق عاش قدّيسون كثيرون لا نعرف عنهم إلاَّ القليل، فقد ماتوا وتوارت
أجسادهم في ظلمة القبر، فدُفنت معهم أسرارهم وأفكارهم ومناهجهم الروحية العميقة،
لأنَّ فكراً ساد في الدير منذ القِدَم ألا وهو: إنَّ مجد والدة الإله لا يجب أن
يزاحمه مجد أي قدّيس، فهي الأم الملكة وستظل متربعة على القلوب، لذلك لم يهتم
رؤساء ورهبان الدير بإخراج أجساد القدّيسين ووضعها في مقصورات حتى يُعطوا
القدّيسة مريم كل التطويب.
من
بين هؤلاء الذين تشهد السطور القليلة المكتوبة عنهم على قداستهم، القمص صليب
بيّوحا الهوري الذي تميّز بشجاعته وغيرته على الدير، وتمجد الله في حياته
وأعلن قداسته من خلال معجزتين.
قرية
هور وميلاد قدّيس
وُلِدَ القمص صليب بيّوحا الهوري في قرية
هور أو حورس، وهي من القرى العريقة بمركز ملوي بمحافظة المنيا،
ومعناها: (كنوز)،
أما كلمة بيّوحا فهي تعني: القمر وتكتب هكذا في اللغة القبطية (P i io \ ).
ذهب إلى الدير المحرق وترهّب وتتلمذ على أيدي شيوخ حكماء،
فاكتسب منهم الحكمة والبساطة.. وتشهد حياته أنّه كان قوياً لا يرهب إنساناً، ومن
أجل الحق يفعل أي شيء " لأَنَّ
الرَّبَّ يُحِبُّ الْحَقَّ وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ، إِلَى
الأَبَدِ يُحْفَظُونَ " (مز28:37).
كنيسة
مارجرجس وظهور مجد راهب
سنوات تمر.. على رئاسة القمص ميخائيل
الأبوتيجي وعدد الرهبان يزداد، ومباني الدير تحتاج إلى ترميم، وتصدعت كنيسة
مارجرجس فأمر بهدمها، وخلال عامي (1878- 1880م) بنى كنيسة جديدة من طابقين فكان كل
من يراها تبهره أيقوناتها البيزنطية المذهبة وحامل الأيقونات الرخامي! وأكثرهم
يتساءلون عن قصتها؟
القصة ترجع إلى عصر الأتراك
(1517- 1914م)، عندما زار الدير بعض الأمراء فرحب بهم الرهبان وأكرموهم فانصرفوا
فرحين بالاستقبال الحار والكرم الزائد، ووعدوا الرهبان أن يهبوا الدير (285)
فداناً من الأراضي المجاورة، فقد عمل الرهبان بالوصية القائلة: " إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطعِمْهُ، وَإِنْ عَطِشَ
فَاسْقِهِ لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هَذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ
" (رو20:12)، بينما
الأتراك يتعاملون مع الناس بعجرفة، ويستمتعون برؤية الظلم يطغي على
العدل، والكبرياء يحتقر التواضع، والقوي يستعبد الضعيف، والغني يبتز الفقير..!!
ذهب
الأمراء... ولكن أسئلة كثيرة تزاحمت في أذهان الرهبان، وأكثرهم كانوا يتساءلون عن
مدى صدقهم؟ ومتى وكيف يرسلون الصك..؟ لقد خاف الرهبان أن يهملوا أو ينسوا أو لا
يفوا بالوعد! فجاء الحل عن طريق راهب تقي اشتعلت نيران الغيرة في قلبه، وتحمس
لفكرة الذهاب إلى إستنبول Istanbul ليأتي بالصك، إنّه القمص صليب الهوري الذي أنجح
الله طريقه وحصل على الفرمان.
ويعود القمص صليب إلى ديره ماراً ببلاد
الشام، وفي الطريق كان يجمع التبرعات، فهو يريد أن تكون كنيسة مارجرجس
أجمل كنائس الدير، لكنَّ إبليس هاج وأخذ ينفث سمومه لوقف عمل الله، أو يسقط هيبة
الراهب ويشوه سمعته أمام الناس، وقد كان! فعندما طلب تبرعاً من رجل، أشاح
بيده في وجهه فيبست ذراعه وعجز عن تحريكها،
بينما
الراهب القدّيس يقف ثابتاً في مكانه كالجبل لا تهزه الريح!! إنّه يمثّل كثيرين أحبّوا الظلمة، وركضوا وراء التعاسة،
وتكلموا بجهل على رجال الله، أكلوا الشوك ورموا الثمار إلى الهاوية، ارتدوا الثياب
البالية وثوب البر قد نُسجَ من أجلهم!
لحظات كأنّها دهر مرت على الرجل، شعر
خلالها بأنّه عريان أمام راهب بسيط، يرتدي فقط ثوب الفضيلة المبطنة بالتقوى، فصرخ
مستغيثاً بالراهب طالباً الصلاة، وكم كان المنظر
مثيراً عندما صلى القمص صليب فتحركت يد الرجل! كغصن جف من الشجرة وعادت
إليه الحياة من جـديد، فتمجـد
الله في قدّيسه العظيم، وأعلن أنّ محبته لا تستثني الأشرار والأعداء من أعمالها النافعـة،
وهو الذي أوصانا قائلاً: " أحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ،
أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذينَ يُسِيئُونَ
إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ " (مت44:5).
والآن بعد معجزة الشفاء العجيبة، يتفرس
الرجل في وجه أبينا البار، ليحظى بنظرة ملؤها الندم على ما فعل، فيرى بريق الإيمان
يتلألأ في عينيه، وبصوت يتموج الحزن والفرح بين كلماته يُعلن عن رغبته في التبرع،
وقد كان! فأحضر حامل أيقونات للكنيسة، وهو عبارة عن قطعة سميكة من الرخام، مزينة
بأجمل الأيقونات البيزنطية المذهبة، والناظر إليها يرى أيقونات غير
مألوفة في مصر مثل: أيقونة القدّيس يوحنا ذهبي الفم، والقدّيس باسليوس، وأعلى
أيقونته كُتبت عبارتان: الأولى: " اُذكر يارب المهتم بهذا الحجاب القسيس صليب
الهوري الراهـب " والثانيـة: " أنشأ هذا المحل في رياسة القمص ميخائيل
الأبوتيجي "، الذي سيم أسقفاً بيد البابا كيرلس الخامس، على أبوتيج وطما
وطهطا باسم: الأنبا ثاؤفيلس (1885- 1896م).
الشفاء
من العمى
عندما
نتحدث عن الألم نجد أنفسنا أمام تساؤلات فنحن لا نعرف لماذا تبدأ حياة أطفال في
رحم الألم، ويقضون شبابهم خريفاً دائماً من الحزن والمرض؟ أو لماذا تتزوج فتاة شريرة
لتُعذّب زوجها وأخرى بارة تموت عذراء؟ لكنّي أعرف أنّ الطفل
يجري إلى أبيه ويتمسك به عندما يتألم، وهذا ما حدث مع القمص صليب عندما فقد بصره
في أيامه الأخيرة لقد تألم! لكن من عينيه
كان يشع بريق الأمل! وعندما يلتف حوله الرهبان ليواسوه، كانوا يتعزون عندما يسمعون
منه صلاة يونان النبي: " قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ وَلَكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ
إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ "
(يونان4:2).
وفي
يوم ذهب إلى الكنيسة ليسكب اشتياقات قلبه يرافقه المزمور " انْظُرْ وَاسْتَجِبْ لِي يَا
رَبُّ إِلَهِي، أَنِرْ عَيْنَيَّ لِئَلاَّ أَنَامَ نَوْمَ الْمَوْتِ " (مز3:13) وبعد
حلول الروح القُدس، بدأ يصلي الأواشي فأمسك الجسد المقدّس بكلتا يديه وصرخ للرب
قائلاً: المرأة الخاطئة غسلت قدميك بدموعها أما أنا فأغسلك كلك بدموعي! وظل
يبكي بغزارة حتى امتزجت دموعه بالقربانة وملأت الجسد المقدّس! فأبصرت
عيناه! وتمخضت الليالي السوداء لتلد النور وقد كان وأصبح النور يشع من عينيه،
فتحول الليل إلى نهار والظلمة إلى نور عجيب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق