مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

السبت، 8 ديسمبر 2018

علماء عاشوا في الدير المحرق - القمص يوحنا سلامة المحرقي


تزوّج وترهّب، وعاش في الدير المحرق وخدم في السودان، ووعظَ وكتَبَ، لقد عاش حياة حافلة بالأحداث والمواقف المثيرة، وكلها تشهد لعمق إيمانه وتقواه وعِلمه الغزير، إنّه العالم الجليل القمص يوحنا سلامة المحرقي صاحـب كتاب اللآليء النفيسة في شـرح طقوس ومعتقدات الكنيسة، الذي يجهل كثيرون أنّه كان راهباً بالدير المحرق العامر.
أسـرة كهنوتية
جرجا قرية بسيطة ارتبط اسمها بقديسين وعلماء، نذكر منهم أسقفها القدّيس العظيم الأنبا يوساب الأبح، والأم إيريني رئيسة دير أبي سيفين للراهبات التي فاح عبير فضائلها، والقمص يوحنا سلامة المولود في عيد الشهيد العظيم أبي سيفين (1/8/ 1878م)، فكان يوم ميلاده حدثاً سعيداً، رفع من شأن القرية ونشر اسمها في أماكن كثيرة، وعندما تشاوروا على تسميته، لم يجدوا أفضل من سيف تبرُّكاً بأبي سيفين، وقد كان حقاً سيفاً حاداً مسلطاً على عقول الخارجين عن تعاليم السيّد المسيح!
 وينمو سيف في عائلة كهنوتية، فوالده وإخوته الأربعة كهنة مباركين، والأم ربّة بيت تقية، فتغذى بالتعاليم الروحية والطقوس الكنسية منذ صِغره، وعرف معنى الصلاة العائلية، وهكذا بدأت ملامح القدّيسين تنعكس على وجهه وتظهر في كلامه.
الدراسة في المدرسة الإكليريكية
حصل سيف على الشهادة الإبتدائية من مدرسة جرجا، عام (1892م) فالتحق بالمدرسة الإكليركية (1893م)، وكان من بين زملائه رائد مدارس الأحد الأرشيدياكون حبيب جرجس الذي تحدث عن غيرته ونشاطه عندما كان طالباً قائلاً: وأرى من أقدس الواجبات أن أذكر هنا زملائي بالمدرسة، الذين كانوا يتوقدون غيرة وإخلاصاً، وكانوا يلقون العظات معنا في قاعة المدرسة الكبرى وهم: جيد أفندي شنودة، رزق أفندي حنا، سيف أفندي سلامة، إسحق أفندي جرجس، حبيب أفندي شنودة.
وبعد خمس سنوات نال شهادة الإكليريكية عام (1898م)، فتم تعيينه مدرساً فى مدرسة الرهبان اللاهوتية بالدير المحرق، التي أسسها رئيس الدير نيافة الأنبا باخوميوس الأول (1928-1896م) لتثقيف الرهبان في العلوم الكنسية.
زواج قصير وتكريس دائم
سنوات قليلة مضت على تخرّج سيف وحصوله على دبلوم المدرسة الإكليريكية، تزوج بعدها، فيبدو أنّ والده كان يأمل أن يصير كاهناً مثله، ولكن زوجته تنيحت بعد فترة قصيرة، فرفض أن يتزوج بأخرى، وقرر أن يكرّس حياته لمن أحبه وبنور حبه غمره، فكان يجول القرى والمدن في جرجا وأسيوط يعظ الناس ويعلمهم حقائق الإيمان المسيحي المستقيم، فأعطاه الله كلمات روحانية ذات أحرف نورانية كانت كنار ألهبت قلوب سامعيها، وكان صوته كالماء العذب يسقط على الأرض الجافة فيرويها وتأتي بثمار حسنة.
الرهبنة في الدير المحرق
تاقت نفس سيف لحياة الرهبنة، فذهب إلى دير البرموس العامر ببرية شيهيت، لكنّ والده رفض أن يتركه، وعندما أصبح مدرساً في مدرسة الرهبان بالدير المحرق، تكلم مع رئيس الدير عن اشتياقات قلبه وحبه للرهبنة، ففرح بذلك واشترك في سيامته ثلاثة أساقفة: الأنبا باخوميوس رئيس الدير المحرق والأنبا مرقس مطران إسنا والأقصر وأسوان، والأنبا ثاؤفيلس مطران منفلوط وأبنوب، وكانت سيامته المباركة ليلة عيد الغطاس المجيد (19/1/ 1905م) فدُعي اسمه: يوحنا سلامة المحرقي على اسم القدّيس يوحنا المعمدان.
وفى الدير عكف الراهب المبتديء على الدراسة فازداد علماً واتضاعاً، وتحلى بالفضائل الرهبانية، فأحب الصمت والهدوء، وأحبه رئيس الدير فقام بسيامته قساً وعينه رئيساً لمدرسة الرهبان فى الدير، فتتلمذ على يديه رهبان كثيرون، ونهلوا من عِلمه وفضائله وحكمته، ومنهم من صاروا أساقفة وكهنة واستمر ثلاث عشرة سنة معلماً وناظراً للمدرسة وترقى قمصاً .
كتاب اللآليء النفيسة
في بداية القرن التاسع عشر بدأت الإرساليات الأجنبية تتوافد على مصر وتتغلغل بين الشعب القبطي، وكانت تنشر تعاليمها الغريبة عن إيمان وروح كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وكانت تستخدم فى ذلك كتباً تُبـاع بأسـعار زهيـدة لتحقيـق أهدافهـا، وقامـت ببناء المدارس والمستشفيات... فغار القمص يوحنا سلامة غيرة مقدّسة على كنيسته، وأدرك الخطر الذي يهدد الكنيسة القبطية فغاص فى بطون الكتب والمخطوطات ينقب ويحفر، ليبني أساساً منيعاً لا تجرفه سيول الهرطقات والأفكار الغريبة.
 وبعد مجهود ضخم استمر سنوات، وضع كتابه العظيم والنابض بروح الكنيسة الأرثوذكسية وعقائدها وإيمانها " اللآليء النفيسة فى شـرح طقـوس ومعتقـدات الكنيسـة "، الـذي لا يـزال مرجعـاً هامـاً للدارسين، وعندما قدّم هذه الدراسة لقداسة البابا كيرلس الخامس فرح جداً، وأمر بطبع الكتاب وتدريسه على طلبة الكلية الإكليركية وفي المدارس القبطية، وقد نفدت الطبعة الأولى للكتاب فور صدورها، فتقرر طبعه مرة أخرى، فبزغ نجم القمص يوحنا سلامة في سماء الكنيسة، ونال فى كل مكان يذهب إليه التكريم والمديح، لحفاظه على أرثوذكسية الكلمة والعقيدة .
الخدمة في السودان
في أوائل يناير عام (1918م) أصدر قداسة البابا كيرلس الخامس، قراراً بتعيين القمص يوحنا سلامة وكيلاً للبطريركية في السودان، فقضى ثلاثين عاماً يخدم ويعظ بأمانة، وهناك أسس الكلية القبطية بالخرطوم عام (1922م) لتواجه تعاليم الإرساليات الأجنبية التي انتشرت في السودان في ذلك الوقت، وقام بتدريس علوم الدين واللغة القبطية فيها حتى عام (1942م).
وقد بلغت الكلية القبطية بالخرطوم على يديه مستوى رفيعاً جداً، وامتد نشاطها فشملت مدارس للأطفال والتعليم الابتدائي والثانوي والتجاري بنين وبنات، كما أنشأ جمعية للسيّدات، وأبطل عادة خروج النساء وراء الجنازات ومنعهن من اللطم والعويل والندب على الأموات، وجعل مدة العزاء ثلاثة أيام، وأمر الحزينات التقدم إلى الأسرار المقدّسة للتناول، بعد أن كنَّ يقاطعن بيوت الله ولا يذهبن للصلاة في الكنائس!
وأسس مدارس الأحد في بورسودان، وهناك وضع أساس كنيسة ضخمة، بعد أن كانت حجرة خشبية، وأعاد بناء كنيسة حلفا، وأنشأ كنيسة عطبرة.
وبنى دار المطرانية التي زارها الإمبراطور هيلاسلاسي، الذي كان من أشد المعجبين بالقمص يوحنا سلامه، وقد مدحه على أعماله العظيمة والمدارس التي أسسها، والتقط معه صورة تذكارية لازالت موجودة بدار المطرانية حتى الآن.
وكان الأمير عمر طوسون من المعجبين به أيضاً، وقد مدحه في كتابه الذي صدر عن السودان.
وشأنه مثل شأن كل المصلحين.. لا يريدون أن يتسولوا من أجل مشارعهم، ولذلك نجح القمص يوحنا سلامة في شراء أربعة عشر منزلاً لتكون وقفاً باسم الكنيسة القبطية بالسودان.
تأسيس المدارس والاهتمام بالتعليم
عندما ذهبت البعثة المصرية إلى السودان في (11/3/1935م)، برئاسة طلعت حرب باشا مؤسس بنك مصر، أشادت بأعمال القمص يوحنا سلامة فالمدارس التي أسسها كانت كافية لسد حاجة المصريين، وكتب عبد الله حسين المحامي في مؤلفه عن السودان: بالخرطوم جمعية خيرية قبطية يرأسها الأب المحترم القمص يوحنا سلامة، وكيل البطريركية وراعي الكنيسة الأرثوذكسية، ومدارس خيرية- روضة وابتدائية بنين وابتدائي بنات وثانوي وقسم للتجارة- ويتعلم نحو40 % من التلاميذ مجاناً، وتضم مئات التلاميذ، وهي المدارس النظامية الوحيدة في السودان، وتسير وفقاً لنظام وزارة المعارف ونتائجها 100 % ويدخلها أبناء المصريين وبناتهم في السودان، لأنّ مدارس السودان للسودانيين والوظائف للسودانيين، فسدت هذه المدارس حاجة المصريين، وهي رمز للقومية المصرية.
وجاء على لسان فؤاد أباظة باشا: إنّ المدارس فازت بثقة ولاة الأمور المصريين، وعندما حضر القمص يوحنا سلامة إلى مصر قام فؤاد أباظة بتكريمه وسط جمع كبير من رجال مصر.
وفي عام (1940م) زار السودان وفد مصري رفيع المستوى، يرأسه السيّد علي مـاهر رئيس الوزراء، وعنـدما قابـل القمـص يوحنـا سـلامة شكره على أعماله وخدماته العظيمة التي قام بها، وأثنى على نشاطه كِبار الشخصيات من الأجانب والمصريين الذين زاروا السودان، وقال له أحدھم: إنك قمت بعمل لم تعمله  الوزارة بإنشاء المدارس المصرية بالسودان، ولھذا فإننا نعتبرك سفير مصر في السودان! وقال عنه مستر خرستويدس رئيس الجالية اليونانيـة ًبالسودان: لو كان عندنا أبونا يوحنا لأقمنا له تمثالاً!
ترشيحة للبطريركية
عندما خدم القمص يوحنا سلامة في السودان، وأثمرت خدمته وظهرت قدراته العِلمية والإدارية، وحكمته في تدبير شئون الكنيسة، سعى بعض الشبان إلى ترشيحه ليكون أسقفاً عاماً فرفض بشدة وظل كما هو قمصاً، وبعد نياحة البابا كيرلس الخامس، قام بعض كِبار الأقباط بترشيحه للبطريركية لكنّ الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية والقائمقام في ذلك الوقت، نجح وتمت سيامته باسم: البابا يوأنس الثالث عشر (16/12/ 1928- 21/6/ 1942م).
نياحـته
عاش القمص يوحنا سلامة عالماً بسيطاً، أحبه كل من تعامل معه، وكان صورة مشرّفة لكنيستنا القبطية، فقد وعظ وعلّم وكتب وأسس كنائس ومدارس وقدم خدمات كثيرة لشعب السودان.. وصار رسالة حية تنبض بالحب والعطاء، وتوبّخ المتكاسلين عن أداء رسالتهم نحو شعبهم.. وأخيراً بعد رحلة طويلة تتلخص في كلمتين: الخدمة والعطاء تنيح عالمنا الجليل في يوم (13/4/1960م)، ودُفن في السودان وصار نجماً لامعاً في سماء القدّيسين.

ليست هناك تعليقات: