كانت
الكنيسة كل شيء في حياته قبل وبعد الرهبنة، إنها البيت الذي وجد فيه راحته
وصلى ورنم وتنسم رائحة البخور، وفي الدير علمنا بأعماله أكثر من كلامه! ولكم أن
تتخيلوا عزاء طالب الرهبنة عندما يدخل الدير، ويرى شيخاً نحيلاً ذاهباً إلى
الكنيسة، ماشياً على مهلٍ، متكئاً على عكازه، مُحدّقاً في الأرض التي تذكره
بالفناء، إنّه القمص منقريوس الذي عاش ما يقرب من سبعين سنة راهباً،
ولازالت صورته محفورة في أذهاننا، وكلامه البسيط يملأ آذاننا..
عائلة
كهنوتية وميلاد راهب
في
قرية دير النغاميش بمحافظة سوهاج، عاش القس بطرس القمص ميخائيل كاهن كنيسة السيّدة
العذراء، راعياً صالحاً، مهيباً، ساهراً على قطيعه لحراسته من اللصوص والذئاب الخاطفة،
ولكن هناك قطيعاً آخر كان عليه أن يرعاه ويقوده إلى المراعي الخضراء، إنهم أولاده
التسعة، الذين أنجبهم من زوجته خِيرة، وكان الثالث بينهم متوشالح المولود
عام (1902م) ومعناه: رجل السلاح أو الرمح، وقد شهد متوشالح أنّ جدّه القمص ميخائيل
كان قدّيساً، ووالده حازماً، ومن هذه العائلة الكهنوتية العريقة خرج البابا يوساب
الثاني والأنبا مكاريوس أسقف قنا.
سنوات
تمر.. تعلم خلالها متوشالح في كتّاب القرية، القراءة والكتابة واللغة القبطية،
وحفظ التسبحة والمزامير وأجزاء من الكتاب المقدّس، وقرأ كثيراً من سير الشهداء والقدّيسين
وآباء الرهبنة فانطبق عليه قول معلمنا بولس الرسول: " إِنْ كَانَ الأَصْلُ
مُقَدَّساً فَكَذَلِكَ الأَغْصَانُ " (رو16:11) فأمه كانت سيّدة فاضلة أحبها
وارتبط بها، ووالده كان مملوءاً بالإيمان.
فكر
الرهبنة
كان
متوشالح كلما تقدم في العمر تقدم في القامة الروحية ونشط في الخدمة، فتولى نظافة الكنيسة وعمل القربان،
وقام بتحفيظ الشمامسة الألحان ومردات القدّاس، لكن شهوة الكهنوت لم تتملكه،
والحياة الزوجية لم تكن رغبته، فقد نظر إلى الحياة بعين الراهب، فاختبر حلاوة القدّاس
اليومي والصلاة الدائمة، وعاش الفقر الاختياري فتمنى أن ينضم إلى طغمة الرهبان،
وهو الذي أحب سكينة الليل، فقد روى عن نفسه قائلاً: كنت أحب موسم الحصاد، فأذهب لحراسة الأجران،
وأتسامر مع الشباب ليلاً ونتحدث عن عجائب الله، ونقرأ في الكتاب المقدّس، ونتأمل
في سير القدّيسين والرهبان.. حتى ينسل شعاع الشمس ويأتي الصباح، فنأكل ثم نعود إلى
بيوتنا فرحين.
عوائق في الطريق
تثقل
ذهن متوشالح من كثرة التفكير في الرهبنة، فهو يبحث عن حياة تمنّاها، لكنّ والده كان
يريده أن يخدم في الكنيسة، ويظل بجانبه في العالم ليباشر أراضيه ومواشيه بعد أن
مات ستة من أولاده! فلمّا أدرك متوشالح هذا ذهب ليقضي خلوة في دير الأنبا أنطونيوس
على أمل أن يستقر هناك، وبعد شهر أعاده أخـوه الأكـبر ميخائيل إلى البيت! لكنه تطلع
إلى السماء فوجدها مضيئة بالنجوم، ونظر إلى الأرض فرآها مزينة بالزهور، وهكذا
احتفظ بحيويته للصراع بين الحياة في العالم والذهاب إلى الدير، وكان الصراع الأعظم
ضد والده، الذي تيقن أنّ ابنه اختار البتولية تاجاً يزين به رأسه فحاول أن يُثنيه
عن الرهبنة بالزواج والكهنوت فرفض وصارحه بحبه للرهبنة، متشفعاً بالقدّيسة مريم
التي أحبها، وطلب أن يكون راهباً في دير يحمل اسمها، فاستجاب الله لطلبته وهذا
ما حدث:
كان
القس بطرس نائماً وقت الظهيرة، وفجأة استيقظ ونادى على ابنه، وعندما حضر طلب منه
أن يذهب إلى الدير لأنّه من نصيب العذراء فبكى الحاضرون! وعندما سألته زوجته عما
حدث قال: أثناء نومي رأيت نوراً ساطعاً، خرجت منه فتاة حولها هالة من نور، وطلبت
مني أن أترك متوشالح يذهب إلى الدير لأنّه من نصيبها! وقد كان! وانطلق متوشالح إلى
الدير.
الرهبنة
في الدير المحرق
" لا تحكم على مستقبلك من الآن فالأنبياء رعوا الغنم ثم
قادوا الأمم "، تلك عبارة هادفة تفتح الأمل أمام كل من تعثر في الطريق، فرغم
آلام متوشالح إلاَّ أنّه لم ييأس، فجاء عام (1927م) يزف بشرى الفرح، فقد بسط متوشالح يديه كطائر بديع، يريد أن يستقر في عشٍ تمنّاه، فذهب إلى الدير المحرق وتقابل مع القمص
دانيال المحرقي، ففرح عندما علم أنّه من أسرة كهنوتية عريقة، ولديه حب عميق لله وللرهبنة،
وأخذه إلى وكيل الدير الذي كلفه بالخدمة في مزرعة
البهائم، وعندما انتصف الليل ونمت رهبة السكون، فُتحت أبواب الكنيسة وهرول الرهبان
مسرعين من قلاليهم للصلاة، وكان متوشالح يقف بينهم والنعمة تملأ وجهه، وقد شهد
الرهبان لمحبته وبساطته وطاعته ونشاطه واتضاعه.. فرشحوه للرهبنة وتمت سيامته بيد الأنبا باخوميوس الأول
رئيس الدير، في برمون عيد الميلاد المجيد (6/1/1928م)، وبعد القدّاس وقف الرهبان يتبادلون
نظرات الفرح، وهم ينظرون إلى الراهب المبتديء منقريوس (Mankrioc) مهنئين
برهبنته، طالبين له من الرب ملء النعمة والقامة الروحية، مع أخيه في السيامة
الراهب تاوضروس إبراهيم المحرقي، أما منقريوس فمعناه: رجل الله.
يوم
في حياة الراهب منقريوس
لقد رأى أبونا منقريوس في يسوع حبّاً عميقاً
كالبحر، فعاش ينهل من هذا النبع الصافي، ويفيض به على الرهبان وتجلى حبه في يومه
الذي وصفه
قائلاً: كنت أستيقظ في الساعة الحادية عشرة ليلاً لأصلي المزامير، بعدها أطرق
قلالي الرهبان لحضور التسبحة والاطمئنان على صحتهم، ثم أدق الجرس لبدء صلاة نصف
الليل، وأتوجه بعدها إلى بيت لحم فأخبز القربان ثم أذهب به إلى الكنيسة حتى ينتهي
القدّاس، وبعده أذهب لأبينا بشاي الكفيف لأُعد له الإفطار واحتياجاته مع طلبات شيوخ
آخرين، وأستمر هكذا حتى يأتي الغروب فأذهب لأدق الجرس وبعد صلاة المزامير، أذهب
إلى بيت لحم لعجن ودق القربان، وبعد ذلك أدخل قلايتي منهكاً، لكي أصلي مزاميري
وأنام بضع ساعات.. لقد كنت أتعب لكن الرب كان يُعطيني قوة ونعمة، وأنا اليوم أحيا ببركة
هذه الأيام، ومن بين الأعمال الكثيرة
التي تولاها نظافة الكنيسة وإعدادها للصلاة، خدمة الشيوخ، عمل الشمع، الأباركة،
المخبز، المعمودية، وحوش البهائم..
الكهنوت
والقمصية
سنوات
تمر.. ويصعد أبونا منقريوس إلى الهيكل ليقدم ذبيحة ويقرب بَخوراً لله.. فقد سيم كاهناً
عام (1932م)، وقمصاً سنة (1933م) بيد نيافة الأنبا أغابيوس الكبير أسقف
صنبو وديروط وقسقام (1929- 1964م)، ومنذ ذلك الوقت لم يترك القمص منقريوس خدمة
مذبح الكنيسة الأثرية التي أحبها، والحق إنّ الكاهن الذي جمعه الله في قبضة الحب،
ويقضي أيامه في الصلاة والتسبيح وخدمة المذبح... هو قدوة وعظة حية للرهبان.
وكان
الرهبان عادة ما يذهبون إلى مدرسة الرهبان اللاهوتية بحلوان للدراسة، فذهب أبونا
منقريوس عام (1929م) ولم يكمل دراسته فعاد بعد عام لرغبته في الحياة داخل الدير،
وذهب مرة ثانية (1947- 1952م)، ولم يرجع إلى الدير إلاَّ ومعه شهادة التخرج.
مواقف
مضيئة في حياة القمص منقريوس
كان الهدف واضحاً أمام أبينا البار،
ولذلك رفض الحياة المزدوجة بين الرهبنة والخدمة، وعندما عرضوا عليه الخدمة في
القدس والسودان.. رفض دون أي تردد.
وقد تميز بطيبة قلبه، ففي يوم
ذهبت إليه لأعترف فشعرت بحنان لم أختبره من قبل، وأدركت حكمة الآباء عندما نادوا
بضرورة الاعتراف على الشيوخ، فالاعتراف ليس مجرد نصائح ومعلومات وتداريب... بل هو
حياة، وإن لم يكن أب الاعتراف أحب الله وعاش الرهبنة ببساطتها لا يمكن أن يفيد
الرهبان!
أما حبه الفريد للكنيسة فكان
ظاهرة يتحدث عنها الرهبان.
وكان يقوم بعمل ميطانيات كثيرة،
وأحياناً يصلي الأجبية ثلاث مرات في اليوم، وإذا سأله راهب عن السبب
كان يقول له: أنا ورايا أيه! كما كان يقرأ بشغف في الكتاب المقدّس ومن عباراته:
الكتاب المقدّس ليس له قانون، طالما الراهب في القلاية عليه أن يقرأ فيه!
وعن حبه للعطاء كان يذهب إلى جزار
الدير، ويأخذ نصيبه من اللحوم ثم يذهب إلى قلايته، ويقطّعها بالتساوي لعدد من
العمال كان يرعاهم فعلمنا " أنَّ الإِيمَانُ أَيْضاً بِدُونِ أَعْمَال
مَيِّتٌ " (يع26:2)! وقد تعرض لنقد بسبب تصرفاته ولكن كلام الناس مثل
الصخور إما أن تحملها على ظهرك فينكسر أو تبني بها برجاً تحت أقدامك فتعلو وتنتصر! وقد ارتفع أبونا والآن يُطوب في السماء وعلى الأرض!
وكان يتحلى بالاتضاع والبساطة،
سواء في ثيابه أو طعامه أو كلامه أو قلايته.. وفي الكنيسة كان يبحث عن حذائه،
فأخذته وحاولت أن أضعه تحت قدميه ليلبسه فغضب وتغير وجهه!
ومرة زاره
الأنبا مينا مطران جرجا في قلايته ليعترف، وفي نهاية الجلسة انحنى وطلب منه البركة
فرفض أبونا بشدة قائلاً: يا سيّدنا أنت مطران وأنا راهب غلبان لكنه صمم أن ينال
الحل منه، ففي الحال قال أبونا منقريوس: حاللني يا سيّدنا وصلى له!
ورغم كثرة صلواته
وأصوامه كان يقول: ستون سنة عشتها لم أرضِ فيها الرب يوماً كراهب! وقد تعرض لحروب شيطانية،
ففي البداية خاف وارتعش، فكان يصرخ لله راشماً ذاته بعلامة الصليب مردداً
المزامير، طالباً شفاعة القدّيسة مريم والشهيد فيلوثاؤس.
وقد
بارك قلايتي، وعندما سألته: هل تخاف من الموت؟ صاح: ليه.. أخاف الموت ليه!
كما لو كان الموت حشرة يطأها بقدميه!
معجــزات
+ في ربيع عام (1977م)، أصابته غيبوبة شديدة
استمرت ثلاثة أيام، وتوقع الأطباء وفاته خلال يوم، وفجأة وقف أبونا وبيده
الأجبية والصليب وأخذ يصلي.
+ وفي شهر كيهك سنة (1982م)، سقط القمص
منقريوس على الأرض، وأُصيب بكسر في مفصل الفخد، وعندما فحصه الطبيب قال: إذهبوا
إلى الدير وصلوا من أجله فالحالة شديدة، ونظراً لكِبر سنة هناك خطورة من الجراحة، وخلال
يومين قام وحضر الطبيب واعترف أنّ ما حدث معه معجزة!
+ وفي عام (1991م) كان يستحم والماء
مكهرباً! فسقط على الأرض ولما قام صعقته الكهرباء وفجأة انقطعت الكهرباء!
+ وقد أصيب
بهبوط حاد في القلب عام (1995م)، وانتفخ جسمه، وتوقع الأطباء موته خلال يومين، وفي
اليوم التالي فوجيء الطبيب أنّ أبانا بحالة جيدة!
+
في مستشفى سانت ماريا بأسيوط، فتح القمص منقريوس عينيه بعد أربعة أيام في غيبوبة،
فوجد أُناساً في حجرته، فأشار إلى علبة الحلوى فأحضروها له، فأعطى كل واحد قطعة
ملبن ماعدا سيّدة أعطاها قطعتين! حيث كانت حبلى ولديها مشاكل تهدد بنزول الجنين،
فذهبت إلى أبينا لنوال بركته لتحتفظ بالجنين، فحقق لها الــــرب أُمنيتها ووضعت
طفلها الأول!
+ ذهب إليه شاب
قبل دخول الجيش لكي يصلي من أجله، فقال له: لن تدخل! وأثناء الكشف الطبي كتب
المسئول طوله ( 156سم) بدلاً من (165سم) وأخذ الشاب إعفاء!
رحلة
المرض والنياحة
أتى
عام (1997م) فكانت صحة أبينا قد أُنهكت فدخل مستشفى الراعي الصالح بسمالوط، فكان يردد
المزامير وأجزاء من التسبحة والقدّاس أثناء غيبوبته! وفي مستشفى سانت ماريا،
بدأ الإرهاق يُسرع في تفاقمه والنبض يضعُف والغيبوبة تزداد، ويأتي الصوم الكبير
يحمل معه ريح الموت، فدقت الأجراس كأن أنيناً يوقظ الرهبان ليذرفوا دموعهم على من
أحبوه، ويفتح القبر فاه، بينما الكنيسة قد تم تجهيزها ليوضع فيها الجسد! فقد خرجت
روحه في (5/4/ 1997م) عن عمر يُناهز الخمسة والتسعين عاماً، وفي احتفال
جنائزي بسيط تمت الصلاة لروحه الطاهرة في كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بالدير في
أحد المخلع (6/4/ 1997م)، ليذهب بعدها إلى الطافوس وتتحول حياته البسيطة إلى قصة
جميلة تعزينا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق