من
أي أبواب الثناء أدخل؟! وبأي كلمات أفيض بما يملأ قلبي من إعجاب؟! لمن كان قلبه نقياً
كالثلج، وفكره بسيطاً يعلو فوق الغيوم السوداء، فقد عاش في الدير راهباً، وخرج
للخدمة قمصاً، وعاد للدير رئيساً، ثم صار أسقفاً، وظل كما هو بسيطاً، إنّه نيافة الأنبا
برسوم الذي تولى رئاسة ديرنا العامر وهو قمص، وأتقن اللغة العربية عندما
درس في مدرسة الرهبان بحلوان، وقام بتدريسها بإكليريكية الدير المحرق.
النشـأة
إنّ
عظمة البلاد في المسيحية لا تنبع من ثرواتها أو مبانيها بل من مجد القديسين الذين أنجبتهم وعاشوا فيها، وكفر
عبده قرية بسيطة بمركز قويسنا محافظة المنوفية، ازدادت شهرة
بميلاد القمص ميخائيل إبراهيم فيها.. وبتدبير إلهي تشهد القرية أيضاً ميلاد
يوسف إبراهيم يوسف في (25/4/1908م) الذي تربطه صلة قرابة بالقمص
ميخائيل إبراهيم، وقد تربى يوسف في أسرة بسيطة، فالوالد إبراهيم يوسف فلاح،
والأم حنونة حبشي حنا ربّة منزل، وأربعة إخوة هم: وهبة كان مزارعاً، يوسف
نجاراً، جرجس عامل تليفون بالشرطة، وحنونة الأخت الصغرى لا تعمل،
وقد التحق يوسف بمدرسة الأقباط بقويسنا وحصل على الشهادة الإبتدائية، وتشهد
طفولته أنّه كان مكافحاً فتعلّم النجارة من خاله منصور فأتقنها، وكان
مواظباً على حضور القداسات، فتمت سيامته شماساً في سن مبكرة..
الذهاب إلى دير
الأنبا أنطونيوس
امتلك
يوسف قلباً طاهراً وجسداً عفيفاً وأراد أن يكرّس حياته لله، وفي يوم سمع عظة عن
القديس يوحنا صاحب الإنجيل الذهب، الذي وُلِدَ في روما من أب غني وعندما طلب
منه إنجيلاً عمل له إنجيلاً مذهباً، فأخذه وذهب إلى الدير، ثم عاد بعد سبع سنوات متنكراً،
ومكث في كوخ حقير ثلاث سنوات، يقتات من فضلات موائد أبيه التي يُلقيها الخَدم في
صناديق القمامة، وعندما أعلمه الرب بساعة انتقاله، استدعى والدته وأعطاها الإنجيل
فلمّا عرفته بكت هي ووالده، فتأثّر يوسف عندما سمع هذه القصة، والتهب قلبه حماساً
للحياة الرهبانية، وأصبح العالم في نظره كهفاً ضيقاً لا يسعه، فذهب إلى دير القديس
العظيم الأنبا أنطونيوس سنة (1928م).
وفي
الدير مكث يوسف أكثر من عام كطالب رهبنة، فقرأ بستان الرهبان، وعمل بكل ما
جاء فيه من نسكيات، متأثراً بسيرة القديس يوحنا التي سمعها، فكان يطوي الأيام
صوماً دون أن يرجع إلى أب اعترافه، فسقط على الأرض مغشياً عليه، فاستدعى الرهبان
طبيباً من بني سويف، وعندما فحصه رأى حزاماً مربوطاً على بطنه حتى لا يشعر بألم
الجوع، فطلب منه أن يأكل وعندما استعاد صحته طلب منه الرهبان مغادرة الدير!
الرهبنة في
الدير المحرق
بعد أن غادر دير الأنبا انطونيوس عاد يوسف
إلى كفر عبده وعمل بالنجارة، وشارك في عمل منارة كنيسة السيدة العذراء بالكفر.. حتى
ذهب إلى الدير المحرق ليبدأ حياة جديدة بعيدة عن الحماس النسكي الزائد، فنجح في
فترة الاختبار، فقام الأنبا أغابيوس مطران ديروط وصنبو وقسقام (1929- 1964م) برهبنته باسم: الراهب برسوم إبراهيم المحرقي في (18/12/1931م).
وفي (19/1/1936م) نال نعمة الكهنوت
فتحقق حلم الأم، عندما رأته يرتدي تونية بيضاء والشمامسة تزفّه فقالت له: إنّك
ستصير في يومٍ قسيساً! وكان ذلك قبل ذهابه إلى دير الأنبا أنطونيوس بشهر! وفي
نفس العام ذهب الآباء: برسوم وبطرس وجرجس من الدير المحرق للدراسة في مدرسة
الرهبان بحلوان، فتعمق في دراسة الكتاب المقدّس والعقيدة.. وأحب اللغة العربية فأتقنها
وقام بتدريسها لطلبة الإكليريكية بالدير المحرق.
الله ينقذه من
موت محقق
عندما كان القس برسوم المحرقي طالباً بمدرسة
الرهبان، خرج يوماً مع أبونا بطرس وأبونا جرجس للتنزّه، وفي الساعة الرابعة عصراً قابلهم
بعض الأشخاص من البدرشين وطلبوا منهم أن يصلوا صلاة التجنيز على أحد أقاربهم،
فذهبوا معهم وأثناء عودتهم ركبوا قارباً مع (27) فرداً، وجلس الثلاثة في مقدمة
القارب، وكان صندل قادماً من شركة كوم أمبو للسكر فاصطدم القارب بالصندل فغرق
القارب بمن فيه، أما الرهبان الثلاثة فارتفعوا إلى أعلى من شدة الصدمة وسقطوا على
الصندل ونجوا! وعندما وصل الصندل الى المعصرة تم عمل محضر بذلك، وشهد الرهبان
الثلاثة بما رأوا، ولمّا عرف البابا يوأنس التاسع عشر بما حدث، شكر الله وقال
للشخص الذي أبلغه: أرسل لهم سلامي واطلب منهم أن يصلوا من أجلي!
فـي
عـام (1948م) تـم تعيين القمـص أنجيلـوس المحـرقي وكيلاً للدير المحرق، وكان القمص
برسوم مشرفاً على جناين الدير، فأراد تجار من العرب وآخرون من أسيوط شراء فاكهة
الجناين، فكانت رغبة القمص برسوم أن يبيع للعرب لأنهم عرضوا ثمناً أعلى لكنّ القمص
أنجيلوس اتفق مع تجار أسيوط أن يبيع لهم ولم يعرف أنّ عرضهم كان أقل، فظن العرب أنّ
القمص برسوم خدعهم، فطلبوا من الخفير الذي كان يرافقه أن يتركه بجانب المدافن،
وفجأة أسرع الحمار الذي كان أبونا يمتطيه وسقط في مقبرة! فلما خرج العرب من
المدافن ليقتلوه لم يجدوه! وبعد أن غادروا المدافن خرج من المقبرة وترك الحمار
عائداً إلى الدير على قدميه، فرآه الخفير فأسرع نحوه واحتضنه يطلب المسامحة، فطلب منه
مقابلة العرب صباحاً وعندما حضروا أخذهم إلى المدفن، وطلب أن يُخرجوا الحمار
قائلاً: أنتم أردتم قتلي والرب نجاني! فندموا على سوء ظنهم وشرهم!
الخدمة في
السودان
ارتبط
القمص برسوم بعلاقة محبة بالقمص أثناسيوس عوض المحرقي عندما كان راهباً بالدير المحرق، وبعد أن صار أسقفاً باسم: الأنبا
باخوميوس على أم درمان وعطبرة بالسودان في (29/6/ 1947م)، طلب من القمص برسوم
المحرقي أن يساعده في الخدمة فوافق، فمكث هناك ثماني عشرة سنة (1954- 1972م)،
قضى منها ست
عشرة
سنة في شندي وسنتين في أمدرمان، وخدم خلالها مع ثلاثة أساقفة:
الأنبا باخوميوس، الأنبا توماس، والأنبا إسطفانوس.
وفي شندي كانت حياة الناس قاصرة على العمل واللهو، أما يوم الأحد فكانوا يجتمعون في المقاهي، فقام بافتقادهم طالباً أن يراهم
في الكنيسة وتقديس يوم الرب وإلاَّ سيذهب إليهم في المقاهي، فذهبوا إلى الكنيسة خوفاً من سخرية غير المؤمنين إذ رأوا أبانا جالساً على المقهى، وتغير كثيرون منهم! وقد علّم البسطاء
القراءة والكتابة، واهتم بالوعظ والافتقاد، وكوّن لجنة للكنيسة، وأسس مدار الأحد، ومكتبة للاستعارة، ومضيفة وحضانة وألَّفَ مسرحية وأخرجها.. والآن وصل عدد الشمامسة
إلى أكثر من مائة شماس! وتشهد كنيسة مارجرجس بشندي على مهارته
في النجارة، حيث قام بعمل القاعد وصـــــليب من
الخشب لايزال موجداً أعلى الهيكل، عليه المسيح مصلوباً وعلى جانبيه مريم العذراء والمجدلية، وكتب أسفله: فداءً أبدياً.
حكمته في حل المشاكل
في كنيسة مارجرجس بأمدرمان حدثت خلافات بين القمص بطرس سلامة والقمص جرجس المحرقي، فانقسم الشعب! فقام الأنبا إسطفانوس بانتداب القمص برسوم للخدمة هناك وعيّنه
وكيلاً للمطرانية، فغضب وكيل المطرانية القمص بطرس سلامة، فصمت القمص برسوم وترك الخدمات التي تخص الشعب من أكاليل وقناديل..
للقمص بطرس فشعر بالأمان نحوه وأحبه لأنّه كان رب أُسرة تحتاج إلى الرعاية، وعندما قرر القمص برسوم العودة إلى الدير ذهب القمص بطرس معه إلى المطار وودعه متأثراً لفراقة وتلاشت الانقسامات!
وفي عطبرة انحرف كاهن كنيسة السيدة العذراء مريم عن التعاليم الأرثوذكسية، فأنكر شفاعة القديسة مريم وهاجم إكرامها
كوالدة الإله.. فحرمه الأنبا إسطفانوس، فثار الشعب ورفعوا القضايا ضده، فانتدب القمص برسوم للصلاة هناك، فكان عندما يذكر اسم الأنبا إسطفانوس يعترض البعض! فامتنع عن ذكر اسمه فلمَّا عَلِمَ الأسقف عاتبه، فرد القمص برسوم: أنا أذكرك في عبارة: وسائر أساقفتنا الأرثوذكسيين فدعني أحل المشكلة بطريقتي وخلال عام سيأتي الناس يطلبون العفو والبركة من نيافتك، وخلال ستة أشهر تحقق كلامه !
عطاء بلا حدود
كان للقمص برسوم أخ يعمل بالشرطة وله سبعة أولاد، فباع نصيبه في بيت أبيه وميراثه في الأرض-
وكان عشرة قراريط-أعطى ثمنهم له لكي يساعده في تربية أولاده، وأثناء خدمته في السودان كان يرسل له عشرة جنيهات سودانية هي كل راتبه، وكانت الأموال التي تأتيه من الشعب يعطيها للأستاذ صادق يوسف أمين الصندوق بكنيسة مارجرجس بشندي، وإذا احتاج
شيئاً له أو لشخص محتاج كان يأخذ ما يحتاجه وقبل أن يترك
السودان ويعود إلى الدير ترك كل أمواله للكنيسة، وهكذا
أعطى الرب وأُسرته والمحتاجين فظهرت حكمته وزهده في المال!
وذات
يوم وهو في طريقه لصلاة عيد الصليب في إحدى الكنائس، توقف السائق أمام محطة بنزين، فأسرعت نحوه سيدة بسيطة تطلب بركة، فأخرج عشرة قروش ورق وأعطاها إياها واحتفظ لنفسه بقرشين فتعجب الأستاذ صبحي الذي يرافقه! فقال له: الله يعطي أضعاف ما نُعطي! وفجأة لمحه صاحب محطة البنزين، فذهب إليه وأعطاه اثنى عشـــــــر جنيهاً قائلاً: الجنيهان لك والعشـــرة تبرّع للدير!
ثقة وتقدير
كان لشخصيته الجذابة دور كبير في نجاح علاقته بأحبائنا المسلمين الذين شاركهم جميع مناسباتهم فأحبوه وصار موضع
تقديرهم وثقتهم، حتى إنَّه ذات يوم حكم القاضي بوقف مؤذّن
الجامع لكثرة الشكاوي منه، فذهب إلى القمص برسوم يطلب وساطته عند القاضي فذهب إليه واستجاب له وعاد المؤذن إلى عمله، شاكراً القمص برسوم على محبته وكان اسمه: الحارس.
رئاسته للدير
المحرق
عاد
القمص برسوم المحرقي من الخدمة إلى الدير المحرق في منتصف عام (1970م)، وفي تلك
الفترة كانت هناك اضطرابات بالدير، فعزل البابا شنودة الثالث القمص قزمان بشاي (1962-
1972م) من الرئاسة وعيّن
نيافة الأنبا أغاثون مطران الإسماعيلية ناظراً لوقف الدير المحرق ووكيلاً لقداسته،
وبعد ذلك تم تعيين القمص برسوم المحرقي رئيساً للدير في سبتمبر (1973م)، فلم يتغير
فيه شيء بل ازداد تواضعاً وجهداً، فكان يخرج في السادسة صباحاً من قلايته ويجلس
أمام الديوان، ويقوم بتوزيع العمل، وتوفير احتياجات الرهبان، وكان يدخل قلايته في
السادسة مساءً، واعتاد أثناء فترة رئاسته أن يصلي قداس الأحد في كنيسة مارجرجس
برزقة الدير المحرق، وإذا جاء العيد يوم أحد يصلي مع الرهبان في الكنيسة الأثرية.
سيامته القمص
برسوم أسقفاً
في (29/5/ 1977) قام البابا شنودة الثالث بسيامة
كل من: الأنبا برسوم أسقفاً عاماً وتولى خدمة كنائس شرق السكة الحديد،
الأنبا رويس أسقفاً عاماً، الأنبا أغناطيوس أسقفاً على السويس، الأنبا ياكوبوس
أسقفاً على الزقازيق ومنيا القمح، الأنبا كيرلس أسقفاً على نجع حمادي، كما تمت
سيامة اثنين خوري أبيسكوبوس: الأنبا بولا والأنبا ساويرس رئيساً للدير المحرق، وبعد
رسامته أسقفاً أصبح الأنبا برسوم يزور كفر عبده في صوم السيدة العذراء من كل عام واعظاً
ومصلياً، كما دشّن معمودية كنيسة السيدة العذراء بالبلدة عام (1985م).
من فكاهات
الأنبا برسوم
ذهب
الأنبا برسوم إلى كنيسة السيدة العذراء بمسرة لصلاة إكليل، فنزل من السيارة تاركاً العمة والعصا، وعندما
دخل الكنيسة فلم يلتفت إليه أحد، فحزن الأستاذ سعد الذي كان يرافقه على هذا
التجاهل لأسقف، فأراد الأنبا برسوم أن يمتص غضبه، فعاد إلى السيارة وأخذ العمّة
ووضعها على رأسه وأمسك بالعصا في يده، وعندما دخل الكنيسة التف حوله الناس ودقت
الأجراس وردد الشمامسة الألحان.. فابتسم الأنبا برسوم وقال للأستاذ سعد: قيمتنا
في عمتنا!
المرض والنياحة
يموت
الإنسان ويبقى اسمه، ويموت البار ليبدأ تطويبه، فبعد أن تقدمت الأيام بالأنبا
برسوم استقر في بيت العائلة بكفر عبده، وبدأ يشعر بالتعب فرقد في الأسبوع الأخير
من الصوم الكبير، وطلب حضور نيافة الأنبا مكسيموس مطران القليوبية، وأوصاه بدفنه
وسط عائلته في كفر عبده وأن يُعطي حِلاً لأبينا بولس ميخائيل وأبينا يوسف فايق ليقوما
بتكفينه! فتعجب الأنبا مكسيموس فسأله عن السبب فقال: لأنكم ستكونون مشغولين!
وهذا ما حدث ففي أحد عيد القيامة (4/5/1986م)، تنيح الأنبا برسوم في العاشرة مساءً،
فذهب الأستاذ صبحي ابن أخيه إلى الكاتدرائية الساعة الثانية عشـرة ليلاً، فـلم يجـد
سـوى غـبريال الخفير، فمكث معه عدة ساعات، وفي الصباح حضرت أسرة إلى الكاتدرائية كانت
ذاهبة لدير السريان، حيث اعتاد البابا شنودة أن يقضي شم النسيم فطلب منهم أن يُعلموا
قداسته، فما أن وصلوا الدير حتى أسرعت طفلة نحو البابا وأعلمته بخبر النياحة! فذهب
الأنبا مكسيموس والأنبا دوماديوس والأنبا رويس والأنبا ويصا، الأنبا إشعياء
والأنبا مرقس.. ووفود من الكهنة الكنائس والشمامسة والخدام.. وتمت صلاة الجِنَّاز الساعة
الواحدة ظهر الاثنين (5/5/1986م)، ودُفن بمدافن كنيسة كفر عبده الخاصة بالآباء،
وكان هو أول من دُفن بها!
وبعد
سيامة الأب حبيب جرجس على مذبح كنيسة السيدة العذراء بكفر عبده في (4/10/
2013م)، أراد أن يُعطي الأنبا برسوم حقه من الإكرام، فطلب من نيافة الأنبا مكسيموس
أسقف بنها وقويسنا أن ينقل جسده من المدفن ويضعه بالكنيسة فوافق، فقاموا بعمل مزار
خاص وتم ضع الجسد مع بعض المتعلقات الشخصية، وكان هذا الحدث في (4/3/ 2015م).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق