يعجز اللسان عن التعبير، وتعجز المقاييس عن التقدير، أمام راعٍ وقور قلبه كبير وعِلمه غزير.. ماتت زوجته فعاني من جرح عميق لا يداويه طبيب، فاحتمل التجربة بقلب شاكر واستكمل الطريق كربّان ماهر، وعند مرضه كان الجسد ضعيفاً لكنّ الروح نشيط وساهر.. إنّه القمص عبد المسيح نخلة مدرّس القوانين الكنسية والأحوال الشخصية بالكلية الإكليريكية بالدير المحرق.
أسرة كهنوتية وميلاد كاهن
في بيت كهنوتي عريق بمركز
القوصية- محافظة أسيوط، سُمع صوت دبيب أقدامٍ، وشهدت أروقته حركة أرجل تتحرك هنا
وهناك، فقد وُلِدَ الطفل أديب في خميس الصعود الموافق (9/6/1910م)، فكان
يوم ميلاده حدثاً سعيداً.
أيام تمر.. وتحتفل
الأسرة بعماد الطفل أديب، فقد نشر فجر الربيع ثوباً نقياً ليُلقيه على جسده الطاهر،
والزهور تفتح ثغرها مبتسمة بهذا الحدث الخلاصي الذي تحدث عنه السيد المسيح قائلاً:
" إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ
فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ "
(يو3:3).
وتشهد طفولة أديب أنّ
أسرته كانت تقية، احتمى بإيمانها من
أعاصير الحياة، فوالده نخلة ابن القمص بشاي كاهن كنيسة الملاك غبريال بالقوصية
الذي كان راعياً صالحاً مهيباً، والأم ربّة منزل فاضلة، وكان لأديب أخ واحد هو
الأستاذ لبيب نخلة، والد القمصغبريال لبيب نخلة المدرّس بإكليريكية
الدير المحرق، وقريب كل من: الدكتور مراد وهبة جبران القمص بشاي أستاذ الفلسفة في
جامعة عين شمس، والدكتور ماهر أسعد فيلبس القمص بشاي، أستاذ الكلى والطبيب الخاص
للمتنيح البابا شنودة الثالث.
طفولة مقدسة
نشأ
أديب يتغذى بالتعاليم الروحية منذ صغره، فامتلأ بالنعمة الإلهية، ونما في الفضيلة،
وقرأ في الكتاب المقدّس وسير القديسين، وحفظ آيات ومزامير وألحان وترانيم، وعرف
معنى الصلاة العائلية، والقلوب الخاشعة، والركب الساجدة، فانطبق عليه قول معلمنا بولس
الرسول: " إِنْ كَانَ الأَصْلُ مُقَدَّساً فَكَذَلِكَ الأَغْصَانُ "
(رو16:11).
تُرى
كم كان منظره جميلاً وهو طفل بريء عندما يصلي شماساً فتسطع أنوار الشموع عليه،
فتظهر عيناه لامعتان يشع منهما بريق الفرح! وكم كانت فرحة والده وهو يرى ابنه يخدم
بجانب جدّه القمص " بشاي " على المذبح!
وهكذا نما أديب وفي قلبه تتقد شعلة روحية التهمت ميوله
الأرضية، وفي قلبه سطعت لؤلؤة الطهارة فبددت انفعالاته المظلمة كالغيرة والحسد
والكراهية، فعاش طفولته كالزجاج النقي لم تخدشه الأيادي الجارحة، وتميّز بعفة
اللسان فلم تخرج من فمه ألفاظ خادشة، وفي مواقف كثيرة كان يفضّل الصمت فانطبق عليه
القول: قد يكون في الكلام بعض الراحة وقد يكون في الصمت بعض الفضيلة، واستحق
التطويب الذي جاء في أول مزمور: " طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ
فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ.. لَكِنْ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ "
(مز1: 2،1).
نبوغ مبكر وخدمات متعددة
إنَّ العِلم لا ينال إلاَّ على جسر التعب، ومن لم يتحمل مشقة
العِلم ساعة يتجرع كأس الجهل أبدا! وقد عاش أديب بين أحضان الكتب تلميذاً يستقي من
نبع المعرفة، فتدرّج في المراحل التعليمية حتى حصل على البكالوريا عام (1926م)، ولكنّه
لم يدخل الجامعة، مفضلاً الالتحاق بالمدرسة الإكليريكية بمهمشة في شهر أُكتوبر من
نفس العام.
وفي الإكليريكية كان أديب طالباً مثالياً، ونظراً لتميّزه
ونبوغه وموهبته في الألحان الكنسية وإجادته لعدة لغات: العربية، الإنجليزية، القبطية،
اليونانية، الأمهرية، اصطحبه البابا يوأنس التاسع عشر (١٩٢٨-١٩٤٢م) وهو لا يزال طالباً، ليرافقه كشماسٍ وتلميذٍ
خاصٍ له فى رحلته التاريخية لإثيوبيا في الفترة ما بين (21/12/ 1929- 19/1/ 1930م).
وعندما أنهى دراسته وحصل على دبلوم المدرسة
الإكليريكية فى يونيو (1932م)، لم يكن الأمر مفاجئاً أن يتم تعيينه مدرّساً بالمدرسة
الإكليريكية بمهمشة، ومدرسة الرهبان بحلوان.
وقد تم اختياره للتعليم والوعظ فى إثيوبيا،
فوافق وخدم هناك ثلاث سنوات (33/ 1935م)، فكان سفيراً مشرّفاً للكنيسة القبطية،
وعندما عاد قام بالتدريس بإكليريكية القاهرة لمدة عامين (1935- 1937م).
وفي عام (1937م) عاد أديب إلى مدينة القوصية
مكللاً بالنجاح، وفي نفس العام تم تعيينه مدرّساً لمدة عامين بمدرسة الرهبان اللاهوتية
بالدير المحرق.
الزواج والكهنوت
الرجل والمرأة
جزءان كلٍ منهما يُكمّل الآخر، فالرجل يعمل لأنَّه يريد أن يُسجل له التاريخ
الوقائع والأحداث، أمَّا المرأة فهي رقّة شعور ورهافة حس، وهى تقيس حياتها بما
أنجزته من عواطف، ولا ننسى أنَّ العذراء مريم هي التي احتضنت في رحمها المسيح
وأرضعته، واحتملت الألم من أجل رسالته الكُبرى وتضحيته العُظمى، وبهذا تكون المرأة
أصلحت ما أفسدت حواء وأصبحت أداة لنمو وارتقاء الرجل بل البشر!
وقد جاء الوقت لينعم
أديب ببركات سر الزيجة المقدس، فتزوج بماري دميان مرقس في (9/10/ 1938م)، وقد
سعت زوجته الفاضلة أن تسمو بحُبّها وتستخدمه وسيلة لتصعد بزوجها وأسرتها إلى السماء،
ولذلك لم يأخذ الزواج الشماس أديب بعيداً عن الخدمة، ولم يعوقه عن الصلاة والحياة
الكنسية، فكان يجول القرى يعظ الناس ويعلمهم، فأعطاه الله كلمات نارية ألهبت قلوب
سامعيها، أما رنين صوته فكان كالماء العذب، فأحبه الناس معلماً ومرنماً في
الاجتماعات، وتم تزكيته للكهنوت.
وفى (21/4/ 1940م) صعد
أديب إلى الهيكل قساً ليقدّم الذبيحة المقدّسة لله مصلياً عن شعبه، فقد تمت سيامته
بيد نيافة الأنبا " أغابيوس الكبير" أسقف ديروط وصنبو وقسقام (1929-
1964م) كاهناً على مذبح كنيسة الملاك غبريال بالقوصية باسم: القس عبد المسيح،
وكان هذا الحدث الجليل ، فاضطر أن يترك التدريس بإكليريكية مهمشة، وبدأ مرحلة جديدة بين خدمة المذبح والشعب،
وقد زاده الكهنوت اتضاعاً وحكمة ونمواً روحياً.
وبعد ثلاث سنوات من سيامته، تم ترقيته
إلى رتبة القمصية بيد نيافة الأنبا أغابيوس في (21/4/ 1943م).
سيف الألم
منذ أن سقط الإنسان
والموت يفرّق الأحبَّاء، فما أكثر دموع البشر التي انسكبت في قلب الحياة، بسبب
الموت! وقد ذاق القمص عبد المسيح من هذه الكأس المرّة المذاق، لقد غرس الموت في
قلبه سهماً بموت زوجته في سن مبكرة تاركة له ابنين، لكنه لم يحزن " كَالْبَاقِينَ
الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ " (1تس13:4)، فتحمّل
ألم الفراق واهتم بخدمته الكهنوتية وتربية وتعليم ابنيه، فصار الأكبر صموئيل دكتوراً
بكلية التربية- جامعة المنيا، وجميل عمل مهندساً في إحدى شركات البترول، فعلمنا
بحياته أنّ برد الشتاء إذا جاء قارصاً وحاصرتنا تلال الجليد فلا نخف، بل ننتظر
بإيمان قدوم الربيع ونفتح النوافذ لنسمات الهواء النقي، ونتطلع إلى السماء لنرى
أسراب الطيور وقد عادت تغرد من جديد، والشمس وهي تلقي خيوطها الذهبية فوق أغصان
الشجر لتصنع لنا حلماً جديداً.
التدريس بإكليريكية الدير المحرق
افتتح البابا شنودة إكليريكية المحرق عام (1973م)
فاختار القمص عبد المسيح نخلة ليكون ضمن باكورة مدرّسيها، وظل يدرّس بها حتى جُرّب
بالمرض، وهذه هي المواد التي قام بتدريسها: عِلمْ التفسير، العقيدة، اللاهوت،
التاريخ الكنسي، القوانين الكنسية والأحوال الشخصية، الوعظ النظري والعملي، بعض
اللغات.. والحق إنّ كل من تعامل مع أبينا البار شهد لعِلمه الغزير، وفضائله، وعفة
لسانه..
رائد الوحدة الوطنية
كان القمص عبد المسيح نخلة من رموز الوحدة
الوطنية، وكثيراً ما ألقى كلمات وطنية في النادي الرياضي بالقوصية، ونجح في توطيد
أواصر المحبة والصداقة مع أُخوتنا المسلمين من خلال لقاءات المحبة داخل أروقة
الكنيسة.
وقد ارتبط بعلاقات طيبة مع شيوخ المسلمين، حتى
إنّه ذهب إلى مشيخة الأزهر بالقاهرة، راجياً إلغاء قرار نقل الشيخ الجبلاوي من
القوصية، فاستجابوا لطلبه في الحال!
وكما كان المسلمون يوقرونه كانت الطوائف
المسيحية تحبه وتهابه وتدعوه لحضور احتفالاتها، فكان يلبي الدعوات ويلقي الكلمات،
وقد ألقى كلمه عام (1962م) في ذكرى الأربعين للسيدة ليليان تراشر- Lillian Trasher التي أسست أول ملجأ للايتام فى مصر بمحافظة
أسيوط سنة (1911م).
خدمات وأنشطة
سنوات تمرْ.. على خدمة القمص عبد المسيح في
كنيسة الملاك غبريال بالقوصية، اهتم خلالها بالوعظ وبناء النفوس روحياً وعِلمياً،
وأسس خدمات كثيرة، وهذه هي أهم إنجازاته: تأسيس جمعية الشباب عام (1931م)، تأسيس
مدرسة الملاك لتعليم البنات عام (1938م)، تأسيس
مدارس الأحد بالقوصية عام (1940م)، إدخال الكهرباء والميكروفون في كنيسة الملاك
غبريال بالقوصية (1948م)، شراء سيارة لنقل الموتى، الاهتمام بالشباب ورحلاتهم، إقامة
قداس أُسبوعي للسيدات كل ثلاثاء، تأسيس أول نادٍ للشباب وأطفال مدارس الأحد، افتتاح
مشغل لتعليم السيدات على ماكينة التريكو، تجديد كنيسة الملاك غبريال وبناء عدة
مبانٍ منها مذبح الأنبا شنودة واستضافة الرسام يعقوب فانوس لرسم أيقوناتها، تأسيس
كنيسة السيدة العذراء بعزبة الأسقف بالقوصية، كما ترك عظات وترانيم كثيرة على
شرائط كاسيت وعظات مكتوبة مرتبة على أناجيل القداسات والقراءات الكنسية، واهتم
بالنهضات الروحية وكان يدعوا فيها شخصيات بارزة مثل القمص بولس باسيلي الذي كان
يحضر في آخر أسبوع من الصوم الكبير.
المـرض و النياحـة
تمضي الأيام
مُسرعة ليتم قول أيوب الصديق " أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنَ الوشيعة
" (أي6:7)، فبعد سنوات أمضاها القمص عبد المسيح نخلة في الخدمة، أُصيب بجلطة
في المخ، وظل ثلاث سنوات يعاني من المرض، وفي يوم (23/2/ 1992م) يأتي الناس
ليلقوا نظرة الوداع على راعيهم الذي أحبوه وأحبهم، وسمعوا بآذانهم كلام الروح
ينساب من شفتيه.. وفي كنيسة الملاك غبريال بالقوصية تمت صلاة الجِنَّاز بين دموع
الناس وثياب الحداد مع أجراس الكنائس وهى تُطلق رنيناً أشبه بالأنين، وقد رأس
الأنبا توماس أسقف القوصية صلاة الجناز في كنيسة الملاك غبريال في (24/2/ 1992م).
وفي موكب مهيب اشترك
فيه جمع غفير، من المسلمون والمسيحيون تم تشييع الجثمان لينضم أبونا الى صفوف الأبرار
بعد خدمة عظيمة حافلة بالإنجازات، عاصر خمسة بطاركة: البابا يوأنس التاسع
عشر، البابا مكاريوس الثالث، البابا يوساب الثاني، البابا كيرلس السادس، والبابا
شنودة الثالث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق