كان
عالماً جليلاً وإنساناً بسيطاً، تبوأ مراكز كثيرة، ونال أوسمة عديدة فلم يتكبر،
وصفوه بالموسوعة، ونعتوه بالعلّامة ونادوه بالأرشي، ومدحوه بعفيف اليد والنفس
والجسد.. إنّه أستاذ الأساتذة، العالم الجليل، والراهب المتواضع البسيط الأنبا
غريغوريوس، الذي نفخر بأنّه أعظم العلماء الذين خرجوا من ديرنا على مر العصور.
طفولة مقدسة
إدفو
مدينة تشتهر بطيبة أهلها وروعة تاريخها المنحوت على أحجارها، وحتى الآن لايزال
الناس يذكرون أنّ مينا موحد القطرين من أهلها ولازلنا نذكر أنّ الأنبا
غريغوريوس مشي على أرضها، وتنسم هواءها، وشرب من مائها..
في
أسرة تقية وُلِدَ وهيب أي حَمَلْ (|ihb)
في اللغة القبطية في (13/10/ 1919م)، فوالده عطا الله جرجس كان متديناً
ويعمل صرّافاً، ووالدته تفيدة عبد المسيح تباركت كثيراً برؤية العذراء
مريم، وهكذا أصبح واضحاً أنّ في عمق إدفو انبثق نور إنسان بار، يشع من وجهه بريق
طهارة عجيب، وسيكون له مستقبل عظيم في الكنيسة والمجتمع.
سنوات
تمر.. ويلتحق وهيب بمدرسة إدفو الابتدائية، فصار كشجرة مغروسة على
ضفاف نهر المعرفة، ونجح وأتى بثمار يانعة، وقد شهد الجميع لنبوغه وأحبوه لسمو
أخلاقه وهو الذي عمل بالآية " طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ
الأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ وَفِي مَجْلِسِ
الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ " (مز1:1)، ويُذكر عنه أنّه مرض
في طفولته، فتغيّب عن المدرسة، فذهب بعض المدرسون إلى بيته، لزيارته والاطمئنان
على صحته!
لم
ينعم وهيب بحب أمه كثيراً، فقد ذهب ربيع الحنان من عالمه، وأتى الشتاء باكياً على وفاتها،
ليجوز في نفسه سيف الألم، لكن هذه التجربة القاسية لم تمنعه عن الكنيسة التي أحبها
وارتبط بطقوسها، فقد كان يجمع علب الورنيش الفارغة ويصمم منها نموذجاً لشورية
ويقلد الكاهن وهو يبخّر، وفي أحد القدّاسات طلب منه أبونا زخاري قراءة الإنجيل
وعندما انتهى ذهب إلى الكاهن، وبدلاً من أن يقبل وهيب يد الكاهن، وضع يده على رأسه
وسط نظرات الشمامسة الحائرة، وقد كان! وصار وهيب أسقفاً عظيماً له حق وضع اليد
وسيامة كهنة مباركين!
الالتحاق
بالكلية الإكليريكية
بينما
الشباب يتنقل كالنحل فوق الزهور بحثاً عن مالٍ أو شهوة فانية، كان وهيب يطلب شعلة
المعرفة ليضمها إلى صدره، لتُنير ذهنه وتُشعل النار في قلبه، ولهذا كان يقضي
الساعات بين الكتب المضيئة بالمعرفة، فدخل مدرسة حلوان الثانوية وزامل الرئيس
جمال عبد الناصر في السنة الأولى، بعدها انتقلت أسرته إلى سوهاج فأكمل دراسته
هناك، ونجح بتفوق وحصل على شهادة البكالوريا في (يوليو 1936م)، تُرى هل يلتحق
الطالب المتفوق بكلية الطب؟ لا، لقد رفض أن يُحقق أمنية أسرته، وأصر أن يلتحق
بالكلية الإكليريكية، ليسكب ذاته ذبيحة مرْضية أمام الله، فبدأت ملامح القداسة
ترتسم على وجهه، وعيناه ينبعث منهما نور الإيمان، وشفتاه تنطقان بعظائم الله،
فازداد أكثر في النعمة، وامتلأ طُهراً، وأصبح قدوة للشباب في جيله، ونبعاً حياً
تستقي منه النفوس العطشى فترتوي.
الدكتوراه
وشهادات أخرى
حصل
وهيب عطا الله على بكالوريوس العلوم اللاهوتية بتقدير ممتاز في (يوليو 1939م)، فهل
يتزوج ويخدم كاهناً؟ أم يذهب إلى الدير ويتعبد راهباً؟ لقد ظل بين أحضان الكتب
تلميذاً يزداد معرفة، فظل يبذر حبّات قلبه في عالم الروح، وعقله في أرض المعرفة،
فنبت زرعاً مثمراً، وكانت الثمار:
+
ليسانس الآداب- فلسفة، من جامعة القاهرة بتقدير جيد جداً في (يوليو 1944م).
+
دبلوم في الآثار المصرية من معهد الآثار المصرية بتقدير جيد جداً عام (1951م).
+
دكتوراه في الآداب والدراسات القبطية من جامعة مانشستر بإنجلترا بتقدير ممتاز في (7/7/1955م) وكان موضوع
الرسالة " الكلمات اليونانية في استخدامها القبطية "، تحت إشراف
خبير اللغات العالمي البروفيسور: والتر تل، الذي تعجب من قدرة وهيب عطا
الله، على إعداد رسالة تحتاج إلى عشر سنوات في ثلاث سنوات فقط! لقد
كان يعمل ثماني عشرة ساعة يومياً وكتب خمس نسخ من رسالته التي عدد صفحاتها (724)
صفحة حتى التهبت أصابعه! وبعد حصوله على الدكتوراه عرضت عليه جامعة أُكسفورد أن يقوم
بالتدرس بها فرفض، وعندما عاد إلى مصر عام (1960م) طلبوا منه أن يكون مديراً لإحدى
المدارس في إثيوبيا براتب شهري كبير فرفض، رغم أن راتبه في مصر كان (31.42جنيهاً)
ألا يدل هذا على زهده في المال، وحبه لكنيسته التي كرس حياته لخدمتها والنهوض
بالتعليم فيها!
الدكتور
وهيب مدرساً في الإكليريكية
لمس
الأرشيدياكون حبيب جرجس نبوغ وجدية تلميذه الوفي وهيب عطا الله، وسمو روحه،
ونبل أخلاقه، وهو الذي قبل أن يتخرج، كتب نقداً لنقاط الضعف في الكلية
الإكليريكية في كشكولين وقدمهما له، فعينه معيداً ليقوم بتدريس مادتي: اللاهوت
والفلسفة بالكلية الإكليريكية عام (1944م).
سنوات
تمر.. يتنقل خلالها وهيب بين المحاضرات والندوات.. فتم تعيينه وكيلاً للكلية
الإكليريكية، ليُصبح شخصية متفردة عقلاً وقلباً وروحاً، وصرنا نفخر بأن لدينا
عالماً جليلاً يرفع رأس أحفاد أثناسيوس وكيرلس.. أساتذة عِلم اللاهوت في الحوارات
المسكونية والمحافل العلمية، ليصير وهيب عطا الله الأستاذ بلا منافس، ورغم
علمه الغزير، إلاَّ أنّه أحب عِلم اللاهوت وأبدع في شرحه، فهو منهل عذب
تستقي منه النفوس العطشى إلى الله، فتنمو شجرة حياتها على ضفاف نهر المعرفة،
ويزداد إيمانها، وتأتي بثمار تطلبها الروح.
وقبل
أن يُكمل الثلاثين من عمره كتب (47) مذكرة، في الفلسفة وعلوم اللاهوت المتنوعة، ولهذا
يعد من أعظم رجال الفكر واللاهوت والفلسفة المسيحية، وعَلَم من أعلام الكلية
الإكليريكية، فلا عجب إن هتف البار متعزياً بنشوة الفرح، مترنماً بعظائم الله
قائلاً مع القدّيسة الطاهرة مريم: " تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي
بِاللَّهِ مُخَلِّصِي "
(لو47،46:2).
الدرجات
والرتب الكهنوتية
ترقى
وهيب في درجة الشماسية حتى وصل إلى رتبة أرشيدياكون، فوضع طقساً لهذه
الدرجة الكنسية، وملابس لها، وأطلق لحيته، كرئيس طغمة من طغمات الإكليروس في
الكنيسة، وأصبح هذا الزي الجديد بين مؤيد ومعارض، وتعرّض بسببه لهجوم شديد،
وحاول البعض إقناع البابا كيرلس السادس بأنّ هذا الزي سيأتي بالمتاعب على الكنيسة
وكثيرون سيحاولون تقليده، فطلب منه خلع الزي فرفض قائلاً: إنّي لم ألبسه إلاَّ
بعد إستئذان غبطتكم! فأمره أن يذهب إلى الدير المحرق! فتثقل عقل العالم والفيلسوف
بمرارة التفكير في المستقبل الذي يُريده أن يكون منيراً، وتمنى أن يكون مع أسراب
الحمام وهى تسبح حرة في الفضاء، ولكن ماذا يفعل؟ عندما يتوقف العقل يبدأ عمل
الإيمان، والصلاة تفتح أبواب السماء، وهى أسهل وسيلة نصل بها إلى قلب الله.
لقد
أطاع وقَبِلَ الأمر بروحانية القدّيسين، واعتبره رسالة إلهية ليصير راهباً في دير
عريق له تاريخ عظيم! ولِمَ لا، وهو الذي أحب سكينة الليالي حيث تتموج روحه مصلياً،
متأمّلاً ومُرنّماً، وكثيراً ما رأى شيوخ الرهبان في البراري وهم يمشون على مهلٍ
وقد أحنى النسك ظهورهم، متكئين على عصيهم، محدقين إلى الأرض التي تذكرهم بالفناء،
رافعين أعينهم نحو السماء حيث المجد والبهاء! وقد تحقق ما قاله لأخته أوليفيا
في سن الرابعة عشرة: إنني سأترهّب في الدير المحرق رغم أنّه لم يزر ديراً
قط!
انطلق
الدكتور وهيب إلى الدير المحرق، في الساعة الثالثة من صباح يوم السبت (15/9/
1962م)، ونال اسم: باخوم (Pa'om) أي: نسر، في عشية نفس اليوم،
بيد رئيس الدير القمص قزمان بشاي المحرقي، وقد كان هذا الحدث الأحد (16/9/ 1962م).
وفي
الدير عكف على القراءة، وكتب كتاباً عن الدير المحرق، وعندما طلبه الأنبا شنودة
أسقف التعليم من البابا كيرلس ليكون وكيلاً للإكليريكية عاد إلى القاهرة في (25/10/
1962م)، وعينه البابا سكرتيراً لقداسته في المقر البابوي، وسيم قساً ثم قمصاً
بيد الأنبا بطرس مطران كرسي أخميم وساقلتة، بكنيسة السيّدة العذراء الأثرية بالدير
المحرق في (2/6/ 1963م).
الأسقفية
أعطى الله القمص باخوم عقلاً رصيناً، وفكراً نقياً، وقلباً
طاهراً، لكنّ الأفكار تتزاحم والمستقبل يفتح فاه ويناديه بأصوات كثيرة، والترشيحات
تنهال عليه مرة ليكون أسقفاً على ديروط، المنوفية، منفلوط، قنا، لكنه رفض
إلى أن قام البابا كيرلس السادس بسيامته فى (10/5 /1967م) أسقفاً عاماً للدراسات
العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي باسم: غريغوريوس (Grhgorioc)
وهو اسم يوناني معناه: ساهر، وقد روي نيافته أنّه حضر عشية عيد سيامة البابا كيرلس الذي خرج من الهيكل
وتقدم نحوه مبتسماً وقبض عليه بيده اليسرى، وأمسك بيمناه يده
الأخرى، وجذبه نحو الهيكل، فحاول الاعتذار والهرب ولكن دون جدوى، فصاح البابا
قائلاً: إنها عطية من داخل المذبح، عطية من مارمرقس فلا ترفضها، وأمسك بيده اليمنى
جبهته وهو يقول: غريغوريوس أسقف...
المنهج
العلمي في حياة الأنبا غريغوريوس
أجاد
الأنبا غريغوريوس تسع لغات: المصرية القديمة، القبطية، العبرية، اليونانية، الإنجليزية،
الفرنسية، الألمانية، اللاتينية، والعربية، وعندما زار ألمانيا كتبت عنه جريدة
الأهرام: فيلسوف مصري يعلم الألمان فلسفة الإيمان! وقد حدد أهداف أسقفية
البحث العلمي في عدة نقاط هي: مراجعة الكتب الكنسية والمخطوطات وتنقيحها
وكتابتها بأسلوب عربي مطابق للأصول اليونانية والقبطية، نشر تراثنا القبطي باللغات
العربية والأجنبية، ترجمة كتبنا الكنسية إلى اللغات الحية، إعادة ترجمة كتب الآباء
الأوائل، وتجميع وتبويب القوانين الكنسية وإعادة ترجمتها من اللغات الأصلية.
أصدر
تسعين كتاباً وكتب أحد عشر مؤلفاً باللغة الإنجليزية، وأشرف على رسالتي دكتوراه
بقسم اللاهوت، وشارك فى مناقشة عدد كبير من رسائل الدكتوراه في الجامعات العامة، وكتب
مقالات كثيرة في كتب وموسوعات ومجلات وصحف مصرية وعالمية باللغات العربية
والإنجليزية والقبطية، وألقى حوالي (8600)
محاضرة، كما شارك في أكثر من (120) مؤتمراً عالمياً.
المشاعر في حياة
الأنبا غريغوريوس
رغم
ثقافته ومركزه وشهرته.. كان بسيطاً كالأطفال، ولم يجمّد العلم مشاعره بل
ألهَبَها وقد قال لي أب اعترافي قبل رهبنتي: كنت أعاني من آلام في
العمود الفقري وذهبت إلى الكاتدرائية وقابلت الأنبـا غريغـوريوس، فأخـذني في حضنه وعنـدما عـرف حالتي صار
يبكي وهو يمسح بيده ظهري! وروى لي شماس إكليريكي، أنّه ذهب لنيافته يشكو آلامه
لتأخير سيامته، فبكي متأثراً بشكواه، حتى إنّ الشماس تأثّر وبكى! وعندما زار الدير
المحرق عام (1990م)، تأثّر أحد الآباء الرهبان من منظره وهيبته ودموعه وهو يصلي
على المذبح بحرارة فقال: أنا لم أُصلِ بل رأيت إنساناً يصلي!
نياحـته
أُصيب الأنبا غريغوريوس بجلطة في المخ
وبسرطان في الكبد، فأدرك أنّ الموت طبع بصمته، وقد كان! وتنيح بسلام في يوم (22/10/2001م)،
واحتشد الناس متأثّرين وألقى البابا شنودة عظة عن تاريخ أستاذه، ومع كلامه انهمرت
الدموع، وبينما الناس تتألم كانت الملائكة تتهلل، فقد ربحت السماء عالماً انضم إلى
صفوف الأطهار ليتم القول: رُبَّ جنازة بين البشر هي عُرس بين الملائكة! ووُضع جسده
في الكاتدرائية بجوار البابا أثناسيوس حسب وصيته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق