مرحباً بكم في مدونة الأب الراهب كاراس المحرقي وهى تحتوي علي كتبه وعظاته وقداسات وألحان وقصص بصوته وبوربوينت من أعماله وصور متحركة وفوتوشوب من تصميمه وكثير من الخدمات المسيحية وتأملات روحية
الأخبار

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

كتاب إكليريكية الدير المحرق - الفصل الأول - الكلية الإكليريكية عبر العصور الراهب كاراس المحرقي


لا يستطيع أحد أن يُنكر أهمية المعرفة التي سَمتْ بالإنسان وزادته ارتقاءً، ولهذا قال سليمان الحكيم: " إِذَا دَخَلَتِ الْحِكْمَةُ قَلْبَكَ، وَلَذَّتِ الْمَعْرِفَةُ لِنَفْسِكَ، فَالْعَقْلُ يَحْفَظُكَ وَالْفَهْمُ يَنْصُرُكَ " (أم2:11) لكنَّ هناك علوماً أُخرى يجب على الإنسان المسيحي أن يكون مُلمّاً بها، والكاهن متبحّراً فيها مثل: الكتاب المقدّس، عِلمْ اللاهوت، العقيدة، التاريخ الكنسي.. ومن هنا ظهرت أهمية البحث المنظم والمعرفة اللاهوتية الدقيقة.
مدرسة الإسكندرية اللاهوتية
عندما نتحدث عن التعليم نؤكد أنّ السيد المسيح، أول من أسس مدرسة لاهوتية في العهد الجديد فكان هو المعلم الأعظم ورسله هم التلاميذ، وحياته الطاهرة وتعاليمه السامية كانت منهجاً يُحتذى به، وعندما جاء مارمرقس الرسول إلى مصر، اهتم بالتعليم فأسس مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وأسند رئاستها للقديس يسطسن، لمواجهة الفلاسفة والعلماء الوثنيين المقيمين بالإسكندرية ومحاورتهم بمنهج عِلمي، ولم تكن المدرسة قاصرة على تفسير الكتاب المقدّس ودراسة العلوم اللاهوتية فقط، لأنّ علوماً أُخرى مثل: الفلسفة والرياضيات والفَلكْ.. كانت تُدرَّس بها، وبمرور الوقت بدأ ضوء المدرسة يضعُف، بعد أن قام العلامة رودون- Rodon  مدير المدرسة السادس عشر والأخير (412- 451م)، بنقلها من الإسكندرية إلى صيدا بلبنان، فانطفأ نورها في القرن الخامس!

المدرسة الإكليريكية
     
إن كامة إكليريكية مشتقة من الكلمة اليونانية κλῆρος بمعنى: نصيب أو ميراث، فالإكليريكي " κληρικός " هو نصيب الرب، وفي مُعجم الوسيط نجد تعريفاً لكلمة إكليريكية بأنها مدرسة تُعلّم وتفقّه الفتيان للارتقاء إلى الكهنوت، والإِكليريكي هو من يُربّىَ ويُثقَّفْ في الإِكْلِيرِيكِيَّة.

وقد بدأت المدرسة الإكليريكية، عندما عرض يوحنا بك باخوم ناظر مدرسة الأقباط الكبرى على الطلبة، فكرة إنشاء مدرسة إكليريكية، فرحبوا وتقدّم حبيب جرجس وأربعون آخرون للالتحاق بالمدرسة، فتم اختيار اثني عشر منهم ومثلهم من الكهنة والرهبان، ليكونوا نواة للمدرسة الإكليريكية، وأصبح بالمدرسة فرقة للطلبة العَلْمَانيين وأُخرى للقسوس لم تدُم أكثر من عام لصِغر سنهم، وبعد ذلك وقع الاختيار على يوسف بك منقريوس مدرس التاريخ المدني واللغة الفرنسية بمدرسة الأقباط الكبرى ليكون أول ناظر للمدرسة، وقام قداسة البابا كيرلس الخامس (1874- 1927م) بافتتاحها في (29/11/1893م)، وصار يوم الافتتاح عيداً للإكليريكية.
وفي البداية لم يكن للمدرسة مكان خاص بها فكانت الدراسة في العام الأول بالفجالة، في مقر الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية الذي صار فيما بعد بطريكاً باسم: البابا يوأنس التاسع عشر (1928- 1942م)، والعام التالي انتقلت إلى الدار البطريركية، ولعدة سنوات ظلت المدرسة تتنقل من مكان لآخر حتى استقرت في مهمشة عام (1912م)، أما المواد التي تم تحديدها لتُدرّس بها فهي: اللغات، الجغرافيا، الرياضيات، عِلم اللاهوت، القوانين الكنسية، فن الخطابة، الألحان الكنسية.
وقد ظلت المدرسة أربع سنوات بدون مدرّس للعلوم الدينية! فتركها أكثر الطلبة، ولما كثرت الشكاوى أحضروا الإيغومانس فيلوثاؤس إبراهيم من طنطا إلى الكنيسة المرقسية بكلوت بك، ليقوم بتدريس العلوم الدينية، فمكث خمسة عشر يوماً ولم يُكمل رسالته التعليمية لظروفه الصحية، فتولى بعده القمص يوسف حبشي البالغ من العمر ستين عاماً تدريس مادة علوم الدين، وكان قد قضى معظم حياته في روما فأتقن اللغتين: الإيطالية والفرنسية، لكنه كان ضعيفاً في اللغة العربية، ومعلوماته محدودة في العقيدة الأرثوكسية.. ويقوم بترجمة محاضراته من كتب أجنبية إلى اللغة العربية بأسلوب بسيط، فلم يتجاوب معه الطلبة، فانقطع عن المدرسة والتدريس بها من تلقاء نفسه.
حبيب جرجس والنهوض بالإكليريكية
لمّا ظهر نبوغ حبيب جرجس وجاء ترتيبه الأول على فرقته، طلب يوسف بك منقريوس من اللجنة الملّيَّة تعيينه مدرساً لعلوم الدين بالمدرسة وهو لايزال طالباً بالسنة النهائية! فوافقت اللجنة، وانضم إلى أعضاء هيئة التدريس بالمدرسة في (17/3/1898م)، وبعد أن تخرّج صار هو أول واعظ وأول مدرس لاهوت بالمدرسة، وقام بطبع الكثير من الكتب.. وقد تسلم حبيب جرجس إدارة المدرسة الإكليريكية سنة (1918م)، ولم يتركها إلى يوم نياحته في (21/8/1951م).
ولما أراد إحياء المعرفة ونشر الثقافة المسيحية على مستوى الكرازة، كان يذهب ليعظ في الكنائس، وسعى لزيارة عدد الطلبة والمدرّسين بالمدرسة وقام بجمع التبرعات، فأصبح للإكليريكية وقف وأرض بحي مهمشة بنى عليها ثلاثة مبانٍ: الأول :مبنى الدراسة الخاص بالمحاضرات، والثاني: القسم الداخلي لإقامة الطلبة، والثالث: معهد ديديموس للمرتلين.
كما أسس مكتبة للطلبة وبنى كنيسة السيدة العذراء بمهمشة وكانت في البداية مخصصة لطلبة الإكليريكية للصلاة والتدريب على الوعظ فُتحت للشعب، وبدأ في تطوير المدرســة الإكليريكية، وزيادة عدد المواد التي تدرس بها، فأدخل تدريس: المنطق، الفلسفة، عِلم النفس، كما اهتم بتدريس التاريخ المدني والكنسي، واللغات: العربية والإنجليزية والقبطية والعبرية واليونانية، ورفع مستوى المعيشة بالقسم الداخلي، ليكون أكثر راحة ونظافة لإقامة الطلبة، وهكذا نجحت الخطة التي وضعها حبيب جرجس للنهوض بالإكليريكية وحددها في النقاط التالية:
1 - شراء الأرض لبناء مبنى خاص بالإكليريكية.
2 - وضع شروط واختبارات لاختيار الطلبة المتقدمين .
3 - إعداد مدرســــين أكفاء للتدريس بالإكليريكية أشهرهم: راغب عطية (القمص إبراهيم عطية(، كامل متى (القمص ميخائيل متى(، سمعان سيليدس، يسّى عبد المسيح..
4 - الارتقاء بالإكليريكية لتعترف بها وزارة التربية والتعليم، وتتحول المدرسة إلى كلية ويحصل الخرّيج على البكالوريوس.
وأصبح بالمدرسة قسمان :العالي ويلتحق به الحاصلون على الثانوية أو الدبلوم ومدة الدارسة به أربع سنوات والمتوسط للحاصلين على الإعدادية ومدة الدارسة به خمس سنوات.
وفي عام ) 1945-1946م( أنشأ القسم المسائي لخريجي الجامعات من الشبان والشبات، وكان نظير جيد )البابا شنودة الثالث) طالباً في أول دفعة وعددهم خمسة طلاب، وبدأت الإكليريكية ترسل البعثات الدراسية الي الخارج عام (1952م)، للنهوض بالمستوى العلمي للمدرّسين وإعدادهم إعداداً متميزاً، وكان أول المبعوثين الأستاذ وهيب عطا الله )الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي) الذي سافر للحصول على الدكتواره في (16/5/1952م )، وقد حصل عليها في )7/7/1955م) وكانت الرسالة بعنوان " الكلمات اليونانية في استخدامها القبطي " وفي عام  (1956م) سافر إلى اليونان القمص كيرلس الأنطوني (الأنبا باسيليوس مطران الكرسي الأورشليمي) لتحضير الدكتوراه في عصر المجامع، والدكتور موريس تاوضـــروس في الشخصية الإنسانية عند القديس بولس الرسول، وعاد الاثنان مكللان بالنجاح عام  (1959م).
الإكليريكية في مقرها الجديد
في عام (1953م) تم نقل الإكليريكية من مقرها بحي مهمشة، إلى مقرها الجديد بالأنبا رويس بالعباسية، وتحولت من المدرسة الإكليريكية إلى الكلية الإكليريكية، يلتحق به الحاصلين على الثانوية أو الدبلوم ويحصلون على بكالورويس العلوم اللاهوتية، وطلبة الإعدادية على الدبلوم، وتم إنشاء مبنى جديداً للتدريس باسم: البابا كيرلس السادس، افتُتح عام (1961م) بحضور القمص إبراهيم عطية، الذي تولى إدارة الإكليريكية بعد نياحة حبيب جرجس عام (1951م).
إكليريكية الدير المحرق
حينما ارتقى قداسة البابا كيرلس السادس الكرسي المرقسي في (10/5/1959)، قام بسيامة نيافة الأنبا شنودة أسقفاً للتعليم والمعاهد الدينية في (30/9/1962م)، فوعظ وعلّم وكتب.. وأصدر مجلة الكرازة عام (1965م)، وعندما اعتلى الأنبا شنودة كرسي مارمرقس في (14/11/1971م)، قام بنقل القسم المتوسط للحاصلين على الشهادة الإعدادية من الكلية الإكليريكية بالقاهرة إلى الدير المحرق عام (1973م).
وفي الدير المحرق كان نيافة الأنبا باخوميوس الأول رئيس الدير (1896-1928م( قد أسس مدرسة لاهوتية خاصة بالرهبان لدراسة العلوم اللاهوتية.. تم تحويلها لتكون مدرسة إكليريكية للرهبان والعَلْمَانيين كليهما معاً، وقد اختار البابا شنودة الدير المحرق مقراً للإكليريكية لثلاثة أسباب:
1 - ليكون في الدير المحرق إكليريكية تخدم الصعيد، وبعد التخرّج يقبل الطلبة السيامة في هذه المناطق فقد قال مرة الأنبا مرقس مطران أبوتيج (1934-1980م) لقداسة البابا شنودة: نريد أن نقوم بسيامة كهنة من الإكليريكيين ولكننا لا نجد!
2 - ليعيد للدير المحرق رسالته التعليمية، فمن القِدم والدير يهتم بالتعليم ورهبانه أصبحوا منارات عِلمية مثل: الأنبا لوكاس مطران منفلوط والأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي..  وكان للدير رسالة في التعليم العام فأنشأ عام ) 1947م( ، مدرسة إبتدائية وأُخرى إعدادية يجمعهما سور واحد في رزقة الدير ودرّس فيهما وأشرف عليهما رهبان من الدير المحرق في عهد الأنبا باخوميوس الثاني رئيس الدير (1947-1962م(.
3 - كما أنَّ الحياة الروحية داخل الأديرة أفضل للطالب، حيث يعيش في أجواء روحية ويجد من يرعاه روحياً من الرهبان، وقد عبر عن هذا البابا شنودة الثالث بقوله: " أُريد أن تكون الإكليريكية ديراً أو شبه دير يأخذ فيها الطالب الى جوار العِلم ما يفيده روحياً من حياة الدير وروحياته ونسـكياته ".
وقد استعان قداسته ببعض المدرّسين القدامى مثل: القمص ميخائيل متى والقمص عبد المسيح نخلة المقيمين بالقوصية، والمٌعلم توفيق المقيم بالدير.. وانتدب بعض المعيدين من إكليريكية القاهرة، ليقيموا بالكلية لاستقرار وانتظام الدراسة بها.
وفي يوم الأربعاء ) 15/9/1975م(  زار البابا شنودة الدير المحرق لبحث متطلبات الإكليريكية، وعقد اجتماعاً حضره: الأنبا أثناسيوس، الأنبا مكسيموس، الأنبا صرابامون، الأنبا لوكاس الثاني، الأنبا أغاثون، الأنبا ويصا، الأنبا بيمن، القمص برسوم المحرقي رئيس الدير، وأعضاء هيئة التدريس.
الدفعة الأولى من إكليريكية المحرق
 " الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ " (غل7:6)، وقد جاء وقت جني الثمار فتخرّجت الدفعه الاولى عام (1977م) وحصل الطلبه على دبلوم المدرسه الاكليريكية وكان عددهم عشرين خريجاً هم: أرنست لبيب عوض، تاوضروس فرنسيس جوني، حنا شفيق حنا، زغلول نجيب دوس، سيد بباوي عوض، صفوت فهمي وديع، غطاس ذكي القمص متى، قليني سيحة حبيب، فيليب القمص مرقس، فيليب مختار مرقس، فيليب مشرقي فلتاؤس، كامل القمص ميخائيل، ماهر نجيب حنين، كرمي سمــعان شانودي، متى جرجس تاوضروس، مجدي فوزي ويصا، مكاري القمص أنطون، ناجح فاهم عبد المسيح، ناجح فهمي شنودة، نظري وديع القس.
تحويل المدرسة إلى الكلية الإكليريكية
عندما قام نيافة الأنبا بيمن أسقف ملوي بتدريس التربية المسيحية وعِلم النفس بإكليريكية المحرق (1977-1980م(، لاحظ ضعف المستوى التعليمي والقدرة الاســتيعابية، للطلبة الحاصلين على الشهاده الإعدادية وافتقارهم الى مواهب البحث، فأعلم البابا شنودة بذلك، فقرر قداسته تحويل القسم المتوسط إلي العالي عام (1978م) يلتحق به الحاصلون على الثانوية العامة أو الدبلوم، وتكون مدة الدراسة بالإكليريكية أربع سنوات، بعدها يحصل الخريج على بكالوريوس العلوم اللاهوتية.
وقد تخرجت أول دفعة سنة (1982م(، وكان عددهم أربعة عشــر طالباً هم: ألفي شفيق ميخائيل، بطرس فتحي سعد الله، زكا القس عبد المسيح شنودة، سامح حبيب بطرس، شحاتة سند قلادة، صفوت شحاتة أندراوس، عزت وديع زخاري، محفوظ صلاح بولس، موريس عزيز حكيم، ميلاد نجيب إسكندر، ميلاد يوسف جرجس، ناجح جرجس ساويرس، تادرس يوسف القمص سلامة، هابيل رشيد منسى.
وحتى عام (2018 م) وصل عدد خرّيجي إكليريكية الدير المحرق (589 (خرّيجاً، معظمهم تمت سيامتهم.
والحق إنَّ الشعوب المتقدمة تختار قادتها من المتعلمين، ولكي نُعد قادة أكفاء روحياً وعِلمياً، علينا أن ننظر إلى الكلية الإكليريكية على أنَّها مصدر التعاليم الأرثوذكسية النقية، وأنَّ الدراسة المنهجية المنظمة مع الروحانية النقية تقود الكاهن إلى النجاح، والمؤمنين إلى النمو الروحي، والكنيسة إلى الازدهار.

ليست هناك تعليقات: