عالم
جليل.. أعطى فأجزل، كتب فأبدع، وعظ فهدى، مرض فشكر، روى النفوس فأثمرت.. وصفه
البابا شنودة الثالث بأنّه منارة تُضيء في سماء الصعيد وجرس يُدوّي في آفاقه، إنّه
الراعي الأمين صاحب العقله الرصين القمص عبد المسيح ثاؤفيلس النخيلي، الذي يستحق
أن نضع وسام الأخلاق الحميدة والثقافة الرفيعة فوق صدره، وتفخر إكليريكية الدير
المحرق بأنّه قام بتدريس مادة اللاهوت العقيدي فيها.
النشـأة
في
بيت هاديء ملأ الإيمان حجراته، وافترشت ورود المحبة والفرح والسلام أرضه وغطت
طرقاته وُلِدَ جاد الكريم زهرة عطرة في بستان الحياة، في بلدة النخيلة
بأبوتيج بمحافظة أسيوط في (1/5/1920م)، فاستقبلته الحياة بفرح عظيم.
وينمو
جاد في عائلة البريقي، ولم ينعم بالترف في طفولته، فوالده ثاؤفيلس كان
بسيطاً، وأمه ربّة منزل فاضلة، وأخوه كرم مدرّساً
للرياضيات، وأخته زاخرة لم تتعلم.
الالتحاق بالكلية الاكليريكية
في
عام (1935م) حصل جاد الكريم على البكالوريا وعندما أراد الالتحاق بكلية العلوم، رفضت الكلية أن تقبل
أوراقه لصِغر سنه، فالتحق بالمدرسة الإكليريكية بمهمشة ليقضي عاماً يتثقف فيه
بالعلوم الكنسية، فنجح وجاء ترتيبه الأول على فرقته، فقرر أن ينهي دراسته
في الإكليريكية، فأصبح بمحبته وغزارة عِلمه نوراً ساطعاً لمن حوله.
وفي
الإكليريكية تعرّف على نيافة الأنبا غريغوريوس، الذي أُعجب بثقافته وعِلمه فتحدث
عنه قائلاً: التحقت بالكلية الإكليريكية فوجدته فيها طالباً بالسنة الثانية.. وكان
الطالب جاد الكريم جاداً ومجداً.. والطلبة في السنوات الأولى يجدون فيه نموذجاً
يُحتذى به في الدراسة الجادة، وكان يتجلى عِلمه في مباحثاته وأحاديثه مع الطلبة،
وفي مواعظه التي كان يُلقيها بالكلية وخارجها، وفي المناظرات والندوات التي كان
يشترك فيها بالكلية مع بعض زملائه تحت إشراف أحد الأساتذة.
الـزواج والأسـرة
في عام (1938م) حصل جاد الكريم على دبلوم المدرسة الإكليريكية،
وكان ترتيبه الأول على فرقته، لتقذف به أمواج
الحياة على شاطيء الخدمة، فتم تعيينه واعظاً بأبوتيج فنجح في خدمته، وأحبه الناس
وتعلقوا به وصار موضع تقديرهم، وفي نفس العام تزوّج بالآنسة باقية حلقة تادرس
سنبل وأنجب ثلاثة أولاد: سعد الحاصل على معهد سكرتارية، وغايس محاسب ونال نعمة
الكهنوت باسم: القس ثاؤفيلس على مذبح كنيسة السيدة العذراء مريم بالأباصيري- عين
شمس، ثم انتقل إلى كنيسة السيدة العذراء بالنزهة الجديدة، وبشير محاسباً وسيم
كاهناً باسم: القس مرقس بكنيسة مارجرجس الحرفيين.
خطاب من الأنبا غريغوريوس يُظهر مكانته
عزيزي الحبيب وصديقي الحميم..
أُفتش
عن تعبير أستطيع به أن أصوغ عظيم حبي وفائق تقديري ووفرة إعجابي بشخصيتكم القوية
في جاذبيتها النقية في سيرتها، الحية في مشاعرها، الغنية في معرفتها، الغنية في
نشاطها وغيرتها ومحبتها.. فلست أجد له وجوداً.. ألوم نفسي لأنني لم أبرهن عملياً
صدق مباديء المسيحية فيَّ ولا حتى أبسط المباديء الإنسانية التي تجعلني أسيراً
لمحبتك.. التي أظهرتها من نحوي وأنا غير مستحق لها، بل وكنت تسهر الليالي الطويلة
محدثاً إياي معطلاً وقتك الثمين جداً..
سمعت
وهذا ما فرّحني أكثر بقرب موعد رسامتكم قسيساً على النخيلة، فأتمنى الوقت القريب
الذي أُعنون الخطاب باسم: جناب الأب المحترم الموقر (..) كاهن.. إنني لا أريد أن
أُكثر من مديح عالمي، ولكني أطلب إلى الله وهو خير مجيب، أن يؤهلكم لهذه الدرجة
الجليلة حتى ترعى كنيسة الله باستقامة، ولا تنسَ أن تذكرني على مذبح الله المقدّس.
المخلص المحب/ وهــيب
عطـــا الله
الكـهنوت
لم يمكث جاد الكريم كثيراً بعد التخرّج،
فقد كانت مواهبه كثيرة وغيرته متقدة، ومزكى من الشعب ليتولى رعايتهم، ولذلك في عام (1938م) ومع نسمات الصباح
يدق الجرس نغمات الفرح، ويُسرع الناس إلى الكنيسة ليشاركوا في هذا الحدث العظيم،
ويقف الشماس جاد الكريم منسحقاً وفي اتضاع القديسين يحني رأسه تحت يد
نيافة الأنبا
مرقس
مطران أبوتيج وطهطا (1934- 1980م)، لتمتليء القلوب فرحاً بسيامته كاهناً
باسم: القس عبد المسيح ثاؤفيلس، وهو في الحقيقة عبد أمين
للمسيح، ممتليء من ثمار الروح: طهارة ومحبة ومعرفة..
ورغم
أنّه لم يكن قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، إلاّ أنّه لم يتكبّر ولم يفتخر
بمواهبه، بل زادته السيامة تواضعاً في معاملاته مع الناس، ونمواً في الصلاة
والتأمل، وعمقاً في القراءة، ومهارة فـي الوعـظ، وحمـاساً في الافتقاد وحل المشاكل، وهكذا أصبح القس عبد المسيح قدوة حسنة في تعامله، ومثالاً
للكاهن الروحاني المثقف الذي قدّم ذاته بَخوراً طاهراً للإله الذي أحبه،
وأصبح نجمه برَّاقاً في سماء الخدمة.
تأسيس جمعية
الشبان المسيحيين
اهتم
القس عبد المسيح بالتعليم، فخلاص النفوس كان أهم ما يشغله ويسعى نحوه، وفي نفس
الوقت كان يقرأ ليستزيد معرفة، ويسهر في سكينة الليل ليصلي فامتلأ أكثر بالروح،
ولم تُثنه الأبحاث والقراءة عن الاهتمام بالكنيسة، فكان له دور كبير في تعمير
كنيسة مارمينا بالنخيلة، وبناء دور علوي للسيدات ورسم الأيقونات، وتزويدها
بالمقاعد والميكروفونات...
وفي
عام (1949م) أسس جمعية الشبان المسيحيين، فوعظ فيها ويقدم خدمات للمحتاجين،
وكان يضع اللحم في كُم الفراجية حتى لا يراه أحد، ثم يذهب لشخص فقير ويعطيه إياه، وقد قال لي ابنه القمص
ثاؤفيلس عن مدى احترام أبيه للفقراء، وعدم خدش مشاعرهم: كان إذا جاء فقير
لوالدي في المنزل، يأمر أن نترك المكان فوراً وندخل حجرتنا، حتى لا نعرف أي شيء عن
عطاياه!!
وبقدر
ما يتقدم القس عبد المسيح ثاؤفيلس النخيلي في السن يزداد روحانية، فقام الأنبا مرقس بترقيته قمصاً عام (1950م).
الواعظ والكاتب
والمعلم
كان القمص عبد المسيح يؤمن بقدسية المنبر وأهمية الوعظ
والتعليم، ولذلك اهتم بتحضير العظة لتكون شاملة وتناسب الأعمار المختلفة والثقافات
المتنوعة، وكان عندما يقف على المنبر لا يضع أمامه ورق التحضير بل يرتجل العظة، فكانت
عظاته مشبعة وهادفة وكان يجذب انتباه المستمع في بداية العظة بسؤال مثل: ما هي
الأشياء التي لا يستطيع الله أن يفعلها؟ وبالتاكيد كان يقصد الخطية، وعندما كان
يعظ في الجمعيات البروتستانتية، كان يتحدث بكل جرأة عن الشفاعة والعقائد المسيحية!
وقد قال نيافة الأنبا غريغوريوس عن عظاته: " كنت في زيارة للنخيلة سنة
(1939م) واستمعت إلى عظة مسائية له في الكنيسة على مستوى عالٍ لُغوياً، فضلاً عن
معانيها اللاهوتية، وأذكر أنني عاتبته على هذا الأسلوب المرتفع على مستوى الشعب في
الريف، فطمأني أنّ شعب النخيلة يتطلب هذا المستوى العالي ولا يرضى بأقل منه
".
وكما كان قوياً في عظاته، كان أيضاً قوياً في أبحاثه،
وقد ترك للكنيسة كنوزاً نفيسة في ثمانية مؤلفات ألا وهي: وضوح الرؤيا،
أضواء على سفر النشيد، شرح وتفسير قانون الإيمان، اُسلكوا بالروح، رؤى الآباء
والأنبياء، العذراء الطهور، ذات الله وأين تسكن؟ بركة الصوم، وترك بمكتبته الخاصة
بحثين لم يُنشرا بعد وهما: المختصرات النفيسة في تاريخ الكنيسة، حساب الأبُقطيαβoktη
للكنيسة
القبطية الأرثوذكسية.
وقد شارك تدريس مادة اللاهوت العقيدي في أربع كليات
لاهوتية: إكليريكية القاهرة، المنيا، والبلينا، والدير المحرق التي قام
بالتدريس بها في الفترة ما بين (1974- 1980).
الخدمة في كنيسة
مارمرقس بمصر الجديدة
في
عام (1956م) كانت شهرة القمص عبد المسيح وصلت إلى القاهرة وأصبحت الكنائس تتمنى أن
يكون بين رعاتها، كما كان أبونا يرغب أن يستقر في القاهرة من أجل تعليم أفضل
لأولاده، فعرض الأمر على الأنبا مرقس مطران أبوتيج فوافق، فترك أبوتيج وخدم في
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة ثلاثة أشهر، لكنَّ شعب أبوتيج طالب بعودته إلى كنيسته، فأرسل له الأنبا مرقس يطلب عودته، فأطاع
وعاد إلى كنيسته واشترك في تأسيس المجلس الإكليريكيبالإيبارشية وصار سكرتيراً له
عام (1959م).
وبعد
سيامة البابا شنودة الثالث، قام بانتدب الواعظ القدير وأستاذ العقيدة القمص عبد
المسيح ثاؤفيلس النخيلي للخدمة في كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة، وهذه هي القصة كما
رواها ابنه القمص ثاؤفيلس:
في
يوم فوجيء القمص عبد المسيح بتلغراف من القمص بطرس جيد شقيق البابا شنودة
الثالث، يطلب منه الحضور إلى القاهرة لمقابلة البابا، فظن أنّ البابا يريد منه
معلومات عن الكهنة وكنائس الإيبارشية بعد نياحة نيافة الأنبا مرقس مطران أبوتيج
عام (1980م)، لأنه كان سكرتير المجلس الإكليريكي، فلما قابل البابا طلب منه أن
يترك أبوتيج ويأتي إلى القاهرة بأقصى سرعة، ليخدم في كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة،
فكان صورة مشرّفة للكاهن الروحاني المثقف، ونموذجاً في علاقته بالكهنة، وقد أحب
شعبه وخدمة المذبح، ولذلك عندما اشتد عليه المرض ولم يقدر أن يقف أمام المذبح ليرفع
الذبيحة، كان يتعزى وهو يمسك الكأس ويناول المؤمنين الدم.
حبـه للقراءة
كان
القمص عبد المسيح شغوفاً بالقراءة منذ أن كان طالباً فقال عنه القمص بطرس جيد: شاءت نعمة الله أن أدخل الإكليريكية طالباً عام (1935م) وألتقي
بالأستاذ جاد الكريم، وأن يكون سريري ملاصقاً لسريره، وأن نلتقي بالأستاذ وهيب عطا
الله (الأنبا غريغوريوس) وأن تقوم بيننا نحن الثلاثة صداقة قوية فكنا لا نفترق..
وكان جاد يقرأ بنهم، ودخل مكتبة الإكليريكية وقرأ جُلَّ ما فيها وقرأ كتاب
الأبُقطي في ألف صفحة وكان يقول: مستعد أن أحسب لكم عيد القيامة خمسين عاماً.
ومن
المواقف العجيبة أنه كان يقرأ كتاباً وزوجته بجانبه، ثم نامت وقامت في الصباح
فوجدته لا يزال يقرأ في نفس الكتاب!
وطنية القمص عبد المسيح ثاؤفيلس النخيلي
أحب
القمص عبد المسيح بلده ودافع عنها، وهذا جزء من كلمة ألقاها في (6/3/1972م) على
اتحاد العاملين بأسيوط:
والأحداث
في ذاكرتنا تذكي عارم الغضب وتثير النفس الأبية أمام القيم الأخلاقية التي عفت آثارها،
والمواثيق الدولية التي انتُهكت حُرماتها، والمؤامرة الخسيسة التي دبرها أعداء
الوطن للنيل من حريته والحد من طموحه.. فلن ننسى أيام غدر من تاريخنا اتخذت
قنابل الأعداء من شبابنا وقوداً، ولكنهم ضربوا لنا أنموذجاً للمواطن بطولة
وصموداً.. فلئن ظنوا أنهم وصلوا إلى ما كانوا فليذكروا أننا في جهادنا ماضون، وعن
كل شبر من أراضينا مدافعون مستبسلون.. إنّ معركتنا مع إسرائيل معركة كبيرة وقد
يطول أمدها تحتاج منا تفهّم ووعي في كافة الاتجاهات والأبعاد، حتى نصمد ونكافح وأن
تظل معنوياتنا ذات طابع روحي يسمو فوق سائر الظروف..
مقتطفات من
أقواله
-
طلبت من الله قوة لأقوم بأعمال باهرة، فأعطاني ضعفاً لأتعلم الطاعة، طلبت منه صحة
لأتمم أعمالاً عظيمة كانت تجول بخاطري، فأعطاني مرضاً لأتمم عملاً أعظم، طلبت منه
غنى لأكون مسروراً، فأعطاني فقراً لأكون حكيماً، طلبت منه كل شيءلأتمتع بالحياة،
فأعطاني حياة لأتمتع بكل شيء.
-
أطيب الوقت ما أنفقناه في الصلاة، وأطيب المال ما قدمناه لله، وأطيب الجهد ما
بذلناه لمجد الله، وأطيب الحياة عندما نمجد الله في أرواحنا وأجسادنا التي هي لله.
-
الألم هو الشمعة التي تحترق لتضيء ظلمة الحياة، ومدرسة الألم يتخرّج منها كل رجل
نافع للحياة.
-
الحياة السعيدة هي التي تقضي شبابها في الطموح، ورجولتها في الكفاح، وشيخوختها في
أطيب التأملات.
مكانته عند قداسة البابا شنودة الثالث
في
عام (1970م) كتب قداسته مقدمة لكتاب وضوح الرؤيا السماوية للقمص عبد المسيح
ثاؤفيلس قال فيها: " القمص عبد المسيح ثاؤفيلس له في قلبي مكانة كبيرة، أعرفه
منذ ثلاثين عاماً، وأحتفظ له في ذاكرتي بصورة منيرة، تمثل النبوغ والذكاء وسعة
الإطلاع، وأعرفه كواعظ من أشهر الوعاظ في كنيستنا القبطية، واعظ محبوب من الجماهير
يستطيع أن يملك القلوب في حديثه ويستطيع أن يقنع الكثيرين بقوة حجته ".
وفي
عام (1976م) عندما زار أبوتيج قال قداسته: أعرف النخيلة منذ أربعين عاماً، منذ أن
دخل طالب منها الإكليريكية وهو جاد الكريم ثاؤفيلس أول الخرّيجين على دفعته، وفي عام
(1986م) كتب قداسته في مقدمة كتاب رؤى الآباء والأنبياء: " القمص عبد المسيح
منذ أن كان طالباً بالإكليريكية.. كان إنساناً نابغاً ذكياً للغاية، وقد احتفظ
بهذا النبوغ الفكري طوال حياته.. وأطلب من الرب أن يعينه في شيخوخته الصالحة التي
وإن كان الجسد فيها ضعيفاً إلاَّ أنّ الفكر لا يزال في نشاطه ".
النياحــة
اقترب القمص عبد المسيح من سن السبعين، فأُصيب في بتصلب
في الشرايين، وظل يعاني ثلاث سنوات، وفي صباح السبت (7/10/ 1989م) انتقلت روحه
الطاهرة وتمت صلاة الجِنَّاز في كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة برئاسة نيافة الأنبا
بيسنتي أسقف حلوان والمعصرة، وبعد الصلاة نقلوا الجثمان في
الثانية عشرة ظهراً إلى أبوتيج، وفي كنيسة مارمينا التي خدم بها القمص عبد المسيح،
صلى الأنبا أندراوس مطران أبوتيج صلاة الشكر وألقى كلمة عزاء ودُفن الجسد بمدافن
العائلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق